الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تأذن لي ولا تفتنى أنزل الله تعالى قرآنا أكد فيه أن هذا المنافق وأضرابه هم واقعون في فتنة أعظم فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 50].
فلما نزلت هذه الآية الكريمة التي تفضح الجد بن قيس وأمثاله وتشهر نفاقهم، ذهب إليه ابنه عبد الله. فقال له: مكررًا لومه له على موقفه السئ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألم أقل لك: إنه سوف ينزل فيك قرآن يقرأه المسلمون؟ .
ولكن الأب المنافق تمادى في غيِّه وازداد النفاق في نفسه الخبيثة، فأظهر شديد غضبه على ابنه المؤمن لتكراره النصح له، وأعلن أنه سيقطع عنه كل صلة، حيث قال له: اسكت يالُكَع، والله لا أنفعك بنافعة أبدًا، والله لأنت أشد من محمد (1).
دور عبد الله بن أُبَيّ التخريبي:
أما دور رأس النفاق عبد الله بن أبي الذي هو سيد من سادات الخزرج، فقد كان أكبر الأدوار لمحاولة الإرجاف والتخريب داخل صفوف الجيش الذي تقرر أن يتحرك من المدينة إلى تبوك لمواجهة الروم.
فإذا كان دور المنافق الكبير الثاني الجد بن قيس ينحصر في تثبيط وتوهين عزائم المسلمين، بتخويفهم من العسكرية الرومانية وما هي عليه من قوة وبأس، وتوجيهه النداء إلى قومه بأن لا ينفروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة، لأن الحر شديد، فإن دور عبد الله بن أُبَيّ في مجال التخريب وتمزيق الكلمة أخطر وأعظم.
ذلك أن عبد الله بن أُبَيّ لم يكتف بالتشويش وأعمال التثبيط والتوهين القولى، بل قاد عملية تمرد داخل الجيش النبوي بعد أن انتظم عقده وتم حشدة وتجهيزه.
فقد كان عبد الله بن أُبَيّ وجماعته الباطنيين -باعتبارهم يحملون الهوية
(1) مغازي الواقدي ج 3 ص 693.
الإسلامية في الظاهر- قد انخرطوا في سلك الجيش النبوي بأعداد كبيرة عندما أعلن الاستنفار العام، وذلك لا لإسناد هذا الجيش وتقويته، وإنما بقصد إحداث الفرقة والتشويش والبلبلة داخل صفوفه، وذلك بالانفصال عن هذا الجيش والرجوع إلى المدينة عندما يبدأ الجيش التحرك نحو وجهته.
وقد مثل عبد الله بن أُبَيّ بالنسبة للجيش النبوي المتحرك إلى الشمال، مثّل (تمامًا) دور التخريب الذي قام به يوم معركة أحد عندما خرج في جماعته مع الجيش النبوي المتحرك نحو أحد لمقاتلة مشركى قريش، حيث رجع إلى المدينة من منتصف الطريق برتله وكانوا يمثلون ثلث الجيش تقريبًا، الأمر الذي كان له أسوأ الأثر في نفوس المؤمنين، بل كاد يؤدى إلى تمرد آخر في الجيش النبوي أخطر وأعظم، حيث كادت قبيلتان من الأنصار أن تحذوا حذو عبد الله بن أُبَيّ ورتله الخامس، فترجع إلى المدينة وتترك الاشتراك مع النبي صلى الله عليه وسلم في مقاتلة قريش، لولا أن الله ثبّت رجال هاتين القبيلتين فثبتوا على إيمانهم واستمروا في مساندة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نهاية معركة أحد (1).
ففي غزوة تبوك خرج عبد الله بن أُبَيّ في جيش كبير من أصحابه المنافقين على أنه جزء من الجيش النبوي، غير أن رأس النفاق هذا لما بدأ الجيش النبوي في التحرك من ثنية الوداع حيث كان يعسكر، قام بما يمكن تسميته تمردًا، حيث رجع إلى المدينة بمجموعة كبيرة من المحاربين الذين كانوا قد انتظموا في سلك الجيش النبوي، وكان الذين رجعوا مع رأس النفاق، هم (بالتأكيد) ممن كان مثله على النفاق.
وكان الهدف واضحًا من تصرف رأس النفاق هذا، وهو محاولة تمزيق وحدة الجيش النبوي، بإغراء بعض وحداته الأخرى بأن تصنع صنيعه، وكان عبد الله بن أُبَيّ عندما تمرد برتله، تفوّه بكلمات فيها تخويف لمن بقى ثابتًا حول النبي صلى الله عليه وسلم من الجيش وتحريض لوحدات الجيش الأخرى على التمرد بالرجوع إلى المدينة، وترك الرسول القائد صلى الله عليه وسلم وشأنه، ولكن محاولات المنافق الكبير هذه باءت بالفشل، فلم يتبعه في الانسلاخ من
(1) انظر تفاصيل تمرد عبد الله بن أُبَيّ وقومه المنافقين في كتابنا الثاني (غزوة أحد).
الجيش والرجوع إلى المدينة سوى رتله الخاص، والذي كل أفراده منافقين مثله، فقد بقى الجيش النبوي متماسكًا كأقوى وكأعظم ما يكون، حيث بقى تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثون ألف مقاتل تحرك بهم إلى الشمال وحقق بهم الأهداف التي من أجلها تحرك بهم، ولم يجن عبد الله بن أُبي وبقية عصابة المنافقين إلا الخيبة والخسران.
ورغم أن عبد الله بن أُبَيّ قد انسلخ عن الجيش بوحداته التابعة له، بقصد الإِضرار بوحدة هذا الجيش، وبقصد تحريض المسلمين على الانفضاض من حول الرسول القائد صلى الله عليه وسلم كي يفشل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوته التاريخية تلك، فإن الرسول الحكيم الحليم لم يتخذ أي إجراء تأديبى ضد عبد الله بن أُبَيّ ورتله المتمرد، وتلك دائما عادة الرسول الحكيمة إزاء مثل هذه التصرفات الشائنة التي يلجأ إليها كل المنافقين بقصد تمزيق وحدة المسلمين والتنكيد على الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي يصف تآمر عبد الله بن أُبَيّ وأتباعه المنافقين يوم تحرّك الجيش النبوي إلى تبوك: وأقبل عبد الله بن أبي بعسكره، فضربه على ثنية الوداع بحذاء ذباب (1) معه حلفاؤه من اليهود والمنافقين ممن اجتمع إليه، فكان يقال له: ليس عسكر ابن أُبَيّ بأقل العسكرل وأقام ما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخلف على العسكر أبا بكر الصديق يصلى بالناس، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف ابن أُبَيّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن تخلف من المنافقين، وقال مستهزئًا: يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد، إلى ما لا قبل له به، يحسب محمد أن قتال بني الأصفر اللعب؟ ونافق معه من هو على مثل رأيه.
ثم قال الخبيث متمنيًا الهزيمة والانكسار للنبي صلى الله عليه وسلم وجيشه: والله لكأنى انظر إلى أصحابه غدًا مقرنين في الحبال، إرجافًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه (2).
(1) ذباب (بكسر الذال) قال في مراصد الاطلاع: جبل بالمدينة وروضات الذباب موضع آخر.
(2)
مغازي الواقدي ج 3 ص 996.
ولا شك أن العناصر الطيبة المخلصة في الجيش النبوي قد تألمت للتصرف المشين الذي تصرفه عبد الله بن أبيّ، فساءها أن يخذل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرجع بوحداته العسكرية الخاصة قاصدًا إحداث الفرقة وإشاعة البلبلة داخل الجيش النبوي، ومن المحتمل أن بعض القادة المخلصين قد رغبوا في أن يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بتصفية عبد الله بن أبي وعصابته المتمردة تصفية جسدية، بحيث يقاتلهم ويقضى عليهم قبل أن يتحرك لمواجهة الرومان ويترك المدينة وفيها هذا البلاء المتمثل في هؤلاء المنافقن المسلحين الذين - بدافع من الرغبة المجنونة في إلحاق الضرر بالقوات النبوية المسلحة - انسلخوا عن هذا الجيش ورجع رتلهم إلى المدينة معلنًا أن النبي صلى الله عليه وسلم حين يتحرك لمواجهة الرومان في الشمال إنما يقدم أصحابه ليوثقهم بنو الأصفر في الحبال، لأن النبي (زعم رأس النفاق) لم يقدر العسكرية الرومانية حق قدرها:(يحسب محمد أن قتال بني الأصفر اللعب؟ والله لكأنى أنظر إلى أصحابه غدًا مقرنين في الحبال)(1).
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو البعيد النظر والحليم الذي لا يبلغ أحد مداه في الحلم والأناة والمجرب الذي يقدر النتائج قبل الإقدام على العمل، والذي فوق ذلك كله يتلقى الوحى من السماء فلا يصدر إلا عن أمر ربه لم يشأ أن يتخذ أي إجراء (مهما كان) ضد عبد الله بن أُبَيّ ومن لفّ لفه من المنافقين الذين لم يتركوا وسيلة لتخذيل الجيش وتمزيق وحدة المسلمين إلا واتبعوها، في وقت يمكن تسميته (بلغة العصر) وقت طوارئ وظروف استثنائية، تنزل النظم العصرية -حتى في البلاد الديموقراطية- أقسى العقوبات التي تصل أحيانًا حد الإعدام بمن تثبت إدانته بعمل تخريبى يقصد به الإضرار بالقوات المسلحة، وخاصة إذا كانت في حالة استنفار واستعداد لمواجهة العدو، وهو ما فعله تمامًا عبد الله بن أبي ورتله الذي تمرد به وانسلخ من الجيش بعد أن كان جزءًا منه، بقصد إلحاق الضرر بذلك الجيش.
ولكن الرسول الحكيم (وهو في ذلك الظرف البالغ الخطورة) لم يقدم
(1) من كلام رأس النفاق عبد الله بن أبي.