المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الحكم الأول

- ‌الحكم الثاني

- ‌الحكم الثالث

- ‌الحكم الرابع

- ‌الحكم الخامس

- ‌الحكم السادس

- ‌الحكم السابع

- ‌الحكم الثامن

- ‌الحكم التاسع

- ‌الحكم العاشر

- ‌الحكم الحادي عشر

- ‌الحكم الثاني عشر

- ‌الحكم الثالث عشر

- ‌الحكم الرابع عشر

- ‌الحكم الخامس عشر

- ‌الحكم السادس عشر

- ‌الحكم السابع عشر

- ‌الحكم الثامن عشر

- ‌الحكم التاسع عشر

- ‌الحكم العشرون

- ‌الحكم الواحد والعشرون

- ‌الحكم الثاني والعشرون

- ‌الحكم الثالث والعشرون

- ‌الحكم الرابع والعشرون

- ‌الحكم الخامس والعشرون

- ‌الحكم السادس والعشرون

- ‌الحكم السابع والعشرون

- ‌الحكم الثامن والعشرون

- ‌الحكم التاسع والعشرون

- ‌الحكم الثلاثون

- ‌الحكم الواحد والثلاثون

- ‌الحكم الثاني والثلاثون

- ‌الحكم الثالث والثلاثون

- ‌الحكم الرابع والثلاثون

- ‌الحكم الخامس والثلاثون

- ‌الحكم السادس والثلاثون

- ‌الحكم السابع والثلاثون

- ‌الحكم الثامن والثلاثون

- ‌الحكم التاسع والثلاثون

- ‌الحكم الأربعون

- ‌الحكم الواحد والأربعون

- ‌الحكم الثاني والأربعون

- ‌الحكم الثالث والأربعون

- ‌الحكم الرابع والأربعون

- ‌الحكم الخامس والأربعون

- ‌الحكم السادس والأربعون

- ‌الحكم السابع والأربعون

- ‌الحكم الثامن والأربعون

- ‌الحكم التاسع والأربعون

- ‌الحكم الخمسون

الفصل: ‌الحكم الواحد والثلاثون

‌الحكم الواحد والثلاثون

يجب صون محال الذكر ومجالسه من القواطع والمفسدات والمشوشات، حتى تتم الفائدة، ولذا روى مسلم عن هريرة رضي الله عنه، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا» ولفظه عند الترمذي (1) وغيره (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك» .

وفي صحيح مسلم: (3) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليلني منكم، أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثلاثا، وإياكم وهيشات الأسواق»

(1) أخرجه الترمذي (رقم: 1321) وقال: حسن غريب.

(2)

أخرجه أحمد (رقم: 8572) ومسلم (رقم: 568) وأبو داود (رقم: 473) والنسائي (رقم: 10004) وابن ماجه (رقم: 767) ابن خزيمة (رقم: 1302) وأبو عوانة (رقم: 1212) وابن حبان (رقم: 1651) والبيهقي (رقم: 4140).

(3)

مسلم (قم: 432).

ص: 223

فائدة: أخرج أحمد في مسنده: (1) قال: حدثنا خلف، حدثنا خالد، عن مطر، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه: أن رسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يرفع الرجل صوته بالقراءة قبل العشاء وبعدها، يغلط أصحابه وهم يصلون. والحارث ضعيف، وله شاهد عند أحمد:(2) من طريق معمر، عن صدقة المكي، عن عبد الله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف وخطب الناس فقال:«أما إن أحدكم إذا قام في الصلاة، فإنه يناجي ربه، فليعلم أحدكم ما يناجي ربه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة في الصلاة» .

وأخرج أحمد وأبو داود: (3) من طريق معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة وهو في قبة له، فكشف الستور، وقال:«إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة» ، أو قال:«في الصلاة» وهو خبر ثابت.

وخرج مالك في موطئه: (4) عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي حازم التمار، عن البياضي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون، وقد علت أصواتهم بالقراءة، وقال: إن المصلي يناجي ربه فلينظر ما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن.

وأخرجه أحمد من طريق مالك. (5)

(1) أحمد (رقم: 663).

(2)

أحمد (رقم: 4928).

(3)

أخرجه أحمد (رقم: 11896) وأبو داود (رقم: 1334).

(4)

موطأ مالك (رقم: 264).

(5)

مسند أحمد (رقم: 19022).

ص: 224

فائدة: قال في التمهيد (1) ما نصه: وقال ابن عيينة: إنما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخميصة إلى أبي جهم؛ لأنه كرهها إذ كانت سبب غفلة، وشغل عن ذكر الله كما فعل في الموضع الذي نام فيه عن الصلاة، لما نال فيه الشيطان منهم من الغفلة، قال: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعث إلى أبي جهم بشيء يكرهه لنفسه، ألم تسمع قوله لعائشة:«لا تتصدقي بما لا تأكلين» (2) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى خلق الله على أمر الله على أمر الله، وعلى رد كل وسوسة، ولكنه كرهها وأبغضها إذ كانت سبب الغفلة عن الذكر. ا. هـ.

فائدة: أخرج أحمد في مسنده: (3) من طريق شريك، وزائدة فرقه في موضعين؛ كلاهما عن عبد الملك بن عمير، عن أبي روح الكلاعي، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، فقرأ فيها سورة الروم، فلب س بعضها، قال:«إنما لبس علينا الشيطان، القراءة من أجل أقوام يأتون الصلاة بغير وضوء، فإذا أتيتم الصلاة فأحسنوا الوضوء» .

وهذا مرسل فإن أبا روح تابعي، ورواه أحمد:(4) من طريق شعبة، والثوري فرقه في موضعين كلاهما عن عبد الملك بن عمير، قال: سمعت شبيبًا أبا روح يحدث، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: صلى الصبح فقرأ فيها الروم فأوهم، فذكره هكذا موصولًا وهو أصح ..

(1) التمهيد 20/ 109.

(2)

أخرجه الطبراني في الأوسط (رقم: 1832). قال الهيثمي (3/ 113): فيه خالد القسري، وفيه كلام.

(3)

أحمد (رقم: 15872 - 15874).

(4)

أحمد (رقم: 15873 - 23072).

ص: 225

وكذا أخرجه النسائي (1) من طريق الثوري، وأبو روح يقال اسمه شبيب، وقد روى عنه حريز بن عثمان، وقد قال أبو داود شيوخ حريز بن عثمان كلهم ثقات.

قال في الوهم والإيهام: (2) قال ابن الجارود، عن محمد بن يحيى الذهلي: هذا شعبة، وعبد الملك بن عمير في جلالتهما يرويان عن شبيب أبي روح، وروى عنه أيضا حريز بن عثمان. هذا كله غير كافي المبتغى من عدالته فاعلمه. ا. هـ.

والخبر أعله ابن عبد البر في التمهيد بالاضطراب.

قلت: ويخشى أيضا من تخاليط عبد الملك بن عمير، وغلطه فقد وصفه أحمد بكثرة ذلك، مع ما في المتن من الغرابة، فأنى له الثبوت؟ والخبر ذكره ابن كثير في تفسيره (3)، وقال: وهذا إسناد حسن، ومتن حسن، وفيه سر عجيب، ونبأ غريب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم تأثر بنقصان وضوء من ائتم به، فدل ذلك على أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام

قال أبو محمد: وقوله إسناد حسن ليس بحسن.

وقال في موضع آخر: (4) فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها.

وقال السندي في حاشيته على المسند ما نصه: قوله: «فلبس» بالتخفيف أو التشديد، أي: خلط.

(1) النسائي (رقم 947).

(2)

الوهم والإيهام 5/ 31.

(3)

تفسير ابن كثير ط العلمية 6/ 294.

(4)

تفسير ابن كثير ط العلمية 4/ 189.

ص: 226

«بغير وضوء» أي: حسن، بقرينة: فأحسنوا الوضوء، ويحتمل أن بعض المنافقين ما كانوا يتوضؤون من الأصل. وبالجملة، فهذا من صفاء قلبه صلى الله عليه حيث ظهر له أثر قلة مراعاتهم آداب الطهارة، كالمرآة المجلوة، والله أعلم. ا. هـ.

فائدة: قال ابن القيم في المدارج (1) ما نصه: فإن قيل: ما تقولون في صلاة من عدم خشوع هل يعتد بها أم لا؟

قيل: أما الاعتداد بها في الثواب فلا يعتد له فيها إلا بما عقل فيه منها، وخشع فيه لربه.

قال ابن عباس رضي الله عنه: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها.

وفي المسند (2) مرفوعا: «إن العبد ليصلي الصلاة، ولم يكتب له إلا نصفها، أو ثلثها، أو ربعها حتى بلغ عشرها» .

وقد علق الله فلاح المصلين بالخشوع في صلاتهم، فدل على أن من لم يخشع فليس من أهل الفلاح، ولو اعتد له بها ثوابا لكان من المفلحين.

وأما الاعتداد بها في أحكام الدنيا، وسقوط القضاء فإن غلب عليها الخشوع وتعقلها اعتد بها إجماعًا، وكانت السنن، والأذكار عقيبها جوابر ومكملات لنقصها.

(1) مدارج السالكين 1/ 521.

(2)

لم أجده بهذا النص. والموجود عند أحمد (رقم: 18894) عن عبد الله بن عنمة قال: رأيت عمار بن ياسر دخل المسجد فصلى، فأخف الصلاة، قال: فلما خرج قمت إليه، فقلت: يا أبا اليقظان لقد خففت قال: فهل رأيتني انتقصت من حدودها شيئًا؟ قلت: لا، قال: فإني بادرت بها سهوة الشيطان. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها.

ص: 227

وإن غلب عليه عدم الخشوع فيها، وعدم تعقلها، فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادتها، فأوجبها أبو عبد الله بن حامد من أصحاب أحمد، وأبو حامد الغزالي في إحيائه، لا في وسيطه وبسيطه. واحتجوا بأنها صلاة لا يثاب عليها، ولم يضمن له فيها الفلاح، فلم تبرأ ذمته منها، ويسقط القضاء عنه كصلاة المرائي.

قالوا: ولأن الخشوع والعقل روح الصلاة ومقصودها ولُبُّها، فكيف يعتد بصلاة فقدت روحها ولبُّها، وبقيت صورتها وظاهرها؟.

قالوا: ولو ترك العبد واجبًا من واجباتها عمدا لأبطلها تركه. وغايته: أن يكون بعضا من أبعاضها بمنزلة فوات عضو من أعضاء العبد المعتق في الكفارة، فكيف إذا عدمت روحها، ولبها ومقصودها؟ وصارت بمنزلة العبد الميت، إذا لم يعتد بالعبد المقطوع اليد، يعتقه تقربًا إلى الله تعالى في كفارة واجبة، فكيف يعتد بالعبد الميت.

وقال بعض السلف: الصلاة كجارية تهدى إلى ملك من الملوك، فما الظن بمن يهدي إليه جارية شلاء، أو عوراء، أو عمياء، أو مقطوعة اليد والرجل، أو مريضة، أو دميمة، أو قبيحة، حتى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح وجارية قبيحة، فكيف بالصلاة التي يهديها العبد، ويتقرب بها إلى ربه تعالى؟ والله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وليس من العمل الطيب صلاة لا روح فيها، كما أنه ليس من العتق الطيب عتق عبد لا روح فيه.

قالوا: وتعطيل القلب عن عبودية الحضور والخشوع: تعطيل لملك الأعضاء عن عبوديته، وعزل له عنها، فماذا تغني طاعة الرعية وعبوديتها، وقد عزل ملكها وتعطل؟.

قالوا: والأعضاء تابعة للقلب، تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده،

ص: 228

فإذا لم يكن قائمًا بعبوديته، فالأعضاء أولى أن لا يعتد بعبوديتها، وإذا فسدت عبوديته بالغفلة والوسواس فأنى تصح عبودية رعيته وجنده ومادتهم منه، وعن أمره يصدرون، وبه يأتمرون؟.

قالوا: وفي الترمذي وغيره (1)، مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل» وهذا إما خاص بدعاء العبادة، وإما عام له ولدعاء المسألة، وإما خاص بدعاء المسألة الذي هو أبعد، فهو تنبيه على أنه لا يقبل دعاء العبادة الذي هو خاص حقه من قلب غافل.

قالوا: ولأن عبودية من غلبت عليه الغفلة والسهو في الغالب لا تكون مصاحبة للإخلاص، فإن الإخلاص قصد المعبود وحده بالتعبد. والغافل لا قصد له، فلا عبودية له.

قالوا: وقد قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5]. وليس السهو عنها تركها، وإلا لم يكونوا مصلين، وإنما هو السهو عن واجبها إما عن الوقت كما قال ابن مسعود وغيره، وإما عن الحضور والخشوع، والصواب أنه يعم النوعين، فإنه سبحانه أثبت لهم صلاة، ووصفهم بالسهو عنها فهو السهو عن وقتها الواجب، أو عن إخلاصها وحضورها الواجب، ولذلك وصفهم بالرياء، ولو كان السهو سهو ترك لما كان هناك رياء.

قالوا: ولو قدرنا أنه السهو عن واجب فقط، فهو تنبيه على

(1) أخرجه الترمذي (رقم: 3479) وقال: حديث غريب. والحاكم (رقم: 1817) وقال: مستقيم الإسناد. وتعقبه الذهبي في التلخيص بأن فيه صالح المري متروك. وأخرجه أيضًا: ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (4/ 75)، والطبراني في الأوسط (رقم: 5109) وابن عدي (4/ 60، ترجمة 912 صالح بن بشير أبو بشر المري) وقال: قال البخاري: منكر الحديث، والرافعي (3/ 329).

ص: 229

التوعد بالويل على سهو الإخلاص والحضور بطريق الأولى لوجوه:

أحدها: أن الوقت يسقط في حال العذر، وينتقل إلى بدله، والإخلاص والحضور لا يسقط بحال، ولا بدل له.

الثاني: أن واجب الوقت يسقط لتكميل مصلحة الحضور، فيجوز الجمع بين الصلاتين للشغل المانع من فعل إحداهما في وقتها بلا قلب ولا حضور، كالمسافر، والمريض، وذي الشغل الذي يحتاج معه إلى الجمع، كما نص عليه أحمد وغيره.

فبالجملة: مصلحة الإخلاص والحضور، وجمعية القلب على الله في الصلاة أرجح في نظر الشارع من مصلحة سائر واجباتها، فكيف يظن به أنه يبطلها بترك تكبيرة واحدة، أو اعتدال في ركن، أو ترك حرف، أو شدة من القرآن، أو ترك تسبيحة أو قول سمع الله لمن حمده أو قول ربنا ولك الحمد أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه، ثم يصححها مع فوت لُبها، ومقصودها الأعظم، وروحها وسرها.

فهذا ما احتجت به هذه الطائفة، وهي حجج كما تراها قوة وظهورًا.

قال أصحاب القول الآخر: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح (1) أنه قال: «إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان، وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثوب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وبين نفسه، فيذكره ما لم يكن يذكر، ويقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل

(1) البخاري (رقم: 1222) ومسلم (رقم: 389).

ص: 230

الرجل لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس».

قالوا: فأمره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة التي قد أغفله الشيطان فيها، حتى لم يدر كم صلى بأن يسجد سجدتي السهو، ولم يأمره بإعادتها، ولو كانت باطلة كما زعمتم لأمره بإعادتها.

قالوا: وهذا هو السر في سجدتي السهو، ترغيما للشيطان في وسوسته للعبد، وكونه حال بينه وبين الحضور في الصلاة. ولهذا سماهما النبي صلى الله عليه وسلم:«المرغمتين» (1)، وأمر من سها بهما ولم يفصل في سهوه الذي صدر عنه موجب السجود بين القليل والكثير، والغالب والمغلوب، وقال «لكل سهو سجدتان» (2) ولم يستثن من ذلك السهو الغالب، مع أنه الغالب.

قالوا: ولأن شرائع الإسلام على الأفعال الظاهرة، وأما حقائق الإيمان الباطنة فتلك عليها شرائع الثواب والعقاب، فلله تعالى حكمان: حكم في الدنيا على الشرائع الظاهرة وأعمال الجوارح، وحكم في الآخرة على الظواهر والبواطن، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانية المنافقين، ويكل أسرارهم إلى الله فيناكحون، ويرثون ويورثون، ويعتد بصلاتهم في أحكام الدنيا، فلا يكون حكمهم حكم تارك الصلاة، إذ قد أتوا بصورتها الظاهرة، وأحكام الثواب والعقاب ليست إلى البشر، بل إلى الله، والله يتولاه في الدار الآخرة.

(1) أبو داود (رقم: 1027) وابن خزيمة (رقم: 1063).

(2)

أخرجه الطيالسي (رقم: 997) وعبد الرزاق (رقم: 3533) وابن ابي شيبة (رقم: 4483) وأحمد (رقم: 22470) وأبو دواد (رقم: 1038) وابن ماجه (رقم: 1219) والطبراني (رقم: 1412) والبيهقي (رقم: 3638).

ص: 231

نعم لا يحصل مقصود هذه الصلاة من ثواب الله عاجلًا ولا آجلا، فإن للصلاة مزيد ثواب عاجل في القلب من قوة إيمانه، واستنارته، وانشراحه وانفساحه ووجود حلاوة العبادة، والفرح والسرور، واللذة التي تحصل لمن اجتمع همه وقلبه على الله، وحضر قلبه بين يديه، كما يحصل لمن قربه السلطان منه، وخصه بمناجاته والإقبال عليه والله أعلى وأجل.

وكذلك ما يحصل لهذا من الدرجات العلى في الآخرة، ومرافقة المقربين.

كل هذا يفوته بفوات الحضور والخضوع، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، وليس كلامنا في هذا كله.

فإن أردتم وجوب الإعادة لتحصل هذه الثمرات والفوائد فذاك إليه إن شاء أن يحصلها وإن شاء أن يفوتها على نفسه، وإن أردتم بوجوبها أنا نلزمه بها ونعاقبه على تركها، ونرتب عليه أحكام تارك الصلاة فلا.

وهذا القول الثاني أرجح القولين، والله أعلم. ا. هـ.

ص: 232