الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم الثامن
شرط حصول أصل الأجر في القراءة والذكر، أن ينطق اللسان، وتتحرك الشفتان، وفي إسماع النفس خلاف، وهذه قاعدة في كل ذكر واجب، أو مستحب، حتى يعد قارئًا ومسبحًا وذاكرًا
…
فلا يكفي إجراء الذكر على قلبه دون حركة لسانه، ولا يكفي حركة اللسان مع إطباق الشفتين، بل لا بد من خروج صوت وهواء حتى يسمى ذاكرًا وتاليًا وقائلًا، وضابط ذلك إتيانه بالحروف العربية، ففي الأذكار مثلًا من قال كذا وكذا، أو من سبح الله، أو من قراء كذا، وهذه قاعدة في كل ذكر شرعي واجب أو مستحب.
وهل يشترط إسماع نفسه، فيه خلاف، روى البخاري في صحيحه (1) من طريق أبي معمر - وهو عبد الله بن سخبرة - قال: سألنا خبابًا أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بأي شيء كنتم تعرفون؟ قال: باضطراب لحيته.
واستدل به البيهقي على أن الإسرار بالقراءة لا بد فيه من إسماع المرء نفسه، وذلك لا يكون إلا بتحريك اللسان والشفتين، بخلاف ما
(1) صحيح البخاري (رقم: 746).
لو أطبق شفتيه وحرك، لسانه بالقراءة، فإنه لا تضطرب بذلك لحيته فلا يسمع نفسه (1).
وقال ابن عبد البر في التمهيد ما نصه: (2) ومعلوم أن القراءة في النفس ما لم يحرك بها اللسان فليست بقراءة وإنما هي حديث النفس بالذكر وحديث النفس متجاوز عنه لأنه ليس بعمل يؤاخذ عليه فيما نهي أن يعمله أو يؤدي عنه فرضًا فيما أمر بعملها. ا. هـ.
قال شيخ الإسلام: (3) ولا يشترط أن يسمع المصلي نفسه القراءة الواجبة.
وأنقل هنا كلامًا لأبي محمد الموفق في المغني: (4) ذكره في كتاب الديات لا يخلو من فائدة: قال: أجمع أهل العلم على وجوب الدية في لسان الناطق .... ويقال: ما الإنسان لولا اللسان؛ إلا صورة ممثلة، أو بهيمة مهملة، وأما النفع فإن به تبلغ الأغراض، وتستخلص الحقوق، وتدفع الآفات، وتقضى به الحاجات، وتتم العبادات في القراءة والذكر والشكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعليم والدلالة على الحق المبين والصراط المستقيم ..... إلى قوله: فصل: وإن ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدر ما ذهب يعتبر ذلك بحروف العجم، وهي ثمانية وعشرون حرفًا ..... ففي الحرف الواحد ربع سبع الدية ..... إلى قوله: وإن ذهب حرف فأبدل مكانه حرفًا آخر؛ كأنه يقول درهم فصار يقول دلهم، أو دعهم أو ديهم، فعليه ضمان الحرف الذاهب .... وإن لم يذهب شيء من الكلام لكن
(1) فتح الباري لابن حجر (2/ 245).
(2)
التمهيد 11/ 46.
(3)
الفتاوى الكبرى لابن تيمية 5/ 331.
(4)
المغني 12/ 124 - 125.
حصلت فيه عجلة، أو تمتمة أو فأفأة، فعليه حكومة لما حصل من النقص والشين ولم تجب الدية لأن المنفعة باقية .... إلخ آخر ما ذكره. مما يدل على فضل اللسان ونعمة البيان والكلام، وسلامة النطق، وقبح ضده.
وقد امتن الله على عباده بتعليمه البيان في سورة الرحمن بقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3، 4] وعلى أحد التفاسير المشهورة: الكلام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرر هذا في تعليم الصحابة القرآن والذكر، ففي حديث جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة؛ كما يعلمنا السورة من القرآن. (1) وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه علمني النبي صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه. (2) وفي رواية: كلمة كلمة (3) وفي حديث سلمان: حرفًا حرفًا. (4) وقال ابن أبي جمرة التشبيه في تحفظ حروفه وترتب كلماته ومنع الزيادة والنقص منه والدرس له والمحافظة عليه. (5)
وقال الحافظ: (6) على حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «
…
وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم
…
» (7) قال بعد كلام، ونقل الزركشي: أن المراد بقوله فليقل إني صائم مرتين يقوله مرة بقلبه ومرة بلسانه فيستفيد بقوله بقلبه كف لسانه عن خصمه وبقوله بلسانه
(1) صحيح البخاري (رقم: 6382)
(2)
صحيح البخاري (رقم: 6265)
(3)
شرح معاني الآثار (رقم: 1562)
(4)
مسند البزار (رقم: 2535) المعجم الكبير للطبراني (رقم: 6171)
(5)
فتح الباري ابن حجر 11/ 184.
(6)
الفتح 4/ 105.
(7)
صحيح البخاري (رقم: 1894)
كف خصمه عنه وتعقب بأن القول حقيقة باللسان. ا. هـ.
وقال ابن أبي العز (1) في شرح الطحاوية- ومن كلام شيخ الإسلام استفاده - قال ما نصه: وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق: أربعة أقوال:
أحدها: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعًا؛ كما يتناول لفظ الإنسان الروح والبدن معا، وهذا قول السلف .... إلى قوله: ويرد قول من قال: بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» (2) وقال: «إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما. أحدث أن لا تكلموا في الصلاة» . (3) واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامدًا لغير مصلحتها بطلت صلاته. واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك. فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام.
وأيضًا: ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن الله تجاوز
(1) هو: علي بن علي بن محمد بن أبي العز، علاء الدين، الدمشقي، الحنفي، فقيه، كان قاضي القضاة بدمشق، ثم بالديار المصرية، ثم بدمشق، وهو الذي امتحن بسبب اعتراضه على قصيدة لابن أيبك الدمشقي. من تصانيفه: التنبيه على مشكلات الهداية في فروع الفقه الحنفي، والنور اللامع فيما يعمل به في الجامع أي جامع بني أمية. انظر: الدرر الكامنة 3/ 87، وهدية العارفين 1/ 726، والأعلام 5/ 129، ومعجم المؤلفين 7/ 156.
(2)
أخرجه أحمد (رقم: 23813) ومسلم (رقم: 237) وأبو داود (رقم: 930) والنسائي (رقم: 1218).
(3)
أخرجه والطيالسي (رقم: 245) وعبد الرزاق (رقم 3594) وأحمد (رقم: 4145) وابن أبي شيبة (رقم: 4803) وأبو داود (رقم: 924) والنسائي (رقم: 1221)
لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به». (1) فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد: حتى ينطق به اللسان، باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب. (2)
…
إلخ ما ذكره. ا. هـ.
قلت: وفي ألفية ابن مالك:
كَلامُنا لفْظٌ مُفِيْدٌ كَاسْتقِمْ
…
وَاسْمٌ وَفعْلٌ ثُمَّ حَرْفٌ الْكَلمْ
وفي الأجرومية: الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع.
وقال النووي في أذكاره: (3) ما نصه: اعلم أن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها، واجبة كانت أو مستحبة، لا يحسب شئ منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع لا عارض له. والله أعلم.
وقال أيضًا في المجموع: (4) وإذا قلنا يقرأ المأموم في الجهرية كره له أن يجهر بحيث يؤذى جاره بل يسر بحيث يسمع نفسه لو كان سميعًا ولا شاغل من لغط وغيره لأن هذا أدنى القراءة المجزئة. ا. هـ.
قال في فقه العبادات على المذهب الحنفي ما نصه: (5) النطق بها بصوت أقل ما فيه أن يسمع نفسه. والسماع شرط فيما يتعلق بالنطق باللسان وهي: التحريمة، القراءة السرية، التشهد، الأذكار، الطلاق،
(1) صحيح مسلم (رقم: 127)
(2)
شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي 1/ 106.
(3)
الأذكار ص 42.
(4)
المجموع 3/ 364.
(5)
فقه العبادات على المذهب الحنفي (1/ 77).
الاستثناء، اليمين، النذر. فلو أجرى هذه الأمور على القلب من غير تلفظ يُسمَع لم تثبت. ا. هـ.
وتقدم ذكر مسألة إسماع النفس، والراجح عدم لزومه؛ لأن الإسماع قدر زائد على التلفظ والكلام، ولم يأت بإيجابه حُجة، واختاره شيخ الإسلام. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين:(1) المثال الثاني والأربعون: إذا استحلف على شيء فأَحَب أن يحلف ولا يحنث، فالحيلة أن يحرك لسانه بقول إن شاء الله، وهل يشترط أن يسمعها نفسه، فقيل لا بد أن يسمع نفسه، وقال شيخنا هذا لا دليل عليه، بل متى حرك لسانه بذلك كان متكلمًا، وإن لم يسمع نفسه، وهكذا حكم الأقوال الواجبة، والقراءة الواجبة، قلت وكان بعض السلف يطبق شفتيه، ويحرك لسانه بلا إله إلا الله ذاكرًا، وإن لم يسمع نفسه فإنه لاحظ للشفتين في حروف هذه الكلمة، بل كلها حلقية لسانية فيمكن الذاكر أن يحرك لسانه بها، ولا يسمع نفسه ولا أحدًا من الناس، ولا تراه العين يتكلم، وهكذا التكلم بقول إن شاء الله يمكن مع إطباق الفم، فلا يسمعه أحد ولا يراه، وإن أطبق أسنانه وفتح شفتيه أدنى شيء سمعته أذناه بجملته. ا. هـ.
وفي فتاوي اللجنة الدائمة هذا السؤال: (2) س: هل الجهر في تكبيرة الاحرام واجب أم يجزئ الاسرار بالقلب فيها؟
ج: تكبيرة الاحرام ركن من أركان الصلاة، والمأموم لا يجهر بالتكبيرة بل يكبر بحيث يسمع نفسه مع تحريك الشفتين بالتكبير، وهكذا المنفرد أما الإمام فيجهر بالتكبير والتسميع في جميع الصلوات
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 410)
(2)
الفتوى رقم (11317).
حتى يسمع المأمومين، هذا هو المشروع بحقه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وفي سؤالات الباب المفتوح (727) السؤال: هل يلزم تحريك الشفتين في الصلاة والأذكار والقراءة؟ أم يكفي أن يقرأ بدون تحريك الشفتين؟
الجواب: لابد من تحريك الشفتين في قراءة القرآن في الصلاة، وكذلك في قراءة الأذكار الواجبة كالتكبير والتسبيح والتحميد والتشهد؛ لأنه لا يسمى قولًا إلا ما كان منطوقًا به، ولا نطق إلا بتحريك الشفتين واللسان، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يعلمون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم باضطراب لحيته - أي: بتحركها - ولكن اختلف العلماء هل يجب أن يسمع نفسه؟ أم يكتفي بنطق الحروف؟ فمنهم من قال: لا بد أن يسمع نفسه، أي: لابد أن يكون له صوت يسمعه هو بنفسه، ومنهم من قال: يكفي إذا أظهر الحروف، وهذا هو الصحيح. ا. هـ.
تنبيه: مما تقدم يتبين إخلال كثير من الناس بألفاظ الذكر من التسبيح والتحميد والتهليل، وأوراد الصباح والمساء
…
إلخ. فتجد أحدهم لا يكاد يتلفظ بهذه الأذكار، وإذا تلفظ لا يكاد يبين، فلو دنوت من أحدهم لسمعت إما همهمة أو تمتمة، لا تسمى ذكرًا ولا قراءة ولا تسبيحًا، ولا تهليلًا، وربما كان مغلقًا لفمه.
ومثل ذلك القراءة في الصلاة السرية، خذ من الأخطاء وعدم التلفظ بالآيات على الوجه الصحيح ما شئت فضلًا عن التجويد والترتيل، فربما يصلي كثير منهم صلاة لو رآها المنصف لقال:«ارجع فصل فإنك لم تصل» (1) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لعلكم تقرأون
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري (رقم: 793) ومسلم (رقم: 397) وغيرهم.
خلفي» (1)
…
فسماها قراءة، فأي قراءة نقرأ، وأي ذكر نقول، إن الأمر عظيم والخطب الجسيم، وبيان هذا واجب على العلماء وطلاب العلم وأئمة المساجد، ومن ذلك أن بعض الناس عند القراءة أو الذكر ينتابه التثاؤب، فيستمر على قراءته ولا يرد التثاؤب، فتذهب بعض الحروف أحيانا، والمشروع كظم التثاؤب ورده والتوقف عن القراءة والذكر والله المستعان.
لطيفة: أخرج ابن أبي شيبة بإسناده عن أبي سعيد: أنه كان يأخذ ثلاث حصيات فيضعهن على فخذه فيسبح ويضع واحدة، ثم يسبح ويضع أخرى، ثم يسبح ويضع أخرى، ثم يرفعن ويصنع مثل ذلك، وقال: لا تسبحوا بالتسبيح صفيرًا. (2)
قلت: والصفير: صوت يخرج مع الحرف يشبه صفير الطائر، والخبر في إسناده نظر لكن فيه فائدة إظهار التسبيح وصحة نطقه باللسان، قال في صُبح الأعشى في وصف بعض الجُزُر ما نصه:(3) وفيها ناس عراة في غياض لا يفهم ما يقولون، كلامهم صفير، يستوحشون من الناس. ا. هـ.
تنبيه: قال في كشاف القناع: (4) ما نصه: قال في الشرح: فإن عجز عن بعض اللفظ، أو بعض الحروف، أتى بما عجز عن بعض الفاتحة، والأخرس ومقطوع اللسان يحرم بقلبه، لعجزه عنه بلسانه، ولا يحرك لسانه، كمن سقط عنه القيام يسقط عنه النهوض إليه، وإن قدر
(1) القراءة خلف الإمام للبيهقي (رقم: 135).
(2)
مصنف ابن أبي شيبة (رقم: 7742)
(3)
صبح الأعشى 5/ 77.
(4)
كشاف القناع: 1/ 331.
عليه لأنه عبث ولم يرد الشرع به؛ كالعبث بسائر جوارحه وإنما لزم القادر ضرورة، وكذا حكم القراءة والتسبيح وغيره؛ كالتحميد والتسميع والتشهد والسلام، يأتي به الأخرس ونحوه بقلبه، ولا يحرك لسانه لما تقدم. ا. هـ.