الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[لفظ الحيز]
[وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْحَيِّزِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ مَعْنَى مَوْجُودٍ وَمَعْنَى مَعْدُومٍ. فَإِذَا قَالُوا: كُلُّ جِسْمٍ فِي حَيِّزٍ، فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْحَيِّزِ أَمْرًا عَدَمِيًّا، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ.
وَالْحَيِّزُ فِي اللُّغَةِ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يَنْحَازُ إِلَيْهِ الشَّيْءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 16] .
وَعَلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِالْمُتَحَيِّزِ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ ; وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُونَ يَقُولُونَ: نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمَخْلُوقَ: إِمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا قَائِمٌ بِالْمُتَحَيِّزِ، فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُ: بَلْ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ إِمَّا مُتَحَيِّزٌ وَإِمَّا قَائِمٌ بِالْمُتَحَيِّزِ وَيُثْبِتُونَ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ إِثْبَاتِ الْمُجَرَّدَاتِ الْمُفَارَقَاتِ الَّتِي لَا يُشَارُ إِلَيْهَا، بَلْ هِيَ مَعْقُولَاتٌ مُجَرَّدَةٌ، إِنَّمَا تَثْبُتُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ.
وَمَا يَذْكُرُهُ الشَّهْرَسْتَانِيُّ وَالرَّازِيُّ وَنَحْوُهُمَا مِنْ أَنَّ مُتَكَلِّمِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْمُجَرَّدَاتِ لَيْسَ كَمَا زَعَمُوا، بَلْ كُتُبُهُمْ مَشْحُونَةٌ بِمَا يُبَيِّنُ انْتِفَاءَهَا (1) كَمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالرَّازِيُّ أَوْرَدَ فِي " مُحَصِّلِهِ " سُؤَالًا عَلَى الْحَيِّزِ فَقَالَ (2) : " أَمَّا الْأَكْوَانُ
(1) فِي هَامِشِ نُسْخَةِ (ع) نَقَلَ مُسْتَجِي زَادَهْ الْعِبَارَةَ الَّتِي أَوَّلُهَا: " وَمَا يَذْكُرُهُ الشَّهْرَسْتَانِيُّ. . " إِلَى كَلِمَةِ " انْتِفَاءِهَا " ثُمَّ كَتَبَ التَّعْلِيقَ التَّالِي: " قُلْتُ: وَالْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ مِمَّنْ يُرَوِّجُ هَذَا الْقَوْلَ وَيُقِيمُ بَرَاهِينَ عَلَى تَحَقُّقِ الْمُجَرَّدَاتِ، حَتَّى ادَّعَى فِي بَعْضٍ مِنْهَا الضَّرُورَةَ وَالْبَدَاهَةَ، وَأَنَّى لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَطْلَبَ نَظَرِيٌّ وَمَحَلُّ نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ الشَّرْعِ وَالْفَلَاسِفَةِ. وَالْفَلَاسِفَةُ أَيْضًا يَعْتَرِفُونَ بِنَظَرِيَّةِ الْمَطْلَبِ، وَظَوَاهِرُ النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمُجَرَّدَاتِ ".
(2)
النَّصُّ التَّالِي مِنْ كَلَامِ الرَّازِيِّ مَوْجُودٌ فِي كِتَابِهِ " مُحَصِّلِ أَفْكَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ " ص [0 - 9]5.
فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْجَوْهَرِ فِي حُصُولِ الْحَيِّزِ (1) أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ. فَقِيلَ: هَذَا الْحَيِّزُ إِنْ كَانَ مَعْدُومًا فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ الْجَوْهَرِ فِي الْمَعْدُومِ؟ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَمْرٌ يُشَارُ (2) إِلَيْهِ. فَهُوَ إِمَّا جَوْهَرٌ وَإِمَّا عَرَضٌ، فَإِنْ كَانَ جَوْهَرًا كَانَ الْجَوْهَرُ حَاصِلًا فِي الْجَوْهَرِ، وَهُوَ قَوْلٌ بِالتَّدَاخُلِ، وَهُوَ مُحَالٌ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُفَسَّرَ ذَلِكَ بِالْمُمَاسَّةِ، وَلَا نِزَاعَ فِيهَا. وَإِنْ كَانَ عَرَضًا فَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْجَوْهَرِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ الْجَوْهَرِ فِيهِ؟ ".
وَقَدْ رَدَّ الطُّوسِيُّ هَذَا فَقَالَ (3) : " هَذَا غَلَطٌ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ اللَّفْظِ، فَإِنَّ لَفْظَةَ (4) " فِي " يَدُلُّ فِي قَوْلِنَا: الْجِسْمُ فِي الْجِسْمِ - بِمَعْنَى التَّدَاخُلِ - وَالْجِسْمُ فِي الْمَكَانِ، وَالْعَرَضُ فِي الْجِسْمِ، عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ ; فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْجِسْمِ مَعَ جِسْمٍ آخَرَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْجِسْمِ فِي الْمَكَانِ، وَالثَّالِثُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْعَرَضِ حَالًّا فِي الْجِسْمِ.
وَالْمَكَانُ هُوَ الْقَابِلُ لِلْأَبْعَادِ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ الَّذِي لَا يُمَانِعُ الْأَجْسَامَ عِنْدَ قَوْمٍ، وَعَرَضٌ هُوَ سَطْحُ الْجِسْمِ [الْحَاوِي](5) الْمُحِيطُ بِالْجِسْمِ ذِي الْمَكَانِ عِنْدَ قَوْمٍ وَهُوَ بَدِيهِيُّ الْأَيْنِيَّةِ (6) خَفِيُّ الْحَقِيقَةِ.
(1) فِي " الْمُحَصِّلِ ": فِي الْحَيِّزِ.
(2)
فِي " الْمُحَصِّلِ ": مُشَارٌ.
(3)
مَا يَلِي مِنْ كَلَامِ نَصِيرِ الدِّينِ الطُّوسِيِّ هُوَ مِنْ كِتَابِهِ " تَلْخِيصِ الْمُحَصِّلِ " وَقَدْ طُبِعَ بِذَيْلِ كِتَابِ " الْمُحَصِّلِ ". وَيُوجَدُ هَذَا النَّصُّ فِي ذَيْلِ صَفْحَتَيْ 65 - 66.
(4)
فِي " تَلْخِيصِ الْمُحَصِّلِ ": لَفْظَ.
(5)
كَلِمَةُ " الْحَاوِي " سَاقِطَةٌ مِنْ نُسْخَةِ (ع) وَهِيَ فِي " تَلْخِيصِ الْمُحَصِّلِ ".
(6)
فِي (ع) : الْأَبْنِيَةُ، وَالتَّصْوِيبُ مِنْ " تَلْخِيصِ الْمُحَصِّلِ ".
وَالْمَكَانُ إِنْ كَانَ عَدَمِيًّا لَمْ يَكُنْ حُصُولُ الْجَوْهَرِ فِي الْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ (1) حُصُولَهُ فِي الْمَعْدُومِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ فِي الْعَدَمِ وَإِنْ كَانَ جَوْهَرًا، فَالْجَوْهَرُ عِنْدَ الْقَوْمِ الْأُوَلِ يَنْقَسِمُ إِلَى مُقَاوِمٍ لِلدَّاخِلِ عَلَيْهِ مُمَانِعٍ إِيَّاهُ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّدَاخُلُ، وَإِلَى (2) غَيْرِ مُقَاوِمٍ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ وَهُوَ الْمَكَانُ وَالْجَوْهَرُ الْمُمَانِعُ (3) يُمْكِنُ أَنْ يُدَاخِلَ غَيْرَ الْمُمَانِعِ، وَذَلِكَ هُوَ كَوْنُ الْجَوْهَرِ فِي الْمَكَانِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْقَوْمِ الثَّانِي فَحُصُولُ الْجَوْهَرِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ عَرَضٌ بِمَعْنًى غَيْرِ الْمَعْنَى (4) الَّذِي يُرَادُ بِهِ فِي قَوْلِهِمْ حُصُولُ الْعَرَضِ فِي الْجَوْهَرِ، بِمَعْنَى الْحُلُولِ فِيهِ ".
قُلْتُ: قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبُيِّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ مِنْ قَوْلِهِ:" قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْجَوْهَرِ فِي الْحَيِّزِ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ " لَيْسَ كَمَا قَالَهُ ; بَلْ يُقَالُ: إِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ حُصُولَ الْجَوْهَرِ فِي الْحَيِّزِ أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ، أَنَّهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ تَقُومُ بِالْمَحِيزِ، فَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى هَذَا، بَلْ وَلَا هَذَا قَوْلَ مُحَقِّقِيهِمْ، بَلِ التَّحَيُّزُ عِنْدَهُمْ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَاتِ الْمُتَحَيِّزِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ:" الْمُتَحَيِّزُ هُوَ الْجِرْمُ، أَوِ الَّذِي لَهُ حَظٌّ مِنَ الْمِسَاحَةِ، وَالَّذِي لَا يُوجَدُ بِحَيْثُ وُجُودُهُ جَوْهَرٌ "(5) .
(1) فِي (ع) : لَمْ يَكُنْ حُصُولُ الْجَوْهَرِ إِلَّا فِي الْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ، وَرَجَّحْتُ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَا أَثْبَتُّهُ، وَهُوَ الَّذِي فِي " تَلْخِيصِ الْمُحَصِّلِ ".
(2)
ع: إِلَى، وَالصَّوَابُ مِنْ " تَلْخِيصِ الْمُحَصِّلِ ".
(3)
ع: الْمَانِعُ، وَالصَّوَابُ مِنْ " تَلْخِيصِ الْمُحَصِّلِ ".
(4)
فِي " تَلْخِيصِ الْمُحَصِّلِ ": غَيْرِ الْعَيْنِ، وَالصَّوَابُ مَا أَثْبَتُّهُ وَهُوَ الَّذِي فِي (ع) .
(5)
لَمْ أَجِدْ هَذَا النَّصَّ فِيمَا بَيْنَ يَدِي مِنْ كُتُبِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَلَكِنَّ الْجُوَيْنِيَّ نَقَلَهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ " الشَّامِلِ فِي أُصُولِ الدِّينِ " 1/59 - 60 (ط. هِلْمُوت كُلُوِيفَر، الْقَاهِرَةِ، 1959) فَقَالَ: " وَالْأَصَحُّ فِي ذَلِكَ عِبَارَاتٌ ارْتَضَاهَا الْقَاضِي رضي الله عنه مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: الْمُتَحَيِّزُ هُوَ الْجِرْمُ، وَلَا مَعْنَى سِوَاهُ. وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ الَّذِي لَهُ حَظٌّ مِنَ الْمِسَاحَةِ، وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ الَّذِي لَا يُوجَدُ بِحَيْثُ وُجُودُهُ جَوْهَرٌ ". وَانْظُرْ: الْإِنْصَافَ لِلْبَاقِلَّانِيِّ، ص 15، ط. عِزَّت الْعَطَّار، الْقَاهِرَةِ، 1369/1950.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ (1) : " مَا هُوَ فِي تَقْدِيرِ مَكَانٍ مَا وَمَا يَشْغَلُ الْحَيِّزَ، وَمَعْنَى شَغْلِ الْحَيِّزِ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي فَرَاغٍ أَخْرَجَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فَرَاغًا ".
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " الْحَيِّزُ تَقْدِيرُ مَكَانِ الْجَوْهَرِ ".
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ - الْمُلَقَّبُ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ -: " الْحَيِّزُ هُوَ الْمُتَحَيِّزُ نَفْسُهُ، ثُمَّ إِضَافَةُ الْحَيِّزِ إِلَى الْجَوْهَرِ كَإِضَافَةِ الْوُجُودِ إِلَيْهِ "(2) .
قَالَ: " فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ: إِنَّ الْمُتَحَيِّزَ مُتَحَيِّزٌ بِمَعْنًى، كَمَا أَنَّ الْكَائِنَ كَائِنٌ بِمَعْنًى. قُلْنَا: تَحَيُّزُهُ نَفْسُهُ أَوْ صِفَةُ نَفْسِهِ - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْأَحْوَالِ - وَكَوْنُهُ مُتَحَيِّزًا رَاجِعٌ إِلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ جِرْمًا، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَكْوَانُهُ بِأَعْرَاضِهِ، وَلَوْ كَانَ تَحَيُّزُهُ حُكْمًا مُعَلَّلًا لَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ الِاخْتِلَافِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَكْوَانِ، فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ كَوْنُهُ جِرْمًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْأَكْوَانِ وَالِاخْتِصَاصِ بِالْجِهَاتِ، فَمَا كَانَ بِمُقْتَضَى الْأَكْوَانِ كَانَ فِي حُكْمِ الِاخْتِلَافِ ".
(1) أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْرَانَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، سَبَقَتْ تَرْجَمَتُهُ 2/296 وَانْظُرْ عَنْهُ أَيْضًا: تَبْيِينَ كَذِبِ الْمُفْتَرِي، ص [0 - 9] 43 - 244.
(2)
يَقُولُ الْجُوَيْنِيُّ (الشَّامِلِ، ص [0 - 9] 56، تَحْقِيقُ د. فَيْصَل بُدَيْر عَوْن، د. سُهَيْر مُحَمَّد مُخْتَار، ط. الْمَعَارِفِ، الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، 1969) : " وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي الْحَيِّزِ أَنَّهُ الْمُتَحَيِّزُ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَى الْمُتَحَيِّزِ، ثُمَّ لَا تَبْعُدُ إِضَافَةُ الْحَيِّزِ إِلَى الْجَوْهَرِ، كَمَا لَا تَبْعُدُ إِضَافَةُ الْوُجُودِ إِلَيْهِ ".
قَالَ: " فَإِنْ قِيلَ: الْجَوْهَرُ لَا يَخْلُو عَنِ الْأَكْوَانِ كَمَا لَا يَخْلُو عَنْ وَصْفِ التَّحَيُّزِ. قُلْنَا: قَدْ أَوْضَحْنَا أَنَّ تَحَيُّزَهُ صِفَةُ نَفْسِهِ، فَنَقُولُ: صِفَةُ النَّفْسِ تُلَازِمُ لِلنَّفْسِ وَلَا تُعْقَلُ النَّفْسُ دُونَهَا، وَكَوْنُ الْجَوْهَرِ مُتَحَيِّزًا بِمَثَابَةِ كَوْنِهِ ذَاتًا أَوْ شَيْئًا. وَالتَّحَيُّزُ قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ يَجِبُ لُزُومُهَا مَا بَقِيَتِ النَّفْسُ، وَالْكَوْنُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ "(1) . ثُمَّ بَسَطَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ.
وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ التَّحَيُّزَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى الْمُتَحَيِّزِ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ وَصْفًا ثُبُوتِيًّا. وَإِنْ أَرَادَ بِكَوْنِهِ ثُبُوتِيًّا أَنَّهُ أَمْرٌ إِضَافِيٌّ إِلَى الْحَيِّزِ فَالْأُمُورُ الْإِضَافِيَّةُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ عَدَمِيَّةٌ إِذَا كَانَتْ بَيْنَ مَوْجُودَيْنِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ بَيْنَ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ! ؟ وَقَوْلُهُ:" إِنَّ الْحَيِّزَ إِذَا كَانَ مَعْدُومًا، فَكَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ الْجَوْهَرِ فِي الْمَعْدُومِ؟ ".
فَيُقَالُ: لَهُ: إِنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِكَوْنِهِ فِي الْمَعْدُومِ إِلَّا وَجُودَهُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ آخَرَ يُحِيطُ بِهِ، لَمْ يُرِيدُوا أَنَّهُ يَكُونُ مَعْدُومًا مَعَ كَوْنِهِ مَوْجُودًا.
وَأَيْضًا، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ مُرَادَهُمْ: هَلِ الْحَيِّزُ عِنْدَهُمْ وُجُودٌ أَوْ عَدَمٌ، كَيْفَ يُحْكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُتَحَيِّزٌ أَوْ قَائِمٌ بِالْمُتَحَيِّزِ، مَعَ عِلْمِهِ وَحِكَايَتِهِ عَنْهُمْ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ، فَيَمْتَنِعُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَا سِوَاهُ إِمَّا مُتَحَيِّزًا أَوْ حَالًّا فِي الْمُتَحَيِّزِ، مَعَ أَنَّ الْمُتَحَيِّزَ هَذَا فِي حَيِّزٍ وُجُودِيٍّ سِوَى اللَّهِ، وَهُوَ مُحْدَثٌ، فَإِنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ هُنَا ثَلَاثَةٌ مَوْجُودَةٌ مُحْدَثَةٌ:
(1) أَكْثَرُ هَذَا الْكَلَامِ مَوْجُودٌ بِمَعْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِلَفْظِهِ فِي " الشَّامِلِ " ص [0 - 9]57.
مُتَحَيِّزٌ وَحَيِّزٌ وَقَائِمٌ بِالْمُتَحَيِّزِ، فَتَكُونُ الْمَوْجُودَاتُ سِوَى اللَّهِ ثَلَاثَةً وَهِيَ مُحْدَثَةٌ عِنْدَهُمْ. وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ: إِنَّ مَا سِوَى اللَّهِ: إِمَّا مُتَحَيِّزٌ، وَإِمَّا قَائِمٌ بِمُتَحَيِّزٍ.
وَأَمَّا اعْتِرَاضُ الطُّوسِيِّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مِنِّي عَلَى أَنَّ التَّحَيُّزَ هُوَ الْمَكَانُ، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ، بَلِ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَكَانِ هُوَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَصْحَابِ أَفْلَاطُنَ وَأَصْحَابِ أَرِسْطُو، فَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: هُوَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ تَحِلُّ بِهِ الْأَجْسَامُ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، بَلْ كُلُّ مَا قَامَ بِنَفْسِهِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ جِسْمٌ، إِذِ الْجَوْهَرُ الَّذِي لَهُ هُوَ جِسْمٌ، لَيْسَ عِنْدَهُمْ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ غَيْرَ هَذَيْنِ، وَمَنْ أَثْبَتَ مِنْهُمْ جَوْهَرًا غَيْرَ جِسْمٍ فَإِنَّهُ مُحْدَثٌ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ مُحْدَثٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمِلَلِ، سَوَاءٌ قَالُوا بِدَوَامِ الْفَاعِلِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ يُحْدِثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، أَوْ لَمْ يَقُولُوا بِدَوَامِ الْفَاعِلِيَّةِ.
وَالْمُتَكَلِّمُونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ جِسْمٌ أَوْ قَائِمٌ بِجِسْمٍ قَدْ يَتَنَاقَضُونَ، حَيْثُ يُثْبِتُ أَكْثَرُهُمُ الْخَلَاءَ أَمْرًا مَوْجُودًا، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ بَلْ يُفْرَضُ فِيهِ التَّقْدِيرُ فَرْضًا، وَهَذَا الْخَلَاءُ هُوَ الْجَوْهَرُ الَّذِي يُثْبِتُهُ أَفْلَاطُنُ.
وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودٌ قَدِيمٌ مَعَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مَسْبُوقٌ بِعَدَمِ نَفْسِهِ، وَإِنْ قِيلَ مَعَ ذَلِكَ بِدَوَامِ كَوْنِهِ خَالِقًا، فَخَلْقُهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ دَائِمًا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا
سِوَاهُ مَخْلُوقًا مُحْدَثًا كَائِنًا (1) بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، لَيْسَ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ قَدِيمٌ بِقِدَمِ اللَّهِ تَعَالَى مُسَاوِيًا لَهُ، بَلْ هَذَا مُمْتَنِعٌ بِصَرَائِحِ الْعُقُولِ مُخَالِفٌ لِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَرِسْطُو وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَكَانَ هُوَ السَّطْحُ الْبَاطِنُ مِنَ الْجِسْمِ الْحَاوِي الْمُلَاقِي لِلسَّطْحِ الظَّاهِرِ مِنَ الْجِسْمِ الْمَحْوِي، وَهُوَ عَرَضٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ.
وَقَوْلُهُ: " إِنَّهُ بَدِيهِيُّ الْأَيْنِيَّةِ (2) خَفِيُّ الْحَقِيقَةِ " أَيْ عِنْدِ هَؤُلَاءِ، وَأَمَّا عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ خَفِيٌّ، بَلْ لَفْظُ " الْمَكَانِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَكُونُ الشَّيْءُ فَوْقَهُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، كَمَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فَوْقَ السَّطْحِ، وَيُرَادُ بِهِ مَا يَكُونُ الشَّيْءُ فَوْقَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَيْهِ، مِثْلُ كَوْنِ السَّمَاءِ فَوْقَ الْجَوِّ، وَكَوْنِ الْمَلَائِكَةِ فَوْقَ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ، وَكَوْنِ الطَّيْرِ فَوْقَ الْأَرْضِ.
وَمِنْ هَذَا قَوْلُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه:
تَعَالَى عُلُوًّا فَوْقَ عَرْشٍ إِلَهُنَا
…
وَكَانَ مَكَانُ اللَّهِ أَعْلَى وَأَعْظَمَا (3) مَعَ عِلْمِ حَسَّانَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ عَرْشٍ وَغَيْرِهِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ، وَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ مَكَانًا.
وَالسَّلَفُ وَالصَّحَابَةُ، بَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْمَعُ مِثْلَ
(1) فِي الْأَصْلِ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ كَائِنٌ.
(2)
فِي الْأَصْلِ: الْأَبْنِيَةِ، وَسَبَقَ تَصْوِيبُ الْكَلِمَةِ عَنْ " تَلْخِيصِ الْمُحَصِّلِ ".
(3)
لَمْ أَجِدِ الْبَيْتَ فِي دِيوَانِ حَسَّانَ الْمَطْبُوعِ.
هَذَا وَيُقِرُّ عَلَيْهِ، كَمَا أَنْشَدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رضي الله عنه:
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
…
وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ
…
وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا
وَتَحْمِلُهُ مَلَائِكَةٌ شِدَادٌ
…
مَلَائِكَةُ الْإِلَهِ مُسَوَّمِينَا (1) فِي قِصَّتِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَمَّا وَطِئَ سُرِّيَّتَهُ وَرَأَتْهُ امْرَأَتُهُ فَقَامَتْ إِلَيْهِ لِتُؤْذِيَهُ فَلَمْ يُقِرَّ بِمَا فَعَلَ، فَقَالَتْ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" «لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ الْقُرْآنَ "؟» فَأَنْشَدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ فَظَنَّتْ أَنَّهُ قُرْآنٌ فَسَكَتَتْ وَأُخْبِرَ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَحْسَنَهُ.
وَقَدْ يُرَادُ بِالْمَكَانِ مَا يَكُونُ مُحِيطًا بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ ; فَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْمَكَانِ مُجَرَّدُ السَّطْحِ الْبَاطِنِ، أَوْ يُرَادَ بِهِ جَوْهَرٌ لَا يُحَسُّ بِحَالٍ، فَهَذَا قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ ذَلِكَ بِلَفْظِ " الْمَكَانِ ". وَذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ أَرِسْطُو بِلَفْظِ " الْمَكَانِ " عَرَضٌ ثَابِتٌ، لَكِنْ لَيْسَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ بِلَفْظِ " الْمَكَانِ " فِي كَلَامِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، وَلَا فِي كَلَامِ جَمَاهِيرِ الْأُمَمِ: عُلَمَائِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ. وَأَمَّا مَا أَرَادَهُ أَفْلَاطُنُ فَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يُنْكِرُونَ وُجُودَهُ فِي الْخَارِجِ، وَبَسْطُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَدَاخُلِ الْأَجْسَامِ فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النُّظَّارِ. وَقَوْلُ الرَّازِيِّ فِي التَّدَاخُلِ: " ذَلِكَ مُحَالٌ " هُوَ مَوْضِعُ مَنْعٍ، مَشْهُورٌ وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ النُّظَّارِ: إِنَّ الْجَوْهَرَ فِي الْحَيِّزِ بِمَعْنَى التَّدَاخُلِ، سَوَاءٌ فُسِّرَ الْحَيِّزُ
(1) الْأَبْيَاتُ مَرْوِيَّةٌ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رضي الله عنه فِي " الِاسْتِيعَابِ " لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ. وَرُوِيَتْ أَيْضًا فِيهِ الْقِصَّةُ الَّتِي قِيلَتِ الْأَبْيَاتُ بِسَبَبِهَا.