الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم الثالث عشر
الذكر المضاعف عند العلماء ما هو، وما سبب تضعيفه، وتفضيله على غيره، وهل من استوعب وقته ذكرًا تكون حاله دون من أتى بهذا الذكر؟
وأصل المسألة ما أخرجه مسلم في صحيحه (1)، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، وعمرو الناقد، وابن أبي عمر - واللفظ لابن أبي عمر - قالوا: حدثنا سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن، مولى آل طلحة، عن كريب، عن ابن عباس، عن جويرية (2): أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى، وهي جالسة، فقال:«ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟» قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو
(1) مسلم (رقم: 2726).
(2)
هي: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، من خزاعة: إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها قبله مسافع بن صفوان وقتل يوم المريسيع سنة 6هـ، وكان أبوها سيد قومه في الجاهلية، فسبيت مع بني المصطلق، فافتداها أبوها، ثم زوجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اسمها (برة) فغيره النبي صلى الله عليه وسلم وسماها (جويرية) وكانت من فضليات النساء أدبًا وفصاحة. روى لها البخاري ومسلم وغيرهما سبعة أحاديث. وتوفيت في المدينة وعمرها 65 سنة 2. انظر: الأعلام للزركلي 148.
وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته».
قال ابن القيم في المنار المنيف ما نصه: (1) وأما المسألة الثانية، وهي تفضيل سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، على مجرد الذكر بسبحان الله أضعافًا مضاعفة، فإن ما يقوم بقلب الذاكر حين يقول سبحان الله وبحمده عدد خلقه، من معرفته وتنزيهه وتعظيمه من هذا القدر المذكور من العدد، أعظم مما يقوم بقلب القائل سبحان الله فقط.
وهذا يسمى الذكر المضاعف، وهو أعظم ثناء من الذكر المفرد، فلهذا كان أفضل منه، وهذا إنما يظهر في معرفة هذا الذكر وفهمه، فإن قول المسبح سبحان الله وبحمده عدد خلقه، يتضمن إنشاء وإخبارًا عما يستحقه الرب من التسبيح، عدد كل مخلوق كان أو هو كائن إلى ما لا نهاية له.
فتضمن الإخبار عن تنزيهه الرب وتعظيمه والثناء عليه، هذا العدد العظيم الذي لا يبلغه العادون، ولا يحصيه المحصون، وتضمن إنشاء العبد لتسبيح هذا شأنه، لا إن ما أتى به العبد من التسبيح هذا قدره وعدده، بل أخبر أن ما يستحقه الرب سبحانه وتعالى من التسبيح، هو تسبيح يبلغ هذا العدد، الذي لو كان في العدد ما يزيد لذكره، فإن تجدد المخلوقات لا ينتهي عددًا ولا يحصي الحاضر.
وكذلك قوله: ورضا نفسه. فهو يتضمن أمرين عظيمين أحدهما: أن يكون المراد تسبيحا هو والعظمة والجلال سيان، ولرضا نفسه؛ كما أنه في الأول مخبر عن تسبيح مساوٍ لعدد خلقه، ولا ريب أن رضا
(1) المنار المنيف في الصحيح والضعيف 34.
نفس الرب لا نهاية له في العظمة، والوصف والتسبيح ثناء عليه سبحانه يتضمن التعظيم والتنزيه.
فإذا كانت أوصاف كماله ونعوت جلاله لا نهاية لها ولا غاية، بل هي أعظم من ذلك وأجل، كان الثناء عليه بها كذلك؛ إذ هو تابع لها إخبارًا وإنشاء، وهذا المعنى ينتظم المعنى الأول من غير عكس.
وإذا كان إحسانه سبحانه وثوابه وبركته وخيره لا منتهى له وهو من موجبات رضاه وثمرته فكيف بصفة الرضا؟
وفي الأثر: «إذا باركت لم يكن لبركتي منتهى» . فكيف بالصفة التي صدرت عنها البركة؟
والرضا يستلزم المحبة والإحسان والجود والبر والعفو والصفح والمغفرة.
والخلق يستلزم العلم والقدرة والإرادة والحياة والحكمة، وكل ذلك داخل في رضا نفسه وصفة خلقه.
وقوله: «وزنة عرشه» ، فيه إثبات للعرش، وإضافته إلى الرب سبحانه وتعالى، وأنه أثقل المخلوقات على الإطلاق، إذ لو كان شيء أثقل منه لوزن به التسبيح، وهذا يرد على من يقول إن العرش ليس بثقيل ولا خفيف، وهذا لم يعرف العرش ولا قدره حق قدره.
فالتضعيف الأول للعدد والكمية، والثاني للصفة والكيفية، والثالث للعظم والثقل وليس للمقدار.
وقوله: «ومداد كلماته» هذا يعم الأقسام الثلاثة ويشملها، فإن مداد كلماته سبحانه وتعالى لا نهاية لقدره ولا لصفته ولا لعدده، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ
رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]، وقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27].
ومعنى هذا أنه لو فرض البحر مدادًا، وبعده سبعة أبحر تمده كلها مدادًا، وجميع أشجار الأرض أقلامًا، وهو ما قام منها على ساق من النبات والأشجار المثمرة وغير المثمرة، وتستمد بذلك المداد، لفنيت البحار والأقلام، وكلمات الرب لا تفنى ولا تنفد، فسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
فأين هذا من وصف من يصفه بأنه ما تكلم ولا يتكلم ولا يقوم به كلام أصلا؟ وقول من وصف كلامه بأنه معنى واحد لا ينقضي ولا يتجزأ ولا له بعض ولا كل ولا هو سور وآيات ولا حروف وكلمات؟.
والمقصود أن في هذا التسبيح من صفات الكمال ونعوت الجلال ما يوجب أن يكون أفضل من غيره، وأنه لو وزن غيره به لوزنه وزاد عليه.
وهذا بعض ما في هذه الكلمات من المعرفة بالله، والثناء عليه بالتنزيه والتعظيم، مع اقترانه بالحمد المتضمن لثلاثة أصول:
أحدها: إثبات صفات الكمال له سبحانه، والثناء عليه. الثاني: محبته والرضا به. الثالث: فإذا انضاف هذا الحمد إلى التسبيح والتنزيه على أكمل الوجوه وأعظمها قدرًا وأكثرها عددًا وأجزلها وصفًا، واستحضر العبد ذلك عند التسبيح، وقام بقلبه، معناه: كان له من المزية والفضل ما ليس لغيره وبالله التوفيق. ا. هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين جويرية: «لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله مداد كلماته» . أخرجه مسلم في صحيحه. فمعناه أنه سبحانه يستحق التسبيح بعدد ذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (2)«ربنا ولك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما. وملء ما شئت من شيء بعد» . ليس المراد أنه سبح تسبيحًا بقدر ذلك. فالمقدار تارة يكون وصفًا لفعل العبد، وفعله محصور. وتارة يكون لما يستحقه الرب، فذاك الذي يعظم قدره؛ وإلا فلو قال المصلي في صلاته: سبحان الله عدد خلقه. لم يكن قد سبح إلا مرة واحدة. ا. هـ.
وقال في بيان تلبيس الجهمية: (3) المقصود بالحديث نهاية ما يمكن من الوزن؛ كما ذكره وغاية ما يمكن من المعدود، وغاية ما يمكن من القول، والمحبوب هو كلام الرب ورضاه وذكر. ا. هـ.
وقال في الرسالة العرشية: (4) فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان. ا. هـ.
والمقصود مما تقدم أن الذكر المضاعف المذكور في الحديث هو ذكر فاضل في نفسه، وبما يقوم بقلب صاحبه من التعظيم والتنزيه لله جل وعلا، وحينئذ قد يكون من يأتي به خيرًا ممن ذكر الله أكثر من ذكره؛ دون هذا الذكر وقد يكون مثله وقد يكون دونه، وذلك لأن الذاكر عابد فما يقوم بقلبه من الخشوع والتعظيم موجب لأفضليته من
(1) إقامة الدليل على إبطال التحليل (3/ 99)، والاستقامة لابن تيمية (1/ 213).
(2)
مسلم (رقم:477).
(3)
بيان تلبيس الجهمية (1/ 575).
(4)
الرسالة العرشية (ص: 10).
هذه الحيثية، مع إتيانه بجنس فاضل من العبادة وهو هذا الذكر؛ وذلك لا يستلزم أفضليته المطلقة على غيره من العباد الذين يشاركونه هذه العبادة، فإن التفضيل يكون باعتبارات عديدة والتفضيل بهذه العبادة جزء من التفضيل، فحسب، ومما يجليه أن هذا الذاكر كمن تصدق بجوهرة عظيمة، وتصدق غيره بجواهر عديدة مفرقة دون هذه الجوهرة فالأول بذل نفيسا دفعة واحدة، والثاني فرق نفائس (دون الأول) في أزمنة متعددة؛ والله أعلم.