الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} [فاطر: 32] الْآيَةَ، وَالْإِرْثُ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ مَخْصُوصًا بِهِ فَنَعْمَلُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام وَلِقَوْلِهِ: عليه السلام «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» ، وَمَا ذَكَرُوا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْأُصُولِ بَلْ فِي الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ لَيْسَ تَغْيِيرًا بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِمُدَّةِ الْحُكْمِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا هَذَا لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَبْقَ الِاعْتِمَادُ عَلَى كُتُبِهِمْ لِلتَّحْرِيفِ شَرَطْنَا أَنْ يَقُصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ.
(فَصْلٌ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ يَجِبُ إجْمَاعًا فِيمَا شَاعَ فَسَكَتُوا مُسَلِّمِينَ، وَلَا يَجِبُ إجْمَاعًا فِيمَا ثَبَتَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمَا) ، وَهُوَ مَا لَمْ يُعْلَمْ اتِّفَاقُهُمْ، وَلَا اخْتِلَافُهُمْ.
(فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرْفَعْهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ، وَفِي الِاجْتِهَادِ هُمْ وَسَائِرُ الْمُجْتَهِدِينَ سَوَاءٌ) لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى
ــ
[التلويح]
أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ الْقِيَاسُ بِقَوْلِ التَّابِعِيِّ.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابِيِّ حَتَّى لَا يَتِمَّ إجْمَاعُهُمْ مَعَ خِلَافِهِ فَعِنْدَنَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُعْتَدُّ بِهِ
[بَابُ الْبَيَانِ]
(قَوْلُهُ: بَابُ الْبَيَانِ، وَيَلْحَقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْبَيَانُ) وَهُوَ يُشَارِكُ الْعَامَّ، وَالْخَاصَّ وَالْمُشْتَرَكَ وَنَحْوَهَا مِنْ جِهَةِ جَرَيَانِهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَهَا، وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْبَيَانِ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ الْبَيَانُ يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الْمُبَيِّنِ كَالسَّلَامِ، وَالْكَلَامِ، وَعَلَى مَا حَصَلَ بِهِ التَّبْيِينُ كَالدَّلِيلِ، وَعَلَى مُتَعَلَّقِ التَّبْيِينِ وَمَحَلِّهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ وَبِالنَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ قِيلَ هُوَ: إيضَاحُ الْمَقْصُودِ، وَقِيلَ الدَّلِيلُ، وَقِيلَ الْعِلْمُ عَنْ الدَّلِيلِ، وَإِلَى الْأَوَّلِ ذَهَبَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَحَصَرَهُ فِي بَيَانِ الضَّرُورَةِ وَبَيَانِ التَّبْدِيلِ، وَبَيَانِ التَّفْسِيرِ وَبَيَانِ التَّغْيِيرِ، وَبَيَانِ التَّقْرِيرِ وَذَكَرَ فِيهِ وَجْهَ ضَبْطٍ وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ، وَالتَّعْلِيقَ بَيَانَ تَبْدِيلٍ وَلَمْ يَجْعَلْ النَّسْخَ مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِلْحُكْمِ لَا إظْهَارٌ لِحُكْمِ الْحَادِثَةِ إلَّا أَنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْتَبَرَ كَوْنَهُ إظْهَارًا لِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْبَيَانِ مُجَرَّدُ إظْهَارِ الْمَقْصُودِ فَالنَّسْخُ بَيَانٌ وَكَذَا غَيْرُهُ مِنْ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ ابْتِدَاءً.
وَإِنْ أُرِيدَ إظْهَارُ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَلَامٍ سَابِقٍ فَلَيْسَ بَيَانًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ إظْهَارُ الْمُرَادِ بَعْدَ سَبْقِ كَلَامٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ لِيَشْمَلَ النَّسْخَ دُونَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ ابْتِدَاءً مِثْلَ {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] ثُمَّ التَّخْصِيصُ أَيْضًا مِنْ بَيَانِ التَّغْيِيرِ إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَ ذِكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبَحْثِ وَالتَّفْصِيلِ وَلَمْ يَعُدَّهُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالشَّرْطِ، وَالصِّفَةِ، وَالْغَايَةِ فَإِنْ قِيلَ الْغَايَةُ أَيْضًا بَيَانٌ لِلْمُدَّةِ فَكَيْفَ جَعَلَهَا بَيَانًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ إلَّا لِلَازِمِهِ قُلْنَا النَّسْخُ بَيَانٌ لِمُدَّةِ بَقَاءِ الْحُكْمِ لَا لِشَيْءٍ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ وَمُرَادِهِ بِهِ بِخِلَافِ الْغَايَةِ فَإِنَّهَا بَيَانٌ لِمُدَّةِ مَعْنًى هُوَ مَدْلُولُ الْكَلَامِ حَتَّى
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ.
(وَعِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ يَجِبُ لِقَوْلِهِ: عليه السلام «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ إنْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي» ) تَمَامُ الْحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
(وَلِأَنَّ أَكَثَرَ أَقْوَالِهِمْ مَسْمُوعٌ مِنْ حَضْرَةِ الرِّسَالَةِ، وَإِنْ اجْتَهَدُوا فَرَأْيُهُمْ أَصْوَبُ؛ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا مَوَارِدَ النُّصُوصِ وَلِتَقَدُّمِهِمْ فِي الدِّينِ، وَبَرَكَةِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ عليه السلام وَكَوْنِهِمْ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ، وَعِنْدَ الْكَرْخِيِّ يَجِبُ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ إلَّا السَّمَاعُ أَوْ الْكَذِبُ. وَالثَّانِي مُنْتَفٍ لَا فِيمَا يُدْرَكُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ مِنْهُمْ مَشْهُورٌ، وَالْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ، وَيُصِيبُ، وَالِاقْتِدَاءُ فِي الْبَعْضِ بِمَا ذَكَرْنَا)
أَيْ: الِاقْتِدَاءُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِأَنْ نُقَلِّدَهُمْ، وَنَأْخُذَ بِقَوْلِهِمْ (وَفِي الْبَعْضِ) أَيْ: فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ (بِأَنْ
ــ
[التلويح]
لَا يَتِمَّ الْكَلَامُ بِدُونِ اعْتِبَارِهِ مِثْلَ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَلِهَذَا جَعَلَ الْغَايَةَ بَيَانًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ دُونَ مُدَّةِ بَقَاءِ الْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْكَلَامِ ثُمَّ كَوْنُ النَّسْخِ تَبْدِيلًا إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا حَيْثُ نَفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ الْحُكْمِ التَّأْبِيدَ.
(قَوْلُهُ: فَلَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ) أَيْ: تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ دُونَ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ، وَالْكِتَابُ قَطْعِيٌّ، فَلَا يُخَصِّصُهُ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ تَغْيِيرٌ وَتَغْيِيرُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَا يُسَاوِيهِ أَوْ يَكُونُ بِمَا فَوْقَهُ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ قَطْعِيٌّ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ، وَإِلَّا فَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ عَامَّ الْكِتَابِ قَطْعِيُّ الْمَتْنِ لَا الدَّلَالَةِ، وَالتَّخْصِيصُ إنَّمَا يَقَعُ فِي الدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ رَفْعُ الدَّلَالَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ فَيَكُونُ تَرْكُ ظَنِّيٍّ بِظَنِّيٍّ وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى الْكِتَابُ قَطْعِيُّ الْمَتْنِ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ، وَالْخَبَرُ بِالْعَكْسِ فَكَانَ لِكُلٍّ قُوَّةٌ مِنْ وَجْهٍ فَوَجَبَ الْجَمْعُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ الْخَبَرِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُخَصِّصُونَ الْكِتَابَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا عَلَى جَوَازِهِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَطْعِيٌّ عِنْدَ الصَّحَابِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَاتِرِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ عليه السلام مَعَ أَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يُخَصِّصُونَ الْكِتَابَ بِالْخَبَرِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ بِقَطْعِيٍّ مِنْ إجْمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ يَصِيرُ ظَنِّيًّا، وَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسِ.
(قَوْلُهُ: وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ) إلَّا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ، وَلَا اعْتِدَادَ بِهِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] وَلَمْ يَنْزِلْ {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] فَكَانَ أَحَدُنَا إذَا أَرَادَ الصَّوْمَ وَضَعَ عِقَالَيْنِ أَبْيَضَ، وَأَسْوَدَ وَكَانَ يَأْكُلُ، وَيَشْرَبُ حَتَّى يَتَبَيَّنَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الصَّنِيعَ كَانَ فِي غَيْرِ الْفَرْضِ مِنْ الصَّوْمِ، وَوَقْتُ الْحَاجَةِ إنَّمَا هُوَ الصَّوْمُ الْفَرْضُ.
(قَوْلُهُ: فَبَيَانُ التَّقْرِيرِ، وَالتَّفْسِيرِ يَجُوزُ مَوْصُولًا وَمُتَرَاخِيًا اتِّفَاقًا) أَيْ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِلَّا فَعِنْدَ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ عَنْ وَقْتِ
نَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ) أَيْ: فِي الِاجْتِهَادِ (وَنَجْتَهِدَ كَمَا اجْتَهَدُوا) ، وَهَذَا اقْتِدَاءٌ أَيْضًا، وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: عليه السلام «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ» .
(وَأَيْضًا كُلُّ مَا ثَبَتَ فِيهِ اتِّفَاقُ الشَّيْخَيْنِ يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَأَمَّا التَّابِعِيُّ فَإِنْ ظَهَرَ فَتْوَاهُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ كَالصَّحَابِيِّ عِنْدَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُمْ بِتَسْلِيمِهِمْ إيَّاهُ دَخَلَ فِي جُمْلَتِهِمْ كَشُرَيْحٍ خَالَفَ عَلِيًّا رضي الله عنه وَرَدَّ شَهَادَةَ الْحَسَنِ لَهُ) وَكَانَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ قَبُولَ شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ.
(وَابْنُ عَبَّاسٍ رَجَعَ إلَى فَتْوَى مَسْرُوقٍ فِي النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ) وَكَانَ مَذْهَبُهُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ إذْ هِيَ الدِّيَةُ فَرَجَعَ إلَى فَتْوَى مَسْرُوقٍ، وَهِيَ أَنْ يَجِبَ ذَبْحُ شَاةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ الْبَيَانِ، وَيَلْحَقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْبَيَانُ، وَهُوَ إظْهَارُ الْمُرَادِ، وَهُوَ إمَّا بِالْمَنْطُوقِ أَوْ غَيْرِهِ الثَّانِي بَيَانُ ضَرُورَةٍ وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ أَوْ اللَّازِمِ لَهُ كَالْمُدَّةِ. الثَّانِي بَيَانُ تَبْدِيلٍ. وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَا تَغْيِيرٍ أَوْ مَعَهُ. الثَّانِي بَيَانُ تَغْيِيرٍ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَالْغَايَةِ. وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَعْلُومًا
ــ
[التلويح]
الْخِطَابِ.
فَإِنْ قُلْت فَمَا فَائِدَةُ الْخِطَابِ عَلَى تَقْدِيرِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ؟ قُلْتُ فَائِدَتُهُ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ، وَالتَّهَيُّؤُ لَهُ عِنْدَ وُرُودِ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ مِنْهُ أَحَدُ الْمَدْلُولَاتِ بِخِلَافِ الْخِطَابِ بِالْمُهْمَلِ فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ مَا أَصْلًا وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَرَاخِي بَيَانِ التَّفْسِيرِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] أَيْ: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ فَتُكَرِّرُ فِيهِ حَتَّى يَتَرَسَّخَ فِي ذِهْنِكَ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ مِنْ مَعَانِيهِ، وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى بَيَانِ التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ هُوَ الْإِيضَاحُ وَرَفْعُ الِاشْتِبَاهِ، وَأَمَّا تَسْمِيَةُ التَّغْيِيرِ بَيَانًا فَاصْطِلَاحًا وَلَوْ سُلِّمَ فَبَيَانُ التَّفْسِيرِ مُرَادٌ إجْمَاعًا، فَلَا يُرَادُ غَيْرُهُ دَفْعًا لِعُمُومِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَلَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ فَبَيَانُ التَّغْيِيرِ، وَقَدْ خُصَّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ.
(قَوْلُهُ: وَبَيَانُ التَّغْيِيرِ) إنْ كَانَ بِمُسْتَقِلٍّ فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ مُنْفَصِلًا حَتَّى لَا يَضُرَّ قَطْعُهُ بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَجُوزُ مُتَرَاخِيًا تَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ: عليه السلام «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ» الْحَدِيثَ وَجْهُ التَّمَسُّكِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الِانْفِصَالُ لَمَا أَوْجَبَ النَّبِيُّ عليه السلام التَّكْفِيرَ مُعَيِّنًا بَلْ قَالَ فَلْيَسْتَثْنِ أَوْ يُكَفِّرْ فَأَوْجَبَ أَحَدَهُمَا لَا بِعَيْنِهِ إذْ لَا حِنْثَ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى التَّعْيِينِ بَلْ الْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّرَاخِي لَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ أَصْلًا لَا مُعَيِّنًا، وَلَا مُخْبِرًا فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَالَ «لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» ، وَأَيْضًا «سَأَلَهُ الْيَهُودُ عَنْ مُدَّةِ لُبْثِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فِي كَهْفِهِمْ فَقَالَ أُجِيبُكُمْ غَدًا فَتَأَخَّرَ الْوَحْيُ بِضْعَةَ عَشْرَ يَوْمًا ثُمَّ نَزَلَ {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24]
لَكِنَّ الثَّانِيَ أَكَّدَهُ بِمَا قَطَعَ الِاحْتِمَالَ أَوْ مَجْهُولًا كَالْمُشْتَرَكِ وَالْمُجْمَلِ. الثَّانِي بَيَانُ تَفْسِيرٍ وَالْأَوَّلُ بَيَانُ تَقْرِيرٍ فَبَيَانُ التَّقْرِيرِ وَالتَّفْسِيرِ يَجُوزُ لِلْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ دُونَ التَّغْيِيرِ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ، فَلَا يُغَيِّرُهُ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا عَلَى مَا سَبَقَ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهَلْ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ فَبَيَانُ التَّقْرِيرِ وَالتَّفْسِيرِ يَجُوزُ مَوْصُولًا، وَمُتَرَاخِيًا اتِّفَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وَبَيَانُ التَّغْيِيرِ لَا يَصِحُّ مُتَرَاخِيًا إلَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِقَوْلِهِ: عليه السلام «فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» الْحَدِيثَ) .
جَاءَ بِرِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَالْأُخْرَى «فَلْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» وَجْهُ التَّمَسُّكِ لَنَا أَنَّ
ــ
[التلويح]
فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ» فَقَدْ صَحَّ انْفِصَالُ الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ قَوْلِهِ: «أُجِيبُكُمْ غَدًا» بِأَيَّامٍ.
فَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ السُّكُوتَ الْعَارِضَ يُحْمَلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَحْوِ تَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام «إنْ شَاءَ اللَّهُ» لَا يَلْزَمُ أَنْ يَعُودَ إلَى قَوْلِهِ:«غَدًا أُجِيبُكُمْ» بَلْ مَعْنَاهُ أَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْ: أُعَلِّقُ كُلَّ مَا أَقُولُ لَهُ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا يُقَالُ لَك افْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَتَقُولُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ يَصِحُّ دَعْوَى نِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ.
وَلَوْ بَعْدَ شَهْرٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ مِنْ جَوَازِ اتِّصَالِ الِاسْتِثْنَائِيَّة وَإِنْ لَمْ تَقَعْ تَلَفُّظًا، فَإِنْ قِيلَ بَيَانُ التَّغْيِيرِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاتِّصَالِ مُشْتَمِلٌ عَلَى إثْبَاتِ شَيْءٍ وَنَفْيِهِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ تَغْيِيرًا فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى نَحْمِلُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ ذَلِكَ التَّنَافِي وَذَلِكَ لِأَنَّا لَا نَجْعَلُ الْمَجْمُوعَ كَلَامًا وَاحِدًا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ أَوْ الصِّفَةِ مَثَلًا وَسَاكِتًا عَنْ ثُبُوتِهِ وَنَفْيِهِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهِ حَتَّى لَوْ ثَبَتَ بِدَلِيلِهِ ثَبَتَ، وَلَوْ انْتَفَى انْتَفَى بِنَاءً عَلَى عَدَمِ دَلِيلِ الثُّبُوتِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي فَصْلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ.
فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى التَّغْيِيرِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قُلْتُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُفْهَمُ الْإِطْلَاقُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ ذِكْرِ الْمُغَيِّرِ فَبَعْدَ ذِكْرِهِ تَغَيَّرَ الْمُرَادُ الَّذِي كَانَ يَفْهَمُهُ السَّامِعُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُغَيِّرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ جَمِيعُ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ مِنْ قَبِيلِ بَيَانِ التَّغْيِيرِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ كَانَ أَوَّلًا لِلْإِيجَابِ وَبَعْدَ الْبَيَانِ صَارَ تَصَرُّفَ يَمِينٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِي بَعْضِ صُوَرِ الشَّرْطِ لَا غَيْرُ.
(قَوْلُهُ: وَاخْتُلِفَ فِي التَّخْصِيصِ بِالْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ) أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ مُتَرَاخِيًا أَمْ لَا وَذَكَرَ الْمُسْتَقِلَّ لِلتَّحْقِيقِ وَالتَّوْضِيحِ دُونَ التَّقْيِيدِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْكَلَامِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُسْتَقِلِّ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي جَوَازِ قَصْرِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِكَلَامٍ مُتَرَاخٍ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ تَخْصِيصٌ حَتَّى يَصِيرَ الْعَامُّ فِي الْبَاقِي ظَنِّيًّا أَوْ نَسْخٌ حَتَّى يَبْقَى قَطْعِيًّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ
النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ، وَلَوْ جَازَ بَيَانُ التَّغْيِيرِ مُتَرَاخِيًا لَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ أَصْلًا لِجَوَازِ أَنْ يَقُولَ: مُتَرَاخِيًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَبْطُلُ يَمِينُهُ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ.
(وَطَرِيقُهُ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ فَقُلْنَا الْكَلَامُ إذَا تَعَقَّبَهُ مُغَيِّرٌ تَوَقَّفَ عَلَى الْآخَرِ فَيَصِيرُ الْمَجْمُوعُ كَلَامًا وَاحِدًا كَمَا ذُكِرَ فِي الشَّرْطِ) أَيْ: فِي فَصْلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ كَلَامٌ وَاحِدٌ أَوْجَبَ الْحُكْمَ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ غَيْرِهِ.
(وَاخْتُلِفَ فِي التَّخْصِيصِ بِالْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصِحُّ مُتَرَاخِيًا، وَعِنْدَنَا لَا بَلْ يَكُونُ نَسْخًا) أَيْ: الْمُتَرَاخِي لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا بَلْ يَكُونُ نَسْخًا.
(لَهُ قِصَّةُ الْبَقَرَةِ) أَيْ: قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] يَعُمُّ الصَّفْرَاءَ وَغَيْرَهَا ثُمَّ خُصَّ مُتَرَاخِيًا وَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَقَرَةٌ مَخْصُوصَةٌ (وقَوْله تَعَالَى {وَأَهْلَكَ} [هود: 40] فِي قَوْله تَعَالَى لِنُوحٍ عليه السلام {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: 27] «وقَوْله تَعَالَى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]
ــ
[التلويح]
دَلِيلَ النَّسْخِ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ الِاسْتِقْلَالِ، وَالْمُقَارَنَةِ فِي التَّخْصِيصِ مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ مَعَ أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي التَّخْصِيصِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إنَّمَا هِيَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَالشَّرْطُ، وَالصِّفَةُ، وَالْغَايَةُ، وَيَدُلُّ الْبَعْضُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ لَهُمْ الْجَرْيُ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ لِتَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ صَارَ ظَنِّيًّا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّخْصِيصَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ مُقَارِنٍ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ ثُمَّ الْخِلَافُ فِي جَوَازِ التَّرَاخِي جَارٍ فِي كُلِّ ظَاهِرٍ يُسْتَعْمَلُ فِي خِلَافِهِ كَالْمُطْلَقِ فِي الْمُقَيَّدِ، وَالنَّكِرَةِ فِي الْمُعَيَّنِ وَلِهَذَا صَحَّ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيَّةِ بِقِصَّةِ الْبَقَرَةِ، وَإِلَّا فَلَفْظُ بَقَرَةٍ نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ الْعُمُومِ فِي شَيْءٍ.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ وَرَدَ بَيَانُهُ مُتَرَاخِيًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُمْ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: 69] لِلْبَقَرَةِ الْمَأْمُورِ بِذَبْحِهَا وَلِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا ثَانِيًا بِمُتَجَدِّدٍ وَبِأَنَّ الِامْتِثَالَ إنَّمَا حَصَلَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَالْجَوَابُ مَنْعُ ذَلِكَ بَلْ الْمَأْمُورُ بِذَبْحِهَا كَانَتْ بَقَرَةً مُطْلَقَةً عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ رَئِيسُ الْمُفَسِّرِينَ لَوْ ذَبَحُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ لَأَجْزَأَتْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ دَلَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْفِعْلِ، وَأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ التَّعْيِينِ كَانَ تَعَنُّتًا وَتَعَلُّلًا ثُمَّ نَسَخَ الْأَمْرَ بِالْمُطْلَقِ، وَأَمَرَ بِالْمُعَيَّنِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى النَّسْخِ قَبْلَ الِاعْتِقَادِ، وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ جَمِيعًا إذْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِالْوَاجِبِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَالْبَيَانِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْوَاجِبَ بَقَرَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ كَافٍ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَالتَّرَدُّدُ إنَّمَا وَقَعَ فِي التَّفْصِيلِ، وَالتَّعْيِينِ.
(قَوْلُهُ: فِي قَوْله تَعَالَى لِنُوحٍ عليه السلام فَاسْلُكْ)
نُقِلَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَأَنْتَ قُلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ الْيَهُودُ عَبَدُوا عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَبَنُو مَلِيحٍ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لَا بَلْ هُمْ عَبَدُوا الشَّيَاطِينَ الَّتِي أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] » يَعْنِي عُزَيْرًا وَعِيسَى وَالْمَلَائِكَةَ.
(خُصَّتَا مُتَرَاخِيًا) أَيْ: خُصَّتْ الْآيَتَانِ تَخْصِيصًا مُتَرَاخِيًا، وَهُمَا قَوْله تَعَالَى {وَأَهْلَكَ} [هود: 40] وقَوْله تَعَالَى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] (بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] قُلْنَا فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ نُسِخَ الْإِطْلَاقُ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ يَجُوزُ ذَبْحُ أَيِّ بَقَرَةٍ شَاءُوا ثُمَّ نُسِخَ هَذَا، وَالْأَهْلُ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لِلِابْنِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَتَّبِعُ الرَّسُولَ لَا يَكُونُ أَهْلًا لَهُ، وَلَوْ سَلَّمْنَا تَنَاوُلَهُ لَكِنْ اسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَنْ سَبَقَ} [هود: 40] فَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَهْلِ الْأَهْلُ قَرَابَةً حَتَّى يَشْمَلَ الِابْنَ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَقَوْلُهُ:{لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أَيْ: مِنْ الْأَهْلِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، وَإِنْ أُرِيدَ الْأَهْلُ إيمَانًا فَاسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ تَحْقِيقُهُ أَنَّ الْأَهْلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَهْلُ إيمَانًا أَوْ الْأَهْلُ قَرَابَةً فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَوَّلُ لَا يَتَنَاوَلُ الِابْنَ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ فَالِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] عَلَى هَذَا مُنْقَطِعٌ وقَوْله تَعَالَى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِعَدَمِ تَنَاوُلِ الْأَهْلِ الِابْنَ الْكَافِرَ.
وَإِنْ أُرِيدَ
ــ
[التلويح]
أَيْ: أَدْخِلْ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْحَيَوَانِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَأَدْخِلْ فِيهَا نِسَاءَكَ، وَأَوْلَادَك ثُمَّ خَصَّ ابْنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] .
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ) فَذَهَبَ الْبَعْضُ وَجُمْهُورُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهَا تَعُمُّ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ مَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ لَمَا أَوْرَدَ ابْنُ الزِّبَعْرَى هَذَا السُّؤَالَ، وَهُوَ مِنْ الْفُصَحَاءِ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ وَلَمَا سَكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ تَخْطِئَتِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا أَوْرَدَهُ تَعَنُّتًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَوْ التَّغْلِيبِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَعْبُودَاتِهِمْ الْبَاطِلَةِ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْعُقُولِ فَغَلَّبَ جَانِبَ الْكَثْرَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّغْلِيبَ أَيْضًا نَوْعٌ مِنْ الْمَجَازِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ «مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَا لِمَا لَا يَعْقِلُ» فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} [الأنبياء: 101] لِدَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ لَا لِتَخْصِيصِ الْعَامِّ.
(قَوْلُهُ: وَأَصْحَابُنَا قَالُوا) إنَّ الْخِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْمُسْتَقِلِّ بَيَانُ تَغْيِيرٍ عِنْدَنَا وَبَيَانُ تَفْسِيرٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ رَدُّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ التَّخْصِيصِ بِالْمُسْتَقِلِّ وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَيَانُ تَفْسِيرٍ، وَإِنَّمَا افْتَرَقَا فِي جَوَازِ التَّرَاخِي بِنَاءً عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَعَدَمِهِ، وَأَقْوَالُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ الْمُسْتَقِلِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مَجْمُوعُ الْأَفْرَادِ.