المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحكم التاسع يجوز الذكر قيامًا وقعودًا وفي حال الاضطجاع، وفي حجر - نتاج الفكر في أحكام الذكر

[عبد الله بن مانع الروقي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الحكم الأول

- ‌الحكم الثاني

- ‌الحكم الثالث

- ‌الحكم الرابع

- ‌الحكم الخامس

- ‌الحكم السادس

- ‌الحكم السابع

- ‌الحكم الثامن

- ‌الحكم التاسع

- ‌الحكم العاشر

- ‌الحكم الحادي عشر

- ‌الحكم الثاني عشر

- ‌الحكم الثالث عشر

- ‌الحكم الرابع عشر

- ‌الحكم الخامس عشر

- ‌الحكم السادس عشر

- ‌الحكم السابع عشر

- ‌الحكم الثامن عشر

- ‌الحكم التاسع عشر

- ‌الحكم العشرون

- ‌الحكم الواحد والعشرون

- ‌الحكم الثاني والعشرون

- ‌الحكم الثالث والعشرون

- ‌الحكم الرابع والعشرون

- ‌الحكم الخامس والعشرون

- ‌الحكم السادس والعشرون

- ‌الحكم السابع والعشرون

- ‌الحكم الثامن والعشرون

- ‌الحكم التاسع والعشرون

- ‌الحكم الثلاثون

- ‌الحكم الواحد والثلاثون

- ‌الحكم الثاني والثلاثون

- ‌الحكم الثالث والثلاثون

- ‌الحكم الرابع والثلاثون

- ‌الحكم الخامس والثلاثون

- ‌الحكم السادس والثلاثون

- ‌الحكم السابع والثلاثون

- ‌الحكم الثامن والثلاثون

- ‌الحكم التاسع والثلاثون

- ‌الحكم الأربعون

- ‌الحكم الواحد والأربعون

- ‌الحكم الثاني والأربعون

- ‌الحكم الثالث والأربعون

- ‌الحكم الرابع والأربعون

- ‌الحكم الخامس والأربعون

- ‌الحكم السادس والأربعون

- ‌الحكم السابع والأربعون

- ‌الحكم الثامن والأربعون

- ‌الحكم التاسع والأربعون

- ‌الحكم الخمسون

الفصل: ‌ ‌الحكم التاسع يجوز الذكر قيامًا وقعودًا وفي حال الاضطجاع، وفي حجر

‌الحكم التاسع

يجوز الذكر قيامًا وقعودًا وفي حال الاضطجاع، وفي حجر الحائض وماشيًا وساعيًا وفي كل حال إلا ما استثنى.

قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] قال القرطبي في تفسيره: (1) الثالثة:

ذكر تعالى ثلاث هيئات لا يخلو ابن آدم منها في غالب أمره، فكأنها تحصر زمانه، ومن هذا المعنى قول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكر الله على كل أحيانه. أخرجه مسلم. (2) فدخل في ذلك كونه على الخلاء، وغير ذلك، وقد اختلف العلماء في هذا، فأجاز ذلك عبد الله بن عمرو (3)، وابن

(1) تفسير القرطبي (4/ 310)

(2)

مسلم (رقم: 373)

(3)

هو: عبد الله بن عمرو بن العاص، أبو محمد. صحابي قرشي. أسلم قبل أبيه. قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله. كان مجتهدًا في العبادة غزير العلم. وكان أكثر الصحابة حديثًا. وروى عن عمر وأبي الدرداء وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة، وحدث عنه بعض الصحابة وعدد كثير من التابعين. استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة ما كان يسمعه منه فأذن له، فكتب. وكان يسمي صحيفته تلك الصادقة. انظر: طبقات ابن سعد 4/ 8؛ والإصابة 2/ 351؛ وتهذيب التهذيب 5/ 337.

ص: 94

سيرين (1)، والنخعي (2)،

وكره ذلك ابن عباس، وعطاء، والشعبي، والأول أصح لعموم الآية والحديث قال النخعي: لا بأس بذكر الله في الخلاء فإنه يصعد المعنى: تصعد به الملائكة مكتوبًا في صحفهم فحذف المضاف دليله قوله تعالى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11]. لأن الله عز وجل أمر عباده بالذكر على كل حال ولم يستثن، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]. وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

(1) هو: محمد بن سيرين البصري، الأنصاري بالولاء، أبو بكر. تابعي، مولده ووفاته بالبصرة. نشأ بزازا وتفقه. كان أبوه مولى لأنس بن مالك. ثم كان هو كاتب لأنس بفارس. كان إمام وقته في علوم الدين بالبصرة. روى الحديث عن أنس بن مالك وزيد بن ثابت والحسن بن علي وغيرهم من الصحابة ?، واشتهر بالورع وتأويل الرؤيا. وقال ابن سعد: لم يكن بالبصرة أعلم منه بالقضاء. ينسب إليه كتاب تعبير الرؤيا. انظر: الأعلام للزركلي، وتهذيب التهذيب 9/ 14؛ وتاريخ بغداد 5/ 331؛ وتهذيب الأسماء واللغات 1/ 82.

(2)

هو: إبراهيم بن زيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران. من مذحج اليمن من أهل الكوفة، ومن كبار التابعين، أدرك بعض متأخري الصحابة، ومن كبار الفقهاء. قال عنه الصفدي: فقيه العراق. أخذ عنه حماد بن أبي سليمان وسماك بن حرب وغيرهما .. انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 70؛ والأعلام للزركلي 1/ 76؛ وطبقات ابن سعد 6/ 188 - 199.

ص: 95

الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]. فذاكر الله تعالى على كل حالاته مثاب مأجور إن شاء الله تعالى. وذكر أبو نعيم قال: حدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن كعب الأحبار (1)،

قال: قال: موسى عليه السلام: «يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك، قال: يا موسى أنا جليس من ذكرني، قال: يا رب فإنا نكون من الحال على حال نجلك ونعظمك أن نذكرك، قال: وما هي، قال: الجنابة والغائط، قال: يا موسى اذكرني على كل حال. وكراهية من كره ذلك؛ إما لتنزيه ذكر الله تعالى في المواضع المرغوب عن ذكره فيها؛ ككراهية قراءة القرآن في الحمام، وإما إبقاء على الكرام الكاتبين، على أن يحلهم موضع الأقذار والأنجاس، لكتابة ما يلفظ به، والله أعلم.

وقال النووي في مقدمة أذكاره ما نصه: (2) اعلم أن الذكر محبوب في جميع الأحوال؛ إلا في أحوال ورد الشرع باستثنائها، نذكر منها هنا طرفا، إشارة إلى ما سواه مما سيأتي في أبوابه إن شاء الله

(1) هو: كعب بن ماتع الحميري، اليماني، العلامة، الحبر، كان يهوديًا، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر رضي الله عنه، فجالس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، ويحفظ عجائب، ويأخذ السنن عن الصحابة. وكان حسن الإسلام، متين الديانة، من نبلاء العلماء. وكان خبيرا بكتب اليهود، له ذوق في معرفة صحيحها من باطلها في الجملة، سكن بالشام بأخرة، وكان يغزو مع الصحابة، مات في خلافة عثمان وقد زاد على مائة. انظر: الإصابة: الإصابة 3/ 315، وتقريب التهذيب 286، وسير أعلام النبلاء (رقم: 111) ..

(2)

الأذكار ص 40.

ص: 96

تعالى، فمن ذلك: أنه يكره الذكر حالة الجلوس على قضاء الحاجة، وفي حالة الجماع، وفي حالة الخطبة لمن يسمع صوت الخطيب، وفي القيام في الصلاة، بل يشتغل بالقراءة، وفي حالة النعاس، ولا يكره في الطريق ولا في الحمام (1)، والله أعلم.

وقال في المجموع ما نصه: (2) ويستحب متابعته - يعني المؤذن - لكل سامع من طاهر ومحدث وجنب وحائض وكبير وصغير لأنه ذكر وكل هؤلاء من أهل الذكر ويستثنى من هذا المصلي ومن هو على الخلاء والجماع. ا. هـ.

وقال البخاري في صحيحه: (3) باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره وقال منصور بن إبراهيم: لا بأس بالقراءة في الحمام.

قال الحافظ في الفتح: (4) وروى ابن المنذر عن علي: قال بئس البيت الحمام ينزع فيه الحياء، ولا يقرأ فيه آية من كتاب الله، وهذا لا يدل على كراهة القراءة، وإنما هو إخبار بما هو الواقع، بأن شأن من يكون في الحمام أن يلتهي عن القراءة، وحكيت الكراهة عن أبي حنيفة، وخالفه صاحبه محمد بن الحسن، ومالك، فقالا: لا تكره لأنه ليس فيه دليل خاص، وبه صرح صاحبا العدة والبيان من الشافعية، وقال النووي في التبيان: عن الأصحاب لا تكره، فاطلق؛ لكن في شرح الكفاية للصيمري لا ينبغي أن يقرأ، وسوّى الحليمي بينه وبين القراءة حال قضاء الحاجة، ورجح السبكي الكبير عدم الكراهة، واحتج بأن القراءة مطلوبة، والاستكثار منها مطلوب، والحدث يكثر، فلو

(1) الحمام: ما يستحم فيه بالماء الحار ولا تقضى فيه الحاجة.

(2)

المجموع: 3/ 118.

(3)

صحيح البخاري 1/ 47.

(4)

الفتح 1/ 287.

ص: 97

كرهت لفات خير كثير، ثم قال حكم القراءة في الحمام، إن كان القارئ في مكان نظيف وليس فيه كشف عورة لم يكره. ا. هـ.

وقال البخاري في صحيحه: (1) باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض، وأسند حديث منصور بن صفية أن أمه حدثته أن عائشة حدثتها:

«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكىء في حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن» (2).

قال الحافظ في الفتح: (3) وللمصنف في التوحيد كان يقرأ القرآن ورأسه في حجري وأنا حائض، فعلى هذا فالمراد بالاتكاء وضع رأسه في حجرها، قال ابن دقيق العيد في هذا الفعل إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ لأن قراءتها لو كانت جائزة لما توهم امتناع القراءة في حجرها، حتى احتيج إلى التنصيص عليها، وفيه جواز ملامسة الحائض، وأن ذاتها وثيابها على الطهارة، ما لم يلحق شيئا منها نجاسة، وهذا مبني على منع القراءة في المواضع المستقذرة، وفيه جواز القراءة بقرب محل النجاسة، قاله النووي، وفيه جواز استناد المريض في صلاته إلى الحائض، إذا كانت أثوابها طاهرة، قاله القرطبي. ا. هـ.

وقال البخاري في صحيحه: باب تقضي الحائض المناسك كلها؛ إلا الطواف بالبيت (4)، وقال إبراهيم لا بأس أن تقرأ الآية، ولم ير ابنُ عباس رضي الله عنه بالقراءة للجنب بأسًا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل

(1) صحيح البخاري (1/ 67).

(2)

صحيح البخاري: (حديث رقم: 293)، باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض.

(3)

الفتح (1/ 420).

(4)

صحيح البخاري (1/ 68).

ص: 98

أحيانه. وقالت أمُّ عطية: كنا نؤمر أن يخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهم ويدعون

إلخ، وذكر حديث عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف طمثت فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: «ما يبكيك» . قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: «لعلك نفست» . قلت: نعم، قال:«فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» . (1)

وقال الحافظ في الفتح: (2) قيل مقصود البخاري بما ذكر في هذا الباب من الأحاديث والآثار، إن الحيض وما في معناه من الجنابة لا ينافي جميع العبادات، بل صحت معه عبادات بدنية من أذكار وغيرها، فمناسك الحج من جملة ما لا ينافيها؛ إلا الطواف فقط، وفي كون هذا مراده نظر؛ لأن كون مناسك الحج، كذلك حاصل بالنص فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه، والأحسن ما قاله ابن رُشيد تبعًا لابن بطال، وغيره، إن مراده الاستدلال على جواز قراءة الحائض والجنب بحديث عائشة رضي الله عنها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستثن من جميع مناسك الحج؛ إلا الطواف، وإنما استثناه لكونه صلاة مخصوصة، وأعمال الحج مشتملة على ذكر وتلبية ودعاء، ولم تمنع الحائض من شيء من ذلك، فكذلك الجنب؛ لأن حدثها أغلظ من حدثه، ومنع القراءة إن كان لكونه ذكرا لله، فلا فرق بينه وبين ما ذكر، وإن كان تعبدًا، فيحتاج إلى دليل خاص، ولم يصح عند المصنف شيء من الأحاديث الواردة في ذلك، وأن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره؛ لكن

(1) صحيح البخاري (رقم: 305).

(2)

الفتح (1/ 407).

ص: 99

أكثرها قابل للتأويل؛ كما سنشير إليه، ولهذا تمسك البخاري ومن قال بالجواز، غيره؛ كالطبري وابن المنذر وداود، بعموم حديث كان يذكر الله على كل أحيانه؛ لأن الذكر أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره، وإنما فرق بين الذكر والتلاوة بالعرف، والحديث المذكور وصله مسلم من حديث عائشة، وأورد المصنف أثر إبراهيم، وهو النخعي، إشعارًا بأن منع الحائض من القراءة ليس مجمعًا عليه، وقد وصله الدارمي وغيره، بلفظ:«أربعة لا يقرؤون القرآن الجنب والحائض وعند الخلاء وفي الحمام؛ إلا الآية ونحوها للجنب والحائض» . (1)

وروي عن مالك نحو قول إبراهيم، وروى عنه الجواز مطلقا، وروي عنه الجواز للحائض دون الجنب، وقد قيل إنه قول الشافعي في القديم، ثم أورد أثر ابن عباس، وقد وصله ابن المنذر بلفظ أن ابن عباس كان يقرأ ورده وهو جنب، وأما حديث أم عطية فوصله المؤلف في العيدين، وقوله فيه «ويدعون» كذا لأكثر الرواة، وللكشميهني يدعين بياء تحتانية بدل الواو، ووجه الدلالة منه ما تقدم من أنه لا فرق بين التلاوة وغيرها، ثم أورد المصنف طرفا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وهو موصول عنده في بدء الوحي وغيره، ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى الروم، وهم كفار، والكافر جنب؛ كأنه يقول إذا جاز مس الكتاب للجنب مع كونه مشتملًا على آيتين، فكذلك يجوز له قراءته، كذا قاله ابن رُشيد، وتوجيه الدلالة منه، إنما هي من حيث إنه إنما كتب إليهم ليقرءوه، فاستلزم جواز القراءة بالنص لا بالاستنباط، وقد أجيب ممن منع ذلك وهم الجمهور، بأن الكتاب اشتمل على أشياء غير الآيتين، فأشبه ما لو ذكر بعض القرآن في كتاب في الفقه، أو في التفسير، فإنه لا يمنع قراءته ولا مسه عند الجمهور؛

(1) سنن الدارمي (رقم: 1033) ..

ص: 100

لأنه لا يقصد منه التلاوة، ونص أحمد أنه يجوز مثل ذلك في المكاتبة لمصلحة التبليغ، وقال به كثير من الشافعية، ومنهم من خص الجواز بالقليل كالآية والآيتين، قال الثوري: لا بأس أن يعلم الرجل النصراني الحرف من القرآن عسى الله أن يهديه، وأكره أن يعلمه الآية هو كالجنب، وعن أحمد أكره أن يضع القرآن في غير موضعه، وعنه أن رجى منه الهداية جاز، وإلا فلا، وقال بعض من منع لا دلالة في القصة على جواز تلاوة الجنب القرآن؛ لأن الجنب إنما منع التلاوة إذا قصدها، وعرف أن الذي يقرأه قرآن، أما لو قرأ في ورقة ما لا يعلم أنه من القرآن فإنه لا يمنع، وكذلك الكافر، وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى، تنبيه ذكر صاحب المشارق أنه وقع في رواية القابسي والنسفي وعبدوس هنا،

ويا أهل الكتاب، بزيادة واو، قال وسقطت لأبي ذر والأصيلي وهو الصواب، قلت: فأفهم أن الأولى خطأ لكونها مخالفة للتلاوة، وليست خطأ، وقد تقدم توجيه إثبات الواو في بدء الوحي، قوله وقال عطاء عن جابر هو طرف من حديث موصول عند المصنف في كتاب الأحكام، وفي آخره غير أنها لا تطوف بالبيت ولا تصلي، وأما أثر الحكم، وهو الفقيه الكوفي، فوصله البغوي في الجعديات من روايته عن علي بن الجعد، عن شعبة عنه، ووجه الدلالة منه أن الذبح مستلزم لذكر الله بحكم الآية التي ساقها، وفي جميع ما استدل به نزاع يطول ذكره، ولكن الظاهر من تصرفه ما ذكرناه، واستدل الجمهور على المنع بحديث علي رضي الله عنه:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة» . (1)

(1) أخرجه الطيالسي (رقم: 101) وأحمد (رقم: 840) وأبو داود (رقم: 229) والترمذي (رقم: 146) والنسائي (رقم: 265) وابن ماجه (رقم: 594).

ص: 101

رواه أصحاب السنن، وصححه الترمذي، وابن حبان، وضعف بعضهم بعض رواته، والحق أنه من قبيل الحسن، يصلح للحجة؛ لكن قيل في الاستدلال به نظر؛ لأنه فعل مجرد فلا يدل على تحريم ما عداه وأجاب الطبري عنه بأنه محمول على الأكمل جمعًا بين الأدلة، وأما حديث بن عمر مرفوعا:«لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن» . (1) فضعيف من جميع طرقه وقد تقدم الكلام على حديث عائشة في أول كتاب الحيض، وقولها طمثت بفتح الميم، وإسكان المثلثة، أي حضت، ويجوز كسر الميم، يقال طمثت المرأة، بالفتح والكسر في الماضي، تطمث بالضم في المستقبل. (2) ا. هـ.

قلت: ما أشار إليه الحافظ بقوله واستدل الجمهور على المنع بحديث علي .... إلخ.

الحديث أخرجه أهل السنن وغيرهم، من طريق عمر بن مرة عن عبد الله بن سَلمة، عن علي رضي الله عنه. وعبد الله بن سلمة (بكسر اللام) فيه كلام. والحديث ضعفه جماعة؛ كالشافعي، ونقل عن أحمد والبخاري والخطابي والنووي، وصححه جماعة؛ كالبغوي وعبد الحق وابن السكن وابن خزيمة والحاكم وابن حبان وابن حجر وأحمد شاكر وشيخنا ابن باز، والحديث له شاهد آخر من طريق أبي الغريف عن علي رضي الله عنه مرفوعًا، وأبو الغريف فيه جهالة، وروي بإسناد أصح موقوفًا على علي رضي الله عنه قال الدارقطني في سننه (3)، وهو صحيح عن علي، والحديث جاء له شواهد مرفوعة كلها معلولة.

(1) أخرجه الترمذي (رقم: 131) وابن ماجه (رقم: 595).

(2)

فتح الباري- ابن حجر- (1/ 407).

(3)

الدارقطني (رقم: 10).

ص: 102

وروى ابن المنذر (1)، وابن أبي شيبة (2) وأبو عبيد (مسند عمر) عن عمر (3) بإسناد حسن، أنه كره للجنب أن يقرأ شيئًا من القرآن، ولفظ ابن أبي شيبة «لا يقرأ الجنب» وروي المنع عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي عنه.

قال ابن رجب في شرح البخاري: (4) ومنع الأكثرون الحائض والجنب من القراءة بكل حال، قليلًا كان أو كثيرًا، وهذا مروي عن أكثر الصحابة، روي عن عمر رضي الله عنه، وروي عنه أنه قال: لو أن جنبًا قرأ القرآن لضربته. وعن علي رضي الله عنه قال: لا يقرأ ولا حرفًا. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، وسليمان رضي الله عنه، وابن عمر رضي الله عنه. وقال: وهو قول أكثر التابعين، ومذهب الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق - في إحدى الروايتين عنهما -، وأبي ثور وغيرهم. وهو قول مالك في الجنب؛ إلا أنه رخص له في قراءة آيتين وثلاث عند المنام للتعوذ، ورخص الأوزاعي له في تلاوة آيات الدعاء والتعوذ، تعوذًا لا قراءة، وهذا أصح الوجهين للشافعية - أيضًا، وقال سعيد بن عبد العزيز: رخص للحائض والجنب في قراءة آيتين عندَ الركوب والنزول: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29] وعن مالك في الحائض روايتان إحداهما: هي كالجنب، والثانية: أنها تقرأ، وهو قول محمد بن مسلمة؛ لأن مدة الحيض تطول، فيخشى عليها النسيان، وهي غير قادرة على الغسل، بخلاف الجنب، وحكى أبو ثور ذلك عن الشافعي، وأنكره أصحاب الشافعي عنه، وعكس ذلك

(1) الأوسط (2/ 96).

(2)

ابن أبي شيبة (1/ 97).

(3)

انظر: البيهقي (1/ 19).

(4)

شرح البخاري لابن رجب (1/ 428).

ص: 103

آخرون، منهم: عطاء، قال: الحائض أشد شأنًا من الجنب، الحائض لا تقرأ شيئا من القرآن، والجنب يقرأ الآية، خرجه ابن جرير بإسناده عنه.

ووجه هذا: أن حدث الحيض أشد من حدث الجنابة؛ فإنه يمنع ما يمنع منه حدث الجنابة وزيادة، وهي الوطء والصوم، وما قيل من خشية النسيان فإنه يندفع بتذكر القرآن بالقلب، وهو غير ممنوع به.

وفي نهي الحائض والجنب عن القراءة أحاديث مرفوعة؛ إلا أن أسانيدها غير قوية؛ كذا قال الإمام أحمد في قراءة الحائض، وكأنه يشير إلى أن الرواية في الجنب أقوى، وهو كذلك، وأقوى ما في الجنب: حديث عبد الله بن سلمة، عن علي رضي الله عنه، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه - أو يحجزه - عن القرآن شيء، ليس الجنابة» . (1) خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وخرجه الترمذي بمعناه، وقال: حسن صحيح، وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في (صحيحيهما) والحاكم، وقال صحيح الإسناد.

وتكلم فيه الشافعي وغيره؛ فإن عبد الله بن سلمة هذا رواه بعدما كبر، قال شعبة عنه: كان يحدثنا، فكنا نعرف وننكر، وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، ووثقه العجلي ويعقوب بن شيبة، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.

والاعتماد في المنع على ما روي عن الصحابة، ويعضده: قول

(1) أخرجه أحمد (رقم: 627) أبو داود (رقم: 229)، والترمذي (رقم: 146) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي (رقم 265) وابن ماجه (594) والمستدرك (رقم: 7083) وابن خزيمة (رقم: 208) وأبو يعلى (رقم: 406) وابن حبان (رقم: 800)، والدارقطني (رقم: 10)، قال الحافظ في الفتح 1/ 408: وصححه الترمذي وابن حبان، وضعف بعضهم رواته.

ص: 104

عائشة وميمونة في قراءة النبي القرآن في حجرهما في حال الحيض؛ فإن يدل على أن للحيض تأثيرًا في منع القراءة.

وأما الاستدلال المجيزين بحديث عائشة: «اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي» . (1)

فلا دلالة لهم فيهِ؛ فإنه ليس في مناسك الحج قراءة مخصوصة حتَّى تدخل في عموم هذا الكلام، وإنما تدخل الأذكار والأدعية.

وأما الاستدلال بحديث الكتاب إلى هرقل، فلا دلالة فيه؛ لأنه إنما كتب ما تدعو الضرورة إليه للتبليغ، وقد سبق ذكر ذلك في شرح حديث هرقل في أول الكتاب.

وقد اختلف العلماء في تمكين الكافر من تلاوة القرآن، فرخص فيه الحسن وأبو حنيفة وغيرهما، ومنهم من منع منه، وهو قول أبي عبيد وغيره واختلف أصحابنا في ذلك، فمنهم من منعه مطلقا، ومنهم من رخص فيه مطلقا، ومنهم من جوزه إذا رُجي من حال الكافر الاستهداء والاستبصار، ومنعه إذا لم يُرج ذلك. والمنقول عن أحمد أنه كرهه.

وقال أصحاب الشافعي: إن لم يُرج له الاستهداء بالقراءة منع منها، وإن رُجي له ذلك لم يمنع، على أصح الوجهين. ا. هـ.

(1) أخرجه البخاري (رقم: 305) ومسلم (رقم: 1211).

ص: 105