الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ دَاوُدَ عليه السلام: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ - فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [سُورَةُ ص: 24، 25] . وَقَالَ لِمُوسَى عليه السلام وَالصَّلَاةُ: {إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ - إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سُورَةُ النَّمْلِ: 10، 11] وَمَنِ احْتَجَّ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ بِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ مَشْرُوعٌ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالذَّنْبِ لَا يَجُوزُ. قِيلَ لَهُ: إِنَّمَا يُقْتَدَى بِهِمْ فِيمَا أُقِرُّوا عَلَيْهِ، لَا فِيمَا نُهُوا (1) . عَنْهُ، كَمَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُقْتَدَى بِهِمْ فِيمَا أُقِرُّوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْسَخْ وَلَمْ يُنْسَهُ فِيمَا نُسِخَ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ التَّأَسِّي بِهِمْ مَشْرُوعًا مَأْمُورًا بِهِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ مَا يُنْهَوْنَ عَنْهُ وَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، وَإِنْ كَانَ اتِّبَاعُهُمْ فِي الْمَنْسُوخِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ النَّسْخَ أَشَدُّ تَنْفِيرًا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَجَعَ عَنْ شَيْءٍ إِلَى آخَرَ، وَقَالَ: الْأَوَّلُ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ حَقٌّ أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ، وَرُجُوعِي عَنْهُ حَقٌّ أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ، كَانَ هَذَا أَقْرَبَ إِلَى النُّفُورِ عَنْهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ: رَجَعْتُ عَمَّا لَمْ يَأْمُرْنِي اللَّهُ بِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَحْمَدُونَ مَنْ قَالَ هَذَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: أَمْرِي بِهَذَا حَقٌّ وَنَهْيِي عَنْهُ حَقٌّ، فَهَذَا مِمَّا نَفَرَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ السُّفَهَاءِ، وَأَنْكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ.
[لَوَازِمُ النُّبُوَّةُ وَشُرُوطُهَا]
وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِصْمَةِ أَنْ تُعْرَفَ النُّبُوَّةُ وَلَوَازِمُهَا وَشُرُوطُهَا، فَإِنَّ النَّاسَ تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ بِحَسْبِ أُصُولِهِمْ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ
(1) فِي الْأَصْلِ: يُنْهَوْا
تَعَالَى، إِذَا كَانَ جَعْلُ الشَّخْصِ نَبِيًّا رَسُولًا مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ نَفَى الْحُكْمَ وَالْأَسْبَابَ فِي أَفْعَالِهِ وَجَعَلَهَا مُعَلَّقَةً بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ وَجَوَّزَ عَلَيْهِ فِعْلَ كُلِّ مُمْكِنٍ وَلَمْ يُنَزِّهْهُ عَنْ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ - كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، كَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ أَتْبَاعِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُثْبِتَةِ الْقَدَرِ - فَهَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ بِعْثَةَ كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَالنُّبُوَّةُ عِنْدَهُمْ مُجَرَّدُ إِعْلَامِهِ بِمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، وَالرِّسَالَةُ مُجَرَّدُ أَمْرِهِ بِتَبْلِيغِ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَتِ النُّبُوَّةُ عِنْدَهُمْ صِفَةً ثُبُوتِيَّةً وَلَا مُسْتَلْزَمَةً لِصِفَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا، بَلْ هِيَ مِنَ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَالْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَالْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِمَا وَلِهَذَا مَنْ يَقُولُ بِهَا كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِمَا يَقُولُ: إِنَّ الْعَقْلَ لَا يُوجِبُ عِصْمَةَ النَّبِيِّ إِلَّا فِي التَّبْلِيغِ خَاصَّةً فَإِنَّ هَذَا هُوَ مَدْلُولُ الْمُعْجِزَةِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ إِنْ دَلَّ السَّمْعُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَمْ تَجِبْ عِصْمَتُهُ مِنْهُ.
وَقَالَ مُحَقِّقُو هَؤُلَاءِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِ إِنَّهُ لَيْسَ فِي السَّمْعِ قَاطِعٌ يُوجِبُ الْعِصْمَةَ، وَالظَّوَاهِرُ تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الذُّنُوبِ مِنْهُمْ (1) .، وَكَذَلِكَ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ إِنَّمَا يُثْبِتُ مَا يُثْبِتُهُ مِنَ الْعِصْمَةِ فِي غَيْرِ التَّبْلِيغِ إِذَا كَانَ مِنْ مَوَارِدِ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَيَقُولُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ عَقْلٌ وَلَا سَمْعٌ.
وَإِذَا احْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ وَمُوَافِقُوهُمْ مِنَ الشِّيعَةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ
(1) انْظُرْ: الْإِرْشَادَ لِلْجُوَيْنِيِّ، ص 356 - 357 ; أُصُولَ الدِّينِ لِابْنِ طَاهِرٍ، ص 167 - 169
التَّنْفِيرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَيَجِبُ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ مَنْعُهُمْ مِنْهُ، قَالُوا: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ. قَالُوا: وَنَحْنُ نَقُولُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ وَيَحْسُنُ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا نَنْفِي مَا نَنْفِيهِ بِالْخَبَرِ السَّمْعِيِّ، وَنُوجِبُ وُقُوعَ مَا يَقَعُ بِالْخَبَرِ السَّمْعِيِّ أَيْضًا، كَمَا أَوْجَبْنَا ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ وَعُقُوبَةَ الْكَافِرِينَ لِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَنَفَيْنَا أَنْ يَغْفِرَ لِمُشْرِكٍ لِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ (1) ". . وَكَثِيرٌ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ بِأَصْلِهِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْوِيرِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُفَضِّلُ شَخْصًا عَلَى شَخْصٍ إِلَّا بِعَمَلِهِ، يَقُولُ: إِنِ النُّبُوَّةَ، أَوِ الرِّسَالَةَ جَزَاءٌ عَلَى عَمَلٍ مُتَقَدِّمٍ، فَالنَّبِيُّ فَعَلَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا اسْتَحَقَّ بِهِ أَنْ يَجْزِيَهُ اللَّهُ بِالنُّبُوَّةِ. وَهَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ فِي شِقٍّ وَأُولَئِكَ الْجَهْمِيَّةُ الْجَبْرِيَّةُ فِي شِقٍّ. وَأَمَّا الْمُتَفَلْسِفَةُ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَصُدُورِهِ عَنْ عِلَّةٍ مُوجِبَةٍ - مَعَ إِنْكَارِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ فَالنُّبُوَّةُ عِنْدَهُمْ فَيْضٌ يَفِيضُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِحَسْبِ اسْتِعْدَادِهِ وَهِيَ مُكْتَسَبَةٌ عِنْدَهُمْ، وَمَنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا - فِي قُوَّتِهِ الْعِلْمِيَّةِ (2) . بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي عَنِ التَّعْلِيمِ، وَشُكِّلَ فِي نَفْسِهِ خِطَابٌ يَسْمَعُهُ كَمَا يَسْمَعُ النَّائِمُ، وَشَخْصٌ
(1) نَقَلَ مُسْتَجِي زَادَهْ فِي الْهَامِشِ الْكَلَامَ الَّذِي يَبْدَأُ بِعِبَارَةِ: " وَإِذَا احْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ وَمُوَافِقُوهُمْ مِنَ الشِّيعَةِ. . إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ قَالَ: " قُلْتُ: فَهُمْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ - وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ - لَا يَقُولُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الشَّرْعِيَّيْنِ، وَلَا يَقُولُ أَيْضًا بِالْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ، فَلَمْ تَكُنْ أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُمْ أَيْضًا مُعَلَّلَةً بِالْأَغْرَاضِ، فَالظَّاهِرُ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ الْتِزَامُهُمْ مَا يَسْتَلْزِمُهُ هَذَانِ الْأَصْلَانِ
(2)
فِي الْأَصْلِ: الْعَمَلِيَّةِ، وَهُوَ خَطَأٌ. وَالصَّوَابُ مَا أَثْبَتُّهُ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ