الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكم الخامس والأربعون
متى يخرج العبد من حد الغفلة التي تردي صاحبها وتهلكه؟، وقبل هذا نذكر متى يكون من الذاكرين لله كثيرًا.
صح من طرق: (1) عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد رحمه الله أنه، قال: لا يكون من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات حتى يذكر الله قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا.
وسئل أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله عن القدر الذي يصير به من الذاكرين كثيرًا والذاكرات، فقال: إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحًا ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلًا ونهارًا، كان من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، والله أعلم. (2)
وأما حد الغفلة ومتى ينجو منها العبد، فقد قال ابن القيم في الجواب الكافي (3) ما نصه: وأصل هذا كله: أن القلب كلما كان أبعد
(1) الزهد والرقائق لابن المبارك (رقم: 938) تفسير ابن أبي حاتم (رقم: 11275) تفسير القرآن لعبد الرزاق الصنعاني 3/ 117.
(2)
الأذكار للنووي 114 - 126.
(3)
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص 79.
من الله كانت الآفات إليه أسرع، وكلما قرب من الله بعدت عنه الآفات.
والبعد من الله مراتب، بعضها أشد من بعض، فالغفلة تبعد القلب عن الله، وبعد المعصية أعظم من بعد الغفلة، وبعد البدعة أعظم من بعد المعصية، وبعد النفاق والشرك أعظم من ذلك كله .. ا. هـ.
وقال في الوابل الصيب (1) ما نصه: فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبًا على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل؛ لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم فلم تظهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه.
فإذا تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقًا ولا ينكر باطلًا، وهذا أعظم عقوبات القلب. ا. هـ.
قال أبو محمد: ومن مكملات الجواب عن هذا السؤال أن نقول: أخرج مسلم في صحيحة: (2) من طريق معاوية وهو ابن سلام، عن زيد - يعني أخاه - أنه سمع أبا سلام، قال: حدثني الحكم بن ميناء، أن عبد الله بن عمر، وأبا هريرة حدثاه، أنِما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول على أعواد منبره:«لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين» .
وبوب عليه ابن حبان: (3) ذكر الأمر بالمواظبة على الجمعات للمرء مخافة من أن يكتب من الغافلين.
(1) الوابل الصيب من الكلم الطيب ص 40.
(2)
مسلم (رقم: 865).
(3)
صحيح ابن حبان 7/ 25.
وأخرج أبو داود (1) بسند صحيح: من طريق ابن وهب، أخبرنا عمرو، أن أبا سوية، حدثه، أنه سمع ابن حجيرة، يخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» قال أبو داود: ابن حجيرة الأصغر عبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة».
وبوب عليه ابن حبان في صحيحة: (2) ذكر نفي الغفلة عمن قام الليل بعشر آيات.
أخرج ابن خزيمة: (3) من طريق علي بن الحسن بن شقيق، أخبرنا أبو حمزة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ في ليلة مائة آية لم يكتب من الغافلين، أو كتب من القانتين» وأبو حمزة هو السكري محمد بن ميمون. والخبر يدل على خروج المحافظ على الصلوات الخمس عن كونه غافلًا.
ونظير ذلك أني سمعت شيخنا ابن باز، وقد سئل عن هجر القرآن، فقال: من يصلي الفرائض فليس بهاجر للقرآن فإنه يقرؤه فيها. ا. هـ. كلامه.
وقال الطبري في تفسيره: (4) حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عمر أبو حفص الآبار، عن منصور بن المعتمر، قال: قال
(1) أبو داود (رقم: 1398).
(2)
صحيح ابن حبان 6/ 310.
(3)
ابن خزيمة (رقم: 1142).
(4)
تفسير الطبري 15/ 569.
مسروق: لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس، فيكتب من الغافلين.
قال في مرعاة المفاتيح: (1) قوله: «من قام بعشر آيات» أي: أخذها بقوة وعزم من غير فتور ولا توانٍ، من قولهم قام بالأمر، فهو كناية عن حفظها والدوام على قراءتها والتفكر في معانيها والعمل بمقتضاها، وإليه الإشارة بقوله: لم يكتب من الغافلين، ولا شك أن قراءة القرآن في كل وقت لها مزايا وفضائل، وأعلاها أن يكون في الصلاة لاسيما في الليل قال تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6]. ومن ثم أورد محي السنة الحديث في باب صلاة الليل، قاله الطيبي: وحاصلة أن الحديث مطلق غير مقيد لا بصلاة ولا بليل، فينبغي أن يحمل على أدنى مراتبه، ويدل عليه قوله لم يكتب من الغافلين، وإنما ذكره البغوي في محل الأكمل. وقال ابن حجر: أي يقرأها في ركعتين أو أكثر، وظاهر السياق أن المراد غير الفاتحة- انتهى. قلت: تفسير قام يصلي أي بالقراءة في الصلاة بالليل في هذا المقام هو الظاهر بل هو المتعين، لما روى ابن خزيمة في صحيحة (2) والحاكم (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ:«من صلى في ليلة بمائة آية لم يكتب من الغافلين، ومن صلى في ليلة بمائتي آية فإنه يكتب من القانتين المخلصين» . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضًا البزار، لكن في سنده يوسف بن خالد السمتي، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في مجمع
(1) مرعاة المفاتيح 4/ 187.
(2)
مجمع الزوائد 2/ 267.
(3)
سورة النور آية 37.
الزوائد: (1)«لم يكتب من الغافلين» أي: لم يثبت اسمه في صحيفة الغافلين. وقيل: أي خرج من زمرة الغفلة من العامة ودخل في زمرة {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37].ا. هـ.
فعلم من هذا أن الغفلة تدفع بالذكر قال في المدارج: (2) تفصيل أوجه الذكر في القرآن.
فصل في تفصيل ذلك:
1 -
أما الأول: فكقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41 - 43]. وَقَوْلهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205].
وفيه قولان: أحدهما: في سرك وقلبك، والثاني: بلسانك بحيث تسمع نفسك.
2 -
وأما النهي عن ضده: فكقوله: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]. وَقَوْلهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19].
وقال أيضًا: (3) قال: والذكر: هو التخلص من الغفلة والنسيان.
(1) مدارج السالكين 2/ 397.
(2)
المستدرك على الصحيحين للحاكم (رقم: 1161).
(3)
مدارج السالكين 2/ 405.
والفرق بين الغفلة والنسيان: أن الغفلة ترك باختيار الغافل، والنسيان ترك.
وقال: (1) والمقصود: أن الغفلة هي نوم القلب عن طلب هذه الحياة، وهي حجاب عليه، فإن كشف هذا الحجاب بالذكر وإلا تكاثف حتى يصير حجاب بطالة ولعب واشتغال بما لا يفيد، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب معاص وذنوب صغار تبعده عن الله، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب كبائر توجب مقت الرب تعالى له وغضبه ولعنته، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب بدع عملية يعذب العامل فيها نفسه، ولا تجدي عليه شيئًا، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب بدع قوليه اعتقاديه؛ تتضمن الكذب على الله ورسوله، والتكذيب بالحق الذي جاء به الرسول، فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب شك وتكذيب؛ يقدح في أصول الإيمان. الخ كلامه.
قلت: وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. وقال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29]. فأمر بالإعراض عن أهل الغفلة وترك طاعتهم.
ويمكن تلخيص القول بأن من يشهد الفرائض خرج من الغفلة المذمومة، ولكن لا يكون من الذاكرين كثيرًا كما تقدم في ضبط من يكون كذلك والله المستعان.
(1) مدارج السالكين 3/ 267.