الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَوْ قُدِّرَ بِأَنَّ النَّفْيَ حَقٌّ (1) ، فَالرُّسُلُ لَمْ تُخْبِرْ بِهِ وَلَمْ تُوجِبْ عَلَى النَّاسِ اعْتِقَادَهُ، (فَمَنِ اعْتَقَدَهُ وَأَوْجَبَهُ)(2) فَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ (مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ) أَنَّ دِينَهُ (3) مُخَالِفٌ لِدِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (*)(4)
[استطراد في مناقشة نفاة الصفات]
(فَصْلٌ)
وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ (5) أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، لَكِنْ قَدْ يُنَازِعُونَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ: هَلِ النَّقْصُ إِثْبَاتُهَا أَوْ نَفْيُهَا؟ وَفِي طَرِيقِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ.
فَهَذَا الْمُصَنِّفُ الْإِمَامِيُّ اعْتَمَدَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي تَنْزِيهِ الرَّبِّ عَنِ النَّقَائِصِ عَلَى نَفْيِ كَوْنِهِ جِسْمًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ
(1) ب، أ: فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ النَّفْيَ حَقٌّ.
(2)
مَا بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ فِي (ع) فَقَطْ، وَفِي (ب)، (أ) بَدَلًا مِنْهُ: وَوَاجِبُهُ.
(3)
ب: فَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ دِينَهُمْ ; أ: فَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ دِينَهُ.
(4)
الْكَلَامُ الَّذِي يَلِي عِبَارَةَ: مُخَالِفٌ لِدِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ الْقَوْسِ كُلُّهُ سَاقِطٌ مِنْ (ب) ، (أ) . وَهُوَ كَذَلِكَ سَاقِطٌ مِنْ (ن) ، (م) . مَعَ مَا سَبَقَ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ ص 526. وَيَسْتَمِرُّ السَّقْطُ حَتَّى ص 562.
(5)
فِي الْأَصْلِ (ع) : وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ.
هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا هِيَ مَأْثُورَةٌ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهَا يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ، لَكِنْ يَدَّعُونَ أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ.
فَقَالَ لَهُمُ الْقَادِحُونَ فِي طَرِيقِهِمْ: هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ لِاسْتِلْزَامِ ذَلِكَ كَوْنَهُ جِسْمًا، فَإِنَّهُ مَا مِنْ صِفَةٍ يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنَّهَا تَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ (1) ، إِلَّا وَالْقَوْلُ فِيمَا أَثْبَتَهُ كَالْقَوْلِ فِيمَا نَفَاهُ.
وَهُوَ لَا بُدَّ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَنْفِيَ الْمَوْجُودَ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ بِنَفْسِهِ، وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ صِفَةٍ قَالَ فِيهَا: إِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا لِجِسْمٍ، أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِيمَا أَثْبَتَهُ. وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ صِفَةَ نَقْصٍ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُنَزِّهَ اللَّهَ تَعَالَى عَنِ الْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَالنَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْأَجْسَامِ ; قِيلَ لَهُ: وَمَا تُثْبِتُهُ أَنْتَ مِنَ الْأَسْمَاءِ أَوِ الْأَحْكَامِ أَوِ الصِّفَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْأَجْسَامِ.
وَلِهَذَا كَانَ مَنْ رَدَّ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ عَلَى الْوَاصِفِينَ لِلَّهِ بِالْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ كَلَامُهُمْ مُتَنَاقِضٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَعْتَمِدِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ فِيمَا يُنْكِرُونَهُ عَلَى الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ - مِمَّنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنَ النَّقَائِصِ كَالْبُخْلِ وَالْفَقْرِ وَاللُّغُوبِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ - عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ.
ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَسْلُكُ هَذِهِ الطَّرِيقَ حَتَّى مِنَ الصِّفَاتِيَّةِ يَقُولُونَ:
(1) فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ.
إِنَّ كَوْنَ الرَّبِّ مُنَزَّهًا عَنِ النَّقْصِ مُتَّصِفًا بِالْكَمَالِ مِمَّا لَا نَعْرِفُهُ بِالْعَقْلِ بَلْ بِالسَّمْعِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي اسْتَنَدَ إِلَيْهِ.
وَهَؤُلَاءِ لَا يَبْقَى عِنْدَهُمْ طَرِيقٌ عَقْلِيٌّ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّقَائِصِ، وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ إِنَّمَا يَنْفَعُ فِي الْجُمَلِ دُونَ التَّفَاصِيلِ الَّتِي هِيَ (1) مَحَلُّ نِزَاعٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ يَسْتَنِدُونَ فِيهِ إِلَى بَعْضِ النُّصُوصِ، وَدَلَالَةُ النُّصُوصِ عَلَى صِفَاتِ الْكَمَالِ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ وَأَقْطَعُ مِنْ دَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً.
وَإِذَا عُرِفَ ضَعْفُ أَصُولِ النُّفَاةِ لِلصِّفَاتِ فِيمَا يُنَزِّهُونَ عَنْهُ الرَّبَّ، فَهَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ طَافُوا عَلَى أَبْوَابِ الْمَذَاهِبِ، وَفَازُوا بِأَخَسِّ الْمَطَالِبِ، فَعُمْدَتُهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ عَلَى عَقْلِيَّاتٍ بَاطِلَةٍ، وَفِي السَّمْعِيَّاتِ عَلَى سَمْعِيَّاتٍ بَاطِلَةٍ. وَلِهَذَا كَانُوا مِنْ أَضْعَفِ النَّاسِ حُجَّةً وَأَضْيَقِهِمْ مَحَجَّةً، وَكَانَ الْأَكَابِرُ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ مُتَّهَمِينَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالِانْحِلَالِ، كَمَا يُتَّهَمُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَكَابِرِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا الْبَابَ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ بِأَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ مِثْلِ التَّرْكِيبِ وَالِانْقِسَامِ وَالتَّجْزِئَةِ وَالتَّبْعِيضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْقَائِلُ إِذَا قَالَ: إِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَيْسَ بِمُنْقَسِمٍ وَلَا مُتَجَزِّئٍ وَلَا مُتَبَعِّضٍ وَلَا مُرَكَّبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا إِذَا أُرِيدَ بِهِ مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَعْنَى ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّهُ مُرَكَّبٌ بِنَفْسِهِ أَوْ رَكَّبَهُ غَيْرُهُ، وَلَا أَنَّهُ مُرَكَّبٌ يَقْبَلُ
(1) فِي الْأَصْلِ: الَّذِي هِيَ. وَالْكَلَامُ هُنَا عَنِ الْإِجْمَاعِ عِنْدَ ابْنِ الْمُطَهَّرِ وَعِنْدَ الْإِمَامِيَّةِ وَالنُّفَاةِ.
التَّفْرِيقَ وَالتَّجْزِئَةَ وَالتَّبْعِيضَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَانَ مُتَفَرِّقًا فَاجْتَمَعَ، كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْأَجْسَامِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَإِنْ كَانَ خَلَقَ الْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ فَأَنْشَأَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، لَمْ تَكُنْ يَدُ الْإِنْسَانِ وَرِجْلُهُ وَرَأْسُهُ مُتَفَرِّقَةً فَجَمَعَ بَيْنَهَا (1) ، بَلْ خَلَقَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ جُمْلَةً، لَكِنْ يُمْكِنُ تَفْرِيقُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يَقْبَلُ التَّفْرِيقَ وَالتَّجْزِئَةَ وَالتَّبْعِيضَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. فَهَذَانِ مَعْنَيَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، لَا أَعْلَمُ مُسْلِمًا لَهُ قَوْلٌ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَإِنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّرْكِيبِ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، وَبِالِانْقِسَامِ وَالتَّجْزِئَةِ أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الْأَجْزَاءِ، فَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُشَارَ إِلَيْهَا، كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْأَفْلَاكِ وَالْهَوَاءِ وَالنَّارِ وَالتُّرَابِ، لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً (2) لَا هَذَا التَّرْكِيبَ وَلَا هَذَا التَّرْكِيبَ، وَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟ !
فَإِنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ الْمَخْلُوقَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ، الَّذِي هُوَ عَالٍ عَلَى غَيْرِهِ كَعُلُوِّ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، إِذَا كَانَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَيْسَ مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّأُ - وَهِيَ الْجَوَاهِرُ الْمُنْفَرِدَةُ - عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا، وَلَا مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، كَانَ مَنْعُهُمْ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُرَكَّبًا مِنْ هَذَا وَهَذَا أَوْلَى.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا، فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ - كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ - يَنْفُونَ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى هَذَا التَّرْكِيبَ. وَلَكِنْ
(1) فِي الْأَصْلِ: بَيْنَهُمَا.
(2)
فِي الْأَصْلِ: لَيْسَ مُرَكَّبًا.
كَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِ الْكَلَامِ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جِسْمٌ، فَإِذَا كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، فَقَدْ يَقُولُ: إِنَّهُ مُرَكَّبٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَبِهَذَا.
وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ يُنْكِرُونَ هَذَا التَّرْكِيبَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، فَهُمْ فِي الْخَالِقِ أَشَدُّ إِنْكَارًا.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْمَخْلُوقَ مُرَكَّبٌ هَذَا التَّرْكِيبُ، فَهَؤُلَاءِ يَحْتَاجُونَ فِي نَفْيِ ذَلِكَ عَنِ الرَّبِّ إِلَى بُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ يُبَيِّنُ امْتِنَاعَ مِثْلِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُنَازِعِيهِمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِثُبُوتِ مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلُوهُ تَرْكِيبًا، يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا بُرْهَانَ لَهُمْ عَلَى نَفْيِهِ، بَلِ الْمُقَدِّمَاتُ الَّتِي وَافَقُونَا عَلَيْهَا مِنْ إِثْبَاتِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الشَّاهِدِ، يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي الْغَائِبِ، كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْغَائِبِ بِالشَّاهِدِ.
وَبَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي هَذَا مُنَازَعَاتٌ عَقْلِيَّةٌ وَلَفْظِيَّةٌ وَلُغَوِيَّةٌ، قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ، مَعَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَتَانِ، وَتَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْ ذَلِكَ تَبَيَّنَ بِالْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ، كَمَا بُيِّنَ مِنْ غَيْرِ سُلُوكِ الشُّبُهَاتِ الْفَاسِدَةِ.
وَأَمَّا إِذَا قِيلَ: الْمُرَادُ بِالِانْقِسَامِ أَوِ التَّرْكِيبِ أَنْ يَتَمَيَّزَ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، مِثْلُ تَمَيُّزِ عِلْمِهِ عَنْ قُدْرَتِهِ، أَوْ تَمَيُّزِ ذَاتِهِ عَنْ صِفَاتِهِ، أَوْ تَمَيُّزِ مَا يُرَى مِنْهُ عَمَّا لَا يُرَى، كَمَا قَالَهُ السَّلَفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 103]، قَالُوا: لَا تُحِيطُ بِهِ. وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} قَالَ: أَلَسْتَ تَرَى
السَّمَاءَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَفَكُلَّهَا تَرَى؟ قَالَ: لَا (1) ; فَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يُرَى وَلَا يُدْرَكُ، أَيْ لَا يُحَاطُ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
فَهَذَا الِامْتِيَازُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: امْتِيَازٌ فِي عِلْمِ الْعَالِمِ مِنَّا بِأَنْ نَعْلَمَ شَيْئًا وَلَا نَعْلَمَ الْآخَرَ، فَهَذَا أَيْضًا لَا يُمْكِنُ الْعَاقِلُ أَنْ يُنَازِعَ فِيهِ بَعْدَ فَهْمِهِ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ فِيهِ نِزَاعًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ عَالِمٌ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ (مُرِيدٌ) ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (2) فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا يَعْلَمُ الْآخَرَ، فَالِامْتِيَازُ فِي عِلْمِ النَّاسِ بَيْنَ مَا يُعْلَمُ وَمَا لَا يُعْلَمُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ عَاقِلًا الْمُنَازَعَةُ فِيهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، أَوْ يَتَكَلَّمَ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَتَصَوَّرُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ.
فَهَذَا الْوَجْهُ مِنَ الِامْتِيَازِ مُتَّفَقٌ عَلَى إِثْبَاتِهِ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَّفَقٌ عَلَى نَفْيِهِ. وَأَمَّا الِامْتِيَازُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ تَفَرُّقٍ وَانْفِصَالٍ، كَتَمَيُّزِ الْعِلْمِ عَنِ الْقُدْرَةِ، وَتَمَيُّزِ الذَّاتِ عَنِ الصِّفَةِ، وَتَمَيُّزِ السَّمْعِ عَنِ الْبَصَرِ، وَتَمَيُّزِ مَا يُرَى مِنْهُ عَمَّا لَا يُرَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَثُبُوتِ صِفَاتٍ لَهُ وَتَنَوُّعِهَا، فَهَذَا مِمَّا تَنْفِيهِ الْجَهْمِيَّةُ نُفَاةُ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مِمَّا أَنْكَرَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ نَفْيَهُمْ لَهُ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْمُصَنِّفِينَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ (3)، وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَكِنْ (لَيْسَ) (4) فِي أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّ
(1) انْظُرْ مَا سَبَقَ 2/316 - 320، وَانْظُرْ ص 320 (ت [0 - 9] ) .
(2)
فِي الْأَصْلِ: قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَضَفْتُ كَلِمَةَ (مُرِيدٌ) لِيَسْتَقِيمَ الْكَلَامُ.
(3)
انْظُرْ مَثَلًا رِسَالَةَ " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ " لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ص [0 - 9] 1 - 32.
(4)
فِي الْأَصْلِ: وَلَكِنْ فِي أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَزِيَادَةُ " لَيْسَ " يَقْتَضِيهَا السِّيَاقُ.
الرَّبَّ مُرَكَّبٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ وَلَا مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ. وَقَدْ تَنَازَعَ النُّظَّارُ فِي الْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ: هَلْ هِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ جَوَاهِرَ أَوْ مِنْ أَجْزَاءٍ، أَوْ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ.
فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَخْلُوقَ لَيْسَ مُرَكَّبًا لَا مِنْ هَذَا وَلَا هَذَا، فَالْخَالِقُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مُرَكَّبًا.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَخْلُوقَ مُرَكَّبٌ، فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَنْفِيَ التَّرْكِيبَ عَنِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَأَدِلَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ضَعِيفَةٌ. وَإِمَّا أَنْ يُثْبِتَ تَرْكِيبَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا، وَهُوَ قَوْلٌ سَخِيفٌ. فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ - النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ - ضَعِيفٌ لِضَعْفِ الْأَصْلِ الَّذِي اشْتَرَكُوا فِيهِ.
وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَحَارَاتِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ. مِثَالُ ذَلِكَ الثَّمَرَةُ، كَالتُّفَّاحَةِ وَالْأُتْرُجَّةِ (1) لَهَا لَوْنٌ وَطَعْمٌ وَرِيحٌ، وَهَذِهِ صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِهَا، وَلَهَا أَيْضًا حَرَكَةٌ. فَمِنَ النُّظَّارِ مَنْ قَالَ: صِفَاتُهَا لَيْسَتْ أُمُورًا زَائِدَةً عَلَى ذَاتِهَا، وَيَجْعَلُ لَفْظَ " التُّفَّاحَةِ " يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ صِفَاتُهَا زَائِدَةٌ عَلَى ذَاتِهَا.
وَهَذَا فِي التَّحْقِيقِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ، فَإِنْ عَنَى بِذَاتِهَا مَا يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ مِنَ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ صِفَاتِهَا زَائِدَةٌ عَلَى هَذِهِ الذَّاتِ. وَإِنْ عَنَى بِذَاتِهَا الذَّاتَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ، فَتِلْكَ مُتَّصِفَةٌ بِالصِّفَاتِ، لَا تَكُونُ ذَاتًا مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُتَّصِفَةً بِصِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ لَهَا.
(1) فِي " الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ "(نَشْرَ مَجْمَعِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ) : " الْأُتْرُجُّ شَجَرٌ يَعْلُو، نَاعِمُ الْأَغْصَانِ وَالْوَرَقِ وَالثَّمَرِ، وَثَمَرُهُ كَاللَّيْمُونِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ ذَهَبِيُّ اللَّوْنِ، ذَكِيُّ الرَّائِحَةِ، حَامِضُ الْمَاءِ ". وَفِي اللِّسَانِ: " وَاحِدَتُهُ تُرُنْجَةٌ وَأُتْرُجَّةٌ. . وَفِي الْحَدِيثِ: نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ الْمُتَرَّجِ، هُوَ الْمَصْبُوغُ بِالْحُمْرَةِ صَبْغًا مُشْبَعًا ".
فَتَقْدِيرُهَا فِي الْخَارِجِ مُنْفَكَّةً عَنِ الصِّفَاتِ - حَتَّى يُقَالَ: هَلِ الصِّفَاتُ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا أَوْ لَيْسَتْ زَائِدَةً - تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ الْمُمْتَنِعُ قَدْ يَلْزَمُهُ حُكْمٌ مُمْتَنِعٌ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ النُّظَّارِ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَيْسَانَ الْأَصَمِّ (1) وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُودَ الْأَعْرَاضِ فِي الْخَارِجِ، حَتَّى أَنْكَرُوا وُجُودَ الْحَرَكَةِ. وَالْأَشْبَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ قَوْلُهُمْ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَعْقَلُ مِنْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ (2) وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَصَمُّ - وَإِنْ كَانَ مُعْتَزِلِيًّا - فَإِنَّهُ مِنْ فُضَلَاءِ النَّاسِ وَعُلَمَائِهِمْ، وَلَهُ تَفْسِيرٌ. وَمِنْ تَلَامِيذِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
(1) فِي لِسَانِ الْمِيزَانِ 3/427: " عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ، أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ الْمُعْتَزِلِيُّ، صَاحِبُ الْمَقَالَاتِ فِي الْأُصُولِ. ذَكَرَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ الْهَمْدَانِيُّ فِي طَبَقَاتِهِمْ، وَقَالَ: كَانَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ وَأَوْرَعِهِمْ وَأَفْقَهِهِمْ وَلَهُ تَفْسِيرٌ عَجِيبٌ. وَمِنْ تَلَامِذَتِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنُ عُلَيَّةَ، قُلْتُ: وَهُوَ مِنْ طَبَقَةِ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ وَأَقْدَمُ مِنْهُ ". وَذَكَرَ عَنْهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي الْمَقَالَاتِ 1/311 أَنَّهُ يُخَالِفُ إِجْمَاعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَالسَّيْفِ، كَمَا يَذْكُرُ رَأْيَهُ فِي الْإِنْسَانِ 2/25: بِأَنَّهُ " هُوَ الَّذِي يُرَى وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا رُوحَ لَهُ وَهُوَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَنَفَى إِلَّا مَا كَانَ مَحْسُوسًا مُدْرَكًا " وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ 2/28: " لَيْسَ أَعْقِلُ إِلَّا الْجَسَدَ الطَّوِيلَ الْعَرِيضَ الْعَمِيقَ الَّذِي أَرَاهُ وَأُشَاهِدُهُ، وَكَانَ يَقُولُ: النَّفْسُ هِيَ هَذَا الْبَدَنُ بِعَيْنِهِ لَا غَيْرَ، وَإِنَّمَا جَرَى عَلَيْهَا هَذَا الذِّكْرُ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ وَالتَّأْكِيدِ لِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ لَا عَلَى أَنَّهَا مَعْنَى غَيْرِ الْبَدَنِ " وَذَكَرَ عَنْهُ الشَّهْرَسْتَانِيُّ (نِهَايَةَ الْإِقْدَامِ، ص [0 - 9] 81) أَنَّهُ يَقُولُ بِأَنَّ الْإِمَامَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي الشَّرْعِ بَلْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُعَامَلَاتِ النَّاسِ. وَانْظُرْ تَرْجَمَةَ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَآرَاءَهُ فِي: الْمُنْيَةِ وَالْأَمَلِ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ لِابْنِ الْمُرْتَضِي، ص 32 - 33 ; ط. حَيْدَرَ آبَادَ، 1316 ; فَضْلِ الِاعْتِزَالِ، ص [0 - 9] 67 - 268.
(2)
قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي الْمَقَالَاتِ 2 " وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسُّكُونِ وَالْأَفْعَالِ، فَقَالَ الْأَصَمُّ: لَا أُثْبِتُ إِلَّا الْجِسْمَ الطَّوِيلَ الْعَرِيضَ الْعَمِيقَ وَلَمْ يُثْبِتْ حَرَكَةَ غَيْرِ الْجِسْمِ، وَلَا يُثْبِتُ سُكُونًا غَيْرَهُ، وَلَا فِعْلًا غَيْرَهُ، وَلَا قِيَامًا غَيْرَهُ، وَلَا قُعُودًا غَيْرَهُ، وَلَا افْتِرَاقًا وَلَا اجْتِمَاعًا، وَلَا حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا، وَلَا لَوْنًا غَيْرَهُ، وَلَا صَوْتًا وَلَا طَعْمًا غَيْرَهُ، وَلَا رَائِحَةً غَيْرَهُ. فَأَمَّا بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْأَصَمَّ قَدْ عَلِمَ الْحَرَكَاتِ وَالسُّكُونَ وَالْأَلْوَانَ ضَرُورَةً، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا غَيْرُ الْجِسْمِ، فَإِنَّهُ يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُثْبِتُ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَسَائِرَ الْأَفْعَالِ غَيْرَ الْجِسْمِ، وَلَا يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُثْبِتُ حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وَلَا قِيَامًا وَلَا قُعُودًا وَلَا فِعْلًا. فَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَصَمَّ كَانَ لَا يَعْلَمُ الْأَعْرَاضَ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَإِنَّهُ يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُثْبِتُ حَرَكَةً وَلَا سُكُونًا وَلَا قِيَامًا وَلَا قُعُودًا وَلَا اجْتِمَاعًا وَلَا افْتِرَاقًا عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي سَائِرِ الْأَعْرَاضِ ". وَفِي أُصُولِ الدِّينِ لِابْنِ طَاهِرٍ، ص 36 - 37:" الْخِلَافُ فِي إِثْبَاتِ الْأَعْرَاضِ مَعَ الْأَصَمِّ وَمَعَ طَوَائِفَ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ وَالسَّمْنِيَّةِ نَفَوْهَا كُلَّهَا وَزَعَمُوا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ مُتَحَرِّكٌ لَا بِحَرَكَةٍ، وَالْأَسْوَدَ أَسْوَدُ لَا لِسَوَادٍ يَقُومُ بِهِ، وَنَفَوْا جَمِيعَ الْأَعْرَاضِ ". وَانْظُرْ أَيْضًا: الْمِلَلَ وَالنِّحَلَ 1 ; فَضَائِحَ الْبَاطِنِيَّةِ لِلْغَزَالِيِّ (تَحْقِيقَ د. عَبْدِ الرَّحْمَن بَدَوِي) ، ص 170 - 171. .
إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، وَلِإِبْرَاهِيمَ مُنَاظَرَاتٌ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ مَعَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. (1) وَفِي الْجُمْلَةِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَذْكِيَاءِ النَّاسِ وَأَحَدِّهِمْ أَذْهَانًا، وَإِذَا ضَلُّوا فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَضِلُّوا فِي الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى الصِّبْيَانِ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْأَطِبَّاءَ وَأَهْلَ الْهَنْدَسَةِ مِنْ أَذْكِيَاءِ النَّاسِ، وَلَهُمْ عُلُومٌ صَحِيحَةٌ طِبِّيَّةٌ وَحِسَابِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ ضَلَّ مِنْهُمْ طَوَائِفُ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ، فَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَضِلُّوا فِي الْأُمُورِ الْوَاضِحَةِ فِي الطِّبِّ وَالْحِسَابِ.
(1) فِي لِسَانِ الْمِيزَانِ 1 - 35: " إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ جَهْمِيٌّ هَالِكٌ كَانَ يُنَاظِرُ وَيَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. . وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أُخَالِفُ ابْنَ عُلَيَّةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنِّي أَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى، وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ كَلَامًا سَمِعَهُ مُوسَى. وَلَهُ كِتَابٌ فِي الرَّدِّ عَلَى مَالِكٍ نَقَضَهُ عَلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْأَبْهَرَيِّ. . وَأَرَّخَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي " الْمُنْتَظِمِ " فِي سَنَةِ 18. قَالَ: وَهُوَ ابْنُ 67 سَنَةً ". وَانْظُرْ أَيْضًا: النُّجُومَ الزَّاهِرَةِ 2/228. (حَيْثُ ذُكِرَ فِي وَفَيَاتِ سَنَةِ 218) . وَقَارِنِ الْفِهْرِسْتَ لِابْنِ النَّدِيمِ، ص 201. وَانْظُرْ فَضْلَ الِاعْتِزَالِ وَطَبَقَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ، ص 75، 80، 267، 316.
فَمَنْ حَكَى عَنْ مِثْلِ أَرِسْطُو أَوْ جَالِينُوسَ أَوْ غَيْرِهِمَا قَوْلًا فِي الطَّبِيعِيَّاتِ (1) ظَاهِرَ الْبُطْلَانِ، عُلِمَ أَنَّهُ غَلِطَ فِي النَّقْلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ عَلَيْهِ.
بَلْ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الرَّازِيُّ مَعَ إِلْحَادِهِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ، وَنُصْرَتِهِ لِقَوْلِ دِيمُقْرَاطِيسَ وَالْحَرْنَانِيِّينَ (2) الْقَائِلِينَ بِالْقُدَمَاءِ الْخَمْسَةِ - مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَضْعَفِ أَقْوَالِ الْعَالِمِ وَفِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كَشَرْحِ الْأَصْبَهَانِيَّةِ وَالْكَلَامِ عَلَى مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهَا قُوًى نَفْسَانِيَّةٌ الْمُسَمَّاةُ بِالصَّفَدِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَالرَّجُلُ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالطِّبِّ (3) حَتَّى قِيلَ لَهُ: جَالِينُوسُ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ ذَكَرَ عَنْهُ فِي الطِّبِّ قَوْلًا يَظْهَرُ فَسَادُهُ لِمُبْتَدِئِ الْأَطِبَّاءِ، كَانَ غَالِطًا عَلَيْهِ.
(1) فِي الْأَصْلِ: فِي الطَّبِيعَاتِ.
(2)
فِي الْأَصْلِ: حَرْنَانِينَ.
(3)
فِي هَامِشِ (ع) لَخَّصَ مُسْتَجِي زَادَهْ كَلَامَ ابْنَ تَيْمِيَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الرَّازِيِّ حَتَّى هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ كَتَبَ التَّعْلِيقَ التَّالِيَ:" قُلْتُ: وَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى تَأْلِيفٍ لِابْنِ الْخَطِيبِ الْمُشْتَهِرِ بِالْإِمَامِ الرَّازِيِّ يُقَالُ لَهُ " الْمَطَالِبُ الْعَالِيَةُ " أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ دَلِيلٌ يَدُلُّ بِصَرِيحِهِ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ، ثُمَّ أَخَذَ يُعَدِّدُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ مَظِنَّةُ ذَلِكَ - أَعْنِي حُدُوثَ الْعَالَمِ - فَرَكِبَ عَلَى كُلِّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ عَلَى نَفْيِ الدَّلَالَةِ فِي تِلْكَ الْمَظَانِّ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ أَيْضًا دَلِيلٌ يَدُلُّ بِصَرِيحِهِ عَلَى ذَلِكَ فَذَهَبَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى قَوْلِ دِيمُقْرَاطِيسَ مِنْ إِثْبَاتِ الْأَجْزَاءِ الْقَدِيمَةِ وَهِيَ أَجْزَاءُ الْعَالَمِ، فَالْعَالَمُ قَدِيمٌ بِذَوَاتِهَا وَحَادِثٌ بِصِفَاتِهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِقِدَمِ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ مُخَالِفٌ لِلضَّرُورِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، مِنَ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ وَإِنَّمَا ذَهَبَ (إِلَيْهِ) طَوَائِفُ ثَلَاثٌ: الْبَاطِنِيَّةُ، وَمَنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ، وَمَنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ دِيمُقْرَاطِيسِيَّةٍ - وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَقَدْ كَتَبْتُ فِي هَذَا الْبَابِ رِسَالَةً بَيَّنْتُ فِيهَا فَسَادَ قَوْلِ ابْنِ الْخَطِيبِ وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِفِرَقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ كَانَ الْمَشْهُورُ بِذَلِكَ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا الرَّازِيَّ، ثُمَّ اطَّلَعْتُ عَلَى أَنَّ ابْنَ الْخَطِيبِ أَيْضًا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، حَتَّى ادَّعَى أَنَّ مَنْ نَفَى ذَلِكَ - أَعْنِي حُدُوثَ الْعَالَمِ - أَوْ تَرَدَّدَ وَتَذَبْذَبَ فِيهِ فَهُوَ مَعْذُورٌ. وَلَعَلَّ الشَّارِحَ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قُدِّسَ سِرُّهُ - لَمْ يَطَّلِعْ (عَلَى) هَذَا الْقَوْلِ مِنِ ابْنِ الْخَطِيبِ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوِ اطَّلَعَ لَمْ يَقْصُرْ (فِي الْأَصْلِ: يَقْتَصِرْ) نُصْرَةَ مَذْهَبِ دِيمُقَرَاطِيسَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّاءَ الرَّازِيِّ، بَلْ ذَكَرَ مَعَهُ أَيْضًا ابْنَ الْخَطِيبِ الَّذِي اشْتُهِرَ عِنْدَ النَّاسِ بِالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ، وَأَلَّفَ تَفْسِيرًا يُقَالُ لَهُ " التَّفْسِيرُ الْكَبِيرُ " وَفِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ يَخَافُ مِنَ الْكُفْرِ، لَكِنَّ قَوْمَهُ أَهَالِيَ الرَّيِّ شَدِيدُو الِاعْتِقَادِ فِيهِ (لَكِنْ. . إِلَخْ غَيْرُ وَاضِحَةٍ بِالْأَصْلِ) فَحَمَلُوا كَلَامَهُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ كَأَنَّ جِبْرَئِيلَ أَوْحَى إِلَيْهِ لِعِظَمَةِ الرَّجُلِ عِنْدَهُمْ، مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ بَعِيدٌ عَنْ صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِهِ وَقَوَاعِدِهِ، مَعَ أَنَّ التَّفْسِيرَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْحَدِيثِ، لَا بِالْفَلْسَفَةِ. وَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْفَلْسَفَةُ وَالْفَلْسَفِيَّاتُ، فَأَرَادَ تَطْبِيقَ الْقُرْآنِ عَلَى قَوَاعِدِ الْفَلْسَفَةِ، مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ وَعَامَّةَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ لِإِبْطَالِ أُصُولِ الْفَلْسَفَةِ - سِيَّمَا فَلْسَفَةِ الْيُونَانِيِّينَ (الَّذِينَ) يُقَالُ لَهُمُ الْمَشَّاءُونَ (فَقَوْلُهُمْ) مَبْنِيٌّ عَلَى إِبْطَالِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ قِدَمِهِ، وَقَدْ خَالَفَ أَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، إِذْ أَصُولُ غَالِبِهِمْ لَا تَأْبَى عَنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ ".
وَكَذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ وَأَمْثَالُهُ لَا يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لِلثَّمَرَةِ طَعْمًا وَلَوْنًا وَرِيحًا، وَهَذَا مِنَ الْمُرَادِ بِالْأَعْرَاضِ فِي اصْطِلَاحِ النُّظَّارِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْأَعْرَاضَ؟
بَلْ إِذَا قَالُوا: إِنَّ الْأَعْرَاضَ لَيْسَتْ صِفَاتٍ (1) زَائِدَةً عَلَى الْجِسْمِ بِمَعْنَى أَنَّ الْجِسْمَ اسْمٌ لِلَذَّاتِ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْأَعْرَاضُ، فَالْعَرَضُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْجِسْمِ، وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَهُ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ.
ثُمَّ رَأَيْتُ أَبَا الْحُسَيْنِ (2) الْبَصْرِيَّ - وَهُوَ أَحَذَقُ مُتَأَخِّرِي الْمُعْتَزِلَةِ - قَدْ ذَكَرَ (فِي)" تَصْفِيحِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَجْوِبَةِ "(3) هَذَا الْمَعْنَى، وَذَكَرَ أَنَّ مُرَادَهُمْ هُوَ
(1) فِي الْأَصْلِ: صَفَاتًا، وَهُوَ خَطَأٌ.
(2)
فِي الْأَصْلِ: أَبَا الْحَسَنِ.
(3)
فِي الْأَصْلِ: قَدْ ذَكَرَ تَصْفِيحَ الْأَدِلَّةِ وَالْأَجْوِبَةِ، وَزِدْتُ (فِي) لِيَسْتَقِيمَ الْكَلَامُ وَسَبَقَتْ تَرْجَمَةُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ 1/397. وَانْظُرْ فَضْلَ الِاعْتِزَالِ، ص 387 ; سِزْكِينَ م [0 - 9] ، ج [0 - 9] ، ص [0 - 9] 6 - 87. وَذَكَرَ الْكِتَابَ ابْنُ الْمُرْتَضَى فِي كِتَابِهِ الْمُنْيَةِ وَالْأَمَلِ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ ص 70، د. حَيْدَرَ آبَادَ، 1316 ; مُعْجَمَ الْمُؤَلِّفِينَ 11/20.
هَذَا الْمَعْنَى، وَذَكَرَ مِنْ كَلَامِهِمْ مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَاخْتَارَ هُوَ هَذَا، وَأَثْبَتَ الْأَحْوَالَ الَّتِي يُسَمِّيهَا (1) غَيْرُهُ أَعْرَاضًا زَائِدَةً، وَعَادَ جُمْهُورُ النِّزَاعِ إِلَى أُمُورٍ لَفْظِيَّةٍ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّا نَحْنُ نُمَيِّزُ بَيْنَ الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ بِحَوَاسِّنَا، فَنَجِدُ الطَّعْمَ بِالْفَمِ، وَنَرَى اللَّوْنَ بِالْعَيْنِ، وَنَشُمُّ الرَّائِحَةَ بِالْأَنْفِ، كَمَا نَسْمَعُ الصَّوْتَ بِالْأُذُنِ، فَهُنَا الْآلَاتُ الَّتِي تُحَسُّ بِهَا هَذِهِ الْأَعْرَاضُ مُخْتَلِفَةٌ فِينَا، يَظْهَرُ اخْتِلَافُهَا فِي أَنْفُسِهَا لِاخْتِلَافِ الْآلَاتِ الَّتِي تُدْرِكُهَا، بِخِلَافِ مَا يَقُومُ بِأَنْفُسِنَا مِنْ عِلْمٍ وَإِرَادَةٍ وَحُبٍّ، فَإِنَّا لَا نُمَيِّزُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا بِحَوَاسَّ مُخْتَلِفَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَدِلَّةُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ مُخْتَلِفَةً، فَالْأَدِلَّةُ قَدْ تَكُونُ أُمُورًا مُنْفَصِلَةً عَنِ الْمُسْتَدِلِّ.
فَهَذَا مِمَّا يَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الصِّفَاتِ الْمُدْرَكَةِ بِالْحِسِّ وَالصِّفَاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالْعَقْلِ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّصَافَ الْأُتْرُجَّةِ وَالتُّفَّاحَةِ بِصِفَاتِهَا الْمُتَنَوِّعَةِ هُوَ أَمْرٌ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ سَوَاءٌ وَجَدْنَا ذَلِكَ أَوْ لَمْ نَجِدْهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَعْمَهَا نَفْسَهُ لَيْسَ هُوَ لَوْنَهَا، وَلَوْنَهَا لَيْسَ هُوَ رِيحَهَا، وَهَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِهَا مُتَنَوِّعَةٌ بِحَقَائِقِهَا، وَإِنْ كَانَ مَحَلُّهَا الْمَوْصُوفُ بِهَا وَاحِدًا.
ثُمَّ الصِّفَاتُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَيَاةُ: كَالطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ، وَنَوْعٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَيَاةُ: كَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَحُكْمُهُ لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّهُ، فَلَا يَتَّصِفُ بِاللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَالطَّعْمِ إِلَّا مَا قَامَ بِهِ ذَلِكَ.
(1) فِي الْأَصْلِ: يَنْفِيهَا، وَصُوِّبَتْ فِي الْهَامِشِ بِكَلِمَةٍ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا إِلَّا (مِيهَا) وَرَجَّحْتُ أَنْ تَكُونَ كَمَا أَثْبَتُّ.
وَأَمَّا هَذَا الثَّانِي فَقَدْ تَنَازَعَ فِيهِ النُّظَّارُ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ قَادِرٌ مُرِيدٌ، وَالْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ لَمْ تَقُمْ بِعَقِبِهِ وَلَا بِظَهْرِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ بِقَلْبِهِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَعْرَاضُ الْمَشْرُوطَةُ بِالْحَيَاةِ يَتَعَدَّى حُكْمُهَا مَحَلَّهَا، فَإِذَا قَامَتْ بِجُزْءٍ مِنَ الْجُمْلَةِ وُصِفَ بِهَا سَائِرُ الْجُمْلَةِ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلِ الْمَوْصُوفُ بِذَلِكَ جُزْءٌ مُنْفَرِدٌ فِي الْقَلْبِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ حُكْمُهَا لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّهَا، وَإِنَّهُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ.
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي قِيَامِ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ الْبِنْيَةُ الْمَخْصُوصَةُ، كَمَا يَقُولُهُ: الْأَشْعَرِيُّ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ بَنَوْا هَذَا عَلَى ثُبُوتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، وَهُوَ أَسَاسٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِهِ بَاطِلٌ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.
ثُمَّ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ مَنِ ادَّعَى أَنَّ مَحَلَّ الْعِلْمِ مِنَ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَنْقَسِمُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهَا شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، وَلَا يَتَحَرَّكُ وَلَا يَسْكُنُ، وَلَا يَصْعَدُ وَلَا يَنْزِلُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَدَنِ وَلَا غَيْرِهِ مِنَ الْعَالَمِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَلَا يَقْرُبُ مِنْ شَيْءٍ وَلَا يَبْعُدُ مِنْهُ.
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَإِنَّمَا تَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ، كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِ. وَكَانَ أَعْظَمُ مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ مَا لَا يَنْقَسِمُ، فَالْعِلْمُ بِهِ لَا يَنْقَسِمُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ مُطَابِقٌ لِلْمَعْلُومِ،
فَمَحَلُّ الْعِلْمِ لَا يَنْقَسِمُ، لِأَنَّ مَا يَنْقَسِمُ لَا يَحِلُّ فِي مُنْقَسِمٍ. (1) \ 1975. وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبُيِّنَ بَعْضُ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الْغَلَطِ، مَعَ أَنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ هُوَ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ. وَقَوَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ عَارَضَهُمْ كَأَبِي حَامِدٍ وَالرَّازِيِّ لَمْ يُجِيبُوا عَنْهُ بِجَوَابٍ شَافٍ، بَلْ أَبُو حَامِدٍ قَدْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَمَنْشَأُ النِّزَاعِ إِثْبَاتُ مَا لَا يَنْقَسِمُ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادُوهُ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي الْوُجُودِ مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ. فَإِذَا قَالُوا: النُّقْطَةُ؟ قِيلَ لَهُمْ: النُّقْطَةُ وَالْخَطُّ وَالسَّطْحُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ: قَدْ يُرَادُ بِهَا هَذِهِ الْمَقَادِيرُ مُجَرَّدَةً عَنْ مَوْصُوفَاتِهَا، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَا اتُّصِفَ بِهَا (مِنَ)(2) الْمُقَدَّرَاتِ فِي الْخَارِجِ.
فَإِذَا أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَلَا وُجُودَ لَهَا إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ، فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ عَدَدٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الْمَعْدُودِ، وَلَا مِقْدَارٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الْمُقَدَّرِ (3) : لَا نُقْطَةٌ وَلَا خَطٌّ وَلَا سَطْحٌ وَلَا وَاحِدٌ وَلَا اثْنَانِ وَلَا ثَلَاثَةٌ بَلِ الْمَوْجُودَاتُ
(1) انْظُرْ كِتَابَ الشِّفَاءِ لِابْنِ سِينَا، الْفَنَّ السَّادِسِ مِنَ الطَّبِيعِيَّاتِ 1 وَمَا بَعْدَهَا، ط بَرَاغْ، تِشِيكُوسُلُوفَاكْيَا، 1956 ص [0 - 9] 87 وَمَا بَعْدَهَا، ط. الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ، تَحْقِيقَ جُورْج قَنَوَاتِي، سَعِيد زَايِد، الْقَاهِرَةَ، 1395
(2)
(مِنَ) : لَيْسَتْ فِي الْأَصْلِ وَزِدْتُهَا لِيَسْتَقِيمَ الْكَلَامُ.
(3)
فِي الْأَصْلِ: مُقَدَّرًا مُجَرَّدًا عَنِ الْمُقَدَّرِ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ مَا أَثْبَتُّهُ.
الْمَعْدُودَاتُ كَالدِّرْهَمِ وَالْحَبَّةِ وَالْإِنْسَانِ، وَالْمُقَدَّرَاتِ كَالْأَرْضِ الَّتِي لَهَا طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ، فَمَا مِنْ سَطْحٍ إِلَّا وَلَهُ حَقِيقَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ السُّطُوحِ، كَمَا يَتَمَيَّزُ التُّرَابُ عَنِ الْمَاءِ، وَكَمَا يَتَمَيَّزُ سُطُوحُ كُلِّ جِسْمٍ عَنْ سُطُوحِ الْآخَرِ.
وَإِنْ قَالُوا: مَا لَا يَنْقَسِمُ هِيَ الْعُقُولُ الْمُجَرَّدَةُ الَّتِي تُثْبِتُهَا الْفَلَاسِفَةُ.
كَانَ دُونَ إِثْبَاتِ هَذِهِ خَرْطُ الْقَتَادِ (1) ، فَلَا يُتَحَقَّقُ مِنْهَا إِلَّا مَا يُقَدَّرُ فِي الْأَذْهَانِ، لَا مَا يُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ.
وَالْمَلَائِكَةُ الَّتِي وَصَفَتْهَا الرُّسُلُ وَأَمَرُوا بِالْإِيمَانِ بِهَا، بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْمُجَرَّدَاتِ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُرْقَانِ، مَا لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى الْعُمْيَانِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ.
وَإِنْ أَرَادُوا بِمَا لَا يَنْقَسِمُ وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ.
قِيلَ: إِنْ أَرَدْتُمْ بِذَلِكَ نَفْيَ صِفَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ تَقُومُ بِهِ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ وَسَائِرَ أَهْلِ الْمِلَلِ، بَلْ وَسَائِرَ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ يُخَالِفُونَكُمْ فِي هَذَا.
وَهَذَا أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنْتُمْ - وَكُلُّ عَاقِلٍ - قَدْ يُعْلَمُ بَعْضُ صِفَاتِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَالْمَعْلُومُ هُوَ غَيْرُ مَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، فَكَيْفَ يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ؟
وَأَدِلَّةُ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ كَثِيرَةٌ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا، فَلِمَ قُلْتُمْ بِإِمْكَانِ وُجُودِ مِثْلِ هَذَا فِي الْخَارِجِ، فَضْلًا عَنْ تَحْقِيقِ وَجُودِهِ؟
(1) فِي الْأَصْلِ: حَرْظُ الْعَتَادِ.
وَقَدْ عُرِفَ فَسَادُ حُجَّتِكُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ، وَإِنْ سَمَّيْتُمْ ذَلِكَ تَوْحِيدًا، فَحِينَئِذٍ الْوَاحِدُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ فِي الْخَارِجِ حَتَّى يُحْتَجَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ كَذَلِكَ، وَالْعَالِمَ بِهِ كَذَلِكَ.
وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى وُجُودِ مَا لَا يَنْقَسِمُ - بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادُوهُ - بِأَنْ قَالُوا: الْوُجُودُ فِي الْخَارِجِ: إِمَّا بَسِيطٌ وَإِمَّا مُرَكَّبٌ، وَالْمُرَكَّبُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَسِيطٍ.
وَهَذَا مَمْنُوعٌ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي الْوُجُودِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذَا الْبَسِيطِ الَّذِي أَثْبَتُّمُوهُ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ الْأَجْسَامُ الْبَسِيطَةُ، وَهُوَ مَا يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، كَالْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْهَوَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي الْوُجُودِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْهُ، بَلْ لَا مَوْجُودَ إِلَّا مَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ.
وَإِذَا قَالُوا: فَذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ الْبَسِيطُ.
قِيلَ لَهُمْ: وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْضًا مِنْ غَيْرِهِ، لَا يُعْلَمُ مُفْرَدًا أَلْبَتَّةَ، كَمَا لَا يُوجَدُ مُفْرَدًا أَلْبَتَّةَ.
ثُمَّ يُقَالُ: مِنَ الْمَعْلُومُ أَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ يَنْقَسِمُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَذْكُرُونَهُ وَيَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، وَالْحَيَاةُ وَالْحِسُّ سَارٍ فِي بَدَنِهِ، فَمَا الْمَانِعُ أَنْ تَقُومَ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ بِالرُّوحِ، كَمَا قَامَتِ الْحَيَاةُ وَالْحِسُّ بِالْبَدَنِ، وَإِنْ كَانَ الْبَدَنُ مُنْقَسِمًا عِنْدَكُمْ؟
وَإِنْ قُلْتُمُ: الْحَيَاةُ وَالْحِسُّ مُنْقَسِمٌ عِنْدَكُمْ؟
قِيلَ: إِنْ أَرَدْتُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ كَوْنُ الْبَعْضِ حَيًّا حَسَّاسًا مَعَ مُفَارَقَةِ الْبَعْضِ.
قِيلَ: هَذَا لَا يَطَّرِدُ، بَلْ قَدْ يَذْهَبُ بَعْضُهُ وَتَبْقَى الْحَيَاةُ وَالْحِسُّ فِي بَعْضِهِ، وَقَدْ تَذْهَبُ الْحَيَاةُ وَالْحِسُّ عَنْ بَعْضِهِ بِذَهَابِ ذَلِكَ عَنِ الْبَعْضِ، كَمَا فِي الْقَلْبِ.
وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْحَيَاةُ وَالْحِسُّ يَتَّسِعُ بِاتِّسَاعِ مَحَلِّهِ، وَالْأَرْوَاحُ مُتَنَوِّعَةٌ، وَمَا يَقُومُ بِهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِهَا، فَمَا عَظُمَ مِنَ الْمَوْصُوفَاتِ عَظُمَتْ صِفَاتُهَا، وَمَا كَانَ دُونَهَا كَانَتْ صِفَاتُهُ دُونَهُ.
وَأَيْضًا، فَالْوَهْمُ عِنْدَهُمْ قُوَّةٌ جُسْمَانِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِالْجِسْمِ، مَعَ أَنَّهَا تُدْرِكُ فِي الْمَحْسُوسِ مَا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ، كَالصَّدَاقَةِ وَالْعَدَاوَةِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ مَحَلِّهِ عِنْدَهُمْ.
وَأَيْضًا، فَقُوَّةُ الْإِبْصَارِ الَّتِي فِي الْعَيْنِ قَائِمَةٌ بِجِسْمٍ يَنْقَسِمُ عِنْدَهُمْ، مَعَ أَنَّهَا لَا تَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ مَحَلِّهَا، بَلِ الِاتِّصَالُ شَرْطٌ فِيهَا، فَلَوْ فَسَدَ بَعْضُ مَحَلِّهَا فَسَدَتْ، وَلَا يَبْقَى بَعْضُهَا مَعَ فَسَادِ أَيِّ بَعْضٍ كَانَ، فَمَا كَانَ الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ قِيَامُ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ بِبَعْضِ الرُّوحِ - إِذَا قِيلَ: يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ - مَشْرُوطًا بِقِيَامِهِ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الِاتِّصَالُ شَرْطًا فِي هَذَا الِاتِّصَافِ؟ (1) كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ وَالْحِسِّ فِي بَعْضِ الْبَدَنِ، لَا تَقُومُ بِهِ الْحَيَاةُ وَالْحِسُّ إِلَّا إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا نَوْعًا مِنَ الِاتِّصَالِ.
وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي (كَثِيرٍ مِنْ)(2) هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَعَلَّقُ بِالْكَلَامِ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ، الَّتِي تُسَمَّى النَّفْسَ النَّاطِقَةَ، وَعَلَى اتِّصَافِهَا بِصِفَاتِهَا، فَبِهَذَا
(1) فِي الْأَصْلِ: فِي هَذِهِ الِاتِّصَافِ.
(2)
بَعْدَ حَرْفِ (فِي) تُوجَدُ إِشَارَةٌ إِلَى الْهَامِشِ، وَلَمْ تَظْهَرِ الْكَلِمَاتُ السَّاقِطَةُ فِي الْمُصَوَّرَةِ، وَرَجَّحْتُ أَنْ تَكُونَ هِيَ مَا أَثْبَتُّهُ.
يَسْتَعِينُ الْإِنْسَانُ عَلَى الْكَلَامِ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَبِذَلِكَ يَسْتَعِينُ عَلَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ.
وَالنَّاسُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي رُوحِ الْإِنْسَانِ: هَلْ هِيَ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ، أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، أَوْ جَوْهَرٌ لَا يَقْبَلُ الصُّعُودَ وَالنُّزُولَ وَالْقُرْبَ وَالْبُعْدَ وَنَحْوَ ذَلِكَ؟ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ، كَمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؟ (1) وَأَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُهَا عَرَضًا مِنْ أَعْرَاضِ الْبَدَنِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ.
وَقَدْ دَخَلَ فِي الْأَوَّلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ هُوَ إِلَّا هَذِهِ الْجُمَلَ الْمُشَاهَدَةَ، وَهِيَ الْبَدَنُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا الرِّيحُ الَّتِي تَتَرَدَّدُ فِي مَخَارِيقِ الْبَدَنِ ; وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا الدَّمُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا الْبُخَارُ اللَّطِيفُ الَّذِي يَجْرِي فِي مَجَارِي الدَّمِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالرُّوحِ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ ; وَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ النُّظَّارِ.
وَقَدْ يَنْظُرُ الْإِنْسَانُ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمُصَنَّفَةِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، وَيَجِدُ فِي الْمُصَنَّفِ أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً، وَالْقَوْلُ الصَّوَابُ لَا يَجِدُهُ فِيهَا.
وَمَنْ تَبَحَّرَ فِي الْمَعَارِفِ تَبَيَّنَ لَهُ خُلَاصَةُ الْأُمُورِ، وَتَحْقِيقُهَا: هُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، لَكِنَّ إِطَالَةَ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ، لَا يُنَاسِبُ هَذَا
(1) انْظُرْ رِسَالَةً فِي الْعَقْلِ وَالرُّوحِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ، الْمَنْشُورَةَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ مَجْمُوعَةِ الرَّسَائِلِ الْمُنِيرِيَّةِ، ط. الْقَاهِرَةِ، 1343. وَنُشِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَجْمُوعِ فَتَاوَى الرِّيَاضِ 4/216 - 231.