الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم الثالث والثلاثون
الأصل فيما يشغل ويصد عن الذكر أنه مكروه، فإن أشغل عما يجب من الذكر والقراءة فهو حرام.
قال الله جل وعلا في تحريم الخمر وما يصد عن الطاعة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90، 91].
قال السعدي في تفسيره (1) بعد كلام: ومنها: أن هذه الأشياء تصد القلب، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة، اللذين خلق لهما العبد، وبهما سعادته، فالخمر والميسر، يصدانه عن ذلك أعظم صد، ويشتغل قلبه، ويذهل لُبّه في الاشتغال بهما، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو، فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها، وتجعله من أهل الخبث، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها، وتحول بين العبد وبين فلاحه، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتصد عن ذكر الله
(1) تيسير الكريم الرحمن ص 243.
وعن الصلاة؟ فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها؟
ولهذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها، عرضا بقوله:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. لأن العاقل- إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت نفسه، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ. ا. هـ.
وقال البخاري في صحيحه: باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر، حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن.
ثم أخرج: (1) من طريق سالم، عن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لأن يمتلئ جو أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» .
قال في فتح الباري: (2) وقال النووي: استدل به على كراهة الشعر مطلقًا، وإن قل، وإن سلم من الفحش، وتعلق بقوله في حديث أبي سعيد رضي الله عنه:«خذوا الشيطان» (3) وأجيب باحتمال أن يكون كافرا، أو كان هو الغالب عليه، أو كان شعره الذي ينشده، إذ ذا، من المذموم، وبالجملة فهي واقعة عين يتطرق إليها الاحتمال، ولا عموم لها، فلا حجة فيها، وألحق بن أبي جمرة بامتلاء الجو بالشعر المذموم حتى يشغله عما عداه من الواجبات والمستحبات، الامتلاء من السجع مثلا، ومن كل علم مذموم؛ كالسحر وغير ذلك، من العلوم التي تقسي القلب وتشغله عن الله تعالى، وتحدث الشكوك في الاعتقاد، وتفضي به إلى التباغض والتنافس.
(1) البخاري (رقم: 6154).
(2)
فتح الباري 10/ 548.
(3)
مسلم (رقم: 2259).
تنبيه مناسبة هذه المبالغة في ذم الشعر، أن الذين خوطبوا بذلك كانوا في غاية الإقبال عليه، والاشتغال به، فزجرهم عنه ليقبلوا على القرآن، وعلى ذكر الله تعالى وعبادته، فمن أخذ من ذلك ما أمر به لم يضره ما بقي عنده مما سوى ذلك والله أعلم. ا. هـ.
قال ابن عابدين (1) ما نصه: وفي الظهيرية: قيل معنى الكراهة في الشعر أن يشغل الإنسان عن الذكر والقراءة وإلا فلا بأس به ا. هـ.
وقال في تبيين المحارم: واعلم أن ما كان حراما من الشعر ما فيه فحش أو هجو مسلم أو كذب على الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو على الصحابة أو تزكية النفس أو الكذب أو التفاخر المذموم، أو القدح في الأنساب، وكذا ما فيه وصف أمرد أو امرأة بعينها إذا كانا حيين، فإنه لا يجوز وصف امرأة معينة حية ولا وصف أمرد معين حي حسن الوجه بين يدي الرجال ولا في نفسه، وأما وصف الميتة أو غير المعينة فلا بأس .. إلى قوله .. ولا وصف الخمر المهيج إليها والديريات والحانات والهجاء ولو لذمي كذا في ابن الهمام والزيلعي .... وقال في المعارف: لا يليق بأهل الديانات، وينبغي أن لا يجوز إنشاده عند من غلب عليه الهوى والشهوة لأنه يهيجه على إجالة فكره فيمن لا يحل، وما كان سببا لمحظور فهو محظور. ا. هـ.
لطيفة: في طبقات الحنابلة (2) ما نصه: وأنبأنا المبارك، أخبرنا أبو الحسين المعدل، أخبرنا أحمد بن جعفر بن مالك، قال: سمعت أبا خليفة الفضل بن الحباب الجمحي بالبصرة، يقول: قدم علينا أحمد بن حنبل البصرة ليسمع من أبي الوليد الطيالسي سنة اثنتي عشرة إن
(1) الدار المختار وحاشية ابن عابدين 6/ 350.
(2)
طبقات الحنابلة 1/ 250.
شاء الله، فاستشرف له أهل البصرة، فلقيه أبي، وكان بينهما صحبة قديمة، فسأله أن يضيفه، فأجابه، فأقام عندنا ثلاثة أيام، فكنت أذاكره بالليل كثيرا، فقلت: له يا أبا عبد الله سمعت شعبة بن الحاج، يقول: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة وعن صلة الرحم، فهل أنتم منتهون. قال: فأطرق ساعة، ثم قال: أما نحن فلا نعرف هذا من أنفسنا، فإن كان شعبة يعرف من نفسه شيئا فهو أعلم. ا. هـ.