الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَيْهِ إنَّ التَّعْدِيَةَ تُوجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، وَأَيْضًا لَا تُشْعِرُ بِعَدَمِ بَقَائِهِ فِي الْأَصْلِ بَلْ تُشْعِرُ بِبَقَائِهِ فِي الْأَصْلِ فِي وَضْعِهَا اللُّغَوِيِّ أَلَا يَرَى أَنَّ تَعْدِيَةَ الْفِعْلِ هِيَ أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى التَّعَلُّقِ بِالْفَاعِلِ بَلْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَفْعُولِ أَيْضًا كَمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْفَاعِلِ.
فَالْمُرَادُ هُنَا أَنْ لَا يَقْتَصِرَ ذَلِكَ النَّوْعُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَى الْأَصْلِ بَلْ يَثْبُتُ فِي الْفَرْعِ أَيْضًا، وَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُقَالَ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ الْمُتَّحِدِ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ لَا تُمْكِنُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَّحِدًا مِنْ حَيْثُ النَّوْعُ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ
ــ
[التلويح]
بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ إذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ دَلِيلُ إثْبَاتِ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي الذُّرَةِ هُوَ الْقِيَاسُ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هُوَ إثْبَاتُ حُرْمَةِ الرِّبَا فِيهِ
[الْقِيَاسُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ]
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ مُثْبِتَ الْحُكْمِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى) غَيْرُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ مُثْبِتًا لِلْحُكْمِ بَلْ يُجْعَلَ مُظْهِرًا عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَنَّ مَرْجِعَ الْكُلِّ إلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَالْأَوْجَهُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ الْوَارِدِ فِي الْأَصْلِ، وَالْقِيَاسُ بَيَانٌ لِعُمُومِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ وَعَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِالْأَصْلِ، وَهَذَا أَوْضَحُ ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنْ تُفَسَّرَ التَّعْدِيَةُ بِالْإِبَانَةِ وَالْإِظْهَارِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْقِيَاسَ إبَانَةُ مِثْلِ حُكْمِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ بِمِثْلِ عِلَّتِهِ فِي الْآخَرِ.
(قَوْلُهُ: وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ نَفَوْهُ) أَيْ: الْقِيَاسَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَقْلِ حَمْلُ النَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَالْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَقْلِ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ خَاصَّةً إمَّا لِامْتِنَاعِهِ عَقْلًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الشِّيعَةِ وَالنَّظَّامُ، وَإِمَّا لِامْتِنَاعِهِ سَمْعًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَدِلَّةُ الْمَذْهَبِ الْأَخِيرِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْأَوَّلَيْنِ؛ لِأَنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ الشَّارِعَ لَوْ قَالَ: إذَا وَجَدْت مُسَاوَاةَ فَرْعِ لِأَصْلٍ فِي عِلَّةِ حُكْمِهِ، فَأَثْبِتْ فِيهِ مِثْلَ حُكْمِهِ، وَاعْمَلْ بِهِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُحَالٌ لَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ امْتِنَاعِ الْقِيَاسِ فَقِيلَ هُوَ وَاجِبٌ عَقْلًا لِئَلَّا تَخْلُوَ الْوَقَائِعُ عَنْ الْأَحْكَامِ إذْ النَّصُّ لَا يَفِي بِالْحَوَادِثِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ أَجْنَاسَ الْأَحْكَامِ، وَكُلِّيَّاتِهَا مُتَنَاهِيَةٌ يَجُوزُ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا بِالْعُمُومَاتِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ النَّهْرَوَانِيُّ وَالْقَاشَانِيُّ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاقِعٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهِ. فَقِيلَ: بِالْعَقْلِ. وَقِيلَ: بِالسَّمْعِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالسَّمْعِ فَقِيلَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وَقِيلَ قَطْعِيٍّ وَبِهِ يُشْعِرُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ رحمه الله حَيْثُ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ نَصِّ الْكِتَابِ وَبِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَبِالْإِجْمَاعِ.
(قَوْلُهُ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه هُوَ لَوْحٌ مِنْ دِرَّةٍ بَيْضَاءَ طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَعَرْضُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ.
وَقَوْلُهُ لَا تُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ اللُّغَةِ احْتِرَازٌ عَنْ دَلَالَةِ النَّصِّ، وَذِكْرُ هَذَا الْقَيْدِ وَاجِبٌ لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ دَلَالَةِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ.
(وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا جَعَلُوا الْعِلَّةَ رُكْنَ الْقِيَاسِ وَالتَّعْدِيَةَ حُكْمَهُ فَالْقِيَاسُ تَبْيِينُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ هَذَا لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ) .
ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعِلَّةَ رُكْنُ الْقِيَاسِ وَالتَّعْدِيَةَ حُكْمُهُ فَالرُّكْنُ مَا يَتَقَوَّمُ بِهِ الشَّيْءُ وَالْحُكْمُ هُوَ الْأَثَرُ الثَّابِتُ بِالشَّيْءِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَتَقَوَّمُ بِهِ وَيَتَحَقَّقُ بِهِ الْقِيَاسُ هُوَ الْعِلَّةُ أَيْ: الْعِلْمُ بِالْعِلَّةِ ثُمَّ التَّعْدِيَةُ هِيَ أَثَرُ الْقِيَاسِ، فَالْقِيَاسُ هُوَ تَبْيِينُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ هَذَا الشَّيْءُ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ فَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ التَّعْدِيَةُ نَتِيجَةُ الْقِيَاسِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ حَتَّى لَوْ عُلِّلَ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لَا يَكُونُ هَذَا التَّعْلِيلُ قِيَاسًا، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِ الْقِيَاسِ تَعْدِيَةً، وَإِثْبَاتًا لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ مُعَلَّلٌ بِالْقِيَاسِ، وَالْعِلَّةُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ خَارِجَةً عَنْ الْمَعْلُولِ، وَعِلَّةُ إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ لَيْسَتْ إلَّا الْحُكْمُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْعِلَّةِ لِتَثْبُتَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ.
(وَهُوَ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِأَنَّ الْحُكْمَ هَذَا إلَّا أَنَّهُ مُثْبَتٌ لَهُ ابْتِدَاءً) أَيْ: الْقِيَاسُ يُفِيدُ غَلَبَةَ ظَنِّنَا بِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي صُورَةِ الْفَرْعِ هَذَا فَمَا ذَكَرْنَا مِنْ إثْبَاتِ الْحُكْمِ، فَالْمُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى لَا أَنَّ الْقِيَاسَ مُثْبِتٌ لِلْحُكْمِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ مُثْبِتَ الْحُكْمِ هُوَ اللَّهُ
ــ
[التلويح]
وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ الْمُنْتَقِشُ بِصُورَةِ الْكَائِنَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ تَنْطَبِعُ الْعُلُومُ فِي عُقُولِ النَّاسِ، وَقِيلَ: هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا لَا اسْتِدْلَالَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ هُوَ الْقُرْآنُ فَلَا اسْتِدْلَالَ أَيْضًا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} [الأنعام: 59] الْآيَةَ مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلَى وَرَقَةٍ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59] أَيْ: مَا يَسْقُطُ مِنْ رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ وَفَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِمُنْبِتٍ وَغَيْرِ مُنْبِتٍ وَلَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِلتَّعْمِيمِ الْمُرَادِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِمْ مَا تَرَكَ فُلَانٌ مِنْ رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا جَمَعَهُ نَعَمْ لَوْ حَمَلَ قِرَاءَةَ الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ دُونَ الْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ مِنْ وَرَقَةٍ لَكَانَ فِيهِ تَمَسُّكٌ يَحْتَاجُ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْجَوَابِ.
وَهُوَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فُرِضَ فَهُوَ كَائِنٌ فِي الْقُرْآنِ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَفْظًا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي قَوْله تَعَالَى {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فَحُكْمُ الْمَقِيسِ مَذْكُورٌ فِيهِ مَعْنًى، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْقِيَاسِ مُظْهِرًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ تَمَسُّكُ لُزُومِ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُ الْقُرْآنِ حُجَّةً فَإِنْ قِيلَ الْكُلُّ فِي الْقُرْآنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام أَوْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ قُلْنَا فَلْيَكُنْ فِيهِ حُكْمُ الْقِيَاسِ وَيَعْرِفُهُ الْمُجْتَهِدُ.
(قَوْلُهُ أَوْلَادُ السَّبَايَا) جَمْعُ سَبِيَّةٍ بِمَعْنَى مَسْبِيَّةٍ يَعْنِي: أَنَّهُمْ اتَّخَذُوا الْجَوَارِيَ سُرِّيَّاتٍ فَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلَادًا غَيْرَ نُجَبَاءَ (قَوْلُهُ: فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ بِمَا
تَعَالَى، وَهَذَا مَا قَالُوا: إنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ لَا مُثْبِتٌ.
(وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ نَفَوْهُ فَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنْ لَا عِبْرَةَ لِلْعَقْلِ أَصْلًا، وَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنْ لَا عِبْرَةَ لَهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لَهُمْ قَوْله تَعَالَى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وَلَمَّا كَانَ الْكِتَابُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ كُلُّ الْأَحْكَامِ مُسْتَفَادَةً مِنْ الْكِتَابِ، وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا لَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ. (وقَوْله تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَلَا تَمَسُّكَ لَهُمْ حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْقُرْآنَ فَالتَّمَسُّكُ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] .
(وَقَوْلُهُ: عليه السلام «فَقَاسُوا مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» ) لَفْظُ الْحَدِيثِ هَكَذَا «لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ أَوْلَادُ السَّبَايَا فَقَاسُوا» إلَخْ. (وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ مُمْكِنٌ وَقَدْ دُعِينَا إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] أَيْ: دُعِينَا إلَى الْعَمَلِ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، وَالْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَإِنَّمَا دُعِينَا إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ، وَكُلُّ مَا لَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَرَّمًا لَا يَكُونُ مُحَرَّمًا بَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ. (وَلِأَنَّ الْحُكْمَ حَقُّ الشَّارِعِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْبَيَانِ الْقَطْعِيِّ فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ) الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى الْإِثْبَاتِ أَيْ: إثْبَاتُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ. (فِي حَقِّهِ تَعَالَى؛ وَلِأَنَّهُ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ: الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ
ــ
[التلويح]
فِيهِ شُبْهَةٌ) احْتِرَازٌ عَنْ الْإِجْمَاعِ إذْ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ فَهُوَ بَيَانٌ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ قَطْعِيٌّ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي طَرِيقِ الِانْتِقَالِ إلَيْنَا، وَهَذَا يُخَالِفُ حُقُوقَ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ كَالشَّهَادَاتِ؛ لِعَجْزِهِمْ عَنْ الْإِثْبَاتِ بِقَطْعِيٍّ.
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ أَمْرِ الْحَرْبِ) حَاصِلُهُ أَنَّا نَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ وَيَكُونُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَكُونُ مُدْرَكَةً بِالْحِسِّ وَلَا بِالْعَقْلِ إذْ لَوْ أُدْرِكَ بِهِ صَارَ قَطْعِيًّا.
(قَوْلُهُ: وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ بِأَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَصْلُ الَّذِي يُرَدُّ إلَيْهِ النَّظَائِرُ عِبْرَةً وَهَذَا يَشْمَلُ الِاتِّعَاظَ وَالْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَالشَّرْعِيَّ وَلَا شَكَّ أَنَّ سَوْقَ الْآيَةِ لِلِاتِّعَاظِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ وَعَلَى الْقِيَاسِ إشَارَةً فَإِنْ قِيلَ: الِاعْتِبَارُ هُوَ الِاتِّعَاظُ، وَحَقِيقَتُهُ تَتَبُّعُ الشَّيْءِ بِالتَّأَمُّلِ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الِاسْتِعْمَالُ، وَنَقْلُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقِيَاسِ فِي الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا يُقَالُ فِي إثْبَاتِ الصَّانِعِ اعْتَبِرْ بِالدَّارِ وَهَلْ يُمْكِنُ حُدُوثُهَا بِغَيْرِ صَانِعٍ فَمَا ظَنُّكَ بِالْعَالَمِ، وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ مِثْلِ اعْتَبِرْ قِسْ الذُّرَةَ بِالْحِنْطَةِ قُلْنَا لَوْ سُلِّمَ فَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ فَاءُ التَّعْلِيلِ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالِاعْتِبَارِ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الِاتِّعَاظِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ
طَاعَةُ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ هُنَا الْمَحْكُومُ بِهِ.
(وَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي دَرْكِهَا) كَالْمُقَدَّرَاتِ مِثْلَ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَسَائِرِ الْمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي دَرْكِهَا. (بِخِلَافِ أَمْرِ الْحَرْبِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ لَا يُمْكِنُ هُنَا، وَهِيَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهِيَ تُدْرَكُ بِالْحِسِّ أَوْ الْعَقْلِ) فَقَوْلُهُ بِخِلَافِ أَمْرِ الْحَرْبِ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ يَصِحُّ فِيهَا الْقِيَاسُ وَالْعَمَلُ بِالرَّأْيِ اتِّفَاقًا فَصَحَّ ثُبُوتُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِالْقِيَاسِ فَأَجَابَ بِالْفَرْقِ الْمَذْكُورِ.
(وَكَذَا أَمْرُ الْقِبْلَةِ) أَيْ: يُدْرَكُ بِالْحِسِّ أَوْ الْعَقْلِ أَوْ بِالسَّفَرِ أَوْ بِمُحَاذَاةِ الْكَوَاكِبِ وَنَحْوِهِمَا، (وَالِاعْتِبَارُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاتِّعَاظِ بِالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ) اعْلَمْ أَنَّ النَّصَّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِلْقَائِسِينَ هُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِبَارِ الِاتِّعَاظُ بِالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ.
(وقَوْله تَعَالَى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] مَحْمُولٌ عَلَى الْحَرْبِ) أَيْ: إنْ تَمَسَّكَ بِهَا أَحَدٌ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ نَقُولُ إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَمْرِ الْحَرْبِ.
(وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] الْآيَةَ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَاللَّفْظُ عَامٌّ يَشْمَلُ الِاتِّعَاظَ، وَكُلَّ مَا هُوَ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ أَيْ: الْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا هُوَ ثَابِتٌ لِنَظِيرِهِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْعُبُورِ وَالتَّرْكِيبِ يَدُلُّ عَلَى التَّجَاوُزِ
ــ
[التلويح]
بِوُجُودِ السَّبَبِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِوُجُودِ الْمُسَبَّبِ وَهُوَ مَعْنَى الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ بَلْ صَرِيحَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَا يَقْتَضِي الْعِلِّيَّةَ التَّامَّةَ حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ وُجُوبِ الِاتِّعَاظِ. هَذِهِ الْقِصَّةُ السَّابِقَةُ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ لَهَا دَخْلٌ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ وُجُودَ السَّبَبِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الْمُسَبَّبِ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّحْقِيقِ مِمَّا يَشُكُّ فِيهِ الْأَفْرَادُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مِنْ دَلَالَةِ النَّصِّ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا عُمُومَ فِي الْآيَةِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَقَدْ خُصَّ مِنْهُ مَا يَنْتَفِي فِيهِ شَرَائِطُ الْقِيَاسِ وَمَا تَعَارَضَتْ فِيهِ الْأَقْيِسَةُ، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ تَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَغَيْرَهُ، وَالْمَرَّةَ وَالتَّكْرَارَ وَالْخِطَابَ مَعَ الْحَاضِرِينَ فَقَطْ وَالتَّقْيِيدَ بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِذَلِكَ وُجُوبُ الْعَمَلِ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ بِكُلِّ قِيَاسٍ صَحِيحٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ؟ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ اعْتَبِرُوا فِي مَعْنَى افْعَلُوا الِاعْتِبَارَ وَهُوَ عَامٌّ وَتَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالْفِعْلِ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْعُمُومِ فَالْإِطْلَاقُ كَافٍ وَلَفْظُ {أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] يَعُمُّ الْمُجْتَهِدِينَ بِلَا نِزَاعٍ وَلَا عِبْرَةَ بِبَاقِي الِاحْتِمَالَاتِ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنْ النُّصُوصِ.
(قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ) الظَّاهِرُ: أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِبَاحَةِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ عِنْدَ انْتِفَائِهَا لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُلْ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ جَوَازَ الْبَيْعِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الصِّفَةِ مُنْتَفِيًا بِحُكْمِ
وَالتَّعَدِّي.
(فَيَدُلُّ عَلَى الِاتِّعَاظِ عِبَارَةً وَعَلَى الْقِيَاسِ إشَارَةً) ؛ لِأَنَّ الِاتِّعَاظَ يَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ مَعَ أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لَهُ، وَالْقِيَاسَ يَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ سِيَاقُ الْكَلَامِ لَهُ. (سَلَّمْنَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ هُوَ الِاتِّعَاظُ لَكِنْ يَثْبُتُ الْقِيَاسُ دَلَالَةً) أَيْ: مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْقِيَاسِ إشَارَةً كَانَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاعْتِبَارِ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ فَالْآنَ نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاعْتِبَارِ الِاتِّعَاظُ، وَمَعَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْقِيَاسِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ الَّتِي تُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ.
(وَطَرِيقُهَا) أَيْ: طَرِيقُ دَلَالَةِ النَّصِّ فِي هَذِهِ أَنَّ الصُّورَةَ (فِي النَّصِّ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَلَاكُ قَوْمٍ بِنَاءً عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ اغْتِرَارُهُمْ بِالْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ ثُمَّ أَمَرَ بِالِاعْتِبَارِ لِيَكُفّ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ لِئَلَّا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ) ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحُكْمِهِ، فَكَذَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُفْهَمُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فَيَكُونُ دَلَالَةَ نَصٍّ لَا قِيَاسًا حَتَّى لَا يَكُونَ إثْبَاتُ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]
ــ
[التلويح]
الْأَصْلِ إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْجَوَازُ لَزِمَهُ الْمَصِيرُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ بِمَعْنَى أَنَّ بَيْعَ الْحِنْطَةِ مُبَاحٌ إلَّا أَنَّ رِعَايَةَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ وَاجِبَةٌ كَمَا أَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ جَائِزٌ وَالْقَبْضَ فِيهِ وَاجِبٌ.
فَإِنْ قُلْت مَعْنَى كَوْنِ الْأَمْرِ لِلْإِيجَابِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ وَاجِبٌ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذْ لَا وُجُوبَ لِبَيْعِ الْحِنْطَةِ بِوَصْفِ الْمُمَاثَلَةِ، وَلَا لِأَخْذِ الرَّهْنِ بِوَصْفِ الْقَبْضِ قُلْتُ مُرَادُهُ أَنَّ الْأَمْرَ مُنْصَرِفٌ إلَى رِعَايَةِ الْوَصْفِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ كَأَنْ قِيلَ: إذَا بِعْتُمْ الْحِنْطَةَ فَرَاعُوا الْمُمَاثَلَةَ، وَإِذَا أَخَذْتُمْ الرَّهْنَ فَاقْبِضُوا.
(قَوْلُهُ: وَأَيْضًا حَدِيثُ مُعَاذٍ) فَإِنَّهُ مَشْهُورٌ يَثْبُتُ بِهِ الْأُصُولُ فَإِنْ قُلْت الِاجْتِهَادُ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ كَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ النُّصُوصِ الْخَفِيَّةِ الدَّلَالَةِ أَوْ الْحُكْمِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ الْقِيَاسِ الْمَنْصُوصِ الْعِلَّةِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى الْجَوَازِ لِغَيْرِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قُلْتُ الِاسْتِنْبَاطُ بِالنُّصُوصِ مِمَّا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَا الْبَرَاءَةُ أَصْلِيَّةٌ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ احْتِيَاجِهَا لِلِاجْتِهَادِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ.
فَبَقِيَ الْقِيَاسُ وَهُوَ مُطْلَقٌ وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى مَنْصُوصِ الْعِلَّةِ لَمَا سَكَتَ الشَّارِعُ لِبَقَاءِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَهِيَ الَّتِي تُبْتَنَى عَلَى قِيَاسٍ غَيْرِ مَنْصُوصِ الْعِلَّةِ وَجَوَازُ ذَلِكَ لِمُعَاذٍ رضي الله عنه إنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ اجْتِهَادِهِ فَثَبَتَ فِي غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَقَدْ قَالَ عليه السلام حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ رَوَيْنَا) فِي آخِرِ بَابِ السُّنَّةِ أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِالْقِيَاسِ وَهِيَ، وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارُ آحَادٍ إلَّا أَنَّ جُمْلَةَ
فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِاعْتِبَارِ الِاتِّعَاظَ مَعْنَاهُ اجْتَنِبُوا عَنْ مِثْلِ هَذَا السَّبَبِ؛ لِأَنَّكُمْ إنْ أَتَيْتُمْ بِمِثْلِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلِكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ فَلَمَّا أَدْخَلَ فَاءَ التَّعْلِيلِ عَلَى قَوْلِهِ {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] جَعَلَ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ عِلَّةً لِوُجُوبِ الِاتِّعَاظِ.
وَإِنَّمَا تَكُونُ عِلَّةً لِوُجُوبِ الِاتِّعَاظِ بِاعْتِبَارِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ بِوُجُودِ السَّبَبِ يَجِبُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِوُجُودِ الْمُسَبِّبِ حَتَّى لَوْ لَمْ تُقَدَّرْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ لَا يَصْدُقُ التَّعْلِيلُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ إنَّمَا يَكُونُ صَادِقًا إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْكُلِّيُّ صَادِقًا فَيَكُونُ حِينَئِذٍ هَذَا الْحُكْمُ الْجُزْئِيُّ صَادِقًا فَإِذَا ثَبَتَتْ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْفَاءِ، وَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ فَيَكُونُ مَفْهُومًا بِطَرِيقِ اللُّغَةِ فَيَكُونُ دَلَالَةً نَصًّا لَا قِيَاسًا فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ، وَدَلَالَةُ النَّصِّ مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْقِيَاسِ الَّذِي يُعْرَفُ فِيهِ الْعِلَّةُ اسْتِنْبَاطًا وَاجْتِهَادًا (وَنَظِيرِهِ) أَيْ: نَظِيرُ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا النَّظِيرَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ اعْتِبَارٌ حَسَبَ الِاعْتِبَارِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ الِاعْتِبَارِ فِي الْقِيَاسِ، وَكَيْفِيَّةَ اسْتِنْبَاطِ الْعِلَّةِ.
(قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ» بِالنَّصْبِ أَيْ: بِيعُوا الْحِنْطَةَ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ، وَالْبَيْعُ مُبَاحٌ يُصْرَفُ
ــ
[التلويح]
الْأَمْرِ بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ وَهِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَعْمَلُ بِالْقِيَاسِ فَيَكُونُ حُجَّةً رُبَّمَا يَجْعَلُ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَذْكُرُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بِعِلَلِهَا، وَلَوْ لَمْ يُجِزْ إلْحَاقَ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَمَا كَانَتْ لِذِكْرِ الْعِلَلِ فَائِدَةٌ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ذِكْرَ الْأَحْكَامِ بِعِلَلِهَا لَا يُوجِبُ صِحَّةَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ بَلْ فَائِدَتُهَا مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ مَعًا فَإِنَّهَا أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ، وَأَدْخَلُ فِي الْقَبُولِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ.
(قَوْلُهُ وَعَمَلُ الصَّحَابَةِ) إشَارَةٌ إلَى دَلِيلٍ عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَتْ تَفَاصِيلُ ذَلِكَ آحَادًا، وَالْعَادَةُ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ قَاطِعٍ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً، وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْهُ بِالتَّعْيِينِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ عَمَلَهُمْ بِالْقِيَاسِ وَمُبَاحَثَتَهُمْ فِيهِ بِتَرْجِيحِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ تَكَرَّرَ وَشَاعَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَهَذَا وِفَاقٌ، وَإِجْمَاعٌ عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ وَمَا نُقِلَ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - إنَّمَا كَانَ فِي الْبَعْضِ لِكَوْنِهِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ أَوْ لِعَدَمِ شَرَائِطِ الْقِيَاسِ، وَشُيُوعُ الْأَقْيِسَةِ الْكَثِيرَةِ بِلَا إنْكَارٍ مَقْطُوعٌ بِهِ مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ الْعَمَلَ كَانَ بِهَا لِظُهُورِهَا لَا لِخُصُوصِيَّاتِهَا.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمَهُ فِي زَمَانٍ لَا يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهِ) فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِكَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ كَوُجُودِ مَكَّةَ وَوُجُودِ بَغْدَادَ وَعَدَمِ جَبَلٍ مِنْ الْيَاقُوتِ وَبَحْرٍ مِنْ