الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم الثامن والعشرون
الأذكار الشرعية لا تكون إلا كلاما تامًا مفيدًا، وهذا شأنها كلها، ومن هنا علم فساد الذكر بالاسم المفرد أو المضمر، قال شيخ الإسلام في كتاب العبودية (1) ما نصه:
ومن زعم أن هذا ذكر العامة، وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد، وذكر خاصة الخاصة هو الاسم المضمر، فهم ضالون غالطون، واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]. من أبين غلط هؤلاء فإن الاسم الله مذكور في الأمر بجواب الاستفهام في الآية قبله، وهو قوله:{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أي: الله هو الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فالاسم الله، مبتدأ وخبره قد دل عليه الاستفهام كما في نظائر ذلك؛ تقول: من جاره؟ فيقول: زيد.
وأما الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فليس بكلام تام، ولا جملة
(1) العبودية ص 137.
مفيدة ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي.
ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة، ولا شرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة، ولا حالًا نافعا، وإنما يعطيه تصورًا مطلقًا، ولا يحكم عليه بنفي ولا إثبات، فإن لم يقترن به من معرفة القلب، وحاله ما يفيد بنفسه، وإلا لم يكن فيه فائدة، والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه، لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره.
وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد، وأنواع من الاتحاد كما قد بسط في غير هذا الموضوع.
وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات، حال لا يقتدى فيها بصاحبها، فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به، إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه، إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يتلقين الميت: لا إله إلا الله.
وقال: «من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة» (1) ولو كان ما ذكره محذورًا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائهًا موتًا غير محمود، بل كان يلقن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد.
والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السنة، وأدخل في البدعة وأقرب إلى ضلال الشيطان، فإن من قال: يا هو يا هو أو هو هو، ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدًا إلا إلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل.
وقد صنف صاحب «الفصوص» كتابا سماه كتاب «الهو» وزعم
(1) أخرجه أحمد (رقم: 22180) وأبو داود (رقم: 2945) والطبراني (رقم: 727)، والحاكم (رقم: 1299) وقال: صحيح الإسناد.
بعضهم أن قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]. معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو الهو، وإن كان هذا مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء، حتى قلت مرة لبعض من قال شيئا من ذلك: لو كان هذا ما قلته لكتبت الآية: وما يعلم تأويل «هو» منفصلة.
ثم كثيرا ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل: «الله» بقوله {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91]. ويظن أن الله أمر نبيه بأن يقول الاسم المفرد وهذا غلط باتفاق أهل العلم فإن قوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} معناه: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى وهو جواب لقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 91] أي: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، رد بذلك قول من قال:{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]. فقال: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} ثم قال: {قُلِ اللَّهُ} أنزله ثم ذر هؤلاء المكذبين {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} - إلى أن قال- والله تعالى لا يأمر أحدًا بذكر اسم مفرد ولا شرع للمسلمين.
والاسم المجرد لا يفيد شيئا من الإيمان باتفاق أهل الإسلام، ولا يؤمر به في شيء من العبادات ولا في شيء من المخاطبات.
ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر: أن بعض الأعراب مر بمؤذن يقول: «أشهد أن محمدا رسول الله» بالنصب فقال: ماذا
يقول هذا؟ هذا الاسم، فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام؟ - إلى أن قال- وكذلك ما شرع للمسلمين في صلاتهم وأذانهم وحجهم وأعيادهم من ذكر الله تعالى إنما هو بالجملة التامة كقول المؤذن:«الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله» . وقول المصلي: «الله أكبر، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، التحيات لله» . وقول الملبي: «لبيك اللهم لبيك» . وأمثال ذلك.
فجميع ما شرعه الله من الذكر، إنما هو كلام تام لا اسم مفرد، ولا مظهر ولا مضمر- إلى أن قال- والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الله سبحانه هو ذكره بجملة تامة، وهو المسمى بالكلام، والواحد منه بالكلمة، وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر، ويجذب القلوب إلى الله، ومعرفته ومحبته وخشيته، وغير ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية.
وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فلا أصل له، فضلا عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين.
بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات، وذريعة إلى تصورات وأحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد وأهل الاتحاد؛ كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع. ا. هـ. رحمه الله.
وفيه الشفاء والكفاية ..