الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْغَلَطُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَفْكَارِ كَمَا تَرَى مِنْ اخْتِلَافَاتِ الْعُقَلَاءِ بَلْ اخْتِلَافِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ فِي زَمَانَيْنِ فَصَارَ دَلِيلُنَا عَلَى التَّوَسُّطِ بَيْنَ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ أَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا التَّوَسُّطُ الْمَذْكُورُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَثَانِيهِمَا مُعَارَضَةُ الْوَهْمِ الْعَقْلَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ وَتَطَرُّقِ الْخَطَأِ فِيهَا (فَهُوَ وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ) أَيْ الْعَقْلُ وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِيمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْرَيْنِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ انْضِمَامِ شَيْءٍ آخَرَ إمَّا إرْشَادٌ أَوْ تَنْبِيهٌ لِيَتَوَجَّهَ الْعَقْلُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ أَوْ إدْرَاكِ زَمَانٍ يَحْصُلُ لَهُ التَّجْرِبَةُ فِيهِ فَتُعِينُهُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ فَلِهَذَا اخْتَرْنَا التَّوَسُّطَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَفَرِّعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَتْنِ، وَهِيَ قَوْلُهُ (فَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ لَا يُكَلَّفُ بِالْإِيمَانِ) لِعَدَمِ اسْتِيفَاءِ مُدَّةٍ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا لِحُصُولِ
ــ
[التلويح]
السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ أَوْ دَلِيلُهُ لِعِظَمِ خَطَرِهِ.
(قَوْلُهُ: وَكَذَا) أَيْ مِثْلُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الشَّاهِقُ فِي الْجَبَلِ إذَا لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِالْإِيمَانِ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَصِفْ إيمَانًا، وَلَا كُفْرًا، وَلَمْ يَعْتَقِدْهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَوْ آمَنَ صَحَّ إيمَانُهُ، وَلَوْ وَصَفَ الْكُفْرَ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ زَمَانَ التَّجْرِبَةِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ شَيْئًا فَإِنْ، وُجِدَ زَمَانَ التَّجْرِبَةِ، وَالتَّمَكُّنِ فَلَيْسَ بِمَعْذُورٍ، وَإِلَّا فَمَعْذُورٌ، وَلَيْسَ فِي تَقْدِيرِ الزَّمَانِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ أَوْ سَمْعِيَّةٌ بَلْ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنْ تَحَقَّقَ يُعْذَرُ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ قَالَ: لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ يُخَالِفُهُ لِمَا يَرَى فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ وَأَمَّا فِي الشَّرَائِعِ فَيُعْذَرُ إلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ فَإِنْ قِيلَ: الشَّاهِقُ لَمَّا لَمْ يُكَلَّفْ بِالْإِيمَانِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُهْدَرَ دَمُهُ بَلْ يَضْمَنُ قَاتِلُهُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقُتِلَ لَمْ يَضْمَنْ قَاتِلُهُ، وَكَذَا الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ إذَا قُتِلَا فِي دَارِ الْحَرْبِ
[فَصْلٌ الْأَهْلِيَّةُ ضَرْبَانِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءً]
. (قَوْلُهُ فَصْلٌ ثُمَّ الْأَهْلِيَّةُ) يَعْنِي بَعْدَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِيَّتِهِ لِلْحُكْمِ، وَأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْعَقْلِ فَإِنَّ الْأَهْلِيَّةَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ أَيْ صَلَاحِيَّتُهُ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ، وَعَلَيْهِ، وَالثَّانِيَةُ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ أَيْ صَلَاحِيَّتُهُ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، وَالْأَوْلَى بِالذِّمَّةِ، وَلَمَّا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْبَعْضِ أَنَّ الذِّمَّةَ أَمْرٌ لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْفُقَهَاءِ يُعَبِّرُونَ عَنْ وُجُوبِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِثُبُوتِهِ فِي ذِمَّتِهِ حَاوَلَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِتَحْقِيقِ الذِّمَّةِ لُغَةً، وَشَرْعًا وَإِثْبَاتِهَا بِالنُّصُوصِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الذِّمَّةَ فِي اللُّغَةِ الْعَهْدُ فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ مَحَلَّ أَمَانَتِهِ أَكْرَمَهُ بِالْعَقْلِ، وَالذِّمَّةِ حَتَّى صَارَ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ، وَعَلَيْهِ، وَثَبَتَ لَهُ حُقُوقُ الْعِصْمَةِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ كَمَا إذَا عَاهَدْنَا الْكُفَّارَ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ تَثْبُتُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا
التَّجَارِبِ، وَكَمَالِ الْعَقْلِ (وَلَكِنْ يَصِحُّ مِنْهُ) اعْتِبَارًا لِأَصْلِ الْعَقْلَ، وَرِعَايَةً لِلتَّوَسُّطِ فَجَعَلْنَا مُجَرَّدَ الْعَقْلِ كَافِيًا لِلصِّحَّةِ وَشَرَطْنَا الِانْضِمَامَ الْمَذْكُورَ لِلْوُجُوبِ (وَالْمُرَاهِقَةُ إنْ غَفَلَتْ عَنْ الِاعْتِقَادَيْنِ لَا تَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنْ كَفَرَتْ تَبِينُ) فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تُدْرِكْ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ يُجْعَلْ مُجَرَّدُ عَقْلِهَا كَافِيًا فِي التَّوَجُّهِ إلَى الِاسْتِدْلَالِ لَكِنْ إنْ تَوَجَّهَتْ عُلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّهَا أَدْرَكَتْ مُدَّةَ إفَادَتِهَا التَّوَجُّهَ فَجَعَلْنَا مُجَرَّدَ عَقْلِهَا كَافِيًا إذَا حَصَلَ التَّوَجُّهُ، وَشَرَطْنَا الِانْضِمَامَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ التَّوَجُّهُ.
(وَكَذَا الشَّاهِقُ) أَيْ لَا يُكَلَّفُ (قَبْلَ مُضِيِّ زَمَانٍ يَحْصُلُ فِيهِ التَّجْرِبَةُ) ، وَبَعْدَهُ يُكَلَّفُ فَلَا يَضْمَنُ قَاتِلُ الشَّاهِقِ، وَلَوْ قَبْلَ مُدَّةِ التَّجْرِبَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَوْجِبْ
ــ
[التلويح]
هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي جَرَى بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِبَادِهِ يَوْمَ الْمِيثَاقِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جَمْعٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَوَالَدُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي أَدْنَى مُدَّةٍ كَمَوْتِ الْكُلِّ بِالنَّفْخِ فِي الصُّوَرِ، وَحَيَاةِ الْكُلِّ بِالنَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ فَصَوَّرَهُمْ، وَاسْتَنْطَقَهُمْ، وَأَخَذَ مِيثَاقَهُمْ ثُمَّ أَعَادَهُمْ جَمِيعًا فِي صُلْبِ آدَمَ ثُمَّ أَنْسَانَا تِلْكَ الْحَالَةَ ابْتِلَاءً لِنُؤْمِنَ بِالْغَيْبِ، وَحَاصِلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ خُصَّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ بِوُجُوبِ أَشْيَاءَ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَتَكَالِيفَ يُؤَاخَذُ بِهَا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ خُصُوصِيَّةٍ بِهَا يَصِيرُ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ فَهِيَ وَصْفٌ يَصِيرُ بِهِ الْإِنْسَانُ أَهْلًا لِمَا لَهُ، وَمَا عَلَيْهِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا صَادِقٌ عَلَى الْعَقْلِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِيمَا سَبَقَ وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ لَا تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ وَصْفٍ مُغَايِرٍ لِلْعَقْلِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَقْلَ بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بَلْ الْعَقْلُ إنَّمَا هُوَ بِمُجَرَّدِ فَهْمِ الْخِطَابِ، وَالْوُجُوبُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوَصْفِ الْمُسَمَّى بِالذِّمَّةِ حَتَّى لَوْ فُرِضَ ثُبُوتُ الْعَقْلِ بِدُونِ ذَلِكَ الْوَصْفِ كَمَا لَوْ رُكِّبَ الْعَقْلُ فِي حَيَوَانٍ غَيْرِ الْآدَمِيِّ لَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَهُ، وَعَلَيْهِ، وَالْعَقْلُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ وَجَبَ أَوْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ كَذَا قُلْتُ مَعْنَاهُ الْوُجُوبُ عَلَى نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فَلَمَّا كَانَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقًا بِهِ جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ ظَرْفٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ الْوُجُوبُ دَلَالَةً عَلَى كَمَالِ التَّعَلُّقِ، وَإِشَارَةً إلَى أَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْعَهْدِ، وَالْمِيثَاقِ الْمَاضِي كَمَا يُقَالُ وَجَبَ فِي الْعَهْدِ وَالْمُرُوءَةِ أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا، وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّمَّةِ فِي الشَّرْعِ نَفْسٌ، وَرَقَبَةٌ لَهَا ذِمَّةٌ وَعَهْدٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ، وَجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مَحَلًّا لِذَلِكَ الْعَهْدِ فَالرَّقَبَةُ تَفْسِيرٌ لِلنَّفْسِ، وَالْعَهْدُ تَفْسِيرٌ لِلذِّمَّةِ، وَهَذَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَحَلِّ بِاسْمِ الْحَالِ، وَالْمَقْصُودُ وَاضِحٌ.
(قَوْلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172]
عِصْمَةً بِدُونِ دَارِ الْإِسْلَامِ
. (فَصْلٌ) ثُمَّ الْأَهْلِيَّةُ ضَرْبَانِ: أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ أَمَّا الْأُولَى فَبِنَاءً عَلَى الذِّمَّةِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الْعَهْدُ، وَفِي الشَّرْعِ وَصْفٌ يَصِيرُ بِهِ الْإِنْسَانُ أَهْلًا لِمَا لَهُ، وَعَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] هَذِهِ الْآيَةُ إخْبَارٌ عَنْ عَهْدٍ جَرَى بَيْنَ اللَّهِ، وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ، وَعَنْ إقْرَارِهِمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِرُبُوبِيَّتِهِ، وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِمُوجِبِ إقْرَارِهِمْ مِنْ أَدَاءِ حُقُوقٍ تَجِبُ لِلرَّبِّ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ وَصْفٍ يَكُونُونَ بِهِ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ فَيَثْبُتُ لَهُمْ الذِّمَّةُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ.
(وَقَالَ {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] الْعَرَبُ كَانُوا يَنْسُبُونَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ إلَى الطَّائِرِ فَإِنْ مَرَّ سَانِحًا يَتَيَمَّنُونَ بِهِ وَإِنْ مَرَّ بَارِحًا يَتَشَاءَمُونَ بِهِ
ــ
[التلويح]
ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إلَى أَنَّهُ تَمْثِيلٌ وَالْمُرَادُ نَصْبُ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّة الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الضَّلَالِ، وَالْهُدَى وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} [الإسراء: 13] الْآيَةُ تَمْثِيلٌ لِلُزُومِ الْعَمَلِ لَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ لِلْعُنُقِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ اسْتِعَارَةٍ فِي الْعُنُقِ عَلَى انْفِرَادِهِ كَمَا يُقَالُ جُعِلَ الْقَضَاءُ فِي عُنُقِهِ لَا يُرَادُ وَصْفٌ بِهِ صَارَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مُجَرَّدُ الْإِلْزَامِ، وَالِالْتِزَامِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ إلَى عُلَمَاءِ الْبَيَانِ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] فَالْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ الطَّاعَةُ الْوَاجِبَةُ الْأَدَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا لِعِظَمِهَا بِحَيْثُ لَوْ عُرِضَتْ عَلَى هَذِهِ الْأَجْرَامِ الْعِظَامِ، وَكَانَتْ ذَاتَ شُعُورٍ وَإِدْرَاكٍ لَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ مَعَ ضَعْفِ بِنْيَتِهِ، وَرَخَاوَةِ قُوَّتِهِ لَا جَرَمَ فَإِذَا الرَّاعِي لَهَا، وَالْقَائِمُ بِحُقُوقِهَا بِخَيْرِ الدَّارَيْنِ أَنَّهُ كَانَ ظَلُومًا حَيْثُ لَمْ يَفِ بِهَا، وَلَمْ يُرَاعِ حُقُوقَهَا جَهُولًا بِكُنْهِ عَاقِبَتِهَا، وَهَذَا وَصْفٌ لِلْجِنْسِ بِاعْتِبَارِ الْأَغْلَبِ، وَقِيلَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَجْرَامَ خَلَقَ فِيهَا فَهْمًا، وَقَالَ لَهَا إنِّي فَرَضْتُ فَرِيضَةً، وَخَلَقْتُ جَنَّةً لِمَنْ أَطَاعَنِي وَنَارًا لِمَنْ عَصَانِي فَقُلْنَ نَحْنُ مُسَخَّرَاتٌ عَلَى مَا خُلِقْنَا لَا نَحْمِلُ فَرِيضَةً، وَلَا نَبْغِي ثَوَابًا، وَلَا عِقَابًا، وَلَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَرَضَ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَحَمَلَهُ، وَكَانَ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ بِتَحَمُّلِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا جَهُولًا بِوَخَامَةِ عَاقِبَتِهِ، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ الْعَقْلُ وَالتَّكْلِيفُ، وَعَرَضُهَا عَلَيْهِنَّ اعْتِبَارُهَا بِالْإِضَافَةِ إلَى اسْتِعْدَادِهِنَّ، وَإِبَاؤُهُنَّ عَدَمُ اللِّيَاقَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَحَمَلَ الْإِنْسَانَ قَابِلِيَّتُهُ وَاسْتِعْدَادُهُ، وَكَوْنُهُ ظَلُومًا جَهُولًا لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، وَالشَّهَوِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْحَمْلِ عَلَيْهِ فَإِنَّ مِنْ فَوَائِدِ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ مُهَيْمِنًا عَلَى الْقُوَّتَيْنِ حَافِظًا لَهُمَا عَنْ التَّعَدِّي، وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ، وَالْعِظَمِ. مَقَاصِدُ التَّكْلِيفِ تَعْدِيلُهُمَا، وَكَسْرُ سَوْرَتِهِمَا فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ وَصْفًا بِهِ يَصِيرُ أَهْلًا لِمَا عَلَيْهِ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ دَلَالَةٍ لِلْعِتْقِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِعَارَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْكَلَامِ، وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مَبْنَى هَذِهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَلْزَمُهُ
فَاسْتُعِيرَ الطَّائِرُ لِمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سَبَبٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُوَ قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدَرُهُ، وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ فَإِنَّهَا وَسِيلَةٌ لَهُمْ إلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَالْمَعْنَى أَلْزَمْنَاهُ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍ، وَأَلْزَمْنَاهُ عَمَلَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ أَوْ الْغُلِّ الْعُنُقَ أَيْ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ أَبَدًا فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ لِلْإِنْسَانِ فَمَحَلُّ ذَلِكَ اللُّزُومُ، وَهُوَ الذِّمَّةُ فَقَوْلُهُ فِي عُنُقِهِ اسْتَعَارَ الْعُنُقَ لِذَلِكَ الْوَصْفِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي بِهِ يَلْزَمُ التَّكْلِيفُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ أَوْ الْغُلِّ الْعُنُقَ.
(وَقَالَ: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِيَّةِ الْإِنْسَانِ بِحَمْلِ أَعْبَاءِ التَّكْلِيفِ أَيْ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ وَصْفًا هُوَ بِهِ يَصِيرُ أَهْلًا لِمَا عَلَيْهِ وَقَدْ فَسَّرَ الذِّمَّةَ بِوَصْفٍ يَصِيرُ هُوَ بِهِ أَهْلًا لِمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى وَصْفٍ يَصِيرُ بِهِ أَهْلًا لِمَا لَهُ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا إثْبَاتُ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ هَذَا كَافِيًا فِي إثْبَاتِ الْمَقْصُودِ، وَأَمَّا الدَّلَائِلُ
ــ
[التلويح]
وَيَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ وَصْفٍ بِهِ يَصِيرُ أَهْلًا لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى هَذِهِ التَّكَالِيفِ بَلْ دَلَالَةُ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَظْهَرُ، وَكَذَا ثُبُوتُ الْحُقُوقِ لَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ وَصْفًا هُوَ الذِّمَّةُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِذَاتِ الْإِنْسَانِ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرِّزْقِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْإِنْسَانِ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الذِّمَّةِ لِكُلِّ دَابَّةٍ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ مَرَّ سَانِحًا) السَّانِحُ مَا وَلَّاكَ مَيَامِنَهُ أَيْ يَمُرُّ مِنْ مَيَاسِرِكَ إلَى مَيَامِنِكَ وَالْبَارِحُ بِالْعَكْسِ، وَالْعَرَبُ تَتَطَيَّرُ بِالْبَارِحِ، وَتَتَفَاءَلُ بِالسَّانِحِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَرْمِيَهُ حَتَّى يَنْحَرِفَ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ اُسْتُعِيرَ الطَّائِرُ لِمَا هُوَ سَبَبُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدَرِهِ، وَعَمَلِ الْعَبْدِ فَإِنَّ مَا قُدِّرَ لِلْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ طَائِرٍ يَطِيرُ إلَيْهِ مِنْ عُشِّ الْغَيْبِ وَوَكْرِ الْقَدَرِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ التَّسَامُحِ حَيْثُ جَعَلَ الطَّائِرَ اسْتِعَارَةً لِسَبَبِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَيْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ، وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ، ثُمَّ قَالَ فَالْمَعْنَى أَلْزَمْنَاهُ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ، وَشَرٍّ فَجُعِلَ الطَّائِرُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِ الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ الْمَقْضِيِّ بِهِ ثُمَّ الْقَضَاءُ هُوَ الْحُكْمُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَمْرُ أَوَّلًا، وَالْقَدَرُ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَالتَّفْصِيلُ بِالْإِظْهَارِ، وَالْإِيجَادُ ثَانِيًا، وَفِي كَلَامِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْقَضَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مُجْتَمِعَةً مُجْمَلَةً عَلَى سَبِيلِ الْإِبْدَاعِ، وَالْقَدَرُ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِهَا مُفَصَّلَةً مُنَزَّلَةً فِي الْأَعْيَانِ بَعْدَ حُصُولِ الشَّرَائِطِ كَمَا قَالَ عز وجل {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا يُقَالُ إنَّ الْقَضَاءَ مَا فِي الْعِلْمِ وَالْقَدَرَ مَا فِي الْإِرَادَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ فَهُنَاكَ شَيْئَانِ: الْإِرَادَةُ وَالْقَوْلُ فَالْإِرَادَةُ قَضَاءٌ، وَالْقَوْلُ قَدَرٌ.
(قَوْلُهُ: فَقَبْلَ الْوِلَادَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْجَنِينَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ عَنْ الْأُمِّ جُزْءٌ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهَا، وَيَقِرُّ بِقَرَارِهَا وَمُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ التَّفَرُّدِ بِالْحَيَاةِ وَالتَّهَيُّؤِ لِلِانْفِصَالِ فَيَكُونُ لَهُ ذِمَّةٌ مِنْ وِجْهَةٍ حَتَّى يَصِلَ وُجُوبُ الْحُقُوقِ لَهُ كَالْإِرْثِ، وَالْوَصِيَّةِ وَالنَّسَبِ لَا لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الْوَلِيُّ لَهُ شَيْئًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ
الدَّالَّةُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ أَهْلًا لِمَا لَهُ فَكَثِيرَةٌ مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وقَوْله تَعَالَى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، وَنَحْوِهِمَا.
(فَقَبْلَ الْوِلَادَةِ لَهُ ذِمَّةٌ مِنْ وَجْهٍ يَصْلُحُ لِيَجِبَ لَهُ الْحَقُّ لَا لِيَجِبَ عَلَيْهِ فَإِذَا وُلِدَ تَصِيرُ ذِمَّتُهُ مُطْلَقَةً لَكِنَّ الْوُجُوبَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ بَلْ الْمَقْصُودُ حُكْمُهُ، وَهُوَ الْأَدَاءُ فَكُلُّ مَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ يَجِبُ وَمَا لَا يُمْكِنُ فَلَا فَحُقُوقُ الْعِبَادِ مَا كَانَ مِنْهَا غُرْمًا، وَعَرَضًا يَجِبُ) أَيْ عَلَى الصَّبِيِّ، وَهَذَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ فَإِذَا وُلِدَ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَالُ وَأَدَاؤُهُ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، وَكَذَا مَا كَانَ صِلَةً تُشْبِهُ الْمُؤَنَ أَوْ الْأَعْوَاضَ كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ) نَظِيرُ الصِّلَةِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُؤَنَ (وَالزَّوْجَةِ) نَظِيرُ الصِّلَةِ الَّتِي تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ (لَا صِلَةً تُشْبِهُ الْأَجْزِيَةَ) أَيْ لَا يَجِبُ (فَلَا يَتَحَمَّلُ الْعَقْلَ) أَيْ لَا يَتَحَمَّلُ الصَّبِيُّ الدِّيَةَ.
(وَإِنْ
ــ
[التلويح]
وَأَمَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنْ الْأُمِّ فَيَصِيرُ ذِمَّتُهُ مُطْلَقَةً لِصَيْرُورَتِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَصِيرُ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ حَتَّى كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ كُلُّ حَقٍّ يَجِبُ عَلَى الْبَالِغِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْأَدَاءِ لِضَعْفِ بِنْيَتِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْوُجُوبِ هُوَ الْأَدَاءُ اخْتَصَّ وَاجِبَاتِهِ بِمَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ عَنْهُ فَلِهَذَا اُحْتِيجَ إلَى تَفْصِيلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَمَيُّزِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَمَّا لَا يَجِبُ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ.
(قَوْلُهُ كَنَفَقَةِ الْقُرْبِ) فَإِنَّهَا صِلَةٌ تُشْبِهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ كِفَايَةً لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَقَارِبُهُ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجِ فَإِنَّهَا تُشْبِهُ الْأَعْرَاضَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا وَجَبَتْ جَزَاءً لِلِاحْتِبَاسِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا عِنْدَ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ صِلَةً لَا عِوَضًا مَحْضًا لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بِطَرِيقِ التَّسْمِيَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْأَعْوَاضِ فَلِكَوْنِهَا صِلَةً تَسْقُطُ بِمَعْنَى الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْتِزَامٌ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ، وَلِشَبَهِهَا بِالْأَعْوَاضِ تَصِيرُ دِينًا بِالِالْتِزَامِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا) أَيْ الصَّبِيُّ لَا يَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ وَإِنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ، وَتَمْيِيزٍ لِأَنَّ الدِّيَةَ وَإِنْ كَانَتْ صِلَةً إلَّا أَنَّهَا تُشْبِهُ جَزَاءَ التَّقْصِيرِ فِي حِفْظِ الْقَاتِلِ عَنْ فِعْلِهِ، وَالصَّبِيُّ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا إيهَامُ أَنَّ الْمُرَادَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَاقِلَةِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الدِّيَةِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ الْعَاقِلَةِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّأْكِيدِ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَاقِلَةِ.
(قَوْلُهُ فَالْعِبَادَاتُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الصَّبِيِّ فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ الْإِيمَانُ، وَهُوَ لَيْسَ بِبَدَنِيٍّ، وَلَا مَالِيٍّ لِكَوْنِهِ عَمَلُ الْقَلْبِ قُلْتُ: جَعَلَهُ مِنْ الْبَدَنِيَّةِ تَغْلِيبًا أَوْ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ اللِّسَانِ، وَذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا عَقَلَ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفْسُ الْإِيمَانِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ لِأَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ يَثْبُتُ بِأَسْبَابِهِ عَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ إذَا لَمْ يَخْلُ عَنْ فَائِدَةٍ، وَحُدُوثُ الْعَالَمِ وَهُوَ السَّبَبُ مُتَقَرِّرٌ فِي حَقِّهِ، وَأَمَّا الْخِطَابُ فَإِنَّمَا هُوَ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ فَلَوْ أَدَّى الْإِيمَانَ بِالْإِقْرَارِ مَعَ التَّصْدِيقِ
كَانَ عَاقِلًا) فِي هَذَا الْكَلَامِ إبْهَامٌ (لِأَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ جَزَاءَ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْهُ عَمَّا فَعَلَ، وَلَا الْعُقُوبَةَ) أَيْ لَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ الْعُقُوبَةُ (كَالْقِصَاصِ، وَلَا الْأَجْزِيَةَ كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا مَرَّ) فِي بَابِ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالتَّقْصِيرِ.
(وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعِبَادَاتُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ أَمَّا الْبَدَنِيَّةُ فَظَاهِرَةٌ) ؛ لِأَنَّ الصِّبَا سَبَبُ الْعَجْزِ (وَأَمَّا الْمَالِيَّةُ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَدَاءُ لَا الْمَالُ فَلَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ) فَصَارَتْ كَالْبَدَنِيَّةِ (وَلَا الْعُقُوبَاتُ كَالْحُدُودِ وَلَا عِبَادَةٌ فِيهَا مُؤْنَةٌ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِرُجْحَانِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَيَجِبُ عِنْدَهُمَا اجْتِزَاءً) أَيْ اكْتِفَاءً (بِالْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ، وَمَا كَانَ مُؤْنَةً مَحْضَةً كَالْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ يَجِبُ، وَعَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ) وَهُوَ أَنَّ مَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ يَجِبُ، وَمَا لَا
ــ
[التلويح]
وَقَعَ فَرْضًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْتَمِلُ النَّفَلَ أَصْلًا، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ الْإِيمَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنَّ الصِّبَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي سُقُوطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِعُذْرِ النَّوْمِ، وَالْإِغْمَاءِ بِخِلَافِ نَفْسِ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ، وَالصِّبَا لَا يُنَافِيهِ فَيَبْقَى نَفْسُ الْوُجُوبِ وَلِهَذَا لَوْ أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الصَّبِيِّ، وَهُوَ يَأْبَاهُ بَعْدَ مَا عَرَضَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَذَهَبَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّهُ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ، وَإِنْ عَقَلَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ حُكْمِهِ، وَهُوَ الْأَدَاءُ لَكِنْ إذَا أَدَّى يَكُونُ الْإِيمَانُ الْمُؤَدَّى فَرْضًا لِأَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ إنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ عَدَمِ الْحُكْمِ فَقَطْ، وَإِلَّا فَالسَّبَبُ وَالْمَحَلُّ قَائِمٌ فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ تَقَعُ فَرْضًا.
(قَوْلُهُ وَأَمَّا الْمَالِيَّةُ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَدَاءُ) يَعْنِي أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ مَثَلًا هُوَ الْأَدَاءُ لِيَظْهَرَ الْمُطِيعُ عَنْ الْعَاصِي لَا الْمَالُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ الْأَدَاءَ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ عَدَمِ أَدَاءِ الْبَعْضِ خِلَافُ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِمَعْرِفَتِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْبَعْضِ خِلَافُ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى هَذِهِ الْإِجَابَةُ إلَى مَا قِيلَ: إنَّ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَدَاءُ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ الِائْتِمَارَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَالْمَقْصُودُ الِابْتِلَاءُ، وَإِلْزَامُ الْحُجَّةِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي الْمَالِيَّةِ كَمَا إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَى الصَّبِيِّ وَيُؤَدِّيَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أُجِيبَ بِأَنَّ فِعْلَ النَّائِبِ فِي النِّيَابَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَنُوبِ عَنْهُ فَيَصْلُحُ عِبَادَةً بِخِلَافِ النِّيَابَةِ الْجَبْرِيَّةِ كَنِيَابَةِ الْوَلِيِّ.
(قَوْلُهُ: مُؤْنَةٌ مَحْضَةٌ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ) يَعْنِي بِالْمَحْضِ أَنَّهُ بِحَسَبِ الْأَصْلِ وَالْقَصْدُ لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْعُشْرِ وَالْعُقُوبَةِ فِي الْخَرَاجِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْوَصْفِ، وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ.
(قَوْلُهُ وَالْكَامِلَةُ) أَيْ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ تَكُونُ بِالْعَقْلِ الْكَامِلِ أَيْ الْمَقْرُونُ بِقُوَّةِ الْبَدَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَيْسَ مُجَرَّدَ فَهْمِ الْخِطَابِ بَلْ مَعَ قُدْرَةِ الْعَمَلِ
فَلَا.
(قُلْنَا لَوْ وَجَبَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَائِضِ وَالْحَيْضُ يُنَافِيهَا لِظُهُورِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ، وَفِي قَضَائِهَا حَرَجٌ فَيَسْقُطُ أَصْلُ الْوُجُوبِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ إذْ لَيْسَ فِي الْقَضَاءِ حَرَجٌ، وَالْأَدَاءُ مُحْتَمَلٌ) أَيْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ الصَّوْمِ مِنْ الْحَائِضِ وَاجِبًا (لِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ، وَعَدَمُ جَوَازِهِ مِنْهَا) أَيْ عَدَمُ جَوَازِ الصَّوْمِ مِنْ الْحَائِضِ (خِلَافُ الْقِيَاسِ فَيَنْتَقِلُ إلَى الْخَلَفِ) أَيْ يَنْتَقِلُ الْوُجُوبُ إلَى الْخَلَفِ، وَهُوَ الْقَضَاءُ (وَالْجُنُونُ الْمُمْتَدُّ بِوُجُوبِ الْحَرَجِ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَكَذَا الْإِغْمَاءُ الْمُمْتَدُّ فِي الصَّلَاةِ دُونَ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْإِغْمَاءُ (يَنْدُرُ مُسْتَوْعِبًا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ) أَيْ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ (فَقَاصِرَةٌ، وَكَامِلَةٌ، وَكُلٌّ تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ كَذَلِكَ) أَيْ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ الْقَاصِرَةِ تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ قَاصِرَةٍ
ــ
[التلويح]
بِهِ، وَهُوَ بِالْبَدَنِ فَإِذَا كَانَتْ كِلْتَا الْقُدْرَتَيْنِ مُنْحَطَّةً عَنْ دَرَجَةِ الْكَمَالِ كَمَا فِي الصَّبِيِّ الْغَيْرِ الْعَاقِلِ أَوْ إحْدَاهُمَا كَمَا فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ أَوْ الْمَعْتُوهِ الْبَالِغِ كَانَتْ الْأَهْلِيَّةُ نَاقِصَةً.
(قَوْلُهُ فَمَا يَثْبُتُ) بِالْقُدْرَةِ النَّاقِصَةِ أَقْسَامٌ لِأَنَّهَا إمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَالْأَوَّلُ إمَّا حَسَنٌ لَا يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ، وَإِمَّا قَبِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ الْحُسْنَ وَإِمَّا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا، وَالثَّانِي إمَّا نَفْعٌ مَحْضٌ أَوْ ضَرَرٌ مَحْضٌ أَوْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا صَارَتْ سِتَّةً وَأَحْكَامُهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْمَتْنِ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ فِيمَا هُوَ حَسَنٌ، وَفِيهِ نَفْعٌ مَحْضٌ) يَعْنِي أَنَّ الْإِيمَانَ وَفُرُوعَهُ حَسَنٌ، وَفِيهِ نَفْعٌ مَحْضٌ فَلَا يَلِيقُ بِالشَّارِعِ الْحَكِيمِ الْحَجْرُ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ: هُوَ يَحْتَمِلُ الضَّرَرَ بِالِالْتِزَامِ، وَالْعُهْدَةِ حَيْثُ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ لُزُومِ الْأَدَاءِ، وَلُزُومُ الْأَدَاءِ هُوَ مَوْضُوعٌ عَنْ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِعُذْرِ النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَالْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا نَفْسُ الْأَدَاءِ وَصِحَّتُهُ فَنَفْعٌ مَحْضٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ: نَفْسُ الْأَدَاءِ أَيْضًا يَحْتَمِلُ الضَّرَرَ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ عَنْ مُوَرِّثِهِ الْكَافِرِ، وَالْفُرْقَةِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الْمُشْرِكَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمَا مُضَافَانِ إلَى إسْلَامِ الصَّبِيِّ بَلْ إلَى كُفْرِ الْمُوَرِّثِ وَالزَّوْجَةِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَهُمَا مِنْ ثَمَرَاتِ إسْلَامِهِ وَأَحْكَامُهُ اللَّازِمَةُ مِنْهُ ضِمْنًا لَا مِنْ أَحْكَامِهِ الْأَصْلِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ هُوَ لَهَا لِظُهُورِ أَنَّ الْإِيمَانَ إنَّمَا وُضِعَ لِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَصِحَّةُ الشَّيْءِ إنَّمَا تُعْرَفُ مِنْ حُكْمِهِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي وُضِعَ هُوَ لَهُ لَا مِمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ وَرِثَ قَرِيبَهُ أَوْ وُهِبَ مِنْهُ قَرِيبُهُ فَقَبِلَهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْإِرْثِ، وَالْهِبَةِ هُوَ الْمِلْكُ بِلَا عِوَضٍ لَا الْعِتْقُ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
(قَوْلُهُ: أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا) أَيْ حِرْمَانُ الْإِرْثِ عَنْ الْمُوَرَّثِ الْكَافِرِ، وَالْفُرْقَةُ عَنْ الزَّوْجَةِ الْوَثَنِيَّةِ يَثْبُتَانِ فِيمَا إذَا ثَبَتَ إيمَانُ الصَّبِيِّ تَبَعًا بِأَنْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، وَلَمْ يُعَدَّ إضْرَارًا يَمْنَعُ صِحَّةَ ثُبُوتِ الْإِيمَانِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ الثَّمَرَاتِ وَاللَّوَازِمِ
وَأَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ الْكَامِلَةِ تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ كَامِلَةٍ.
(وَالْقُدْرَةُ الْقَاصِرَةُ تَثْبُتُ بِالْعَقْلِ الْقَاصِرِ، وَهُوَ عَقْلُ الصَّبِيِّ، وَالْمَعْتُوهِ وَالْكَامِلَةُ بِالْعَقْلِ الْكَامِلِ، وَهُوَ عَقْلُ الْبَالِغِ غَيْرِ الْمَعْتُوهِ فَمَا يَثْبُتُ بِالْقَاصِرَةِ أَقْسَامٌ فَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْإِيمَانِ وَفُرُوعِهِ تَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ) بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ إذَا بَلَغُوا عَشْرًا» (وَإِنَّمَا الضَّرْبُ لِلتَّأْدِيبِ) جَوَابُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ يُضْرَبُ، وَالضَّرْبُ عُقُوبَةٌ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا الضَّرْبَ لِلتَّأْدِيبِ، وَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لِلتَّأْدِيبِ (وَلِأَنَّهُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام (أَهْلٌ لِلثَّوَابِ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا وُجِدَ لَا يَنْعَدِمُ شَرْعًا إلَّا بِحَجْرِهِ) أَيْ بِحَجَرِ الشَّرْعِ، وَهُوَ بَاطِلٌ فِيمَا هُوَ حَسَنٌ، وَفِيهِ نَفْعٌ مَحْضٌ وَلَا ضَرَرَ إلَّا فِي لُزُومِ أَدَائِهِ، وَهُوَ عَنْهُ مَوْضُوعٌ (وَأَمَّا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ، وَالْفُرْقَةُ فَيُضَافَانِ إلَى كُفْرِ الْآخَرِ) جَوَابُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنَّ
ــ
[التلويح]
لَا مِنْ الْمَقَاصِدِ وَالْأَحْكَامِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِيمَانِ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْكُفْرُ فَيُعْتَبَرُ) مِنْ الصَّبِيِّ أَيْضًا كَمَا يُعْتَبَرُ مِنْهُ الْإِيمَانُ إذْ لَوْ عُفِيَ عَنْهُ الْكُفْرُ، وَجُعِلَ مُؤْمِنًا لَصَارَ الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا بِهِ لِأَنَّ الْكُفْرَ جَهْلٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَصِفَاتِهِ، وَأَحْكَامِهِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالْجَهْلُ لَا يُجْعَلُ عِلْمًا فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَكَيْفَ فِي حَقِّ رَبِّ الْأَرْبَابِ فَيَصِحُّ ارْتِدَادُ الصَّبِيِّ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ اتِّفَاقًا لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْكُفْرِ، وَدُخُولَ الْجَنَّةِ مَعَ الشِّرْكِ مِمَّا لَمْ يَرِدُ بِهِ شَرْعٌ، وَلَا حَكَمَ بِهِ عَقْلٌ كَذَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى تَبِينَ مِنْهُ امْرَأَتُهُ الْمُسْلِمَةُ، وَيَحْرُمَ الْمِيرَاثُ مِنْ مُوَرِّثِهِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الرِّدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغِ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَحْظُورٌ لَا يَحْتَمِلُ الْمَشْرُوعِيَّةَ بِحَالٍ، وَلَا يَسْقُطُ بِعُذْرٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقْتَلْ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَتْلِ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الِارْتِدَادِ بَلْ بِالْمُحَارَبَةِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا كَالْمَرْأَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يُقْتَلْ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ حَالَ الصِّبَا شُبْهَةٌ فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ.
(قَوْلُهُ بِلَا عُهْدَةٍ) أَيْ لَا يَلْزَمُ الصَّبِيَّ، وَالْعَبْدَ بِتَصَرُّفَاتِهِمَا بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ عُهْدَةٌ لِأَنَّ مَا فِيهِ احْتِمَالَ الضَّرَرِ لَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْوَلِيُّ فَيَنْدَفِعَ قُصُورُ رَأْيِهِ بِانْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ فَيَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ.
(قَوْلُهُ: وَلَا مُبَاشَرَتُهُ) لِأَنَّ وِلَايَةَ الْوَلِيِّ نَظَرِيَّةٌ، وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ فِيمَا هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ، وَقَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْحَقُّ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي إثْبَاتِ أَصْلِ الْحُكْمِ حَتَّى يَمْلِكَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَوْ أَسْلَمَتْ الزَّوْجَةُ، وَأَبَى الزَّوْجُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا إذَا ارْتَدَّ الزَّوْجُ وَحْدَهُ (قَوْلُهُ: إلَّا الْقَرْضَ) أَيْ الْإِقْرَاضَ إذْ اسْتِقْرَاضُ مَالِ الصَّبِيِّ يَجُوزُ لِلْأَبِ دُونَ الْقَاضِي، وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ قَطْعُ الْمِلْكِ عَنْ الْعَيْنِ بِبَدَلِهِ فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَلِيٍّ فِي الْغَالِبِ فَيُشْبِهُ التَّبَرُّعَ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ، وَأَمَّا الْقَاضِي فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَطْلُبَ مَلِيًّا، وَيُقْرِضَهُ مَالَ الْيَتِيمِ، وَيَكُونَ الْبَدَلُ مَأْمُونَ
لُزُومَ أَدَاءِ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَ مَوْضُوعًا عَنْ الصَّبِيِّ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَثْبُتَ بِإِسْلَامِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ عَنْ مُوَرِّثِهِ الْكَافِرِ، وَلَا الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الْوَثَنِيَّةِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَرَرٌ فَأَجَابَ بِأَنَّهُمَا يُضَافَانِ إلَى كُفْرِ الْآخَرِ لَا إلَى إسْلَامِهِ (وَأَيْضًا هُمَا مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ) وَإِنَّمَا يُعْرَفُ صِحَّةُ الشَّيْءِ بِحُكْمِهِ الَّذِي وُضِعَ لَهُ وَهُوَ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ تَبَعًا، وَلَمْ يُعَدَّا ضَرَرًا حَتَّى لَوْ كَانَ ضَرَرًا لَا يَلْزَمُ بِتَبَعِيَّةِ الْأَبِ إذْ تَصَرُّفَاتُ الْأَبِ لَا تَلْزَمُ الصَّغِيرَ فِيمَا هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ (وَأَمَّا الْكُفْرُ فَيُعْتَبَرُ مِنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ لَا يُعَدُّ عِلْمًا فَتَصِحُّ رِدَّتُهُ فَيَلْزَمُ أَحْكَامُ الْآخِرَةِ) لِأَنَّهَا تَتْبَعُ الِاعْتِقَادِيَّات وَالِاعْتِقَادِيَّات أُمُورٌ مَوْجُودَةٌ حَقِيقَةً لَا مَرَدَّ لَهَا بِخِلَافِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ (وَكَذَا أَحْكَامُ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا تَثْبُتُ ضِمْنًا) أَيْ لِأَنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا تَثْبُتُ بِالْكُفْرِ ضِمْنًا وَالْأَحْكَامُ الْقَصْدِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ هِيَ الْأَحْكَامُ الْأُخْرَوِيَّةُ، وَلَمَّا كَانَتْ ثَابِتَةً ضِمْنًا تَثْبُتُ، وَإِنْ كَانَتْ ضَرَرًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ قَصْدًا مَا هُوَ ضَرَرٌ دُنْيَوِيٌّ (عَلَى أَنَّهَا تَلْزَمُ تَبَعًا
ــ
[التلويح]
التَّلَفِ بِاعْتِبَارِ الْمُلَاءَةِ، وَعِلْمِ الْقَاضِي وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّحْصِيلِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَبَيِّنَةٍ وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الْقَاضِي أَقْدَرَ عَلَى اسْتِيفَائِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَيْضًا.
(قَوْلُهُ وَمَا كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا) أَيْ مُحْتَمِلًا لِلنَّفْعِ وَالضَّرَرِ كَالْبَيْعِ، وَيَحْتَمِلُ الرِّبْحَ، وَالْخُسْرَانَ، وَكَذَا الشِّرَاءُ وَالْإِجَارَةُ، وَالنِّكَاحُ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَ احْتِمَالَ الضَّرَرِ بِاعْتِبَارِ خُرُوجِ الْبَدَلِ عَنْ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ بَاعَ الشَّيْءَ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ كَانَ ضَرَرًا وَنَفْعًا، وَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَنْدَفِعَ الضَّرَرُ بِحَالٍ قَطُّ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ احْتِمَالَ الضَّرَرِ يَنْدَفِعُ بِانْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَيْ الصَّبِيَّ أَهْلٌ لِحُكْمِهِ) أَيْ حُكْمِ مَا هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ إذَا بَاشَرَهُ الْوَلِيُّ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الثَّمَنَ إذَا بَاعَ الْوَلِيُّ مَالَهُ، وَيَمْلِكُ الْعَيْنَ إذَا اشْتَرَاهَا لَهُ، وَيَمْلِكُ الْأُجْرَةَ إذَا أَجَّرَ عَيْنًا لَهُ.
(قَوْلُهُ وَتَوْسِيعُ طَرِيقِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ) حَيْثُ يَثْبُتُ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ، وَمُبَاشَرَةِ الصَّبِيِّ.
(قَوْلُهُ وَعِنْدَهُمَا) أَيْ تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّفْعَ وَالضَّرَرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ أَنَّهُ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ حَتَّى كَانَ الصَّبِيُّ آلَةً فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ تَصَرُّفُ الْوَلِيِّ، وَعِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ رَأْيَ الْوَلِيِّ شَرْطٌ لِلْجَوَازِ، وَعُمُومُ رَأْيِهِ كَخُصُوصِهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْوَلِيَّ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ يَعْنِي أَنَّ رَأْيَ الْوَلِيِّ شَرْطٌ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالصَّبِيِّ، وَرَأْيَهُ فِيمَا إذَا تَصَرَّفَ الصَّبِيُّ عَامٌّ حَيْثُ جَاوَزَ تَصَرُّفَهُ إلَى تَصَرُّفِ الْغَيْرِ، وَفِيمَا إذَا بَاشَرَ بِنَفْسِهِ خَاصٌّ لَا يَتَجَاوَزُهُ فَيُجْعَلُ عُمُومُ رَأْيِهِ بِأَنْ عَمِلَ بِيَدِ الْغَيْرِ كَخُصُوصِهِ بِأَنْ يَعْمَلَ بِيَدِ نَفْسِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْوَلِيَّ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا وَصِيَّتُهُ فَبَاطِلَةٌ) جَوَابُ سُؤَالٍ يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ نَفْعٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهَا الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْمَالِ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّ