الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم السادس عشر
إذا تعارض ذِكران أحدهما يفوت، والآخر لا يفوت، قدم الذي يفوت، ولو كان مفضولًا بالنسبة لما لا يفوت، ووجه ذلك أن الذي يفوت لو لم يأت به لذهب دون الآخر، فتحصيلهما جميعًا أولى من تفويت أحدهما، وأيضًا الذي يفوت قد حضرت وظيفته، فالإتيان به أولى من ذكر وظيفته منتشرة على الزمان.
مثاله: لو سمع الأذان وهو يقرأ القرآن، فينبغي إجابة المؤذن حينئذ حتى يفرغ الأذان، ثم يعود لقراءته. قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى الكبرى:(1) ومن قال من العلماء: إن طواف أهل الآفاق أفضل من الصلاة بالمسجد، فإنما ذلك لأن الصلاة تمكنهم في سائر الأمصار، بخلاف الطواف، فإنه لا يمكن إلا بمكة، والعمل المفضول في مكانه وزمانه يقدم على الفاضل، لا لأن جنسه أفضل كما يقدم الدعاء في آخر الصلاة على الذكر والقراءة، ويقدم الذكر في الركوع والسجود على القراءة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا وساجدًا» . (2)
(1) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/ 457).
(2)
مسلم (رقم: 479).
وكما يقدم القراءة والذكر والدعاء في أوقات النهي، وكما تقدم إجابة المؤذن على الصلاة والقراءة؛ لأن هذا يفوت وذلك لا يفوت الآفاقي إذا خرج فقدم ذلك لا لأن جنسه أفضل من جنس الصلاة، بل ولا مثلها فإن هذا لا يقوله أحد، والحج كله لا يقاس بالصلاة التي هي عمود الدين، فكيف يقاس بها بعض أفعاله، وإنما فرض الله الحج على كل مسلم مرة في العمر. ا. هـ. وهو في مجموع الفتاوى. (1)
قال ابن القيم في الوابل الصيب (2) ما نصه: الفصل الثالث في قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء.
هذا من حيث النظر لكل منهما مجردًا، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك التسميع والتحميد في محلهما أفضل من القراءة، وكذلك التشهد، وكذلك «رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني» (3) بين السجدتين أفضل من القراءة، وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة ذكر التهليل والتسبيح والتكبير والتحميد أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن والقول كما يقول أفضل من القراءة.
وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله تعالى على خلقه، لكن لكل مقام مقال، متى فات مقاله فيه وعدل عنه إلى غيره اختلت الحكمة وفقدت المصلحة المطلوبة منه. وهكذا الأذكار المقيدة
(1) مجموع الفتاوي (26/ 196).
(2)
الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 91).
(3)
أخرجه: أبو داود (رقم: 850) والترمذي (رقم: 284) وابن ماجه (رقم: 898) والرزاق الصنعاني (رقم: 3010).
بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن.
مثاله: أن يتفكر في ذنوبه فيحدث ذلك له توبة من استغفار، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن، فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحفظه.
وكذلك أيضًا: قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها أو ذكر لم يحضر قلبه فيهما، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله تعالى وأحدث له تضرعًا وخشوعًا وابتهالًا، فهذا يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرًا.
وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفس، وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فيعطي كل ذي حق حقه، ويوضع كل شيء موضعه، فللعين موضع وللرجل موضع، وللماء موضع وللحم موضع.
وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي. والله تعالى الموفق.
وهكذا الصابون والأشنان أنفع للثوب في وقت، والتجمير وماء الورد وكيه أنفع له في وقت، وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يومًا: سئل بعض أهل العلم أيهما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيًا فالبخور وماء الورد أنفع له، وإذا كان دنسًا فالصابون والماء الحار أنفع له. فقال لي رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟ ومن هذا الباب أن سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن، ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث والطلاق والخلع والعدد ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص. ا. هـ.
فإن قلت: فهل يدخل في هذا إذا كان المرء يصلي فسمع الأذان فهل يجيبه في هذه الحال؟
والجواب: لا يجيبه لما أخرج البخاري في الصحيح (1) من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه، قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا يا رسول الله إنا كنا نسلم عليك فترد علينا؟ قال:«إن في الصلاة شغلًا» .
وهذا معناه: أن إقباله على صلاته، وتحصيل خشوعه، وانجماع قلبه على أذكارها أولى من مراعاة ذكر خارج عنها، وأيضا الصلاة عبادة مؤقتة تفوت، فليس مراعاة ذكر أجنبي يفوت بأولى من مراعاتها.
وهنا تنبيه: لا ينافي كل ما تقدم إذا أتى العبد بذكر - من جنس أذكار الصلاة - وجد سببه في الصلاة، وهو لا ينافي الإقبال عليها.
وبيان ذلك: لو عطس وهو يصلي، فإنه يحمد الله، ومن الأدلة في ذلك: ما أخرجه الترمذي في جامعه (2) قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا رفاعة بن يحيى بن عبد الله بن رفاعة بن رافع الزرقي، عن عم أبيه معاذ بن رفاعة، عن أبيه، قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطست، فقلت: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف، فقال: «من
(1) البخاري (رقم: 3662).
(2)
الترمذي (رقم: 404).
المتكلم في الصلاة؟»، فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية:«من المتكلم في الصلاة؟» ، فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة:«من المتكلم في الصلاة؟» فقال رفاعة بن رافع ابن عفراء: أنا يا رسول الله، قال:«كيف قلت؟» ، قال: قلت: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه مباركًا عليه، كما يحب ربنا ويرضى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«والذي نفسي بيده، لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكًا، أيهم يصعد بها» وفي الباب عن أنس، ووائل بن حجر، وعامر بن ربيعة: حديث رفاعة حديث حسن، وكأن هذا الحديث عند بعض أهل العلم أنه في التطوع لأن غير واحد من التابعين قالوا: إذا عطس الرجل في الصلاة المكتوبة إنما يحمد الله في نفسه ولم يوسعوا بأكثر من ذلك ا. هـ. وتخصيص الترمذي ذلك بالنافلة فيه نظر؛ فالحديث وارد في الفريضة إما نصًا أو ظاهرًا.
قال في المغني (1) على أصل المسألة: ما لا يتعلق بتنبيه آدمي، إلا أنه لسبب من غير الصلاة، مثل أن يعطس فيحمد الله، أو تلسعه عقرب فيقول: بسم الله. أو يسمع، أو يرى ما يغمه فيقول:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]. أو يرى عجبًا، فيقول: سبحان الله. فهذا لا يستحب في الصلاة، ولا يبطلها، نص عليه أحمد في رواية الجماعة، في من عطس فحمد الله، لم تبطل صلاته وقال، في رواية مهنا، في من قيل له وهو يصلي: ولد لك غلام. فقال: الحمد لله أو قيل له: احترق دكانك، قال: لا إله إلا الله أو ذهب كيسك: فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقد مضت صلاته، ولو قيل: له مات أبوك. فقال
(1) المغني لابن قدامة (2/ 43).
{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] فلا يعيد صلاته. وذكر حديث علي حين أجاب الخارجي. وهذا قول الشافعي، وأبي يوسف. ا. هـ.
وقال في التمهيد: (1) واختلف الفقهاء في المصلي يسمع المؤذن، وهو في نافلة أو فريضة، فقال مالك:(2) إذا أذن المؤذن وأنت في صلاة مكتوبة، فلا تقل مثل ما يقول، وإذا كنت في نافلة فقل مثل ما يقول. التكبير والتشهد، فإنه الذي يقع في نفسي أنه أريد بالحديث هذا رواية ابن القاسم ومذهبه. وقال ابن وهب: من رأيه يقول المصلي مثل ما يقول المؤذن في المكتوبة والنافلة، وقال سحنون: لا يقول ذلك في نافلة ولا مكتوبة، وقال الليث: مثل قول مالك؛ إلا أنه قال: ويقول في موضع حي على الصلاة حي على الفلاح، لا حول ولا قوة إلا بالله. وقال الشافعي: لا يقول المصلي في نافلة ولا مكتوبة مثل ما يقول المؤذن إذا سمعه وهو في الصلاة، ولكن إذا فرغ من الصلاة قاله. وذكر الطحاوي قال: لم أجد عن أصحابنا في هذا شيئًا منصوصًا. وقد حدثنا ابن أبي عمر، عن ابن سماعة، عن أبي يوسف: فيمن أذن في صلاته إلى قوله أشهد أن محمدًا رسول الله، ولم يقل حي على الصلاة، أن صلاته تفسد إن أراد الأذان، في قول أبي يوسف، وقول أبي حنيفة يعيد إذا أراد الأذان. قال أبو جعفر: وقول محمد؛ كقول أبي حنيفة؛ لأنه يقول فيمن يجيب إنسانًا وهو يصلي بلا إله إلا الله أن صلاته فاسدة. قال أبو جعفر: فهذا يدل على أن من قولهم أن من سمع الأذان في الصلاة لا يقوله. وذكر أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن خواز، بنداد البصري المالكي، عن مالك أنه قال: يجوز أن يقول
(1) التمهيد (10/ 142).
(2)
المدونة الكبرى (1/ 159).
المصلي في صلاة النافلة مثل ما يقول المؤذن من التكبير والشهادتين، فإن قال حي على الصلاة، حي على الفلاح، الأذان كله كان مسيئًا، وصلاته تامة، وكره أن يقول في الفريضة مثل ما يقول المؤذن، فإن قال الأذان كله في الفريضة أيضًا، لم تبطل صلاته، ولكن الكراهية في الفريضة أشد.
وذكر عن الشافعي أنه يقول: في النافلة الشهادتين، وإن قال حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، بطلت صلاته، نافلة كانت أو فريضة، قال أبو عمر: ما تقدم عن الشافعي من الجمع بين النافلة والمكتوبة أصح عنه، والقياس أن لا فرق بين المكتوبة والنافلة؛ إلا أن قوله حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد اضطربت في ذلك الآثار، وهو كلام فلا يجوز أن يقال في نافلة ولا فريضة، وأما سائر الأذان فمن الذكر الذي يصلح في الصلاة، ألا ترى إلى حديث معاوية بن الحكم (1)، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن صلاتنا هذه لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتهليل والتكبير وتلاوة القرآن» (2) وقد قال صلى الله عليه وسلم: «قولوا مثل ما يقول المؤذن» ولم يخص صلاة من غير صلاة، فما كان من الذكر الذي مثله يصلح في الصلاة جاز فيها قياسا، ونظرًا واتباعا للأثر. وأما الشافعي ومن قال بقوله في كراهية قول من يقول بقول المؤذن إذا كان سامعه في صلاة نافلة أو مكتوبة، فإنهم شبهوه برد السلام وتشميت العاطس، وقد ورد الأمر في الكتاب والسنة بهما، وذلك مما يجب
(1) هو معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه ابنه كثير وعطاء بن يسار وأبو سلمة بن عبد الرحمن، قال أبو عمر: كان ينزل المدينة ويسكن في بني سليم، له عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في الكهانة والطيرة والخط وتشميت العاطس وعتق الجارية، قال ابن حجر: وله حديث آخر من طريق ابنه كثير ابن معاوية عنه. انظر: تهذيب التهذيب 10/ 205.
(2)
مسلم (رقم: 537).
على غير المصلي، ولا يجب على المصلي قالوا فكذلك الأذان. ا. هـ.
وقال ابن عثيمين في الشرح الممتع ما نصه: وقوله: «يسن لسامعه متابعته سرًا» ، ظاهره: أنه إذا رآه ولم يسمعه فلا تسن المتابعة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «إذا سمعتم» فعلق الحكم بالسماع؛ ولأنه لا يمكن أن يتابع ما لم يسمعه؛ لأنه قد يتقدم عليه. وظاهر كلامه أيضا: أنه لو سمعه ولم يره؛ تابعه للحديث.
وظاهر الحديث كما هو ظاهر كلام المؤلف أنه يتابعه على كل حال؛ إلا أن أهل العلم استثنوا من كان على قضاء حاجته (1)؛ لأن المقام ليس مقام ذكر، وكذا المصلي لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن في الصلاة شغلا» (2)، فهو مشغول بأذكار الصلاة.
وقال شيخ الإسلام: بل يتابع المصلي المؤذن؛ لعموم الأمر بالمتابعة (3)، ولأنه ذكر وجد سببه في الصلاة، فكان مشروعًا، كما لو عطس المصلي فإنه يحمد الله كما جاءت به السنة.
لكن قد يقال: إن بينهما فرقًا، فإن حمد العاطس لا يشغل كثيرًا عن أذكار الصلاة، بخلاف متابعة المؤذن، وربما يكون ذلك أثناء قراءة الفاتحة فتفوت الموالاة بينها، فالراجح أن المصلي لا يتابع المؤذن. ا. هـ.
(1) انظر: النكت على المحرر 1/ 41، والإنصاف 3/ 108.
(2)
البخاري (رقم: 1199) ومسلم (رقم: 538).
(3)
الاختيارات 39.