الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَسَادُ) (1) هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ، وَمُجَرَّدُ تَصَوُّرِهَا التَّامِّ يَكْفِي فِي الْعِلْمِ بِفَسَادِهَا.
[عمدة النفاة دليل التركيب]
وَهَؤُلَاءِ فَرُّوا مِنْ مَعْنَى التَّرْكِيبِ، (2) وَلَيْسَ لَهُمْ قَطُّ حُجَّةٌ عَلَى نَفْيِ مُسَمَّى التَّرْكِيبِ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي، بَلْ عُمْدَتُهُمْ أَنَّ الْمُرَكَّبَ مُفْتَقِرٌ إِلَى أَجْزَائِهِ، وَأَجْزَاؤُهُ غَيْرُهُ، وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ. (وَرُبَّمَا قَالُوا: الصِّفَةُ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى مَحَلٍّ، وَالْمُفْتَقِرُ إِلَى مَحَلٍّ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ 3) (3) بَلْ يَكُونُ مَعْلُولًا.
وَهَذَا الْحُجَّةُ أَلْفَاظُهَا كُلُّهَا مُجْمَلَةٌ (4) فَلَفْظُ " الْوَاجِبِ بِنَفَسِهِ " يُرَادُ بِهِ
(1) مَا بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ فِي (ع) فَقَطْ.
(2)
ب، أ: وَلَيْسَ فِرَارُهُمْ إِلَّا مِنْ مَعْنَى التَّرْكِيبِ.
(3)
(3 - 3) : فِي (ع) فَقَطْ.
(4)
ع: وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا مُجْمَلَةٌ.
الَّذِي لَا فَاعِلَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ فَاعِلَةٌ، وَيُرَادُ بِهِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مُبَايِنٍ لَهُ، وَيُرَادُ بِهِ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُبَايِنٍ لَهُ.
وَعَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَالصِّفَاتُ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ، (1 وَعَلَى الثَّالِثِ فَالذَّاتُ الْمَوْصُوفَةُ بِالصِّفَاتِ هِيَ الْوَاجِبَةُ، وَالصِّفَةُ وَحْدَهَا لَا يُقَالُ: إِنَّهَا وَاجِبَةُ الْوُجُودِ.
وَيُرَادُ بِهِ مَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ 1) . (1) وَالْبُرْهَانُ إِنَّمَا قَامَ عَلَى أَنَّ الْمُمْكِنَاتِ لَهَا فَاعِلٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ قَائِمٌ (2) بِنَفْسِهِ أَيْ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ، وَالصِّفَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْفَاعِلَ.
وَقَوْلُهُ: " إِذَا كَانَتْ لَهُ ذَاتٌ وَصَفَاتٌ كَانَ مُرَكَّبًا، وَالْمُرَكَّبُ مُفْتَقِرٌ إِلَى أَجْزَائِهِ، وَأَجْزَاؤُهُ غَيْرُهُ ".
فَلَفْظُ " الْغَيْرِ " مُجْمَلٌ، يُرَادُ بِالْغَيْرِ الْمُبَايِنِ، فَالْغَيْرَانِ (3) مَا جَازَ مُفَارَقَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ أَوْ وُجُودٍ، وَهَذَا اصْطِلَاحُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَيُرَادُ بِالْغَيْرَيْنِ (4) مَا لَيْسَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَوْ مَا جَازَ (5) الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا مَعَ الْجَهْلِ بِالْآخَرِ، وَهَذَا اصْطِلَاحُ طَوَائِفَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَأَمَّا السَّلَفُ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فَلَفْظُ " الْغَيْرِ " عِنْدَهُمْ يُرَادُ بِهِ هَذَا وَيُرَادُ بِهِ هَذَا، وَلِهَذَا لَمْ يُطْلِقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ عِلْمُ اللَّهِ غَيْرُهُ، وَلَا أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ
(1)(1 - 1) : فِي (ع) فَقَطْ.
(2)
قَائِمٌ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ع) .
(3)
ع (فَقَطْ) : فَالْغَيْرُ.
(4)
ع، أ: بِالْغَيْرِ.
(5)
ع: وَمَا جَازَ.
لَيْسَ غَيْرَهُ، وَلَا يَقُولُونَ (لَا) هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيْرُهُ، (1) بَلْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ (2) الْمُجْمَلِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّلْبِيسِ، فَإِنَّ الْجَهْمِيَّةَ يَقُولُونَ: مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَكَلَامُهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا، فَقَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ: إِذَا أُرِيدَ بِالْغَيْرِ وَالسِّوَى مَا هُوَ مُبَايِنٌ لَهُ، فَلَا يَدْخُلُ عِلْمُهُ وَكَلَامُهُ فِي لَفْظِ الْغَيْرِ وَالسِّوَى، كَمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» ". وَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ جَوَازُ الْحَلِفِ بِصِفَاتِهِ كَعِزَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، (3) فَعُلِمَ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْغَيْرِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَإِذَا أُرِيدَ بِالْغَيْرِ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِيَّاهُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ هُوَ الْعَالِمَ. وَالْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ (الِافْتِقَارِ يُرَادُ بِهِ) افْتِقَارُ الْمَفْعُولِ إِلَى فَاعِلِهِ (4) وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيُرَادُ بِهِ التَّلَازُمُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ أَحَدُهُمَا إِلَّا مَعَ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُؤَثِّرًا فِي الْآخَرِ، كَالْأُمُورِ الْمُتَضَايِفَةِ: مِثْلِ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ.
وَالْمُرَكَّبُ قَدْ عُرِفَ مَا فِيهِ مِنَ الِاشْتِرَاكِ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَوْ كَانَ عَالِمًا لَكَانَ مُرَكَّبًا مِنْ ذَاتٍ وَعِلْمٍ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ هَذَيْنِ كَانَا مُفْتَرِقَيْنِ فَاجْتَمَعَا، وَلَا أَنَّهُ يَجُوزُ مُفَارَقَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ، (5) بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا فَهُنَاكَ ذَاتٌ وَعِلْمٌ قَائِمٌ بِهَا.
وَقَوْلُهُ: " وَالْمُرَكَّبُ مُفْتَقِرٌ إِلَى أَجْزَائِهِ " فَمَعْلُومٌ أَنَّ افْتِقَارَ الْمَجْمُوعِ إِلَى
(1) أ: وَلَا يَقُولُونَ لَا هُوَ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ وَسَقَطَتْ (لَا) مِنْ (ب) . وَالصَّوَابُ مَا أَثْبَتُّهُ عَنْ (ع) .
(2)
اللَّفْظِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) ، (أ) .
(3)
انْظُرْ مَا سَبَقَ 2/495.
(4)
أ: وَكَذَلِكَ لَفْظُ الِافْتِقَارِ الْمَفْعُولِ إِلَى فَاعِلِهِ، وَسَقَطَ مَا بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ كُلُّهُ مِنْ (ب) .
(5)
الْآخَرَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) ، (أ) .
أَبْعَاضِهِ لَيْسَ بِمَعْنَى أَنْ أَبْعَاضَهُ فَعَلَتْهُ (1) أَوْ وُجِدَتْ دُونَهُ وَأَثْرَتْ فِيهِ، بَلْ بِمَعْنَى (2) أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِوُجُودِ الْمَجْمُوعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِوُجُودِ نَفْسِهِ.
وَإِذَا قِيلَ: هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى نَفْسِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ هَذَا (3) مُمْتَنِعًا، بَلْ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ نَفْسَ الْوَاجِبِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ نَفْسِهِ.
وَإِذَا قِيلَ: هُوَ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَهُ (4) أَبْدَعَتْ وُجُوبَهُ (5) ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَهُ مَوْجُودَةٌ بِنَفْسِهَا لَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، وَوُجُودُهُ وَاجِبٌ لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ بِحَالٍ.
فَإِذَا قِيلَ مَثَلًا: الْعَشَرَةُ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الْعَشَرَةِ (6)، لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا افْتِقَارٌ لَهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَإِذَا قِيلَ: هِيَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ جُزْؤُهَا، لَمْ يَكُنِ افْتِقَارُهَا إِلَى بَعْضِهَا بِأَعْظَمَ (7) مِنِ افْتِقَارِهَا إِلَى الْمَجْمُوعِ الَّتِي هِيَ هُوَ.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا بَلْ هُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ (8 الْمَجْمُوعُ إِلَّا بِالْمَجْمُوعِ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُوجَدُ 8)(8) الْمَجْمُوعُ إِلَّا بِوُجُودِ جُزْئِهِ.
(1) ب، أ: أَنَّ بَعْضَهُ فَعَلَهُ.
(2)
ب، أ: الْمَعْنَى.
(3)
هَذَا: زِيَادَةٌ فِي (ع) .
(4)
عِبَارَةُ " أَنَّ نَفْسَهُ " سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) ، (أ) .
(5)
ب (فَقَطْ) : وُجُودَهُ.
(6)
أ، ب: الْعُشْرُ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْعَشَرَةِ.
(7)
ب، أ: أَعْظَمَ.
(8)
: (8 - 8) سَاقِطٌ مِنْ (ع) .
وَالدَّلِيلُ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُمْكِنَاتِ لَهَا مُبْدِعٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ خَارِجٌ عَنْهَا، أَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ الْمُبْدِعِ مُسْتَلْزِمًا لِصِفَاتِهِ، أَوْ لَا يُوجَدُ إِلَّا مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَهَذَا لَمْ تَنْفِهِ حُجَّةٌ أَصْلًا (1) ، وَلَا هَذَا التَّلَازُمُ - سَوَاءٌ سُمِّيَ فَقْرًا أَوْ لَمْ يُسَمَّ - مِمَّا يَنْفِي كَوْنَ الْمَجْمُوعِ وَاجِبًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ بِحَالٍ.
وَأَيْضًا، فَتَسْمِيَةُ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمَوْصُوفِ جُزْءًا لَهُ لَيْسَ هُوَ مِنَ اللُّغَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَإِنَّمَا (2) هُوَ اصْطِلَاحٌ لَهُمْ، كَمَا سَمَّوُا (3) الْمَوْصُوفَ مُرَكَّبًا، (4 بِخِلَافِ تَسْمِيَةِ الْجُزْءِ صِفَةً، فَإِنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالنُّظَّارِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَابْنِ كُلَّابٍ وَغَيْرِهِمَا 4)(4) ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الذَّاتَ الْمُسْتَلْزِمَةَ لِلصِّفَةِ لَا تُوجَدُ إِلَّا وَهِيَ مُتَّصِفَةٌ بِالصِّفَةِ، وَهَذَا حَقٌّ. وَإِذَا تَنَزَّلَ إِلَى اصْطِلَاحِهِمُ الْمُحْدَثِ وَسَمَّى هَذَا جُزْءًا، فَالْمَجْمُوعُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِوُجُودِ جُزْئِهِ الَّذِي هُوَ بَعْضُهُ.
وَإِذْ قِيلَ: هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى بَعْضِهِ، لَمْ يَكُنْ هَذَا إِلَّا دُونَ قَوْلِ الْقَائِلِ: هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ الْمَجْمُوعُ، وَإِذَا كَانَ لَا مَحْذُورَ فِيهِ فَهَذَا أَوْلَى.
وَإِذَا قِيلَ: جُزْؤُهُ (5) غَيْرُهُ، وَالْوَاجِبُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى غَيْرِهِ.
قِيلَ: إِنْ أَرَدْتَ أَنَّ جُزْأَهُ مُبَايِنٌ لَهُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ مُفَارَقَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَهَذَا بَاطِلٌ، فَلَيْسَ جُزْؤُهُ غَيْرَهُ (6) بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَإِنْ أَرَدْتَ
(1) ب، أ: فَهَذَا لَمْ يَنْفِ حُجَّةً أَصْلًا.
(2)
ب، أ: إِنَّمَا.
(3)
ب: يُسَمُّونَ ; أ: يُسَمُّوا، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.
(4)
: (4 - 4) سَاقِطٌ مِنْ (ب) ، (أ) .
(5)
أ، ب: أَجْزَاؤُهُ.
(6)
ع: غَيْرًا لَهُ.
أَنَّهُ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْعِلْمِ بِالْآخَرِ، كَمَا نَعْلَمُ (1) أَنَّهُ قَادِرٌ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ عَالِمٌ، وَنَعْلَمُ الذَّاتَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِصِفَاتِهَا، فَهُوَ غَيْرُهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ. وَقَدْ عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ مَعَانٍ هِيَ أَغْيَارٌ (2) بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَإِلَّا فَكَوْنُهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَيْسَ هُوَ كَوْنُهُ عَالِمًا، وَكَوْنُهُ عَالِمًا لَيْسَ هُوَ (3) كَوْنَهُ حَيًّا، وَكَوْنُهُ حَيًّا لَيْسَ هُوَ (4) كَوْنَهُ قَادِرًا، وَمَنْ جَعَلَ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الْأُخْرَى، وَجَعَلَ الصِّفَاتِ كُلَّهَا هِيَ الْمَوْصُوفُ، فَقَدِ انْتَهَى فِي السَّفْسَطَةِ إِلَى الْغَايَةِ، وَلَيْسَ هَذَا إِلَّا كَمَنْ قَالَ: السَّوَادُ هُوَ الْبَيَاضُ، وَالسَّوَادُ وَالْبَيَاضُ هُوَ الْأَسْوَدُ وَالْأَبْيَضُ.
ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَفَوُا الْمَعَانِيَ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا كُلُّهُمْ مُتَنَاقِضُونَ يَجْمَعُونَ فِي قَوْلِهِمْ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَقَدْ جَعَلُوا هَذَا أَسَاسَ التَّعْطِيلِ وَالتَّكْذِيبِ بِمَا عُلِمَ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ.
فَالَّذِينَ يَنْفُونَ عِلْمَهُ بِالْأَشْيَاءِ يَقُولُونَ: لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكَثُّرُ (5) . وَالَّذِينَ يَنْفُونَ عِلْمَهُ بِالْجُزَئِيَّاتِ يَقُولُونَ: لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّغَيُّرُ، فَيَذْكُرُونَ لَفْظَ " التَّكَثُّرِ " وَ " التَّغَيُّرِ " وَهُمَا لَفْظَانِ مُجْمَلَانِ: يَتَوَهَّمُ السَّامِعُ أَنَّهُ تَتَكَثَّرُ الْآلِهَةُ، أَوْ أَنَّ (6) الرَّبَّ يَتَغَيَّرُ وَيَسْتَحِيلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، كَمَا يَتَغَيَّرُ الْإِنْسَانُ إِمَّا بِمَرَضٍ وَإِمَّا بِغَيْرِهِ، وَكَمَا تَتَغَيَّرُ الشَّمْسُ إِذَا اصْفَرَّ لَوْنُهَا، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ عِنْدَهُمْ (7)
(1) ع: يُعْلَمُ.
(2)
ب، أ: أَعْيَانٌ.
(3)
هُوَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) ، (أ) .
(4)
هُوَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) ، (أ) .
(5)
ع: التَّكْثِيرُ.
(6)
ب، أ: وَأَنَّ.
(7)
عِنْدَهُمْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ع) .
إِذَا أَحْدَثَ مَا لَمْ يَكُنْ مُحْدَثًا سَمَّوْهُ تَغَيُّرًا، وَإِذَا سَمِعَ دُعَاءَ عِبَادِهِ (1) سَمَّوْهُ تَغَيُّرًا، وَإِذَا رَأَى مَا خَلَقَهُ سَمَّوْهُ تَغَيُّرًا، وَإِذَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ سَمَّوْهُ تَغَيُّرًا، وَإِذَا رَضِيَ عَمَّنْ أَطَاعَهُ وَسَخِطَ عَلَى مَنْ عَصَاهُ سَمَّوْهُ تَغَيُّرًا، إِلَى أَمْثَالِ (2) هَذِهِ الْأُمُورِ.
ثُمَّ إِنَّهُمْ يَنْفُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ (3) أَصْلًا، فَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ، (لَكِنْ) مَنْ نَفَى مِنْهُمْ مَا (نَفَاهُ)(4) فَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْيِهِ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا، وَكَذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ. وَلِهَذَا كَانَ الْحَاذِقُ (5) مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي الْبَرَكَاتِ صَاحِبِ " الْمُعْتَبَرِ " وَغَيْرِهِمَا قَدْ خَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنُوا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ يَنْفِي ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ تُوجِبُ ثُبُوتَ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَنْ نَفَى الْجِسْمَ وَأَرَادَ بِهِ نَفْيَ التَّرْكِيبِ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ (6) أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ فَقَدْ أَصَابَ فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنْ مُنَازِعُوهُ يَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي قُلْتَهُ لَيْسَ هُوَ مُسَمَّى الْجِسْمِ فِي اللُّغَةِ، وَلَا هُوَ أَيْضًا حَقِيقَةَ الْجِسْمِ الِاصْطِلَاحِيِّ، (7 فَإِنَّ الْجِسْمَ لَيْسَ مُرَكَّبًا لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا حَقِيقَةُ الْجِسْمِ الِاصْطِلَاحِيِّ 7)(7) .
(1) ع: عَبْدَهُ.
(2)
ب، أ: مِثْلِ.
(3)
ع: بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
(4)
أ: مَنْ نَفَى مِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ ; ب: وَمَنْ نَفَاهُ مِنْهُمْ.
(5)
ب (فَقَطْ) : الْحُذَّاقُ.
(6)
ب: الْفَرْدَةِ.
(7)
(7 - 7) : فِي (ع) فَقَطْ.
وَإِذَا كَانَ مُنَازِعُوهُ مَنْ (لَا) يَنْفِي (1) التَّرْكِيبَ مِنْ هَذَا وَهَذَا، فَالْفَرِيقَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى تَنْزِيهِ الرَّبِّ عَنْ ذَلِكَ، لَكِنَّ أَحَدَهُمَا يَقُولُ: نَفْيُ لَفْظِ (2) الْجِسْمِ لَا يُفِيدُ هَذَا التَّنْزِيهَ، وَإِنَّمَا يُفِيدُهُ لَفْظُ التَّرْكِيبِ وَنَحْوُهُ (3)، وَالْآخَرُ يَقُولُ: بَلْ (نَفْيُ)(4) لَفْظِ الْجِسْمِ يُفِيدُ هَذَا التَّنْزِيهَ.
وَمَنْ قَالَ: هُوَ جِسْمٌ، فَالْمَشْهُورُ عَنْ نُظَّارِ الْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ: هُوَ جِسْمٌ، أَنَّهُ يُفَسِّرُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الْمَوْجُودُ أَوِ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، لَا بِمَعْنَى الْمُرَكَّبِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ جِسْمٌ، وَأَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى، فَقَدْ أَصَابَ فِي الْمَعْنَى، لَكِنْ إِنَّمَا يُخَطِّئُهُ مَنْ يُخَطِّئُهُ فِي اللَّفْظِ.
أَمَّا مَنْ يَقُولُ: الْجِسْمُ هُوَ الْمُرَكَّبُ، فَيَقُولُ: أَخْطَأْتَ (حَيْثُ)(5) اسْتَعْمَلْتَ لَفْظَ " الْجِسْمِ " فِي الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ أَوِ الْمَوْجُودِ.
وَأَمَّا مَنْ (لَا)(6) يَقُولُ بِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُرَكَّبٍ، فَيَقُولُ: تَسْمِيَتُكَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ أَوْ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ جِسْمًا لَيْسَ هُوَ مُوَافِقًا لِلُغَةِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ، وَلَا تَكَلَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ، وَلَا قَالُوا (7) : إِنَّ اللَّهَ جِسْمٌ،
(1) ب، أ: مِمَّنْ يَنْفِي، وَالصَّوَابُ مَا فِي (ع) ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا مَنْ أَثْبَتَ الْجَوَاهِرَ الْفَرْدَةَ مِثْلُ الْأَشَاعِرَةِ، أَوِ الْمَادَّةَ وَالصُّورَةَ مِثْلُ الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّهُمْ جَمِيعًا مُتَّفِقُونَ عَلَى تَنْزِيهِ الرَّبِّ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ.
(2)
لَفْظِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) ، (أ) .
(3)
ب، أ: وَإِنَّمَا يُفِيدُهُ لَفْظُ هَذَا التَّرْكِيبِ وَنَحْوُهُ ; ع: وَإِنَّمَا يُفِيدُ لَفْظَ التَّرْكِيبِ وَنَحْوَهُ. وَرَجَّحْتُ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ مَا أَثْبَتُّهُ.
(4)
مَا بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ب) ، (أ) .
(5)
مَا بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ب) ، (أ) .
(6)
مَا بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ب) ، (أ) .
(7)
ع: وَقَالُوا.