المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌(الرُّكْنُ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ

- ‌[فَصْلٌ اتِّصَالُ الْخَبَرِ] [

- ‌التَّوَاتُرُ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ]

- ‌[فَصْلٌ] الرَّاوِي إمَّا مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ وَإِمَّا مَجْهُولٌ

- ‌[فَصْلٌ شَرَائِطُ الرَّاوِي]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْقِطَاعِ الْحَدِيثِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ]

- ‌[فَصْلٌ] فِي كَيْفِيَّةِ السَّمَاعِ وَالضَّبْطِ وَالتَّبْلِيغِ

- ‌(فَصْلٌ) فِي الطَّعْنِ

- ‌(فَصْلٌ) فِي أَفْعَالِهِ عليه الصلاة والسلام

- ‌[فَصْلٌ فِي الْوَحْيِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ]

- ‌[فَصْلٌ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ]

- ‌[بَابُ الْبَيَانِ]

- ‌(فَصْلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ)

- ‌[مَسْأَلَةٌ شَرْطُ الِاسْتِثْنَاءِ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَمُنْقَطِعٌ

- ‌(مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرَقُ

- ‌[مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا تَعَقَّبَ الْجُمَلَ الْمَعْطُوفَةَ]

- ‌(فَصْلٌ) فِي بَيَانِ التَّبْدِيلِ

- ‌[بَيَانُ النَّاسِخِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ كَوْنُ النَّاسِخِ أَشَقَّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الضَّرُورَةِ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّالِثُ فِي الْإِجْمَاعِ وَفِيهِ خَمْسَةُ أُمُورٍ]

- ‌[الْأَمْرُ الْأَوَّلُ رُكْنُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي قَوْلَيْنِ]

- ‌[الْأَمْرُ الثَّانِي أَهْلِيَّةُ مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ]

- ‌[الْأَمْرُ الثَّالِثُ شُرُوطُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌[الْأَمْرُ الرَّابِعُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌[الْإِجْمَاعُ عَلَى مَرَاتِبَ]

- ‌[الْأَمْرُ الْخَامِسُ سَنَدُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْقِيَاسُ]

- ‌[الْقِيَاسُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي شُرُوطِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعِلَّةِ]

- ‌[تَعْرِيفِ الْعِلَّةِ]

- ‌[أَبْحَاثٌ فِي الْعِلَّة]

- ‌[الْأَوَّلُ الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ عَدَمُ التَّعْلِيلِ]

- ‌[الثَّانِي كَوْنُ الْعِلَّة وَصْفًا لَازِمًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّعْلِيلُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّعْلِيلُ بِعِلَّةٍ اُخْتُلِفَ فِي وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ أَوْ الْأَصْلِ]

- ‌[الثَّالِثُ تُعْرَفُ الْعِلَّةُ بِأُمُورٍ]

- ‌[الْأَوَّلُ وَالثَّانِي النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ]

- ‌[الثَّالِثُ الْمُنَاسَبَةُ]

- ‌(فَصْلٌ: لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ

- ‌[فَصْلٌ الْقِيَاسُ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ]

- ‌ لِلْقِيَاسِ الْخَفِيِّ(قِسْمَيْنِ:

- ‌[فَصْلٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ]

- ‌[النَّقْضُ]

- ‌[وَدَفْعُ النَّقْض بِأَرْبَعِ طُرُقٍ]

- ‌[الْمُمَانَعَةُ]

- ‌الْمُعَارَضَةِ

- ‌(فَصْلٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ)

- ‌ الِاعْتِرَاضَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ بِالْعِلَّةِ الطَّرْدِيَّةِ

- ‌[فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ كَلَامٍ إلَى آخَرَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْحُجَجِ الْفَاسِدَةِ]

- ‌[التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ]

- ‌(بَابُ) الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌[فَصْلٌ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ]

- ‌[الْأُمُور الَّتِي ذُكِرَتْ فِي تَرْجِيحِ الْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ وُجُوهُ التَّرْجِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ التَّرَاجِيحِ الْفَاسِدَةِ التَّرْجِيحُ بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ]

- ‌[بَابُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ فِي الْحُكْمِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ]

- ‌[بَابٌ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ قِسْمَانِ]

- ‌[الْقَسْم الْأَوَّل أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ أَوْ يَكُونَ كَالْحُكْمِ]

- ‌[الْقَسْم الثَّانِي مِنْ الْحُكْمِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ]

- ‌[بَابُ الْمَحْكُوم بِهِ]

- ‌[بَابُ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَهْلِيَّةُ ضَرْبَانِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءً]

- ‌[فَصْلٌ الْأُمُورُ الْمُعْتَرِضَةُ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ]

- ‌[الْعَوَارِضُ السَّمَاوِيَّةُ]

- ‌[الْجُنُونُ]

- ‌[الصِّغَرُ]

- ‌[الْعَتَهُ]

- ‌[النِّسْيَانُ]

- ‌[النَّوْمُ]

- ‌ الْإِغْمَاءُ)

- ‌[الرِّقُّ]

- ‌[الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ]

- ‌[الْمَرَضُ]

- ‌[الْمَوْتُ]

- ‌[الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ]

- ‌[الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنْ نَفْسِهِ]

- ‌[الْجَهْلُ]

- ‌[السُّكْرُ]

- ‌ الْهَزْلُ

- ‌[السَّفَهُ]

- ‌ السَّفَرُ

- ‌[الْخَطَأُ]

- ‌[الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنْ غَيْرِهِ]

- ‌[الْإِكْرَاهُ وَهُوَ إمَّا مُلْجِئٌ أَوْ غَيْرُ مُلْجِئٍ]

الفصل: ‌(فصل) في بيان التبديل

بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ شَيْئَيْنِ

(فَصْلٌ) فِي بَيَانِ التَّبْدِيلِ

، وَهُوَ النَّسْخُ وَالْبَحْثُ هُنَا فِي تَعْرِيفِهِ وَجَوَازِهِ، وَمَحَلِّهِ وَشَرْطِهِ. وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخِ: وَهُوَ أَنْ يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مُتَرَاخِيًا عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُقْتَضِيًا خِلَافَ حُكْمِهِ وَلَمَّا كَانَ الشَّارِعُ عَالِمًا بِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ مُؤَقَّتٌ إلَى وَقْتِ كَذَا كَانَ دَلِيلُ الثَّانِي بَيَانًا مَحْضًا لِمُدَّةِ الْحُكْمِ فِي حَقِّهِ، وَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ مُطْلَقًا كَانَ الْبَقَاءُ فِيهِ أَصْلًا عِنْدَنَا لِجَهْلِنَا عَنْ مُدَّتِهِ فَالثَّانِي يَكُونُ تَبْدِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِنَا كَالْقَتْلِ بَيَانٌ لِلْأَجَلِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ، وَفِي حَقِّنَا تَبْدِيلٌ.

(وَهُوَ جَائِزٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْيَهُودِ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بَاطِلٌ نَقْلًا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ عَقْلًا، وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ مُسْلِمٍ) إنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ الشَّرَائِعَ الْمَاضِيَةَ لَمْ تَرْتَفِعْ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام وَتِلْكَ الشَّرَائِعُ بَاقِيَةٌ كَمَا كَانَتْ لَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يُجَوِّزُوا النَّسْخَ لَمْ يَرَوْا هَذَا الْمَعْنَى بَلْ

ــ

[التلويح]

فَأَفَادَ تَوْزِيعَ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَقِيقَةً فَلَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ التَّبْدِيلِ]

(قَوْلُهُ: فَصْلٌ) النَّسْخُ فِي اللُّغَةِ الْإِزَالَةُ يُقَالُ: نَسَخَتْ الشَّمْسُ الظِّلَّ أَيْ: أَزَالَتْهُ، وَالنَّقْلُ يُقَالُ: نَسَخْت الْكِتَابَ أَيْ: نَقَلْت مَا فِيهِ إلَى آخَرَ وَنَسَخْت النَّخْلَ نَقَلْتهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَمِنْهُ الْمُنَاسَخَاتُ فِي الْمَوَارِيثِ لِانْتِقَالِ الْمَالِ مِنْ وَارِثٍ إلَى وَارِثٍ، وَفِي الشَّرْعِ هُوَ أَنْ يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مُتَرَاخِيًا عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُقْتَضِيًا خِلَافَ حُكْمِهِ أَيْ: حُكْمِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ فَخَرَجَ التَّخْصِيصُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَرَاخِيًا وَخُرُوجُ وَوُرُودُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ مُقْتَضِيًا خِلَافَ حُكْمِ الْعَقْلِ مِنْ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِخِلَافِ حُكْمِهِ مَا يُدَافِعُهُ وَيُنَافِيهِ لَا مُجَرَّدُ الْمُغَايَرَةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَنَكَّرَ الدَّلِيلَ لِيَشْمَلَ الْكِتَابَ، وَالسُّنَّةَ قَوْلًا، وَفِعْلًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ وَخَرَجَ مَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ، وَالْإِذْهَابِ عَنْ الْقُلُوبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرِدَ دَلِيلٌ وَكَذَا نَسْخُ التِّلَاوَةِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْرِيفُ النَّسْخِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْأَحْكَامِ عَلَى أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلدَّلِيلِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ النَّاسِخِيَّةُ لَا مِنْ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمَنْسُوخِيَّةُ، وَقَدْ يُطْلَقُ النَّسْخُ بِمَعْنَى النَّاسِخِ.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنْ قَالَ: هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ بَاقِيًا ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الشَّارِعِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنْ قَالَ هُوَ رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ لَا يُقَالُ: مَا ثَبَتَ فِي الْمَاضِي لَا يُتَصَوَّرُ بُطْلَانُهُ لِتَحَقُّقِهِ قَطْعًا، وَمَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ فَكَيْفَ يَبْطُلُ فَأَيًّا مَا كَانَ لَا رَفْعَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالرَّفْعِ الْبُطْلَانَ بَلْ زَوَالَ مَا نَظُنُّ مِنْ التَّعَلُّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا النَّاسِخُ لَكَانَ فِي عُقُولِنَا ظَنُّ التَّعَلُّقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَبِالنَّاسِخِ زَالَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ الْمَظْنُونُ.

(قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَ الشَّارِعُ) يَعْنِي أَنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ لِلْمُدَّةِ بِالنَّظَرِ إلَى عِلْمِ اللَّهِ وَتَبْدِيلٌ بِالنَّظَرِ إلَى عِلْمِنَا حَيْثُ ارْتَفَعَ بَقَاءُ مَا كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءَهُ عِنْدَنَا

(قَوْلُهُ: وَنَحْنُ

ص: 62

مُرَادُهُمْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُؤَقَّتَةٌ إلَى وَقْتِ وُرُودِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ إذْ ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ مُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَشَّرَا بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، وَأَوْجَبَا الرُّجُوعَ إلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ، وَإِذَا كَانَ مُؤَقَّتًا الْأَوَّلُ لَا يُسَمَّى الثَّانِي نَاسِخًا وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ نَسْخًا بِقَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الْآيَةَ.

(أَمَّا النَّقْلُ فَفِي التَّوْرَاةِ تَمَسَّكُوا بِالسَّبْتِ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَادَّعَوْا نَقْلَهُ تَوَاتُرًا، وَيَدَّعُونَ النَّقْلَ عَنْ مُوسَى عليه الصلاة والسلام أَنْ لَا نَسْخَ لِشَرِيعَتِهِ) قُلْنَا هَذِهِ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِوُجُودِ التَّحْرِيفِ.

(وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ يُوجِبُ كَوْنَ الشَّيْءِ مَأْمُورًا بِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ فَيَكُونُ حَسَنًا وَقَبِيحًا؛ وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ الْبَدَاءَ وَالْجَهْلَ بِالْعَوَاقِبِ، وَلَنَا أَنَّ حِلَّ الْأَخَوَاتِ فِي

ــ

[التلويح]

نَقُولُ) فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ النَّسْخِ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي وُرُودِ نَصٍّ يَقْتَضِي حُكْمًا مُخَالِفًا لِمَا يَقْتَضِيهِ نَصٌّ سَابِقٌ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى تَوْقِيتٍ بَلْ جَارٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ التَّأْبِيدُ، وَلِهَذَا كَانَ تَفْصِي الْمُخَالِفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ارْتِفَاعِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّهَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً إلَى ظُهُورِ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ عليه الصلاة والسلام لَا مُطْلَقَةً يُفْهَمُ مِنْهُ التَّأْبِيدُ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ قَوْله تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الْآيَةَ لَا يُنَافِي ذَلِكَ بَلْ الْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ بِشَارَةَ مُوسَى، وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِشَرْعِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَإِيجَابَهُمَا الرُّجُوعَ إلَيْهِ يَقْتَضِيَانِ تَوْقِيتَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُفَسِّرًا أَوْ مُقَرِّرًا أَوْ مُبَدِّلًا لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ التَّوْقِيتُ بَلْ هِيَ مُطْلَقَةٌ يُفْهَمُ مِنْهَا التَّأْبِيدُ فَتَبْدِيلُهَا يَكُونُ نَسْخًا، وَلَوْ سُلِّمَ فَمِثْلُ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ كَانَ مُطْلَقًا فَرُفِعَ.

(قَوْلُهُ: أَمَّا النَّقْلُ:) الْقَائِلُونَ بِبُطْلَانِ نَسْخِ شَرِيعَةِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام نَقْلًا تَمَسَّكُوا بِكِتَابِهِمْ، وَقَوْلِ نَبِيِّهِمْ وَادَّعَوْا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ أَمَّا الْكِتَابُ فَمَا نَقَلُوا أَنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ تَمَسَّكُوا بِالسَّبْتِ أَيْ: بِالْعِبَادَةِ فِيهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَلَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ السَّبْتِ وَغَيْرِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ عليه السلام فَمَا نَقَلُوا عَنْ مُوسَى عليه السلام أَنَّ هَذِهِ شَرِيعَةٌ مُؤَبَّدَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي لَفْظِ الِادِّعَاءِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ، وَهُوَ مَنْعُ التَّوَاتُرِ، وَالْوُثُوقُ عَلَى كِتَابِهِمْ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ التَّحْرِيفِ وَاخْتِلَافِ النُّسَخِ وَتَنَاقُضِ الْأَحْكَامِ كَيْفَ وَلَمْ يَبْقَ فِي زَمَنِ بُخْتُ نَصَّرَ مِنْ الْيَهُودِ عَدَدٌ يَكُونُ إخْبَارُهُمْ مُتَوَاتِرًا وَخَبَرُ تَأْبِيدِ شَرِيعَةِ مُوسَى مِمَّا افْتَرَاهُ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ لِيُعَارِضَ بِهِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ نَبِيِّنَا عليه السلام وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَاشْتَهَرَ مُعَارَضَتُهُمْ بِهِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى دَفْعِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عليه السلام، وَالْقَائِلُونَ بِبُطْلَانِ النَّسْخِ عَقْلًا تَمَسَّكُوا بِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُوجِبُ كَوْنَ الشَّيْءِ مَأْمُورًا بِهِ وَمَنْهِيًّا عَنْهُ فَيَلْزَمُ حُسْنُهُ، وَقُبْحُهُ لِذَاتِهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.

الثَّانِي: أَنَّ

ص: 63

شَرِيعَةِ آدَمَ عليه السلام وَحِلَّ الْجُزْءِ أَيْ: حَوَّاءَ لَهُ عليه السلام وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ ثُمَّ نُسِخَ فِي غَيْرِ شَرِيعَتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالِاسْتِصْحَابِ، فَلَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بَلْ الدَّلِيلُ الثَّانِي بَيَانٌ لِمُدَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً لَنَا، وَقَوْلُهُمْ بِأَنَّ الْبَقَاءَ بِالِاسْتِصْحَابِ مَعَ أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُمْ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ نَصٌّ مَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عليه السلام حُجَّةً إلَّا فِي وَقْتِ نُزُولِهِ فَأَمَّا بَعْدَهُ، فَلَا. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا إمَّا بِالْتِزَامِ الِاحْتِجَاجِ بِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِصْحَابِ أَيْ: فِي كُلِّ صُورَةٍ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُغَيَّرْ، وَإِمَّا بِأَنَّ النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةٍ مُوجَبَةٍ قَطْعًا إلَى زَمَانِ نُزُولِ النَّاسِخِ فَبِهَذَا يَنْدَفِعُ التَّعَارُضُ الْمَذْكُورُ)

اعْلَمْ أَنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَجَابَ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَنَّهُ يُوجِبُ كَوْنَ الشَّيْءِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَمَأْمُورًا بِهِ بِقَوْلِهِ: إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْبَقَاءِ، إنَّمَا الْبَقَاءُ بِالِاسْتِصْحَابِ، فَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ الشَّيْءِ

ــ

[التلويح]

النَّسْخَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ مَصْلَحَةٍ لِامْتِنَاعِ الْعَبَثِ عَلَى الْحَكِيمِ تَعَالَى بَلْ يَكُونُ لِحِكْمَةٍ خَفِيَتْ أَوَّلًا فَظَهَرَتْ ثَانِيًا، وَهَذَا رُجُوعٌ عَنْ الْمَصْلَحَةِ الْأَوْلَى بِالِاطِّلَاعِ عَلَى مَصْلَحَةٍ أُخْرَى فَيَلْزَمُ الْبَدَاءُ وَالْجَهْلُ وَكِلَاهُمَا مُحَالَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ أَوَّلًا عَلَى ثُبُوتِ النَّسْخِ بِمَا يَنْتَهِضُ حُجَّةً عَلَى الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ نَسْخُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ فِي زَمَنِ آدَمَ عليه السلام لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الْقَوْلَ بِتَأْبِيدِ شَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام بِدَلِيلِ نَقْلِيٍّ لَا يُقَالُ: الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ كَانَتْ جَائِزَةً بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ دُونَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَرَفْعُهَا لَا يَكُونُ نَسْخًا وَلَوْ سُلِّمَ كَانَتْ فِي حَقِّ أُمَّةٍ مَخْصُوصَةٍ أَوْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً إلَى ظُهُورِ شَرِيعَةٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ الْإِطْلَاقُ وَاحْتِمَالُ التَّقْيِيدِ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ، فَلَا يُعْبَأُ بِهِ، وَالْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ عِنْدَنَا بِالشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي زَمَانٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ فَرَفْعُهَا يَكُونُ نَسْخًا لَا مَحَالَةَ.

وَأَجَابَ ثَانِيًا عَنْ دَلِيلِ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِ النَّسْخِ عَقْلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ، وَأَشَارَ ثَالِثًا إلَى بُطْلَانِ دَلِيلِهِمْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَبَدُّلُ الْأَفْعَالِ حُسْنًا، وَقُبْحًا بِحَسْبِ تَبَدُّلِ الْأَزْمَانِ، وَالْأَحْوَالِ، وَالْأَشْخَاصِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ.

(قَوْلُهُ: وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي) لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الِاعْتِرَاضُ إنَّمَا هُوَ عَلَى فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ قَائِلٌ بِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا، وَكَوْنُهُ حُجَّةً فِي صُورَةٍ مَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ مَذْهَبِهِ، فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ، وَكَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّ الْبَقَاءَ بِالِاسْتِصْحَابِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْبَقَاءَ لَيْسَ لِلِاسْتِصْحَابِ يَكُونُ دَفْعًا لِكَلَامِهِ لَا تَوْجِيهًا لَهُ

(قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَحَلُّهُ) أَيْ: مَحَلُّ النَّسْخِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَرْعِيٌّ لَمْ يَلْحَقْهُ تَأْبِيدٌ، وَلَا تَوْقِيتٌ فَخَرَجَ الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ، وَالْحِسِّيَّةُ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ أَوْ الْوَاقِعَةِ فِي الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ مِمَّا يُؤَدِّي نَسْخُهُ إلَى كَذِبٍ أَوْ جَهْلٍ بِخِلَافِ الْإِخْبَارِ عَنْ حِلِّ الشَّيْءِ أَوْ حُرْمَتِهِ

ص: 64

مَأْمُورًا بِهِ وَمَنْهِيًّا عَنْهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْبَقَاءُ بِالِاسْتِصْحَابِ. وَالِاسْتِصْحَابُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ عُلَمَائِنَا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ نَصٌّ مَا فِي زَمَنِ حَيَاةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام حُجَّةً لَا فِي حَالَةِ نُزُولِهِ، وَلَا يَكُونَ حُجَّةً بَعْدَهَا، وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَاهُ بِزَمَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام؛ لِأَنَّ بِوَفَاتِهِ عليه الصلاة والسلام ارْتَفَعَ احْتِمَالُ النَّسْخِ وَبَقِيَ الشَّرَائِعُ الَّتِي قُبِضَ النَّبِيُّ عليه السلام عَلَيْهَا حُجَّةً قَطْعِيَّةً مُؤَبَّدَةً. وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي عَنْ هَذَا النَّظَرِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ نَلْتَزِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِصْحَابِ حُجَّةٌ أَيْ: كُلُّ اسْتِصْحَابٍ يَكُونُ فِيهِ عَدَمُ التَّغْيِيرِ مَعْلُومًا فَلَمَّا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام حُكْمٌ فَثُبُوتُهُ بِالنَّصِّ وَبَقَاؤُهُ بِالِاسْتِصْحَابِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ مُغَيِّرٌ إذْ لَوْ نَزَلَ لَبَيَّنَ النَّبِيُّ عليه السلام فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فَمِثْلُ الِاسْتِصْحَابِ يَكُونُ حُجَّةً.

وَثَانِيهِمَا: أَنَّا لَا نَقُولُ: إنَّ الْبَقَاءَ بِالِاسْتِصْحَابِ بَلْ النَّصُّ يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةٍ مُوجَبَةٍ قَطْعًا إلَى زَمَانِ نُزُولِ النَّاسِخِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ التَّعَارُضُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ كَوْنُ الشَّيْءِ مَأْمُورًا بِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ النَّصَّ الْأَوَّلَ حُكْمُهُ مُؤَقَّتٌ إلَى زَمَانِ نُزُولِ النَّاسِخِ فَإِذَا نَزَلَ النَّاسِخُ فَلَمْ يَبْقَ مُوجَبُ الْأَوَّلِ، وَهَذَا عَيْنُ مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الشَّارِعُ عَالِمًا بِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ مُؤَقَّتٌ إلَخْ، فَلَا يُحْتَاجُ لِدَفْعِ التَّعَارُضِ

ــ

[التلويح]

مِثْلَ هَذَا حَلَالٌ، وَذَاكَ حَرَامٌ.

وَالْمُرَادُ بِالتَّأْبِيدِ دَوَامُ الْحُكْمِ مَا دَامَتْ دَارُ التَّكْلِيفِ، وَلِهَذَا كَانَ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَأْبِيدًا لَا تَوْقِيتًا فَإِنْ قِيلَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ صِيَغُ التَّأْبِيدِ فِي الْمُكْثِ الطَّوِيلِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ الْحُكْمَ تَأْبِيدٌ يُفْهَمُ مِنْهُ الدَّوَامُ، وَيَكُونُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى طُولَ الزَّمَانِ، فَيَرِدُ دَلِيلٌ يُبَيِّنُ انْتِهَاءَهُ فَيَكُونُ نَسْخًا فِي حَقِّنَا.

قُلْنَا حَقِيقَةُ التَّأْبِيدِ هُوَ الدَّوَامُ وَاسْتِمْرَارُ جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، وَإِرَادَةُ الْبَعْضِ مَجَازٌ لَا مَسَاغَ لَهُ بِدُونِ الْقَرِينَةِ وَبَعْدَ الدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ كَانَ رَفْعُهُ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ مِنْ بَابِ الْبَدَاءِ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. هَذَا إذَا كَانَ التَّأْبِيدُ قَيْدًا لِلْحُكْمِ كَالْوُجُوبِ مَثَلًا أَمَّا إذَا كَانَ قَيْدًا لِلْوَاجِبِ مِثْلَ صُومُوا أَبَدًا فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهُ إذْ لَا يَزِيدُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جُزْئِيَّاتِ الزَّمَانِ عَلَى دَلَالَةِ قَوْلِنَا صُمْ غَدًا عَلَى صَوْمِ غَدٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ فَإِنْ قِيلَ التَّأْبِيدُ يُفِيدُ الدَّوَامَ، وَالنَّسْخُ يَنْفِيهِ فَيَلْزَمُ التَّنَاقُضُ قُلْنَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إيجَابِ فِعْلٍ مُقَيَّدٍ بِالْأَبَدِ، وَعَدَمِ أَبَدِيَّةِ التَّكْلِيفِ بِهِ كَمَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إيجَابِ صَوْمٍ مُقَيَّدٍ بِزَمَانٍ، وَأَنْ لَا يُوجَدَ التَّكْلِيفُ بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَمَا يُقَالُ: صُمْ غَدًا ثُمَّ يُنْسَخُ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ كَمَا يُكَلَّفُ بِصَوْمِ غَدٍ ثُمَّ يَمُوتُ قَبْلَ غَدٍ، فَلَا يُوجَدُ التَّكْلِيفُ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ قَوْلَهُ صُمْ أَبَدًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَوْمَ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ شُهُورِ رَمَضَانَ إلَى الْأَبَدِ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدِ لِلْوُجُوبِ بِالِاسْتِمْرَارِ إلَى الْأَبَدِ فَلَمْ يَكُنْ رَفْعُ الْوُجُوبِ بِمَعْنَى عَدَمِ

ص: 65

الْمَذْكُورِ إلَى أَنْ نَقُولَ: إنَّ الْبَقَاءَ بِالِاسْتِصْحَابِ (وَفِي هَذَا حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَهُوَ كَالْإِحْيَاءِ ثُمَّ الْإِمَاتَةُ، وَأَيْضًا يُمْكِنُ حُسْنُ الشَّيْءِ، وَقُبْحُهُ فِي زَمَانَيْنِ) .

(وَأَمَّا مَحَلُّهُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ إمَّا أَنْ لَا يَحْتَمِلَ النَّسْخَ فِي نَفْسِهِ كَالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ) مِثْلَ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَمْثَالِهَا (وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا) كَالْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ وَالْإِخْبَارَاتِ عَنْ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ أَوْ الْحَاضِرَةِ أَوْ الْمُسْتَقْبَلَةِ نَحْوَ {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} [الحجر: 30] .

(وَإِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ كَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ هَذَا إمَّا إنْ لَحِقَهُ تَأْبِيدٌ نَصًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} [آل عمران: 55] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: عليه السلام «الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» أَوْ دَلَالَةً كَالشَّرَائِعِ الَّتِي قُبِضَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ عليه السلام فَإِنَّهَا مُؤَبَّدَةٌ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ أَوْ تَوْقِيتٌ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: تَأْبِيدٌ فِي قَوْلِهِ: أَمَّا إنْ لَحِقَهُ تَأْبِيدٌ.

(فَإِنَّ النَّسْخَ قَبْلَ تَمَامِ الْوَقْتِ بَدَاءٌ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُطْلَقًا عَنْهُمَا) أَيْ: عِنْدَ التَّأْبِيدِ وَالتَّوْقِيتِ.

(فَاَلَّذِي يَجْرِي فِيهِ النَّسْخُ هَذَا فَقَطْ، وَأَمَّا شَرْطُهُ فَالتَّمَكُّنُ مِنْ الِاعْتِقَادِ كَافٍ لَا حَاجَةَ إلَى التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَصِحُّ قَبْلَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْفِعْلُ فَقَبْلَ حُصُولِهِ يَكُونُ بَدْءًا، وَلَنَا أَنَّهُ عليه السلام أُمِرَ

ــ

[التلويح]

اسْتِمْرَارِهِ مُنَاقِضًا لَهُ، وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: صُمْ كُلَّ رَمَضَانَ.

فَإِنَّ جَمِيعَ الرَّمَضَانَاتِ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْخِطَابِ، وَإِذَا مَاتَ انْقَطَعَ الْوُجُوبُ قَطْعًا وَلَمْ يَكُنْ نَفْيًا؛ لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِشَيْءٍ مِنْ الرَّمَضَانَاتِ وَتَنَاوُلِ الْخِطَابَاتِ لَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَمَانُ الْوَاجِبِ غَيْرَ زَمَانِ الْوُجُوبِ فَقَدْ يَتَقَيَّدُ الْأَوَّلُ بِالْأَبَدِ دُونَ الثَّانِي فَإِنْ قُلْتَ قَوْله تَعَالَى {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} [آل عمران: 55] مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارِ فَكَيْفَ جَعَلَهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. قُلْتَ: مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حُكْمُ وُجُوبِ تَقَدُّمِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ فِي بَابِ الشَّرَفِ، وَالْكَرَامَةِ كَالشَّهَادَةِ وَنَحْوِهَا.

(قَوْلُهُ: فَذَبْحُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام) ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ عليه السلام أُمِرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ ثُمَّ نُسِخَ بِوُرُودِ الْفِدَاءِ بِذَبْحِ الشَّاةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّبْحَ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ، وَالْفِدَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِهَا.

وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنْ الذَّبْحُ مَأْمُورًا بِهِ لَامْتَنَعَ شَرْعًا وَعَادَةً اشْتِغَالُهُ بِذَلِكَ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى التَّرْوِيعِ، وَإِمْرَارُهُ الْمُدْيَةَ عَلَى حَلْقِ الْوَلَدِ وَتَلُّهُ لِلْجَبِينِ.

وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْسَخْ لَكَانَ تَرْكُهُ مَعْصِيَةً فَإِنْ قِيلَ قَدْ وُجِدَ الذَّبْحُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ ذَبَحَ وَكَانَ كُلَّمَا قَطَعَ شَيْئًا يَلْتَحِمُ عَقِيبَ الْقَطْعِ قُلْنَا هَذَا خِلَافُ الْعَادَةِ، وَالظَّاهِرِ وَلَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَوْ كَانَ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْفِدَاءِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا النَّسْخَ لَيْسَ مِنْ قِبَلِ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ كَمَا فِي نَسْخِ الصَّلَوَاتِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الذَّبْحِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِمَانِعٍ مِنْ الْخَارِجِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ قَبْلَ الْفِعْلِ فَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُ

ص: 66