الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَبِعَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ، بَلْ كُتُبُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْآثَارِ وَالزُّهْدِ وَأَخْبَارِ السَّلَفِ مَشْحُونَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِمِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ حَرَّفَ الْآيَاتِ كَتَحْرِيفِ هَؤُلَاءِ، وَلَا مَنْ كَذَّبَ بِمَا فِي الْأَحَادِيثِ كَتَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ، وَلَا مَنْ قَالَ هَذَا يَمْنَعُ الْوُثُوقَ، أَوْ يُوجِبُ التَّنْفِيرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ، بَلْ أَقْوَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ غَلَوْا بِجَهْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَهُمْ قَصَدُوا تَعْظِيمَ الْأَنْبِيَاءِ بِجَهْلٍ كَمَا قَصَدَتِ النَّصَارَى تَعْظِيمَ الْمَسِيحِ وَأَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ بِجَهْلٍ، فَأَشْرَكُوا بِهِمْ وَاتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَعْرَضُوا عَنِ اتِّبَاعِهِمْ فِيمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ وَنَهَوْهُمْ عَنْهُ.
[غلو الرافضة أدخلهم فيما حرمه الله من العبادات الشركية]
وَكَذَلِكَ الْغُلَاةُ فِي الْعِصْمَةِ يُعْرِضُونَ عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنْ طَاعَةِ أَمْرِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِمْ (1) . إِلَى مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الْغُلُوِّ وَالْإِشْرَاكِ بِهِمْ فَيَتَّخِذُونَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ يَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ فِي مَغِيبِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ وَعِنْدَ قُبُورِهِمْ، وَيَدْخُلُونَ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الشِّرْكِيَّةِ الَّتِي ضَاهَوْا بِهَا النَّصَارَى.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ "
(1) أَيْ طَاعَةِ أَمْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِمْ
يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزَ قَبْرَهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا» (1) \ 472. .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا أَنَّهُ «ذُكِرَ لَهُ فِي مَرَضِهِ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَذُكِرَ
(1) مَضَى الْحَدِيثُ مِنْ قَبْلُ 1
حُسْنُهَا وَتَصَاوِيرُ فِيهَا فَقَالَ: " إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» "(1) . .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ: " «أَلَا إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خَلِيلِهِ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ، يَعْنِي نَفْسَهُ» "(2) . .
وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي» "(3) . .
وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: " «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» "(4)) . .
وَفِي الْمُسْنَدِ وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» "(5)) . .
(1) مَضَى الْحَدِيثُ مِنْ قَبْلُ 1/478
(2)
مَضَى الْحَدِيثُ مِنْ قَبْلُ 1/474 - 475
(3)
مَضَى هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَبْلُ فِي هَذَا الْجُزْءِ، ص 405
(4)
انْظُرْ مَا سَبَقَ 1/475، 2/405 (وَانْظُرْ: ت [0 - 9]
(5)
مَضَى الْحَدِيثُ مِنْ قَبْلُ 1/475 وَذَكَرْتُ هُنَاكَ (ت [0 - 9] ) أَنَّهُ فِي الْمُسْنَدِ (ط. الْمَعَارِفِ) 5/324 (رَقْمُ 3844) مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه. وَهُوَ فِيهِ أَيْضًا عَنْهُ رضي الله عنه 6/90 (رَقْمُ 4143) ، 6/162 (رَقْمُ 4342
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «عَنْ أَبِي هَيَّاجٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَرَنِي أَنْ لَا أَدَعَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتُهُ وَلَا تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتُهُ» (1) .، «فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَرْسَلَ عَلِيٌّ فِي خِلَافَتِهِ مَنْ يَفْعَلُ مِثْلَ مَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَوِّيَ الْقُبُورَ الْمُشْرِفَةَ وَيَطْمِسَ التَّمَاثِيلَ» ، فَإِنَّ هَذِهِ وَهَذِهِ مِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا - وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [سُورَةُ نُوحٍ: 23، 24] . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: كَانَ هَؤُلَاءِ قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا مَاتُوا وَعَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ (2) . .
فَالْمَشَاهِدُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنَ الْعَامَّةِ وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ كُلُّهَا مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُقْصَدَ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْمَسَاجِدُ لَا الْمَشَاهِدُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ
(1) سَبَقَ وُرُودُ الْحَدِيثِ 1/477 وَذَكَرْتُ هُنَاكَ أَنَّهُ فِي مُسْلِمٍ 2/666 - 667 (كِتَابُ الْجَنَائِزِ، بَابُ الْأَمْرِ بِتَسْوِيَةِ الْقَبْرِ) . وَهُوَ أَيْضًا فِي الْمُسْنَدِ (ط. الْمَعَارِفِ) ج [0 - 9] رَقْمًا: 741، 1064 وَبِمَعْنَاهُ عَنْ غَيْرِ أَبِي هَيَّاجٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الْأَرْقَامِ: 657، 658، 683، 881، 889، 1170، 1175 - 1177، 1238، 1283
(2)
سَبَقَ وُرُودُ هَذَا الْأَثَرِ 1/477، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ (ت [0 - 9] ) أَنَّهُ مَرْوِيٌّ بِمَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ 6/160 (كِتَابُ التَّفْسِيرِ، سُورَةُ إِنَّا أَرْسَلْنَا) . وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَأَوْرَدَ آثَارًا أُخْرَى بِنَفْسِ الْمَعْنَى عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَانْظُرْ أَيْضًا تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ لِلسُّيُوطِيِّ
مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 29]، وَقَالَ تَعَالَى: " {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ - إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 17 - 18]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [سُورَةُ الْجِنِّ: 18] ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَزِيَارَةُ الْقُبُورِ عَلَى وَجْهَيْنِ: زِيَارَةُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ، وَزِيَارَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالشِّرْكِ.
فَالْأُولَى مَقْصُودُهَا أَنْ يُسَلَّمَ عَلَى الْمَيِّتِ وَيُدْعَى لَهُ، وَزِيَارَةُ قَبْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ، يَقْصِدُ بِهَا الدُّعَاءَ لَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُثِيبُ هَذَا الدَّاعِيَ لَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ كَمَا يُثِيبُ الدَّاعِيَ إِذَا صَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ.
وَالثَّانِيَةُ مَقْصُودُهَا أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ الْحَوَائِجُ، أَوْ يُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ، أَوْ يُظَنَّ أَنَّ دُعَاءَ اللَّهِ عِنْدَ قَبْرِهِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، بَلْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا فَتَحُوا أَرْضَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمَا إِذَا وَجَدُوا قَبْرًا يُقْصَدُ الدُّعَاءُ عِنْدَهُ غَيَّبُوهُ، كَمَا وَجَدُوا بِتَسْتُرَ قَبْرَ دَانْيَالَ فَحَفَرُوا لَهُ بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا وَدَفَنُوهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، وَكَانَ مَكْشُوفًا وَكَانَ الْكُفَّارُ يَسْتَسْقُونَ بِهِ، فَغَيَّبَهُ الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الشِّرْكِ انْظُرِ الْخَبَرَ وَتَعْلِيقَنَا عَلَيْهِ 1/480 - 481. .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» "(1) .، فَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ إِلَيْهَا لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهَا، وَفِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ قَالَ:" «الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ» "(2) . .
وَالسَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نُهِي عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ هُوَ سَدُّ ذَرِيعَةِ الشِّرْكِ، كَمَا نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَالْمُشْرِكُونَ يَسْجُدُونَ لَهَا حِينَئِذٍ، فَنَهَى عَنْ قَصْدِ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُشَابَهَةِ لَهُمْ فِي الصُّورَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْقَصْدُ.
كَذَلِكَ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ لِلَّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ مَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، وَأَنَّ الْمُصَلَّى لِلَّهِ لَا يَقْصِدُ ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. فَأَمَّا إِذَا قَصَدَ لِيُصَلِّيَ هُنَاكَ لِيَدْعُوَ (3) . عِنْدَ الْقُبُورِ ظَنًّا أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ هُنَاكَ أَجْوَبُ، فَهَذَا ضَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُدْعَى وَيُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ بِالْمَيِّتِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ
(1) ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الْحَدِيثَ مِنْ قَبْلُ 1/477 (ت [0 - 9] ) ، وَذَكَرْتُ هُنَاكَ أَنَّهُ فِي مُسْلِمٍ 2/668 (كِتَابُ الْجَنَائِزِ ; بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ وَالصَّلَاةِ إِلَيْهِ) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ رضي الله عنه
(2)
الْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي: سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 1/192 (كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا تَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ) ; سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 1/199 - 200 (أَبْوَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ) ; سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ 1/246 (كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ، بَابُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ) ; الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 3/83
(3)
رُسِمَتْ فِي الْأَصْلِ: لِيَدْعَا
يُسْأَلَ اللَّهُ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُسَافَرَ إِلَيْهِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لِهَذَا الْقَصْدِ، أَوْ يُنْذَرُ لَهُ أَوْ لِمَنْ عِنْدَهُ دُهْنٌ أَوْ شَمْعٌ أَوْ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ قَنَادِيلُ أَوْ سُتُورٌ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ نُذُورِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا النَّذْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الْوَفَاءُ بِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ» "(1) . .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْذُرَ أَحَدٌ إِلَّا طَاعَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْذُرَهَا إِلَّا لِلَّهِ، فَمَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، كَمَنْ صَامَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَسَجَدَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَنْ حَجَّ إِلَى قَبْرٍ مِنَ الْقُبُورِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، بَلْ لَوْ سَافَرَ إِلَى مَسْجِدٍ لِلَّهِ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِيَعْبُدَ اللَّهَ فِيهَا كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَكَيْفَ إِذَا سَافَرَ إِلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ لِيُشْرِكَ بِاللَّهِ! وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" «لَا تَشُدُّوا الرِّحَالَ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا» "(2)) . .
(1) الْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي: الْبُخَارِيِّ 8/142 (كِتَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، بَابُ النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ، بَابُ النَّذْرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا فِي مَعْصِيَةٍ) ; سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 3/315 (كِتَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي النَّذْرِ فِي الْمَعْصِيَةِ) ; سُنَنِ النَّسَائِيِّ 7/16 (كِتَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، بَابُ النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ، بَابُ النَّذْرِ فِي الْمَعْصِيَةِ) ; سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ 1/687 (كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ، بَابُ النَّذْرِ فِي الْمَعْصِيَةِ) ; الْمُوَطَّأِ 2/476 (كِتَابُ النُّذُورِ، بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ النُّذُورِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ) ; الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 6/36، 41، 224
(2)
الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهما فِي: الْبُخَارِيِّ 2/60 (كِتَابُ فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، الْبَابُ الْأَوَّلُ) ، 3/19 (كِتَابُ جَزَاءِ الصَّيْدِ، بَابُ حَجِّ النِّسَاءِ) ; مُسْلِمٍ 2/975 - 976 (كِتَابُ الْحَجِّ، بَابُ سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ مَحْرَمٍ، 2/1014 - 1015 (كِتَابُ الْحَجِّ، بَابُ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ) ; الْمُسْنَدِ (ط. الْمَعَارِفِ) ج [0 - 9] 2 رَقْمَا: 7191، 7248، وَمَوَاضِعُ أُخْرَى فِيهِ ; سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 2/291 (كِتَابُ الْمَنَاسِكِ بَابُ فِي إِتْيَانِ الْمَدِينَةِ) ; سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 1/205 (كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ مَا جَاءَ فِي أَيِّ الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ) ; سُنَنِ النَّسَائِيِّ 2/31 (كِتَابُ الْمَسَاجِدِ، بَابُ مَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ
وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ الْمَشَاهَدِ سَفَرُ مَعْصِيَةٍ، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزِ الْقَصْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ، لَا سِيَّمَا إِذَا سُمِّيَ ذَلِكَ حَجًّا وَصُنِّفَتْ فِيهِ مُصَنَّفَاتٌ وَسُمِّيَتْ مَنَاسِكُ حَجِّ الْمَشَاهَدِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُفَضِّلُ قَصْدَ الْمَشَاهَدِ وَحَجَّهَا وَالسَّفَرَ إِلَيْهَا عَلَى حَجِّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ حَجَّهُ عَلَى النَّاسِ.
وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ وَقَعَ فِيهِ الْغُلَاةُ فِي الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّنَّةِ وَإِلَى الشِّيعَةِ، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي بَيْتِهِ يُصَلِّي لِلَّهِ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بِقَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِلَا تَدَبُّرٍ وَلَا خُشُوعٍ، وَإِذَا زَارَ قَبْرَ مَنْ يَغْلُو فِيهِ بَكَى وَخَشَعَ، وَاسْتَكَانَ وَتَضَرَّعَ، وَانْتَحَبَ وَدَمَعَ، كَمَا يَقَعُ إِذَا سَمِعَ الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ الَّذِي كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الْبَيْتِ.
وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَحُجُّ لِأَجْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ حَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، بَلْ لِقَصْدِ زِيَارَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا يَزُورُ شُيُوخَهُ وَأَئِمَّتَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَالْأَحَادِيثُ الْمَأْثُورَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ، كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ مَوْضُوعَةٌ، فَلَمْ يُخْرِجْ أَهْلُ الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا اسْتَدَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدُوا عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «مَا مِنْ رَجُلٍ
يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام» " (1) . .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا عَامًّا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيَّنَهُ فَقَالَ: " «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عليه السلام» "(2) . .
وَفِي النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً تُبَلِّغُنِي عَنْ أُمَّتَيِ السَّلَامَ» " (3)) . .
وَفِي السُّنَنِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ - عَنْ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ
(1) الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 2/293 (كِتَابُ الْمَنَاسِكِ، بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ) ; الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 2/527
(2)
وَجَدْتُ فِي " الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ " لِلسُّيُوطِيِّ 1/718 حَدِيثَيْنِ بِهَذَا الْمَعْنَى: الْأَوَّلُ: " مَا مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ حُمَيْدٍ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَيَقْعُدُ عِنْدَهُ إِلَّا رَدَّ عليه السلام وَأَنِسَ بِهِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ عِنْدِهِ " وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: " أَبُو الشَّيْخِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ". وَالثَّانِي: " مَا مِنْ رَجُلٍ كَانَ يَمُرُّ بِقَبْرٍ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ " قَالَ السُّيُوطِيُّ: " ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ". وَأَوْرَدَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ فِي كِتَابِ " الرُّوحِ " ص 4، ط. حَيْدَرَ آبَادَ 1383/1963 الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَقَالَ إِنَّ عَبْدَ الْبَرِّ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ كِتَابِ الْقُبُورِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا:" بَابُ مَعْرِفَةِ الْمَوْتَى بِزِيَادَةِ الْأَحْيَاءِ " عِدَّةَ أَحَادِيثَ وَآثَارٍ بِنَفْسِ الْمَعْنَى، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ عَنْ دَرَجَةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ هَلْ تَصِحُّ أَمْ لَا، انْظُرْ كِتَابَ " الرُّوحِ "(ص [0 - 9]- 12)
(3)
لَمْ أَجِدِ الْحَدِيثَ بِهَذَا النَّصِّ وَلَكِنِّي وَجَدْتُ حَدِيثًا مُقَارِبًا لَهُ فِي الْمَعْنَى رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَلَفْظُهُ: " إِنَّ لِلَّهِ عز وجل مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتَيِ السَّلَامَ ". انْظُرْ: سُنَنَ النَّسَائِيِّ (بِشَرْحِ السُّيُوطِيِّ) 3/43 (كِتَابُ السَّهْوِ، بَابُ السَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; الْمُسْنَدِ (ط. الْمَعَارِفِ) 5/244 (رَقْمُ 3666، 6/114 - 115، 154 (رَقْمَا 4210، 4320) ; سُنَنِ الدَّارِمِيِّ 2/317 (كِتَابُ الرِّقَاقِ، بَابُ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَيَّ " ; قَالُوا: كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ؟ - أَيْ قَدْ صِرْتَ رَمِيمًا - فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ» " (1) . .
فَهَذَا الْمَعْرُوفُ عَنْهُ فِي السُّنَنِ: هُوَ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 56]، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ:" «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» "(2) .
لَكِنْ إِذَا صَلَّى وَسَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ بَلَغَ ذَلِكَ، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ قَرِيبِ سَمِعَ هُوَ سَلَامَ الْمُسَلِّمِ عَلَيْهِ.
وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم إِذَا أَتَى أَحَدُهُمْ قَبْرَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ، كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَهْ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقِفُ يَدْعُو لِنَفْسِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ.
(1) الْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه فِي: سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 1/378 (كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ فَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ) ; الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 4 ; سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ 1/524 (كِتَابُ الْجَنَائِزِ، بَابُ ذِكْرِ وَفَاتِهِ وَدَفْنِهِ صلى الله عليه وسلم ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ بِمَعْنَاهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه فِي نَفْسِ الصَّفْحَةِ السَّابِقَةِ، وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رِضَى لِلَّهِ عَنْهُ 1/345 (كِتَابُ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، بَابٌ فِي فَضْلِ الْجُمُعَةِ)
(2)
الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه 1/306 (كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ) وَلَفْظُهُ " مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً. . إِلَخْ ; وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْهُ فِي مُسْنَدِهِ (ط. الْمَعَارِفِ) 13/285، 286 (رَقْمَا: 7551، 7552) وَلَكِنَّ لَفْظَهُ: " مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً وَاحِدَةً كَتَبَ اللَّهُ عز وجل لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ ". قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر رحمه الله فِي تَعْلِيقِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ بِلَفْظِ " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا " عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنِّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ. وَالْحَدِيثُ فِي: سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 2/117 (كِتَابُ الْوِتْرِ، بَابٌ فِي الِاسْتِغْفَارِ) وَأَوْرَدَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 3/102، 161 حَدِيثًا بِنَفْسِ الْمَعْنَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه.
وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَدَعَا وَلَا يَدْعُوَ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ. ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ كَأَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ أَيْضًا وَيَسْتَدِيرُ الْقَبْرَ وَيَجْعَلُهُ عَنْ يَسَارِهِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ - مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ - بَلْ عِنْدَ السَّلَامِ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ وَيَسْتَدْبِرُ الْكَعْبَةَ، وَأَمَّا عِنْدَ الدُّعَاءِ فَإِنَّمَا يَدْعُو اللَّهَ وَحْدَهُ كَمَا يُصَلِّي لِلَّهِ وَحْدَهُ فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، كَمَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ إِذَا دَعَا بِعَرَفَةَ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَعِنْدَ الْجَمَرَاتِ.
وَكَرِهَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: زُرْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مِنَ الزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ كَالزِّيَارَةِ لِطَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْهُ، فَكَرِهُوا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلَفْظٍ يَتَضَمَّنُ شِرْكًا أَحْدَثَهُ النَّاسُ فِي هَذَا اللَّفْظِ مِنَ الْمَعَانِي الْفَاسِدَةِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الزِّيَارَةِ إِذَا عُنِيَ بِهِ الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَذَكَرَ مَالِكٌ أَنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ يَقِفُ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَغَيْرُ هَذَا مِنَ الْبِدَعِ، وَقَالَ: إِنَّمَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا. وَمَالِكٌ قَدْ أَدْرَكَ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ خَلْقِ اللَّهِ إِذْ ذَاكَ بِمَا يَجِبُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا (1) فِي حَقِّ خَيْرِ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى اللَّهِ، وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ، وَصَاحِبِ لِوَاءِ الْحَمْدِ الَّذِي آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا وَفَدُوا عَلَى رَبِّهِمْ، وَإِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا اجْتَمَعُوا، وَهُوَ صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ،
(1) يَسْتَطْرِدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَكِنَّهُ لَا يَذْكُرُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ.
وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلُ الْمُرْسَلِينَ، أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِأَفْضَلِ شَرِيعَةٍ إِلَى خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ أَفْضَلَ كُتُبِهِ وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ، الَّذِي هَدَى اللَّهُ بِهِ الْخَلْقَ وَأَخْرَجَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَهَدَاهُمْ بِهِ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وَهُوَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَبَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ وَطَرِيقِ الْجَنَّةِ وَطَرِيقِ النَّارِ، وَهُوَ الَّذِي قَسَمَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ: فَالسَّعِيدُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ وَالشَّقِيُّ مَنْ كَذَّبَهُ وَعَصَاهُ، وَعَلَّقَ بِهِ النَّجَاةَ وَالسَّعَادَةَ فَلَا سَبَبَ يَنْجُو بِهِ الْعَبْدُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَيَنَالُ السَّعَادَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِمَّنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِرِسَالَتِهِ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَ النُّورَ الَّذِي أَنْزَلَ مَعَهُ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّسُولُ مِنَ الْحُقُوقِ، فَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [سُورَةُ الْفَتْحِ: 8، 9] ، فَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَالتَّعْزِيرُ وَالتَّوْقِيرُ
لِلرَّسُولِ، وَالتَّسْبِيحُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا لِلَّهِ وَحْدَهُ ; قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سُورَةُ النُّورِ: 52] ، فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، وَالْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 59] ، فَجَعَلَ الْإِيتَاءَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِيتَاءُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ بِخِلَافِ مَنْ آتَاهُ الْمُلْكَ خَلْقًا وَقَدْرًا وَلَمْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ وَإِنْ كَانَ قَدْ آتَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ خَلْقًا وَقَدْرًا، وَأَمَّا مَنْ رَضِيَ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ مِمَّنْ رَضِيَ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَمْ يَطْلُبْ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ، كَالَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} ، ثُمَّ قَالَ:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 58، 59]، وَلَمْ يَقُلْ: وَرَسُولُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ كَافٍ عَبْدَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 36]، وَقَالَ:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 1173]، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يَقُولُوا:{سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 59] ، فَذَكَرَ أَنَّ الرَّسُولَ (يُؤْتِيهِمْ)(1) ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَحْدَهُ، لَمْ يَقُلْ: مِنْ فَضْلِهِ وَفَضْلِ رَسُولِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُمْ:{إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 59] ، وَلَمْ
(1) مَا بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ زِيَادَةٌ يَسْتَقِيمُ بِهَا الْكَلَامُ.
يَقُلْ: وَرَسُولُهُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ - وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سُورَةُ الشَّرْحِ: 7، 8] .
وَأَمَّا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَدُعَائِهِ وَحْدَهُ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَحْدَهُ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَحْدَهُ، فَكَثِيرٌ كَقَوْلِهِ:{وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 39]، وَقَوْلِهِ:{فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 51]، وَ {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 175] ، وَقَوْلِهِ:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 175]، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 213]، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 36] .
وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ فَهِيَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْإِرْضَاءُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 24]، وَقَوْلِهِ:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 62] ، فَالرَّسُولُ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّهُ وَعَلَيْنَا أَنْ نُرْضِيَهُ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ:" «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» "(1) . ; وَكَذَلِكَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، قَالَ تَعَالَى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 80] .
وَالْعِبَادَاتُ بِأَسْرِهَا: الصَّلَاةُ وَالسُّجُودُ وَالطَّوَافُ وَالدُّعَاءُ وَالصَّدَقَةُ
(1) الْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه فِي: الْبُخَارِيِّ 1 (كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابُ حُبِّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْإِيمَانِ) ; مُسْلِمٍ 1/67 (كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابُ وُجُوبِ مَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. .) ; الْمُسْنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 3/177، 207، 275، 278 ; سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ 1/26 (الْمُقَدِّمَةُ، بَابٌ فِي الْإِيمَانِ)
وَالنُّسُكُ وَالَّذِي لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهِ وَلَمْ يَخُصَّ اللَّهُ بُقْعَةً تُفْعَلُ الصَّلَاةُ فِيهَا إِلَّا الْمَسَاجِدَ: لَا مَقْبَرَةً وَلَا مَشْهَدًا وَلَا مَغَارَةً وَلَا مَقَامَ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا خَصَّ بُقْعَةً غَيْرَ الْمَسَاجِدِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ إِلَّا مَشَاعِرَ الْحَجِّ: لَا قَبْرَ نَبِيٍّ وَلَا صَالِحٍ وَلَا مَغَارَةً وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا يُقَبَّلُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ شَيْءٌ عِبَادَةً لِلَّهِ إِلَّا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَلَا يُتَمَسَّحُ إِلَّا بِهِ وَبِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَلَا يُسْتَلَمُ الرُّكْنَانِ الشَّامِيَّانِ وَهُمَا مِنَ الْبَيْتِ فَكَيْفَ غَيْرُهُمَا؟ وَقَدْ طَافَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ، فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَمْ يَسْتَلِمْ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ» . فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ مِنَ الْبَيْتِ شَيْءٌ مَهْجُورًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقْتَ (1) .، وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ.
فَالْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُعْبَدَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ - لَا نَعْبُدُ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا: لَا مَلَكًا وَلَا نَبِيًّا وَلَا صَالِحًا وَلَا شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ ; وَالثَّانِي أَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا أَمَرَنَا بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - لَا نَعْبُدُهُ بِبِدَعٍ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
وَالْعِبَادَاتُ تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحُبِّ وَكَمَالَ الْخُضُوعِ، فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يُحِبُّ الْخَالِقَ فَهُوَ مُشْرِكٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}
(1) وَرَدَ هَذَا الْأَثَرُ بِمَعْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي الْمُسْنَدِ أَقْرَبُهَا إِلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي 3/366 (رَقْمِ 1877) وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر رحمه الله: " إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ 2/92 مَعْنَاهُ مُخْتَصَرًا بِإِسْنَادٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَانْظُرِ الْأَرْقَامَ: 2210، 3074، 3533
[سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 165]، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ "، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: " ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} » [سُورَةُ الْفُرْقَانِ: 68](1)87. .
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ بِالْعِبَادَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَذَكَرَ فَضْلَ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ وَرَغَّبَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْمُرْ قَطُّ بِقَصْدِ مَكَانٍ لِأَجْلِ نَبِيٍّ وَلَا صَالِحٍ، بَلْ نَهَى عَنِ اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقْصَدَ لِلصَّلَاةِ فِيهَا وَالدُّعَاءِ وَهَذَا كُلُّهُ لِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ، فَقَدْ «قَالَ بَعْضُ النَّاسِ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَبُّنَا قَرِيبٌ فَنُنَاجِيهِ أَوْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} » [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 168](2) . .
(1) الْحَدِيثُ - بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي: الْبُخَارِيِّ 6/18 (تَفْسِيرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، بَابٌ: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) ، 8/8 (كِتَابُ الْأَدَبِ، بَابُ قَتْلِ الْوَلَدِ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ) ، 8/164 (كِتَابُ الْحُدُودِ، بَابُ إِثْمِ الزُّنَاةِ) ، 9/152 (كِتَابُ التَّوْحِيدِ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) ; مُسْلِمٍ 1/90 - 91 (كِتَابُ الْإِيمَانِ، بَابُ كَوْنِ الشِّرْكِ أَقْبَحَ الذُّنُوبِ) ; سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ 5/17 - 18 (كِتَابُ التَّفْسِيرِ، تَفْسِيرُ سُورَةِ الْفُرْقَانِ) ; سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 2/394 (كِتَابُ الطَّلَاقِ، بَابٌ فِي تَعْظِيمِ الزِّنَا) ; سُنَنِ النَّسَائِيِّ 7/82 - 83 (كِتَابُ التَّحْرِيمِ، بَابُ ذِكْرِ أَعْظَمِ الذَّنْبِ) ; الْمُسْنَدِ (ط. الْمَعَارِفِ) 5/217، 6، 86 -
(2)
أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ هَذَا الْحَدِيثَ بِرِوَايَتَيْنِ، نَعَتَ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر رحمه الله إِحْدَاهُمَا بِالِانْهِيَارِ وَالْأُخْرَى بِالضَّعْفِ. انْظُرْ تَفْسِيرَ الطَّبَرِيِّ (ط. الْمَعَارِفِ) 3/480 - 481 (وَانْظُرِ التَّعْلِيقَاتِ)
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» "(1) .، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» "(2) . .
فَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ أَمَرُوا النَّاسَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَسُؤَالِهِ وَدُعَائِهِ، وَنَهَوْا أَنْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" «أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْمَسَاجِدُ وَأَبْغَضُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْأَسْوَاقُ» "(3) .، يَعْنِي الْبِقَاعَ الَّتِي كَانَتْ تَكُونُ فِي مَدِينَتِهِ وَنَحْوِهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ لَا حَانَةَ وَلَا كَنِيسَةَ وَلَا مَوْضِعَ شِرْكٍ وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ شَرٌّ مِنَ الْأَسْوَاقِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «شِرَارُ النَّاسِ الَّذِينَ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» " ; هَذَا إِذَا بُنِيَ الْمَسْجِدُ
(1) الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: مُسْلِمٍ 1/350 (كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابُ مَا يُقَالُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) ; سُنَنِ النَّسَائِيِّ (بِشَرْحِ السُّيُوطِيِّ) 2/180 (كِتَابُ التَّطْبِيقِ، بَابُ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ اللَّهِ عز وجل ; سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 1/320 - 321 (كِتَابُ الصَّلَاةِ، بَابٌ فِي الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ)
(2)
سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ 323 (ت 6)
(3)
الْحَدِيثُ - مَعَ اخْتِلَافٍ يَسِيرٍ فِي اللَّفْظِ - مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي: مُسْلِمٍ 1/464 (كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ، بَابُ فَضْلِ الْجُلُوسِ فِي مُصَلَّاهُ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ) . وَفِي السَّنَدِ (ط. الْحَلَبِيِّ) 4/81 قِطْعَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ بِرِوَايَةِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الْمُسَمَّى مَشْهَدًا عَلَى قَبْرٍ صَحِيحٍ، فَكَيْفَ وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى (قُبُورِ)(1) . الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْقَرَابَةِ وَغَيْرِهِمْ كَذِبٌ؟ وَكَثِيرٌ مِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ لَا يُتَوَثَّقُ فِيهِ بِنَقْلٍ يُنْقَلُ فِي ذَلِكَ مِمَّا يُوجَدُ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ فِي خَفَائِهَا وَكَثْرَةِ الْخِلَافِ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ حَفِظَ الدِّينَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ بِقَوْلِهِ:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سُورَةُ الْحِجْرِ: 9] ، وَاتِّخَاذُ هَذِهِ مَعَابِدَ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْفَظْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ وَالْمَشَاهِدَ، بَلْ مَبْنِيُّ أَمْرِهِمْ عَلَى الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَإِنَّمَا يَسْتَنِدُ أَهْلُهَا إِلَى مَنَامَاتٍ تَكُونُ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَوْ إِلَى (أَخْبَارٍ إِمَّا)(2) . مَكْذُوبَةٍ، وَإِمَّا مَنْقُولَةٍ عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً.
وَالشَّيَاطِينُ تُضِلُّ أَهْلَهَا كَمَا تُضِلُّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ، فَتَارَةً تُكَلِّمُهُمْ، وَتَارَةً تَتَرَاءَى لَهُمْ، وَتَارَةً تَقْضِي بَعْضَ حَوَائِجِهِمْ، وَتَارَةً تَصِيحُ وَتُحَرِّكُ السَّلَاسِلَ الَّتِي فِيهَا الْقَنَادِيلُ وَتُطْفِئُ الْقَنَادِيلَ، وَتَارَةً تَفْعَلُ أُمُورًا أُخَرَ كَمَا تَفْعَلُ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ الَّتِي كَانَتْ لِلْعَرَبِ، وَهِيَ الْيَوْمَ تَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَوْثَانِ التُّرْكِ وَالصِّينِ وَالسُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَيِّتُ أَوْ مَلَكٌ صُوِّرَ عَلَى صُورَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ أَضَلَّهُمْ بِالشِّرْكِ، كَمَا يَجْرِي ذَلِكَ لِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ الْمُصَوَّرَةِ عَلَى صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ اسْتِقْصَائِهِ] (3) . .
(1) قُبُورِ: لَيْسَتْ فِي الْأَصْلِ، وَإِثْبَاتُهَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ
(2)
بَعْدَ عِبَارَةِ " أَوْ إِلَى " تُوجَدُ إِشَارَةٌ إِلَى الْهَامِشِ وَلَكِنْ لَمْ تَظْهَرِ الْكَلِمَاتُ السَّاقِطَةُ فِي الْمُصَوَّرَةِ، وَرَجَّحْتُ أَنْ تَكُونَ هِيَ مَا أَثْبَتُّهُ بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ
(3)
هُنَا يَنْتَهِي السَّقْطُ الطَّوِيلُ فِي (ب) ، (أ) ، (ن) ، (م) ، وَقَدْ بَدَأَ فِي ص 409