الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واتفق رواة الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بظاهر مكة، وكان مدة مقامه بمكة إلى يوم التروية بمنزله الذي هو نازل فيه يصلى بالمسلمين بظاهر مكة، فأقام بظاهرها أربعة أيام يقصر الصلاة يوم الأحد والاثنين والأربعاء فلما كان يوم الخميس (ضحَى) توجه بمن معه من المسلمين إلى منى، فأحرم بالحج من كان أحل منهم من رحالهم، ولم يدخلوا المسجد ليحرموا منه بل أحرموا ومكة خلف ظهورهم، فلما وصل إلى منى نزل بها وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح (1).
صلاة أهل مكة خلف النبي صلى الله عليه وسلم
-:
وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة الرباعية قصر ولما صلى أهل مكة معه. قال: أتموا صلاتكم فإنا سفر (2) وكان ذلك ليلة الجمعة، فلما طلعت الشمس سار من منى إلى عرفات وأخذ على طريق ضبّ على يمين طريق الناس اليوم، وكان من أصحابه الملبى ومنهم المكبر وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء، فلما وصل نمرة (وهي شرقي عرفة) وجد قبة بها قد نصبت بأمره فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بناقته القصوى فرُحلت ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عرنة، (وعرنة ليست من عرفات) وهناك في وادي عرنة خطب الناس وهو على ناقته خطبة عظيمة جامعة قرر فيها قواعد الإِسلام وهدم قواعد الشرك وردم منابع الجاهلية، وقرر فيها تحريم المحرمات وهي الأعراض والدماء والأموال ووضع كل أمور الجاهلية تحت قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كله وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيرًا، وذكر ما لهن من حقوق وما عليهن من واجبات، وأوصى الأمة بالاعتصام بكتاب الله، وأخبرهم أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسئولون عنه واستنطقهم بماذا يقولون؟ وبماذا يشهدون؟ فقالوا: نشهد أنك قد بلغت وأدّيت ونصحت، فرفع إصبعه
(1) زاد المعاد ج 1 ص 461، وانظر خطبة الوداع مفصلة في مصادرها الكبرى.
(2)
مغازي الواقدي ج 3 ص 1092.
إلى السماء واستشهد عليهم ثلاث مرات وأمرهم أن يبلغ شاهدهم غائبهم (1).
وفي حجته هذه صلى الله عليه وسلم أدخل على الحج إصلاحات كبرى لأن المشركين كانوا على مدى القرون أدخلوا على مناسك الحج مفاسد كبرى بالزيادة فيه أو النقصان.
ومن الإِصلاحات الكبرى الوقوف بعرفة، فقد كانت قريش دون سائر الناس لا يقفون بعرفة تكبرًا وإنما يقفون (فقط) بمزدلفة ويقولون: نحن أهل الحل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم حميع الناس أن يقفوا بعرفة حتى إنه زيادة في تعظيم هذا المشعر قال: الحج عرفة.
كذلك من الإصلاحات التي أدخلها النبي صلى الله عليه وسلم على الحج حتى عاد كما كان عليه في عهد أبينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم إقامة الخلل الخطير الذي أدخله المشركون في التلبية، فقد كانوا في حجهم يقولون:(لبيك اللهم لبيك: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا تملكه وما ملك) فانتزع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الجملة الشركية الدخيلة على تلبية أبينا إبراهيم وهي (إلا شريكًا تملكه وما ملك) فصارت التلبية الشرعية هكذا (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة والملك لك لا شريك لك).
كذلك من الإصلاحات الهامة التي أعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته التاريخية، إلغاء التلاعب الزمنى الذي كان يباشره المشركون حيث كانوا يستحلون بعض الأشهر الحرم ويستبدلونها بغيرها من غير الأشهر الحرم فيحرّمونها بدلًا منها وذلك بسبب الحرب المستمرة بينهم، ونتيجة هذا التلاعب الذي سماه الله تعالى نسيئًا:({إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (2) ظل حساب أشهر السنة مضطربًا شهر يقدم ليحل محل آخر. حتى إن الحج كثيرًا ما يأتي في غير ذي الحجة. فمثلًا مرة حج المشركون في شهر ذي القعدة، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذا التلاعب في خطبته التاريخية هذه فقال: ألا
(1) زاد المعاد ج 1 ص 461.
(2)
التوبة آية 16.
وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور اثنا عشر في كتاب الله، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية: ذو القعدة، ذو الحجة والمحرم، ورجب الذي يدعى شهر مضر الذي بين جمادى الأخرى وشعبان، والشهر تسعة وعشرون يومًا وثلاثون (1).
ومن المخالفات التي يفعلها المشركون في الحج وصححها الرسول صلى الله عليه وسلم هو أن المشركين كانوا يدفعون من عرفة إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كهيئة العمائم على رؤوس الرجال، فظنت قريش أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدفع كذلك فأخر دفعه حتى غربت الشمس (2).
وفي عرفة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خير الدعاء دعاء يوم عرفة) وقال: (إن أفضل الدعاء دعائى ودعاء من كان قبلي من الأنبياء: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير)(3).
وهناك حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة نزلت آية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} "سورة المائدة آية 4"، وقد وقف صلى الله عليه وسلم على بعيره فأخذ في التضرع والدعاء والابتهال التي غروب الشمس، وأمر الناس أن يرفعوا عن بطن عرنة (لأنها ليست من عرفة)، ثم أعلن أن عرفة لا تختص بموقفه الذي وقف فيه، بل قال:(وقفت هنا وعرفة كلها موقف) وأرسل التي الناس أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها فإنها من إرث أبيهم إبراهيم (4).
وبعد أن دفع الرسول صلى الله عليه وسلم (بعد غروب الشمس وذهاب الصفرة) اتجه نحو مزدلفة والناس بين يديه لا يحدهم بصر بلغوا أكثر من مائة وعشرين ألفًا. وكان مردفًا خلفه على ناقته أسامة بن زيد، وكان يدعوا الناس في دفعهم التي الهدوء وعدم التزاحم فيقول: (أيها الناس عليكم السكينة فإن
(1) مغازي الواقدي ج 3 ص 1112.
(2)
مغازي الواقدي ج 3 ص 1104.
(3)
زاد المعاد ج 1 ص 462 ومغازي الواقدي ج 3 ص 1104.
(4)
زاد المعاد ج 1 ص 462.
البرّ ليس بالإيضاع (1))، وكان في مسيره يلبى لم يقطع التلبية. حتى وصل المزدلفة توضأ وضوء الصلاة ثم أمر بالأذان فأذن المؤذن ثم أقام فصلى بالناس المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال، فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة، ثم صلى عشاء الآخرة بإقامة بلا أذان كما فعل في عرفات، ثم نام، فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت بأذان وإقامة يوم النحر وهو يوم العيد ويوم الحج الأكبر وهو يوم الأذان ببراءة الله من كل مشرك (2)، ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرع والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر الصبح جدًّا وذلك قبل طلوع الشمس، وهناك سأله عروة بن مضرّس الطائى فقال:(يا رسول الله والله إني جئت من جبلى طئ، أكللت راحلتى وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا تم حجه وقضى تفثه) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
كذلك من آثار الجاهلية التي هدمها النبي صلى الله عليه وسلم في حجته هذه عادة كان يتبعها المشركون ويعتبرونها من مناسك الحج وهي أنهم كانوا لا يدفعون من المزدلفة حتى تطلع الشمس على ثبير، ويقولون: أشرق تبير كيما نغير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قريشًا خالفت عهد إبراهيم، ولذلك دفع النبي صلى الله عليه وسلم قبل طلوع الشمس (3)، وعندما ركب صلى الله عليه وسلم ووقف موقفه أعلن أن مزدلفة كلها موقف (4).
وأثناء تحركه صلى الله عليه وسلم إلى منى أمر ابن عباس أن يلتقط له حصى الجمار (سبع حُصيَّات فقط) فالتقط له ابن عباس سبع حصيات من حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو
(1) الإيضاع: الإسراع بالسير.
(2)
زاد المعاد ص 432.
(3)
مغازي الواقدي ج 3 ص 1107.
(4)
زاد المعاد ج 1 ص 473.