الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم الرابع والثلاثون
يتأكد ذكر الله بإطلاق في كل مجلس، أو ممشى أو مضطجع، وقد يقال بالوجوب، فإن الذكر من أجل الطاعات، وأعظم القربات، والإعراض عنه سبيل المحرومين، ومن احتوشتهم الشياطين، والنصوص في الأمر به وافرة وفي التأكيد عليه متكاثرة.
قال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41]. أمره بألا يترك، الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه، على القول الأول. وقد مضى في البقرة معنى الذكر. وقال محمد ابن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز وجل: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا} [آل عمران: 41]. ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45].
[الأحزاب: 41 - 44]
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تبارك وتعالى المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن، لما لهم في ذلك من جزيل الثواب، وجميل المآب. قال الإمام أحمد:(1) حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن سعيد، حدثني مولى ابن عياش، عن أبي بحرية عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم» قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ذكر الله عز وجل» وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد مولى ابن عياش عن أبي بحرية واسمه عبد الله بن قيس الترايمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه به، قال الترمذي: رواه بعضهم عنه فأرسله. قلت وقد تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى: والذاكرين الله كثيرا والذاكرات.
وقال أيضا: وقال الإمام أحمد: (2) حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس قال: سمعت عبد الله بن بُسر (3)
(1) أخرجه أحمد (رقم: 21750) قال المنذري (2/ 254) والهيثمي (10/ 73): إسناده حسن. والترمذي (رقم: 3377) وابن ماجه (رقم: 3790) والحاكم (رقم: 1825) وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي في الشعب (رقم: 519).
(2)
أحمد (رقم: 17698). وأخرجه عبد بن حميد (رقم: 509) والترمذي (رقم: 2329) وقال: حسن غريب. والبيهقي (رقم: 6318) والضياء (رقم: 66) وابن أبي شيبة (رقم: 34420) والطبراني في الأوسط (رقم: 1441) وابن قانع (2/ 81) وأبو نعيم في الحلية (9/ 51).
(3)
هو: عبد الله بن بسر بن أبي بسر المازني القيسي، أبو بسر، ويقال أبو صفوان، له ولأبيه صحبة، كان ممن صلى إلى القبلتين، سكن حمص روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، توفي بحمص، عن 95 عامًا. وهو آخر الصحابة موتًا بالشام. له 50 حديثًا. انظر: تهذيب التهذيب (5/ 158) والأعلام للزركلي (4/ 74).
يقول: جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال صلى الله عليه وسلم: «من طال عمره وحسن عمله» وقال الآخر: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فمرني بأمر أتشبث به، قال صلى الله عليه وسلم:«لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله تعالى» وروى الترمذي وابن ماجة الفصل الثاني من حديث معاوية بن صالح به، وقال الترمذي: حديث حسن يريب.
إلى أن قال ابن كثير: وقال الإمام أحمد: (1) حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي، سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يحدث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة» . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]. إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على تركه، فقال:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]. بالليل والنهار في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال عز وجل:{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42]. فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته، والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله تعالى كثيرة جدا، وفي هذه الآية الكريمة الحث على الإكثار
(1) أخرجه أحمد (رقم: 7093) قال الهيثمي (10/ 80): رجاله رجال الصحيح.
من ذلك. وقد صنف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي والمعمري وغيرهما. ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب الأذكار للشيخ محيي الدين النووي رحمه الله.ا. هـ.
وقال ابن حبان في صحيحه: (1) باب فيمن ترك الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من أحواله. وأسند من طريق: (2) ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم ترة، وما مشى أحد ممشى لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة، وما أوى أحد إلى فراشه ولم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة» .
ثم أخرج بعده من طريق: (3) عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما قعد قوم مقعدًا لا يذكرون الله فيه ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة للثواب» .
وقال في موضع آخر: (4) ذكر البيان بأن تف رق القوم عن المجلس عن غير ذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يكون حسرة عليهم في القيامة. ثم أسند من طريق: (5) سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال:، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما اجتمع قوم في مجلس، فتفرقوا من غير ذكر الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة» .
(1) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ص 577.
(2)
موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (رقم: 2321).
(3)
موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (رقم: 2322).
(4)
صحيح ابن حبان 2/ 351.
(5)
صحيح ابن حبان (رقم: 590).
وأخرجه أحمد (1) من طريق سهيل به بلفظ: «ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله، إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان ذلك المجلس عليهم حسرة» وهذا الحديث له طرق وألفاظ تدل على تأكّد الذكر ولزومه في كل الأحوال.
قال شيخ الإسلام في الفتاوى: (2) لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره: أن ملازمة ذكر الله دائمًا هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة، وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم:(3)«سبق المفردون قالوا يا رسول الله ومن المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات» وفيما رواه أبو داود (4) عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: ذكر الله» .
والدلائل القرآنية والإيمانية بصرًا وخبرًا ونظرًا على ذلك كثيرة. وأقلّ ذلك أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين صلى الله عليه وسلم؛ كالأذكار المؤقتة في أول النهار وآخره، وعند أخذ المضجع وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات والأذكار المقيدة،
(1) أحمد (رقم: 9052).
(2)
مجموع الفتاوى 10/ 660.
(3)
مسلم (رقم: 2676).
(4)
لم أجده عند أبي داود. وأخرجه حديث أبى الدرداء: أخرجه أحمد (رقم: 21750) قال المنذرى (2/ 254) والهيثمى (10/ 73): إسناده حسن. والترمذي (رقم: 3377)، وابن ماجه (رقم 3790) والحاكم (رقم: 1825) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقى في الشعب (رقم: 519).
مثل ما يقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج من ذلك وعند المطر والرعد إلى غير ذلك، وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل اليوم والليلة. ثم ملازمة الذكر مطلقًا وأفضله «لا إله إلا الله». وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل:«سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله» أفضل منه. ا. هـ.
وقال ابن القيم في الوابل: (1) أن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرًا لله عز وجل، فأفضل الصوام أكثرهم ذكرًا لله عز وجل في صومهم، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكرًا لله عز وجل، وأفضل الحاج أكثرهم ذكرًا لله عز وجل، وهكذا سائر الأحوال.
وقد ذكر ابن أبي الدنيا (2) حديثًا مرسلًا في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي أهل المسجد خير؟ قال: «أكثرهم ذكرًا لله عز وجل «قيل: أي الجنازة خير؟ قال: «أكثرهم ذكرًا لله عز وجل» قيل: فأي المجاهدين خير؟ قال: «أكثرهم ذكرًا لله عز وجل «قيل: فأي الحجاج خير؟ قال: «أكثرهم ذكرًا لله عز وجل» قيل: وأي العباد خير؟ قال: «أكثرهم ذكرًا لله عز وجل» قال أبو بكر: ذهب الذاكرون بالخير كله. ا. هـ.
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (3) ما نصه: وعن يحيى بن أبي كثير، قال: ركب رجل الحمار، فعثر به، فقال: تعس الحمار، فقال صاحب اليمين: ما هي حسنة أكتبها، وقال صاحب الشمال: ما هي سيئة فأكتبها، فأوحى الله إلى صاحب الشمال: ما ترك
(1) الوابل ص 104.
(2)
موجود في شعب الإيمان لأبو بكر البيهقي (رقم:558).
(3)
جامع العلوم والحكم 1/ 337.
صاحب اليمين من شيء، فاكتبه، فأثبت في السيئات «تعس الحمار» . (1)
وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة، فهو سيئة، وإن كان لا يعاقب عليها، فإن بعض السيئات قد لا يعاقب عليها، وقد تقع مكفرة باجتناب الكبائر، ولكن زمانِها قد خسره صاحبها حيث ذهبت باطلًا، فيحصل له بذلك حسرة في القيامة وأسف عليه، وهو نوع عقوبة.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي (2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة» .
وخرجه الترمذي (3) ولفظه: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم تِرة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم» .
وفي رواية لأبي داود والنسائي: (4)«من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرة، ومن اضطجع مضطجعًا لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله تِرة» زاد النسائي: «ومن قام مقامًا لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله تِرة» وخرج أيضًا (5) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من قوم يجلسون مجلسًا لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة، وإن دخلوا الجنة» .
(1) أخرجه: ابن أبي شيبة (رقم: 35480) وأبو نعيم في الحلية 6/ 76. والحسين المروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك (رقم: 1013).
(2)
مسند أحمد (رقم: 10680) وأبو داود (4855) والنسائي (رقم: 10169).
(3)
الترمذي (رقم: 3380) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
(4)
أخرجه أبو داود (رقم: 4856) والنسائي (رقم: 10237).
(5)
النسائي (رقم: 10242).
وقال مجاهد: ما جلس قوم مجلسًا، فتفرقوا قبل أن يذكروا الله، إلا تفرقوا عن أنتن من ريح الجيفة، وكان مجلسهم يشهد عليهم بغفلتهم، وما جلس قوم مجلسًا، فذكروا الله قبل أن يتفرقوا، إلا أن يتفرقوا عن أطيب من ريح المسك، وكان مجلسهم يشهد لهم بذكرهم.
وقال بعض السلف: يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات.
وخرجه الطبراني: (1) من حديث عائشة مرفوعًا: «ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير، إلا حسر عندها يوم القيامة» . الخ كلامه.
وقال في سبل السلام (2) ما نصه: والحديث دليل على وجوب الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس سيما مع تفسير الترة بالنار أو العذاب فقد فسرت بهما فإن التعذيب لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محظور، وظاهره أن الواجب هو الذكر والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم معًا. ا. هـ.
وقال في فتح الباري: (3) وقد أشرت إليه مستشكلًا في أوائل الجهاد مع ما ورد في فضل المجاهد، أنه كالصائم لا يفطر، وكالقائم لا يفتر، وغير ذلك مما يدل على أفضليته على غيره من الأعمال الصالحة، وطريق الجمع والله أعلم أن المراد بذكر الله في حديث أبي الدرداء الذكر الكامل، وهو ما يجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى، واستحضار عظمة الله تعالى، وأن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار مثلًا من غير استحضار لذلك وأن
(1) المعجم الأوسط (رقم: 8316).
(2)
سبل السلام 2/ 701.
(3)
فتح الباري 11/ 210.
أفضلية الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له أنه جمع ذلك كمن يذكر الله بلسانه وقلبه واستحضاره، وكل ذلك حال صلاته أو في صيامه أو تصدقه أو قتاله الكفار مثلًا، فهو الذي بلغ الغاية القصوى والعلم عند الله تعالى، وأجاب القاضي أبو بكر بن العربي بأنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله بقلبه عند صدقته أو صيامه مثلًا، فليس عمله كاملًا، فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية ا. هـ.
وقال في دليل الفالحين (1) ما نصه: «فإن شاء عذبهم» جزاء قصروا في ذلك بتركها «وإن شاء غفر لهم» ذلك النقص، وهذا يقتضي وجوب وجود الذكر والصلاة على النبي في المجلس؛ لأنه ر تّب العذاب على تر، ذلك وهو آية الوجوب، ولم أر من ذكر عنه القول بوجوب ذلك في كل مجلس والحديث يقتضيه والله أعلم.
قال في المرعاة (2) ما نصه: قال الطيبي: أي ما يقومون قيامًا، إلا هذا القيام، وضمن قاموا معي تجاوزوًا وبعدوا فعدي بعن يعني لا يوجد عنهم قيام عن مجلسهم؛ إلا كقيام المتفرقين عن أكل الجيفة التي هي غاية في القذر والنتن، والجيفة جثة الميت المنتنة. قال ابن الملك: وتخصيص جيفة الحمار بالذكر؛ لأنه أدون الجيف من بين الحيوانات التي تخالطنا، وفي هذا التشبيه غاية التنفير عن ترك ذكر الله تعالى في المجالس، وإنه مما ينبغي لكل أحد أن لا يجلس في مجلس الغفلة ولا يلابس أهله. وإن يفر عنه كما يفر عن جيفة الحمار، فإن كل عاقل يفر عنها ولا يقعد عندها «وكان» أي ذلك المجلس «عليهم حسرة» أي
(1) دليل الفالحين 5/ 312.
(2)
المرعاة 7/ 406.
ندامة يوم القيامة بسبب تفريطهم في ذكر الله في ذلك المجلس، وذلك لما يظهر لهم في موقف الحساب من أجور العامرين لمجالسهم بذكر الله تعالى، فيتحسرون على كل لحظة من أعمارهم لم يذكروا الله فيها. ا. هـ.
وقال في فيض القدير: (1)«ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله؛ إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار» . لأن ما يجري في ذلك المجلس من السقطات والهفوات إذا لم يجبر بذكر الله يكون كجيفة تعافها النفس، وتخصيص الحمار بالذكر يشعر ببلادة أهل ذلك المجلس.
وقال أيضًا: (2) أي: مثلها في النتن والقذارة والبشاعة لما صدر منهم من رديء الكلام ومذمومه شرعًا إذ المجلس الخالي من ذكر الله إنما يعمر بما ذكر ونحوه. ا. هـ.
ومما يعزّز هذا التأكيد على الذكر أن هذه الشريعة جاءت بالنصوص الكثيرة التي توزع الذكر على المحالّ والأحوال - هذا سوى الأوامر المطلقة بالذكر - كل هذا لتبقى أحوال المكلف بالذكر عامرة، وفرحة قلبه بذكر مولاه يأمره. والله المستعان.
لطيفة: نقل أبو العباس في كتابه الاستقامة: (3) عن الشبلي: أنه سُئل متى يستريح، قال: إذا لم أر له ذاكرًا. ا. هـ.
يعني إذا لم أر لله ذاكرًا. فعلق شيخنا ابن باز على قوله هذا: يحبون ألا يعبد الله غيرهم هذه غيرة خبيثة. ا. هـ.
تنبيه: فإن قال قائل ألم يجيء الثناء والتفخيم للعبادة في زمن
(1) فيض القدير 5/ 408.
(2)
فيض القدير 5/ 493.
(3)
الاستقامة 2/ 14.
الفتن، وعند كثرة الغفلة، كم أخرج مسلم:(1) من طريق حماد بن زيد، عن معلّى بن زياد، عن معاوية بن قرة، عن معقل بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«العبادة في الهرج كهجرة إلي» .
وما جاء في معناه: (2) عن عون، قال: الذاكر في الغافلين كالمقاتل عن الفارين.
فالجواب: أن يقال هذا مدح للعبادة في زمن الإعراض والغفلة والفتن لا محبة لانصراف الناس عنها.
فهذه الأخيرة غيرة الهلكى والمبتدعة، وأما حال الصالحين فانظر لما أخرجه الطبراني:(3) قال: حدثنا بشر بن موسى، ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، عن كهمس بن الحسن، عن ابن بريدة الأسلمي قال: شتم رجل ابن عباس، فقال ابن عباس: «إنك لتشتمني وفيّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله عز وجل، فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم منها، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح، وما لي به من سائمة. إسناده صحيح. فهذا لون، وغيرة الشبلي وأمثاله لون وبينهما البون، ومن الله نستمد العون.
(1) مسلم (رقم: 2948).
(2)
مصنف ابن أبي شيبة (رقم: 36108).
(3)
الطبراني في الكبير (رقم: 10621).