الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليمين، فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الصفة.
من التربية النبوية:
وفي مقامه بتبوك أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على المتثبتين ونهى عن الخفة والنزق. فقد روى عن ابن عمر أنه قال: فزع الناس بتبوك ليلة (ويظهر أنهم تسابقوا إلى سلاحهم في شيء من التسرع) قال ابن عمر: فخرجت في سلاحى حتى جلست إلى سالم مولى أبي حذيفة وعليه سلاحه، فقلت، لأقتدين بهذا الرجل الصالح من أهل بدر، فجلست إلى جنبه قريبًا من قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا مغضبا فقال: أيها الناس ما هذا النزق ما هذه الخفة ما هذا النزق؟ ألا صنعتم ما صنع هذان الرجلان الصالحان؟ يعنينى وسالما مولى أبي حذيفة.
ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وضع حجرًا قبلة مسجد تبوك بيده وما يلي الحجر، ثم صلى الظهر بالناس، ثم أقبل عليهم فقال: ما ها هنا شام، وما ها هنا يمن (1).
وكان ابن عمر يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فقام يصلى من الليل، وكان يكثر التهجد من الليل، ولا يقوم إلا استاك، وكان إذا قام يصلى صلى بفناء خيمته، فيقوم ناس من المسلمين فيحرسونه. فصلى ليلة من تلك الليالى، فلما فرغ أقبل على من كان عنده فقال: أعطيت خمسا ما أعطيهن أحد قبلي: بعثت إلى الناس كافة، وإنما كان النبي يبعث إلى قومه، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، أينما أدركتنى الصلاة تيممت وصليت، وأحلت لي الغنائم آكلها، وكان من كان قبلي يحرمونها، والخامسة هي ما هي، هي ما هي، هي ما هي، قالوا: وما هي يا رسول الله فقال: قيل لي سل فكل نبي قد سأل، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله (2).
لا أثر للرومان على الحدود:
من المتفق عليه بين كتاب المغازي وأصحاب السير أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم
(1) مغازي الواقدي ج 3 ص 1021 - 1022 تحقيق الدكتور مارسدن جونس.
(2)
مغازي الواقدي ج 3 ص 1022.
يتحرك من المدينة بذلك الجيش الضخم (ثلاثين ألفا) وفي ذلك الفصل من الحر الشديد مع العسرة والضائقة المالية الشديدة التي عليها عامة أصحابه، إلا بعد أن تلقى معلومات تفيد أن القيادة الرومانية في الشام تحشد الجيوش وأن طلائع هذه الجيوش (وهي أربعون ألفا) قد وصلت البلقاء (1) قريبا من حدود جزيرة العرب. فاهتم لهذه الأنباء اهتمامًا شديدًا، فجهز ذلك الجيش الإِسلامي الضخم، ليلقى على الرومان درسًا عمليا ويفهمهم أنه قادر عسكريا على حماية حدود الجزيرة من أي اعتداء قد يكون الرومان (فعلًا) قد خططوا للقيام به اعتمادًا على قواتهم الضاربة الضخمة المدربة المجهزة أحسن تجهيز.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وصل بجيشه تبوك بعث منها بطلائعه وفصائل استخباراته العسكرية، فلم يجدوا أي أثر لأية حشود رومانية أو عربية متنصرة موالية لهم على حدود الشام الجنوبية.
وأمام هذا الواقع يبرز سؤال، وهو لماذا لم تكن الحشود الرومانية موجودة على حدود الجزيرة العربية، كما جاء في الإخبارية التي بلغت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة، فتحرك على أثرها بجيشه في تلك الظروف التي يمكن تسميتها بأنها ظروف استثنائية، نظرًا لشدة الحر في ذلك الفصل والضائقة المالية التي عليه عامة المسلمين.
هل نكل الرومان عن الحرب التي كانوا يعدون لها، وهل نتيجة هذا النكول تأكد الرومان من جدية التحركات العسكرية الإِسلامية الضخمة، أم أن الإِخبارية عن تحشدات الرومان كانت غير صحيحة، وإنما أوعز الرومان إلى وكلاء استخباراتهم من العرب الموالين لهم بإشاعاتها لإِرهاب المسلمين واختبار مدى قوتهم الحربية ومقدرتهم القتالية فحسب؟
إلى هذا الرأي الأخير يميل ابن برهان الدين حيث قال في السيرة الحلبية: ولم يكن ذلك (أي الحشد الروماني) حقيقة، وإنما ذلك شيء، قيل لن يبلغ ذلك المسلمين ليرجف به، وكان ذلك في عسرة في الناس وجدب في
(1) مغازي الواقدي: جـ 3 ص 1022.
البلاد (1).
كما يشير الواقدي أيضًا إلى أن مسألة إشاعة التحشدات الرومانية على حدود الجزيرة العربية يوم ذاك، كانت إشاعات غير صحيحة، فقد جاء في مغازيه: وكانت الساقطة - وهم الأنباط - يقدمون المدينة بالدرمك (2) والزيت في الجاهلية وبعد أن دخل الإِسلام، فإنما أخبار الشام عند المسلمين كل يوم، لكثرة من يقدم عليهم من الأنباط، فقدمت قادمة فذكروا أن الروم قد جمعت جموعًا كثيرة، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لخم وجذام وغسان وعاملة، وزحفوا وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسروا بها، وتخلف هرقل بحمص، ثم يقول الواقدي: ولم يكن ذلك، وإنما شيء قيل ولم يكن شيء أخوف عند المسلمين منهم، وذلك لما عاينوه منهم من العدد والعدة والكراع (3).
وعلى أي كان الحال، فسواء كان سبب عدم المواجهة العسكرية بين المسلمين والرومان على الحدود نكول الرومان عن الحرب بعد أن استعدوا لها، أو أنهم لم يستعدوا أصلًا وإنما أشاعوا ذلك للإِرجاف والإِرهاب، فإن هذه الحملة العسكرية الضخمة التي قادها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك قد حققت للإِسلام والمسلمين مكاسب عظيمة.
منها (وهي أهمها) أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحدى الرومان بحملته هذه التي أوشكت على اجتياز حدود الشام، وبث الرعب في نفوسهم بحيث زالت من أذهانهم تلك الصورة المغلوطة المرتسمة في أذهانهم عن المسلمين الذين لا ينظر إليهم هؤلاء الرومان إلا على أساس أنهم جماعات ضعيفة متفرقة من البدو الذين لا ضابط لهم ولا انضباط، وإنما هدفهم من وراء الحروب الحصول على شيء من المال والمال فقط.
ولا أدل على أن الرعب قد انتاب القيادة الرومانية في الشام، من أنها (رغم قواتها الضاربة) لم تحرك ساكنا، ولم تبعث بجندى واحد إلى
(1) السيرة الحلبية ج 2 ص 253.
(2)
الدرمك دقيق الحواري، قاله في الصحاح ص 1583.
(3)
مغازي الواقدي ج 3 ص 989 - 990.
الحدود، عندما بلغها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وصل بجيشه تبوك، وأنه صار فيما يشبه التحدى لهذه القيادة الرومانية المتغطرسة، يستعرض على حدودها قواته الضاربة البالغة ثلاثين ألفا.
فكيف أحجمت الإمبراطورية الرومانية في الشام عن مواجهة التحدى بتحد مثله، مع أنها أصبحت -بعد انتصارها على الفرس- تعد أقوى قوة عسكرية في العالم كله، كيف ركنت إلى التزام الهدوء، ولم تفكر في مواجهة الجيش النبوي، رغم أنه أقام على حدودها الجنوبية حوالي عشرين يوما يشن الغارات على أطرافها، ويخضع حلفاءها والموالين لها من غير الرومان.
لا شك أنه الرعب قد انتاب قلوب قادة الجيش الروماني، لا سيما بعد التجربة القاسية التي مرت بهم على أيدى جيش الإسلام الصغير في معركة مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة، حيث واجهوا الأهوال من هذا الجيش الصغير الذي كانت نسبة قواتهم يوم ذاك سبعين لواحد، ولهذا فضلوا عدم مواجهة الجيش النبوي وظلوا يرقبونه في جزع حتى عاد إلى المدينة مرفوع الرأس منتصرا أعظم انتصار، بعد أن قرر عدم اجتياز حدود الشام، والاكتفاء بتحدى الرومان وإرهابهم، مؤكدًا بهذا التحدى قدرته على حماية الجزيرة العربية من عدوان أي عدو يفكر في الاعتداء عليها.
بل لقد ذكر المؤرخون أن الملك هرقل الذي كان يقيم بحمص، بعث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يتودد إليه، وهو بتبوك، حيث أرسل مبعوثًا خاصًّا برسالة يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسلم، فقد جاء في كتب السيرة، أن الملك هرقل بعد أن فشل (مرة أخرى) في إقناع أركان دولته وهو بحمص، في الدخول في الإسلام لاينهم حتى سكن غضبهم عليه، ثم بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا يقول فيه: إننى مسلم ولكننى مغلوب على أمرى، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم هديّته، ولكنه لم يصدقه فيما زعم من أنه مسلم، وقد نقل المؤرخون عن حامل كتاب هرقل من حمص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه قال: جئت تبوك فإذا هو (أي رسول الله صلى الله عليه وسلم) جالس بين ظهرانى أصحابي محتبيا فقلت: أين صاحبكم؟ قيل: هو هذا، فأقبلت أمشى حتى جلست
بين يديه فناولته كتابى، فوضعه في حجره، ثم قال: من أنت؟ فقلت: أنا أحد تنوخ. قال: هل لك في الإِسلام دين الحنيفية مِلَّةُ إبراهيم. قلت: إني رسول قوم وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ، فلما فرغ من قراءة كتابى قال: إن لك حقًّا وإنك رسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها، إنّا قوم سفر، فقال رجل: أنا أجوزه، فأتى بحلة فوضعها في حجرى، فسألت عنه فقيل لي: إنه عثمان بن عفان.
ومن المكاسب السياسية والعسكرية الكبرى التي حققتها حملة تبوك العظمى تصفية جميع الجيوب المعادية للإِسلام في شمال الجزيرة العربية عسكريًا، وخاصة العناصر العربية التي تدين بالوثنية، وكانت التصفية العسكرية في شمال الجزيرة العربية تصفية كاملة شاملة بحيث لم يعد الرسول صلى الله عليه وسلم من تبوك إلّا وقد أصبحت جميع المناطق الشمالية في الجزيرة خاضعة للإِدارة الإِسلامية وتابعة لها إما بالدخول في الإِسلام طواعية وإما بالاعتراف بسلطان هذا الدين والخضوع له عن طريق أداء الجزية للمسلمين، وهذا خاص بالعرب الذين كانوا على النصرانية مثل ملك دومة الجندل كما سيأتي تفصيله فيما يلي من هذا الكتاب.