المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌(الرُّكْنُ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ

- ‌[فَصْلٌ اتِّصَالُ الْخَبَرِ] [

- ‌التَّوَاتُرُ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ]

- ‌[فَصْلٌ] الرَّاوِي إمَّا مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ وَإِمَّا مَجْهُولٌ

- ‌[فَصْلٌ شَرَائِطُ الرَّاوِي]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْقِطَاعِ الْحَدِيثِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ]

- ‌[فَصْلٌ] فِي كَيْفِيَّةِ السَّمَاعِ وَالضَّبْطِ وَالتَّبْلِيغِ

- ‌(فَصْلٌ) فِي الطَّعْنِ

- ‌(فَصْلٌ) فِي أَفْعَالِهِ عليه الصلاة والسلام

- ‌[فَصْلٌ فِي الْوَحْيِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ]

- ‌[فَصْلٌ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ]

- ‌[بَابُ الْبَيَانِ]

- ‌(فَصْلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ)

- ‌[مَسْأَلَةٌ شَرْطُ الِاسْتِثْنَاءِ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَمُنْقَطِعٌ

- ‌(مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرَقُ

- ‌[مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا تَعَقَّبَ الْجُمَلَ الْمَعْطُوفَةَ]

- ‌(فَصْلٌ) فِي بَيَانِ التَّبْدِيلِ

- ‌[بَيَانُ النَّاسِخِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ كَوْنُ النَّاسِخِ أَشَقَّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الضَّرُورَةِ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّالِثُ فِي الْإِجْمَاعِ وَفِيهِ خَمْسَةُ أُمُورٍ]

- ‌[الْأَمْرُ الْأَوَّلُ رُكْنُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي قَوْلَيْنِ]

- ‌[الْأَمْرُ الثَّانِي أَهْلِيَّةُ مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ]

- ‌[الْأَمْرُ الثَّالِثُ شُرُوطُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌[الْأَمْرُ الرَّابِعُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌[الْإِجْمَاعُ عَلَى مَرَاتِبَ]

- ‌[الْأَمْرُ الْخَامِسُ سَنَدُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْقِيَاسُ]

- ‌[الْقِيَاسُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي شُرُوطِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعِلَّةِ]

- ‌[تَعْرِيفِ الْعِلَّةِ]

- ‌[أَبْحَاثٌ فِي الْعِلَّة]

- ‌[الْأَوَّلُ الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ عَدَمُ التَّعْلِيلِ]

- ‌[الثَّانِي كَوْنُ الْعِلَّة وَصْفًا لَازِمًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّعْلِيلُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّعْلِيلُ بِعِلَّةٍ اُخْتُلِفَ فِي وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ أَوْ الْأَصْلِ]

- ‌[الثَّالِثُ تُعْرَفُ الْعِلَّةُ بِأُمُورٍ]

- ‌[الْأَوَّلُ وَالثَّانِي النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ]

- ‌[الثَّالِثُ الْمُنَاسَبَةُ]

- ‌(فَصْلٌ: لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ

- ‌[فَصْلٌ الْقِيَاسُ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ]

- ‌ لِلْقِيَاسِ الْخَفِيِّ(قِسْمَيْنِ:

- ‌[فَصْلٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ]

- ‌[النَّقْضُ]

- ‌[وَدَفْعُ النَّقْض بِأَرْبَعِ طُرُقٍ]

- ‌[الْمُمَانَعَةُ]

- ‌الْمُعَارَضَةِ

- ‌(فَصْلٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ)

- ‌ الِاعْتِرَاضَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ بِالْعِلَّةِ الطَّرْدِيَّةِ

- ‌[فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ كَلَامٍ إلَى آخَرَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْحُجَجِ الْفَاسِدَةِ]

- ‌[التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ]

- ‌(بَابُ) الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌[فَصْلٌ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ]

- ‌[الْأُمُور الَّتِي ذُكِرَتْ فِي تَرْجِيحِ الْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ وُجُوهُ التَّرْجِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ التَّرَاجِيحِ الْفَاسِدَةِ التَّرْجِيحُ بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ]

- ‌[بَابُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ فِي الْحُكْمِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ]

- ‌[بَابٌ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ قِسْمَانِ]

- ‌[الْقَسْم الْأَوَّل أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ أَوْ يَكُونَ كَالْحُكْمِ]

- ‌[الْقَسْم الثَّانِي مِنْ الْحُكْمِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ]

- ‌[بَابُ الْمَحْكُوم بِهِ]

- ‌[بَابُ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَهْلِيَّةُ ضَرْبَانِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءً]

- ‌[فَصْلٌ الْأُمُورُ الْمُعْتَرِضَةُ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ]

- ‌[الْعَوَارِضُ السَّمَاوِيَّةُ]

- ‌[الْجُنُونُ]

- ‌[الصِّغَرُ]

- ‌[الْعَتَهُ]

- ‌[النِّسْيَانُ]

- ‌[النَّوْمُ]

- ‌ الْإِغْمَاءُ)

- ‌[الرِّقُّ]

- ‌[الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ]

- ‌[الْمَرَضُ]

- ‌[الْمَوْتُ]

- ‌[الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ]

- ‌[الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنْ نَفْسِهِ]

- ‌[الْجَهْلُ]

- ‌[السُّكْرُ]

- ‌ الْهَزْلُ

- ‌[السَّفَهُ]

- ‌ السَّفَرُ

- ‌[الْخَطَأُ]

- ‌[الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنْ غَيْرِهِ]

- ‌[الْإِكْرَاهُ وَهُوَ إمَّا مُلْجِئٌ أَوْ غَيْرُ مُلْجِئٍ]

الفصل: ‌[باب المحكوم عليه]

الْحِسِّيُّ يَخْرُجُ إدْرَاكُهَا إلَى الْفِعْلِ فَكَذَا الْقَلْبُ) أَيْ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ مَعَ هَذَا النُّورِ الْعَقْلِيِّ وَقَوْلُهُ (طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ فَابْتِدَاءُ دَرْكِ الْحَوَاسِّ ارْتِسَامُ الْمَحْسُوسِ فِي الْحَاسَّةِ الظَّاهِرَةِ وَنِهَايَتُهُ ارْتِسَامُهُ فِي الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ، وَحِينَئِذٍ بِدَايَةُ تَصَرُّفِ الْقَلْبِ فِيهِ بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ بِأَنْ يُدْرِكَ مِنْ الشَّاهِدِ أَوْ يَنْتَزِعَ الْكُلِّيَّاتِ مِنْ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ، وَلِهَذَا التَّصَرُّفِ مَرَاتِبُ: اسْتِعْدَادُهُ لِهَذَا الِانْتِزَاعِ ثُمَّ عِلْمُ الْبَدِيهِيَّاتِ عَلَى وَجْهٍ يُوصِلُ إلَى النَّظَرِيَّاتِ ثُمَّ عِلْمُ النَّظَرِيَّاتِ مِنْهَا ثُمَّ اسْتِحْضَارُهَا بِحَيْثُ لَا تَغِيبُ وَهَذَا نِهَايَتُهُ، وَيُسَمَّى الْعَقْلَ الْمُسْتَفَادَ وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ) اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعْرِيفِ الْعَقْلِ أَوْرَدَهُ مَشَايِخُنَا فِي كُتُبِهِمْ، وَمَثَّلُوهُ بِالشَّمْسِ كَمَا

ــ

[التلويح]

لِلْمَصِيرِ إلَى الْخَلَفِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ مَثَلًا إرَادَةُ الصَّلَاةِ انْعَقَدَتْ سَبَبًا لِلْوُضُوءِ لِإِمْكَانِ حُصُولِ الْمَاءِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ ثُمَّ لِظُهُورِ الْعَجْزِ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ إلَى التَّيَمُّمِ، وَهَذَا كَمَا إذَا حَلَفَ لَيَمَسَّنَّ السَّمَاءَ فَإِنَّ الْيَمِينَ قَدْ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْبِرِّ لِإِمْكَانِ مَسِّ السَّمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّهُ مَعْدُومٌ عُرْفًا وَعَادَةً فَانْتَقَلَ الْحُكْمُ إلَى الْخَلْفِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِ مَا كَانَ أَوْ ثُبُوتِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْكَفَّارَةَ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْبِرِّ عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ

[بَابُ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ]

. (قَوْلُهُ بَابُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ) ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ أَيْ الَّذِي تَعَلَّقَ الْخِطَابُ بِفِعْلِهِ، وَأَهْلِيَّتِهِ لِذَلِكَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَقْلِ إذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَى الصَّبِيِّ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْحُكَمَاءُ وَغَيْرُهُمْ لَفْظَ الْعَقْلِ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْجَوْهَرُ الْمُجَرَّدُ فِي ذَاتِهِ وَفِعْلِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ جِسْمًا، وَلَا جُسْمَانِيًّا، وَلَا تَتَوَقَّفُ أَفْعَالُهُ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِجِسْمٍ، وَهَذَا مَعْنَى الْجَوْهَرِ الْمُجَرَّدِ الْغَيْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ، وَالتَّصَرُّفِ، وَلَوْ قَالَ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقِ بِالْجِسْمِ لَكَانَ أَنْسَبَ لِيُخْرِجَ النُّفُوسَ الْفَلَكِيَّةَ إذْ الْبَدَنُ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى بِنْيَةِ الْحَيَوَانِ وَادَّعَى الْحُكَمَاءُ أَنَّ الْعَقْلَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَوَّلُ مَا صَدَرَ عَنْ الْوَاجِبِ سُبْحَانَهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَقْلُ» ، وَإِنَّمَا قَالَ: ادَّعُوا لِأَنَّهُمْ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِدَلَائِلَ وَاهِيَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ فَاسِدَةٍ مِثْلُ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا الْوَاحِدُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمِنْهَا قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِهَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، وَهَذَا مَعْنَى الْأَثَرِ الْفَائِضِ عَلَيْهَا مِنْ الْعَقْلِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَمِنْهَا مَرَاتِبُ قُوَى النَّفْسِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهَا، وَمِنْهَا الْغَرِيزَةُ الَّتِي يَلْزَمُهَا الْعِلْمُ بِالضَّرُورِيَّاتِ أَوْ نَفْسُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنَى الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ وَاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ، وَجَوَازِ الْجَائِزَاتِ، وَمِنْهَا مَلَكَةٌ حَاصِلَةٌ بِالتَّجَارِبِ يُسْتَنْبَطُ بِهَا الْمَصَالِحُ وَالْأَغْرَاضُ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْوُقُوفُ عَلَى الْعَوَاقِبِ، وَمِنْهَا قُوَّةٌ مُمَيِّزَةٌ بَيْنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ، وَالْقَبِيحَةِ، وَمِنْهَا هَيْئَةٌ مَحْمُودَةٌ لِلْإِنْسَانِ فِي حَرَكَاتِهِ، وَسَكَنَاتِهِ، وَكَلَامِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْمُتَفَاوِتَةِ، وَالْمُقَارِبَةِ فَاحْتُجَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ إلَى تَفْسِيرِ الْعَقْلِ

ص: 312

ذَكَرْنَا فِي الْمَتْنِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَا قَالَهُ الْحُكَمَاءُ، وَالتَّمْثِيلُ بِعَيْنِهِ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْحِكْمَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْعَقْلَ عَلَى جَوْهَرٍ مُجَرَّدٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالصَّرْفِ، وَقَدْ ادَّعَوْا أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْجَوْهَرُ وَقَدْ قَالَ عليه السلام:«أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَقْلُ» فَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا التَّعْرِيفِ هَذَا الْجَوْهَرُ الَّذِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ مِنْ أَوَائِلِ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنُّورِ الْمُنَوَّرِ كَمَا فُسِّرَ فِي قَوْله تَعَالَى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 35] وَأَيْضًا قَدْ يُطْلَقُ الْعَقْلُ عَلَى الْأَثَرِ الْفَائِضِ مِنْ هَذَا الْجَوْهَرِ فِي الْإِنْسَانِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا التَّعْرِيفِ هَذَا الْمَعْنَى، وَبَيَانُهُ أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُدْرِكَةٌ بِالْقُوَّةِ فَإِذَا أَشْرَفَ عَلَيْهَا

ــ

[التلويح]

فَقَالُوا: هُوَ نُورٌ يُضِيءُ بِهِ طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ دَرْكُ الْحَوَاسِّ فَيَتَبَدَّى الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ فَيُدْرِكُهُ الْقَلْبُ بِتَأَمُّلِهِ، وَبِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ بِهَا يَنْتَقِلُ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ إلَى النَّظَرِيَّاتِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ هَذَا التَّفْسِيرِ أَخْفَى مِنْ الْعَقْلِ احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى تَوْضِيحِهِ، وَتَبْيِينِ الْمُرَادِ مِنْهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَقْلِ هَاهُنَا ذَلِكَ الْجَوْهَرُ الْمُجَرَّدُ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى أَنْ يَكُونَ النُّورُ بِمَعْنَى الْمُنَوِّرِ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَ هَذَا الِاحْتِمَالِ عَنْ الصَّوَابِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْعَقْلَ مِنْ صِفَاتِ الرَّاوِي، وَالْمُكَلَّفِ ثُمَّ فَسَرُّوهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَثَرُ الْفَائِضُ مِنْ هَذَا الْجَوْهَرِ عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحُكَمَاءُ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ، وَيَعُدُّهَا لِلْإِدْرَاكِ، وَحَالُ نُفُوسِنَا بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ حَالُ أَبْصَارنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّمْسِ فَكَمَا أَنَّ بِإِفَاضَةِ نُورِ الشَّمْسِ تُدْرَكُ الْمَحْسُوسَاتُ كَذَلِكَ بِإِفَاضَةِ نُورِهِ تُدْرَكُ الْمَعْقُولَاتُ فَقَوْلُهُ نُورٌ أَيْ قُوَّةٌ شَبِيهَةٌ بِالنُّورِ فِي أَنَّهُ بِهَا يَحْصُلُ الْإِدْرَاكُ. يُضِيءُ أَيْ يَصِيرُ ذَا ضَوْءٍ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ النُّورِ. طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَفْكَارُ، وَتَرْتِيبُ الْمَبَادِئِ الْمُوصِلَةِ إلَى الْمَطَالِبِ، وَمَعْنَى إضَاءَتِهَا صَيْرُورَتُهَا بِحَيْثُ يَهْتَدِي الْقَلْبُ إلَيْهَا، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ تَرْتِيبِهَا وَسُلُوكِهَا تَوْصِيلًا إلَى الْمَطْلُوبِ، وَقَوْلُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ مُتَعَلِّقُ يُبْتَدَأُ، وَالضَّمِيرُ فِي إلَيْهِ عَائِدٌ إلَى حَيْثُ أَيْ مِنْ مَحَلٍّ يَنْتَهِي إلَيْهِ إدْرَاكُ الْحَوَاسِّ فَيَتَبَدَّى أَيْ يَظْهَرُ الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ أَيْ الرُّوحُ الْمُسَمَّى بِالْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ، وَالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ فَيُدْرِكُهُ الْقَلْبُ بِتَأَمُّلِهِ أَيْ الْتِفَاتِهِ إلَيْهِ، وَالتَّوَجُّهِ نَحْوَهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلْهَامِهِ لَا بِتَأْثِيرِ النَّفْسِ أَوْ تَوْلِيدِهَا فَإِنَّ الْأَفْكَارَ مُعِدَّاتٌ لِلنَّفْسِ، وَفَيَضَانُ الْمَطْلُوبِ إنَّمَا هُوَ بِإِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الَّذِي يَحْصُلُ الْإِدْرَاكُ بِإِشْرَاقِهِ، وَإِفَاضَةِ نُورِهِ، وَيَكُونُ نِسْبَتُهُ إلَى النُّفُوسِ نِسْبَةَ الشَّمْسِ إلَى الْأَبْصَارِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحُكَمَاءُ هُوَ الْعَقْلُ الْعَاشِرُ الْمُسَمَّى بِالْعَقْلِ الْفَعَّالِ لَا الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ فَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَسَامُحٌ.

(قَوْلُهُ: وَقَدْ يُطْلَقُ الْعَقْلُ عَلَى قُوَّةٍ لِلنَّفْسِ بِهَا

ص: 313

الْجَوْهَرُ الْمَذْكُورُ خَرَجَ إدْرَاكُهَا مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ إذَا أَشْرَقَتْ خَرَجَ إدْرَاكُ الْعَيْنِ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ فَالْمُرَادُ بِالْعَقْلِ هَذَا النُّورُ الْمَعْنَوِيُّ الَّذِي حَصَلَ بِإِشْرَاقِ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْعَقْلُ عَلَى قُوَّةٍ لِلنَّفْسِ بِهَا تَكْسِبُ الْعُلُومَ، وَهِيَ قَابِلِيَّةُ النَّفْسِ لِإِشْرَاقِ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ، وَلَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ كَمَا ذَكَرْتُ فِي الْمَتْنِ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ الْعَقْلَ الْهَيُولَانِيَّ، وَالثَّانِي الْعَقْلَ بِالْمَلَكَةِ، وَالثَّالِثُ الْعَقْلَ بِالْفِعْلِ وَالرَّابِعُ الْعَقْلَ الْمُسْتَفَادَ، وَأَيْضًا يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِ الْعُلُومِ فَقِيلَ: عِلْمٌ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ، وَاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ، وَجَوَازِ الْجَائِزَاتِ، وَقَوْلُهُ يُبْتَدَأُ بِهِ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ لِدَرْكِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ بِدَايَةٌ، وَنِهَايَةٌ، وَكَذَا لِلْإِدْرَاكِ الْعَقْلِيِّ بِدَايَةٌ، وَنِهَايَةٌ

ــ

[التلويح]

تُكْسَبُ الْعُلُومُ) إشَارَةٌ إلَى مَعْنًى آخَرَ لِلْعَقْلِ بِاعْتِبَارِهِ يُحَصِّلُ لِلنَّفْسِ مَرَاتِبَهَا الْأَرْبَعَ فَعَلَى مَا سَبَقَ كَانَ حَاصِلُ مَعْنَاهُ حُصُولَ شَرَائِطِ الْوُصُولِ إلَى الْمَطْلُوبِ، وَانْكِشَافَ الْحُجُبِ عَنْهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَطَالِبِ، وَالتَّهَدِّي إلَى طَرِيقِ التَّوَصُّلِ إلَى الْمَقَاصِدِ، وَأَمَّا عَلَى هَذَا فَمَعْنَاهُ قَابِلِيَّةُ النَّفْسِ بِهَذِهِ الْمَعَانِي فَإِنْ قِيلَ: مِنْ شَأْنِ الْقُوَّةِ التَّأْثِيرُ وَالْعَقْلُ، وَمَعْنَى الْقَابِلِيَّةِ التَّأَثُّرُ وَالِانْفِعَالُ فَكَيْفَ يُفَسَّرُ بِهَا قُلْتُ هِيَ قُوَّةٌ بِاعْتِبَارِ تَرْتِيبِ الْمَبَادِئِ وَتَهْيِئَةِ الْمُعَدَّاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فِيهَا وَقَابِلِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ حُصُولَ الْمَطْلُوبِ إنَّمَا هُوَ بِالْإِلْهَامِ وَبِتَوْفِيقِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ فَإِنْ قُلْتَ: الْقُوَّةُ الَّتِي بِهَا تَكْتَسِبُ النَّفْسُ الْعُلُومَ تَشْتَمِلُ مَرَاتِبَهَا الْأَرْبَعَ فَكَيْفَ تُفَسَّرُ بِقَابِلِيَّةِ الْإِشْرَاقِ الَّتِي هِيَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى أَعْنِي الْعَقْلَ الْهَيُولَانِيَّ قُلْتُ: الْمُرَادُ قَابِلِيَّةُ الْإِشْرَاقِ إلَى أَنْ يَكْمُلَ جَمِيعُ الْآثَارِ، وَيَحْصُلَ غَايَةُ الْمَطْلُوبِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَعَلَ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ فِي الشَّرْحِ مَرَاتِبَ قُوَّةِ النَّفْسِ وَقَابِلِيَّتَهَا لِلْإِشْرَاقِ، وَفِي الْمَتْنِ مَرَاتِبُ تَصَرُّفِ الْقَلْبِ بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ فِيمَا ارْتَسَمَ فِي الْحَوَاسِّ؟ قُلْتُ: حَاصِلُهُمَا وَاحِدٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ مَرَاتِبُ لِلنَّفْسِ بِاعْتِبَارِ قُوَّتِهَا فِي اكْتِسَابِ الْعُلُومِ، وَتَصَرُّفِهَا فِي الْمَبَادِئِ لِحُصُولِ الْمَطَالِبِ فَيُجْعَلُ تَارَةً مَرَاتِبَ النَّفْسِ، وَتَارَةً مَرَاتِبَ قُوَّتِهَا النَّظَرِيَّةِ أَيْ الَّتِي بِهَا يُتَمَكَّنُ مِنْ اكْتِسَابِ الْعُلُومِ، وَتَارَةً مَرَاتِبَ تَصَرُّفَاتِهَا فِي الْمَبَادِئِ وَمَعْنَى تَصَرُّفِ الْقَلْبِ فِيمَا ارْتَسَمَ فِي الْحَوَاسِّ أَنْ يُدْرِكَ الْغَائِبَ مِنْ الشَّاهِدِ أَيْ يَسْتَدِلُّ مِنْ الْآثَارِ وَاللَّوَازِمِ عَلَى الْمُؤَثِّرَاتِ، وَالْمَلْزُومَاتِ مِثْلَ اسْتِدْلَالِهِ مِنْ الْعَالَمِ، وَتَغَيُّرَاتِهِ عَلَى أَنَّ لَهُ صَانِعًا قَدِيمًا غَنِيًّا عَمَّنْ سِوَاهُ بَرِيئًا عَنْ النَّقَائِصِ وَأَنْ يَنْتَزِعَ الْكُلِّيَّاتِ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ وَأَنْ يَنْتَزِعَ مِنْ الْإِحْسَاسِ بِحَرَارَةِ هَذِهِ النَّارِ أَنَّ كُلَّ نَارٍ حَارَّةٌ، وَكَذَا فِي جَانِبِ التَّصَوُّرَاتِ مَثَلًا يَنْتَزِعُ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ الْمُكْتَنِفَةِ بِالْعَوَارِضِ الْمُشَخِّصَةِ وَاللَّوَاحِقِ الْخَارِجِيَّةِ حَقَائِقَهَا الْكُلِّيَّةَ وَأَمَّا تَحْقِيقُ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ فَهُوَ أَنَّ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ قُوَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مَبْدَأُ الْإِدْرَاكِ، وَهِيَ بِاعْتِبَارِ تَأَثُّرِهَا عَمَّا فَوْقَهَا مُسْتَكْمَلَةٌ فِي ذَاتِهَا، وَتُسَمَّى عَقْلًا نَظَرِيًّا، وَالثَّانِيَةُ مَبْدَأُ الْفِعْلِ، وَهِيَ بِاعْتِبَارِ تَأْثِيرِهَا فِي الْبَدَنِ الْمَوْضُوعِ مُكَمِّلَةٌ إيَّاهُ تَأْثِيرًا اخْتِيَارِيًّا، وَتُسَمَّى عَقْلًا عَمَلِيًّا

ص: 314

فَنِهَايَةُ دَرْكِ الْحَوَاسِّ هِيَ بِدَايَةُ الْإِدْرَاكِ الْعَقْلِيِّ فَاعْلَمْ أَنَّ بِدَايَةَ دَرْكِ الْحَوَاسِّ ارْتِسَامُ الْمَحْسُوسَاتِ فِي إحْدَى الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَنِهَايَتُهُ ارْتِسَامُهُ فِي الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْحَوَاسَّ الْبَاطِنَةَ خَمْسٌ: الْحِسُّ الْمُشْتَرَكُ فِي مُقَدَّمِ الدِّمَاغِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْتَسِمُ فِيهِ صُوَرُ الْمَحْسُوسَاتِ ثُمَّ الْخَيَّالُ، وَهُوَ خِزَانَةُ الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ ثُمَّ الْوَهْمُ فِي مُؤَخَّرِ الدِّمَاغِ يَرْتَسِمُ فِيهِ الْمَعَانِي الْجُزْئِيَّةُ ثُمَّ بَعْدَهُ الْحَافِظَةُ، وَهِيَ خِزَانَةُ الْوَهْمِ ثُمَّ الْمُفَكِّرَةُ فِي وَسَطِ الدِّمَاغِ تَأْخُذُ الْمُدْرَكَاتِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَتَتَصَرَّفُ فِيهَا، وَتُرَكِّبُ بَيْنَهَا تَرْكِيبًا، وَتُسَمَّى مُخَيِّلَةً أَيْضًا فَهَذَا نِهَايَةُ إدْرَاكِ الْحَوَاسِّ فَإِذَا تَمَّ هَذَا انْتَزَعَ

ــ

[التلويح]

وَلِلْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ فِي تَصَرُّفَاتِهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ، وَتَرْتِيبِهَا لِاكْتِسَابِ الْكِمَالَاتِ أَرْبَعُ مَرَاتِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّفْسَ مَبْدَأَ الْفِطْرَةِ خَالِيَةٌ عَنْ الْعُلُومِ مُسْتَعِدَّةٌ لَهَا، وَتُسَمَّى حِينَئِذٍ عَقْلًا هَيُولَانِيًّا تَشْبِيهًا لَهَا بِالْهُيُولِيِّ الْأُولَى الْخَالِيَةِ فِي نَفْسِهَا عَنْ جَمِيعِ الصُّوَرِ الْقَابِلَةِ لَهَا، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْدَادِ الطِّفْلِ لِلْكِتَابَةِ ثُمَّ إذَا أَدْرَكَتْ الضَّرُورِيَّاتِ، وَاسْتَعَدَّتْ لِحُصُولِ النَّظَرِيَّاتِ سُمِّيَتْ عَقْلًا بِالْمَلَكَةِ لِحُصُولِ مَلَكَةِ الِانْتِقَالِ كَاسْتِعْدَادِ الْأُمِّيِّ لِتَعَلُّمِ الْكِتَابَةِ ثُمَّ إذَا أَدْرَكَتْ النَّظَرِيَّاتِ، وَحَصَلَ لَهَا الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِحْضَارِهَا مَتَى شَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَجَسُّمِ كَسْبٍ جَدِيدٍ سُمِّيَتْ عَقْلًا بِالْفِعْلِ لِشِدَّةِ قُرْبِهِ مِنْ الْفِعْلِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْدَادِ الْقَادِرِ عَلَى الْكِتَابَةِ الَّذِي لَا يَكْتُبُ، وَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَتَى شَاءَ، وَإِذَا كَانَتْ النَّظَرِيَّاتُ حَاضِرَةً عِنْدَهَا مُشَاهِدَةً لَهَا سُمِّيَتْ عَقْلًا مُسْتَفَادًا لِاسْتِفَادَةِ هَذِهِ الْقُوَّةِ وَالْحَالَةِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ حِينَمَا يَكْتُبُ بِالْفِعْلِ، وَعِبَارَةُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْعَقْلَ الْمُسْتَفَادَ هُوَ حُضُورُ الْيَقِينِيَّاتِ، وَحُصُولُ صُوَرِ الْمَعْقُولَاتِ لِلنَّفْسِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِالْمُسْتَفَادِ، وَأَنَّ الْعَقْلَ الْهَيُولَانِيَّ يَكُونُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْحَوَاسِّ، وَإِدْرَاكِ الضَّرُورِيَّاتِ، وَالْعَقْلَ بِالْمَلَكَةِ بَعْدَهُ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَ الْهَيُولَانِيَّ اسْتِعْدَادَ النَّفْسِ لِلِانْتِزَاعِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَحْسُوسَاتِ. وَالْعَقْلُ بِالْمَلَكَةِ عِلْمُ الْبَدِيهَاتِ عَلَى وَجْهٍ يُوصِلُ إلَى النَّظَرِيَّاتِ أَيْ مُتَرَتِّبَةٌ لِلتَّأَدِّي إلَى الْمَجْهُولَاتِ النَّظَرِيَّةِ، وَأَمَّا جَعْلُ الْمُسْتَفَادِ نِهَايَةً، وَمَرْتَبَةً رَابِعَةً فَإِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْغَايَةِ، وَكَوْنِهِ الرَّئِيسَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَخْدُمُهُ سَائِرُ الْقُوَى، وَإِلَّا فَالْمُسْتَفَادُ مُقَدَّمٌ بِحَسَبِ الْوُجُودِ عَلَى الْعَقْلِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّحْصِيلِ، وَالْإِحْضَارِ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ ثُمَّ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ اسْتِعْدَادَاتٌ لِلنَّفْسِ مُخْتَلِفَةٌ بِالشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ كَالثَّلَاثِ الْأُوَلِ أَوْ كَمَالٌ لَهَا كَالرَّابِعَةِ وَتُطْلَقُ عَلَى النَّفْسِ بِحَسَبِ مَا لَهَا مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلنَّفْسِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ قُوَّةً لَمْ تَكُنْ قَبْلُ فَيُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ الْقُوَى أَيْضًا، وَنَعْنِي بِالْقُوَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يَصِيرُ الشَّيْءُ فَاعِلًا أَوْ مُنْفَعِلًا، وَجَعَلُوا الْمَرْتَبَةَ الثَّانِيَةَ، وَهِيَ أَنْ تُدْرِكَ الْبَدِيهَاتِ مُرَتَّبَةً عَلَى وَجْهٍ تُوصِلُ إلَى النَّظَرِيَّاتِ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ إذْ بِهَا يَرْتَفِعُ الْإِنْسَانُ عَنْ دَرَجَةِ الْبَهَائِمِ، وَيُشْرِقُ

ص: 315

النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ مِنْ الْمُفَكِّرَةِ عُلُومًا فَهَذَا بِدَايَةُ تَصَرُّفِ النَّفْسِ بِوَاسِطَةِ إشْرَاقِ الْعَقْلِ، وَلَهُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (ثُمَّ مَعْلُومَاتُ النَّفْسِ إمَّا أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا الْعَمَلُ كَمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ تَعَالَى، وَتُسَمَّى عُلُومًا نَظَرِيَّةً وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ، وَتُسَمَّى عِلْمِيَّةً فَإِذَا اُكْتُسِبَتْ الْعِلْمِيَّةُ حَرَّكَتْ الْبَدَنَ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ، وَعَمَّا هُوَ شَرٌّ فَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا عَلَى وُجُودِ تِلْكَ الْقُوَّةِ وَعَدَمِهَا) أَيْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا التَّحْرِيكِ عَلَى وُجُودِ تِلْكَ الْقُوَّةِ، وَهِيَ قَابِلِيَّةُ النَّفْسِ لِإِشْرَاقِ

ــ

[التلويح]

عَلَيْهَا نُورُ الْعَقْلِ بِحَيْثُ يَتَجَاوَزُ إدْرَاكَ الْمَحْسُوسَاتِ.

(قَوْلُهُ: فَاعْلَمْ أَنَّ بِدَايَةَ دَرْكِ الْحَوَاسِّ) يَعْنِي لَمَّا ذَكَرَ فِي تَعْرِيفِ الْعَقْلِ لِدَرْكِ الْحَوَاسِّ نِهَايَةً لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِدَايَةٌ وَلَمَّا ذَكَرَ لِطَرِيقِ إدْرَاكِ الْعَقْلِ بِدَايَةً لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِهَايَةٌ لِأَنَّ إدْرَاكَاتِنَا أُمُورٌ حَادِثَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، وَلَمَّا جَعَلَ قَوْلَهُ مِنْ حَيْثُ مُتَعَلِّقًا بِيُبْتَدَأُ، وَالضَّمِيرُ فِي إلَيْهِ عَائِدٌ إلَى حَيْثُ أَيْ طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ مِنْ الْمَقَامِ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ إدْرَاكُ الْحَوَاسِّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ نِهَايَةَ دَرْكِ الْحَوَاسِّ بِدَايَةَ دَرْكِ الْعَقْلِ فَذَكَرَ أَنَّ بِدَايَةَ دَرْكِ الْحَوَاسِّ هُوَ ارْتِسَامُ الْمَحْسُوسِ فِي إحْدَى الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الظَّاهِرَةِ، وَهِيَ اللَّمْسُ أَعْنِي قُوَّةً سَارِيَةً فِي الْبَدَنِ كُلِّهِ بِهَا يُدْرَكُ الْحَارُّ، وَالْبَارِدُ وَالرَّطْبُ، وَالْيَابِسُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالذَّوْقُ وَهِيَ قُوَّةٌ مُنْبَثَّةٌ فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ عَلَى جُرْمِ اللِّسَانِ يُدْرَكُ بِهَا الطُّعُومُ، وَالشَّمُّ وَهُوَ قُوَّةٌ مَرْتَبَةٌ فِي زَائِدَتَيْ مُقَدَّمِ الدِّمَاغِ الشَّبِيهَتَيْنِ بِحَلَمَتَيْ الثَّدْيِ يُدْرَكُ بِهَا الرَّوَائِحُ، وَالسَّمْعُ وَهُوَ قُوَّةٌ مَرْتَبَةٌ فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ عَلَى سَطْحِ بَاطِنِ الصِّمَاخِ يُدْرَكُ بِهَا الْأَصْوَاتُ، وَالْبَصَرُ هُوَ قُوَّةٌ مَرْتَبَةٌ فِي الْعَصْبَتَيْنِ الْمُجَوَّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَتَلَاقَيَانِ فِي مُقَدَّمِ الدِّمَاغِ فَيَفْتَرِقَانِ إلَى الْعَيْنَيْنِ يُدْرَكُ بِهَا الْأَلْوَانُ، وَالْأَضْوَاءُ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْمُرْتَسِمَ فِيهَا هُوَ صُورَةُ الْمَحْسُوسِ لَا نَفْسُهُ فَإِنَّ الْمَحْسُوسَ هُوَ هَذَا اللَّوْنُ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ مَثَلًا وَهُوَ لَيْسَ بِمُرْتَسِمٍ فِي الْبَاصِرَةِ بَلْ صُورَتُهُ كَمَا أَنَّ الْمَعْلُومَ هُوَ ذَلِكَ الْمَوْجُودُ، وَالْحَاصِلُ فِي النَّفْسِ صُورَتُهُ، وَمَعْنَى مَعْلُومِيَّتِهِ حُصُولُ صُورَتِهِ لَا حُصُولُ نَفْسِهِ، وَنِهَايَةُ دَرْكِ الْحَوَاسِّ ارْتِسَامُ الْمَحْسُوسِ فِي الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا أَيْضًا خَمْسٌ الْحِسُّ الْمُشْتَرَكُ وَهِيَ قُوَّةٌ مُرَتَّبَةٌ فِي التَّجْوِيفِ الْأَوَّلِ مِنْ الدِّمَاغِ، وَمَبَادِئِ عَصَبِ الْحِسِّ يَجْتَمِعُ فِيهَا صُوَرُ جَمِيعِ الْمَحْسُوسَاتِ فَيُدْرِكُهَا وَالْخَيَالُ هُوَ قُوَّةٌ مُرَتَّبَةٌ فِي آخِرِ التَّجْوِيفِ الْمُقَدَّمِ يَجْتَمِعُ فِيهَا مِثْلُ الْمَحْسُوسَاتِ، وَتَبْقَى فِيهَا بَعْدَ الْغَيْبَةِ عَنْ الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ فَهِيَ خِزَانَتُهُ، وَالْوَهْمُ وَهِيَ قُوَّةٌ مُرَتَّبَةٌ فِي آخِرِ التَّجْوِيفِ الْأَوْسَطِ مِنْ الدِّمَاغِ لَا فِي مُؤَخَّرِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِهَا يُدْرَكُ الْمَعَانِي الْجُزْئِيَّةُ الْغَيْرُ الْمَحْسُوسَةِ أَعْنِي الَّتِي لَمْ يَتَأَدَّ إلَيْهَا مِنْ طُرُقِ الْحَوَاسِّ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْمَحْسُوسَاتِ كَعَدَاوَةِ زَيْدٍ، وَصَدَاقَةِ عَمْرٍو، وَالْحَافِظَةُ وَهِيَ قُوَّةٌ مُرَتَّبَةٌ فِي التَّجْوِيفِ الْأَخِيرِ مِنْ الدِّمَاغِ تَحْفَظُ

ص: 316

ذَلِكَ الْجَوْهَرِ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا مَحَالَةَ آمِرَةٌ لِلْبَدَنِ مُحَرِّكَةٌ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ عِنْدَهَا، وَعَمَّا هُوَ شَرٌّ عِنْدَهَا، وَالْجَوْهَرُ الْمَذْكُورُ دَائِمُ الْإِشْرَاقِ فَإِذَا حَرَّكَتْهُ إلَى الْخَيْرِ، وَعَنْ الشَّرِّ عُلِمَ مَعْرِفَتُهَا بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهِيَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْقَابِلِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا لَمْ تُحَرِّكْهُ إلَى الْخَيْرِ وَعَنْ الشَّرِّ عُلِمَ عَدَمُ مَعْرِفَتِهَا بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ إذْ لَوْ كَانَتْ عَارِفَةً لَحَرَّكَتْهُ ثُمَّ عَدَمُ مَعْرِفَتِهَا لِعَدَمِ قَابِلِيَّتِهَا إذْ لَوْ كَانَتْ قَابِلَةً وَقَدْ قُلْنَا: إنَّ ذَلِكَ الْجَوْهَرَ دَائِمُ الْإِشْرَاقِ لَكَانَتْ عَارِفَةً فَعُلِمَ أَنَّ وُجُودَ

ــ

[التلويح]

الْمَعَانِيَ الْجُزْئِيَّةَ الَّتِي أَدْرَكَهَا الْوَهْمُ فَهِيَ خِزَانَةٌ لِلْوَهْمِ بِمَنْزِلَةِ الْخَيَالِ لِلْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُفَكِّرَةُ وَهِيَ قُوَّةٌ مُرَتَّبَةٌ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ التَّجْوِيفِ الْأَوْسَطِ مِنْ الدِّمَاغِ بِهَا يَقَعُ التَّرْكِيبُ وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ الصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ، وَالْمَعَانِي الْمُدْرَكَةِ بِالْوَهْمِ كَإِنْسَانٍ لَهُ رَأْسَانِ، وَإِنْسَانٍ عَدِيمِ الرَّأْسِ، وَهَذَا مَعْنَى أَخْذِ الْمُدْرَكَاتِ عَنْ الطَّرَفَيْنِ، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ تَسْتَعْمِلُهَا النَّفْسُ عَلَى أَيِّ نِظَامٍ تُرِيدُ فَإِنْ اسْتَعْمَلَتْهَا بِوَاسِطَةِ الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ وَحْدَهَا سُمِّيَتْ مُتَخَلِّيَةً، وَإِنْ اسْتَعْمَلَتْهَا بِوَاسِطَةِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ الْوَهْمِيَّةِ سُمِّيَتْ مُفَكِّرَةً، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَحَالَّ لِلْقُوَى هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّشْرِيعِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ الْآفَةَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ تُوجِبُ الْآفَةَ فِي فِعْلِ تِلْكَ الْقُوَّةِ وَلَفْظُ ثُمَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لِتَرْتِيبِ هَذِهِ الْقُوَى فِي الْوُجُودِ وَالْمَحَلِّ بَلْ لِتَرْتِيبِ تَصَرُّفَاتِهَا، وَأَفْعَالِهَا فَإِنَّهُ يَرْتَسِمُ أَوَّلًا صُورَةُ الْمَحْسُوسِ ثُمَّ تُخْزَنُ ثُمَّ تَرْتَسِمُ مِنْهُ الْمَعَانِي ثُمَّ تُحْفَظُ ثُمَّ يَقَعُ بَيْنَهُمَا التَّرْكِيبُ وَالتَّفْصِيلُ فَلِذَا قَالَ: ثُمَّ بَعْدَهُ الْحَافِظَةُ فَأَشَارَ بِلَفْظِ بَعْدَ إلَى أَنَّ مَحَلَّهَا بَعْدَ مَحَلِّ الْوَهْمِ.

(قَوْلُهُ فَإِذَا تَمَّ هَذَا) أَيْ ارْتِسَامُ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي وَأَخَذُ الْمُفَكِّرَةِ إيَّاهُمَا مِنْ الطَّرَفَيْنِ تَنْتَزِعُ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ مِنْ الْمُفَكِّرَةِ عُلُومًا أَيْ صُوَرًا أَوْ مَعَانِيَ كُلِّيَّةً لِأَنَّهَا بِالتَّصَرُّفِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الْأَشْخَاصِ الْجُزْئِيَّةِ تَكْتَسِبُ اسْتِعْدَادًا نَحْوُ قَبُولِ صُورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ مَثَلًا، وَصُورَةِ الصَّدَاقَةِ الْكُلِّيَّتَيْنِ الْمُجَرَّدَتَيْنِ عَنْ الْعَوَارِضِ الْمَادِّيَّةِ قَبُولًا عَنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ الْمُتَنَفَّسِ بِهِمَا لِمُنَاسَبَةِ مَا بَيْنَ كُلِّ كُلِّيٍّ وَجُزْئِيَّاتِهِ، وَهَذَا هُوَ تَمَامُ التَّقْرِيبِ فِي أَنَّ نِهَايَةَ دَرْكِ الْحَوَاسِّ هُوَ بِدَايَةُ إدْرَاكِ الْعَقْلِ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ التَّعْرِيفُ الْمَذْكُورُ لِلْعَقْلِ، وَأَمَّا تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ فَمِمَّا لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْكِتَابِ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَغَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّطْوِيلِ، وَأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلَى حَيْثُ، وَهُوَ لَازِمُ الظَّرْفِيَّةِ مِمَّا لَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَرَبِيَّةِ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْعَقْلَ نُورٌ يُضِيءُ بِهِ الطَّرِيقُ الَّذِي يُبْتَدَأُ بِهِ فِي الْإِدْرَاكَاتِ مِنْ جِهَةِ انْتِهَاءِ إدْرَاكِ الْحَوَاسِّ إلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا مَجَالَ فِيهِ لِدَرْكِ الْحَوَاسِّ، وَهُوَ طَرِيقُ إدْرَاكِ الْكُلِّيَّاتِ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْمُغَيَّبَاتِ مِنْ الْمُشَاهَدَاتِ فَإِنَّ

ص: 317

الْعَقْلِ، وَعَدَمَهُ يُعْرَفَانِ بِالْأَفْعَالِ (ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْعَقْلُ مُتَفَاوِتًا فِي أَفْرَادِ النَّاسِ) ، وَذَلِكَ التَّفَاوُتُ إنَّمَا يَكُونُ لِزِيَادَةِ قَابِلِيَّةِ بَعْضِ النُّفُوسِ ذَلِكَ الْفَيْضَ وَالْإِشْرَاقَ لِشِدَّةِ صَفَائِهَا وَلَطَافَتِهَا فِي مَبْدَأِ الْفِطْرَةِ، وَنُقْصَانِ قَابِلِيَّةِ بَعْضِهَا لِكُدُورَتِهَا، وَكَثَافَتِهَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ (مُتَدَرِّجًا مِنْ النُّقْصَانِ إلَى الْكَمَالِ) بِوَاسِطَةِ كَثْرَةِ الْعُلُومِ، وَرُسُوخِ الْمَلَكَاتِ الْمَحْمُودَةِ فِيهَا فَتَصِيرُ أَشَدَّ تَنَاسُبًا بِذَلِكَ الْجَوْهَرِ، وَيَزْدَادُ اسْتِضَاءَتُهَا بِأَنْوَارِهِ، وَاسْتِفَادَتِهَا مَغَانِمَ آثَارِهِ فَالْقَابِلِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ

ــ

[التلويح]

طَرِيقَ إدْرَاكِ الْمَحْسُوسَاتِ مِمَّا يَسْلُكُهُ الْعُقَلَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ بَلْ الْبَهَائِمُ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ ثُمَّ انْتَهَى ذَلِكَ الطَّرِيقُ، وَأُرِيدَ سُلُوكُ طَرِيقِ إدْرَاكِ الْكُلِّيَّاتِ، وَاكْتِسَابِ النَّظَرِيَّاتِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قُوَّةٍ بِهَا يُتَمَكَّنُ مِنْ سُلُوكِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَهِيَ نُورٌ لِلنَّفْسِ بِهِ تَهْتَدِي أَيْ سُلُوكُهُ بِمَنْزِلَةِ نُورِ الشَّمْسِ فِي إدْرَاكِ الْمُبْصِرَاتِ فَإِذَا ابْتَدَأَ الْإِنْسَانُ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَشَرَعَ فِيهِ، وَرَتَّبَ الْمُقَدَّمَاتِ عَلَى مَا يَنْبَغِي يَتَبَدَّى الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ بِفَيْضِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ.

(قَوْلُهُ: ثُمَّ مَعْلُومَاتُ النَّفْسِ) يُرِيدُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْإِشَارَةَ إلَى طَرِيقِ مَعْرِفَةِ حُصُولِ ذَلِكَ النُّورِ فِي الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْجُودَ إذَا لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِنَا أَثَرٌ فِي وُجُودِهِ يُسَمَّى الْعِلْمُ بِهِ نَظَرِيًّا، وَإِلَّا فَعِلْمِيًّا لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَمَلٌ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ عِلْمٌ بِأَشْيَاءَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَنْقَسِمُ الْحِكْمَةُ إلَى النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَيَحْصُلُ لِلنَّفْسِ الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ وَالْقُوَّةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَالْأُولَى مُكَمِّلَةٌ لِلنَّفْسِ وَالثَّانِيَةُ مُكَمِّلَةٌ لِلنَّفْسِ وَالْبَدَنِ بِتَحْرِيكِ الْبَدَنِ عَنْ الشُّرُورِ إلَى الْخَيْرَاتِ، وَهَذَا التَّحْرِيكُ يَسْتَلْزِمُ الْمَعْرِفَةَ بِالْخَيْرِ، وَالشَّرِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا خَيْرٌ وَشَرٌّ، وَبِالْعَكْسِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الشُّرُورَ مُسْتَلَذَّاتُ الْبَدَنِ، وَمُلَاءَمَاتُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبُ وَالْخَيْرَاتُ مَشَاقٌّ وَتَكَالِيفُ وَمُخَالِفَاتٌ لِلْهَوَى فَلَا يُتَصَوَّرُ الْمَيْلُ عَنْ الْمُلَائِمِ إلَى الْمُنَافِرِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ شَرٌّ وَالثَّانِيَ خَيْرٌ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْخَيْرَ وَالْكَمَالَ مَحْبُوبٌ بِالذَّاتِ، وَالنَّفْسُ مَائِلَةٌ إلَى الْكَمَالَاتِ مُهَيَّأَةٌ لِتَطْوِيعِ الْقُوَى وَأَمْرِهَا بِالْخَيْرَاتِ فَإِذَا اكْتَسَبَتْ الْعِلْمَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعَرَفَتْهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا خَيْرٌ وَشَرٌّ حَرَّكَتْ الْبَدَنَ نَحْوَ الْخَيْرِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ مَعْرِفَةُ الْخَيْرَاتِ وَالشُّرُورِ تَسْتَلْزِمُ قَابِلِيَّةَ النَّفْسِ لِإِشْرَاقِ نُورِ الْعَقْلِ عَلَيْهَا بِمَعْنَى حُصُولِ الشَّرَائِطِ، وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ مِنْ جَانِبِهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَالْقَابِلِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْمَعْرِفَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَوْهَرَ الْمُفِيضَ دَائِمُ الْإِشْرَاقِ لَا انْقِطَاعَ لِفَيْضِهِ، وَلَا ضِنَّةَ مِنْ جَانِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ فِي الْإِضَاءَةِ فَيَكُونُ بَيْنَ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الشُّرُورِ وَبَيْنَ الْقَابِلِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْعَقْلِ تَلَازُمٌ فَيُسْتَدَلُّ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ عَلَى وُجُودِ الْعَقْلِ اسْتِدْلَالًا بِوُجُودِ الْمَلْزُومِ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ وَيُسْتَدَلُّ مِنْ تَرْكِ الْخَيْرَاتِ عَلَى عَدَمِ الْعَقْلِ اسْتِدْلَالًا مِنْ عَدَمِ اللَّازِمِ عَلَى عَدَمِ الْمَلْزُومِ.

(قَوْلُهُ ثُمَّ لَمَّا كَانَ) يَعْنِي أَنَّ الْعَقْلَ مُتَفَاوِتٌ فِي أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ حُدُوثًا، وَبَقَاءً أَمَّا حُدُوثًا فَلِأَنَّ النُّفُوسَ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ الْفِطْرَةِ فِي الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ اعْتِدَالِ الْبَدَنِ

ص: 318

سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ثُمَّ حُصُولُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ تِلْكَ الْقَابِلِيَّةِ. (وَالِاطِّلَاعُ عَلَى حُصُولِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ مُتَعَذِّرٌ قَدَّرَهُ الشَّرْعُ بِالْبُلُوغِ إذْ عِنْدَهُ يَتِمُّ التَّجَارِبُ بِتَكَامُلِ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَرَاكِبُ لِلْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ، وَمُسَخَّرَةٌ لَهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْأَمْرِ الْخِلَافُ فِي إيجَابِهِ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ فَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ بِنَفْسِ

ــ

[التلويح]

وَنُقْصَانِهِ فَكُلَّمَا كَانَ الْبَدَنُ أَعْدَلَ، وَبِالْوَاحِدِ الْحَقِيقِيِّ أَشْبَهَ كَانَتْ النَّفْسُ الْفَائِضَةُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ، وَإِلَى الْخَيْرَاتِ أَمْيَلَ، وَلِلْكِمَالَاتِ أَقْبَلَ وَهَذَا مَعْنَى صِفَاتِهَا، وَلِطَاقَتِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمِرْآةِ فِي قَبُولِ النُّورِ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ فَبِالْعَكْسِ، وَهَذَا مَعْنَى كُدُورَتِهَا، وَكَثَافَتِهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ فِي قَبُولِ النُّورِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ النَّفْسَ كُلَّمَا كَانَتْ أَكْمَلَ، وَأَقْبَلَ كَانَ النُّورُ الْفَائِضُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ الْمُسَمَّى بِالْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَكْثَرَ. وَأَمَّا بَقَاءً وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ مُتَدَرِّجًا مِنْ النُّقْصَانِ إلَى الْكَمَالِ فَلِأَنَّ النَّفْسَ كُلَّمَا ازْدَادَتْ فِي اكْتِسَابِ الْعُلُومِ بِتَكْمِيلِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَفِي تَحْصِيلِ الْمَلَكَاتِ الْمَحْمُودَةِ بِتَكْمِيلِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ ازْدَادَتْ تَنَاسُبًا بِالْعَقْلِ الْفَعَّالِ الْكَامِلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَازْدَادَتْ إفَاضَةُ نُورِهِ عَلَيْهَا لِازْدِيَادِ الِاسْتِفَاضَةِ بِازْدِيَادِ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَمَّا تَفَاوَتَتْ الْعُقُولُ فِي الْأَشْخَاصِ تَعَذَّرَ الْعِلْمُ بِأَنَّ عَقْلَ كُلِّ شَخْصٍ هَلْ بَلَغَ الْمَرْتَبَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ؟ فَقَدَّرَ الشَّارِعُ تِلْكَ الْمَرْتَبَةَ بِوَقْتِ الْبُلُوغِ إقَامَةً لِلسَّبَبِ الظَّاهِرِ مَقَامَ حُكْمِهِ كَمَا فِي السَّفَرِ، وَالْمَشَقَّةِ، وَذَلِكَ لِحُصُولِ شَرَائِطِ كَمَالِ الْعَقْلِ وَأَسْبَابِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِنَاءً عَلَى تَمَامِ التَّجَارِبِ الْحَاصِلَةِ بِالْإِحْسَاسَاتِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْإِدْرَاكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، وَتَكَامُلِ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ مِنْ الْمُدْرَكَةِ، وَالْمُحَرَّكَةِ الَّتِي هِيَ مَرَاكِبُ لِلْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهَا بِوَاسِطَتِهَا تَسْتَفِيدُ الْعُلُومَ ابْتِدَاءً، وَتَصِلُ إلَى الْمَقَاصِدِ، وَبِمَعُونَتِهَا يَظْهَرُ آثَارُ الْإِدْرَاكِ، وَهِيَ مُسَخَّرَةٌ، وَمُطِيعَةٌ لِلْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ تَأْمُرُهَا بِالْأَخْذِ، وَالْإِعْطَاءِ، وَاسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ، وَالتَّحَرُّكِ لِلْإِدْرَاكَاتِ قَدْرَ مَا تَرَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ فَتَحْصُلُ الْكَمَالَاتُ.

(قَوْلُهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْأَمْرِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُهِمَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَحْرِيرُ الْمَبْحَثِ، وَتَلْخِيصُ مَحَلِّ النِّزَاعِ لِيَتَأَتَّى النَّظَرُ فِي أَدِلَّةِ الْجَانِبَيْنِ، وَيَظْهَرَ صِحَّةُ الْمَطْلُوبِ، وَلَا نِزَاعَ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى تَفَاصِيلِهَا مِثْلَ وُجُوبِ الصَّوْمِ فِي آخِرِ رَمَضَانَ، وَحُرْمَتِهِ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ، وَلَا نِزَاعَ لِلْأَشَاعِرَةِ فِي أَنَّ الشَّرْعَ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَقْلِ وَأَنَّ لِلْعَقْلِ مَدْخَلًا فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ حَتَّى صَرَّحُوا بِأَنَّ الدَّلِيلَ إمَّا عَقْلِيٌّ صِرْفٌ، وَإِمَّا مُرَكَّبٌ مِنْ عَقْلِيٍّ، وَسَمْعِيٍّ، وَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُ سَمْعِيًّا صِرْفًا لِأَنَّ صِدْقَ الشَّارِعِ بَلْ وُجُودُهُ، وَكَلَامُهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْعَاقِلَ إذَا لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَخِطَابُ الشَّارِعِ إمَّا لِعَدَمِ وُرُودِهِ وَإِمَّا لِعَدَمِ وُصُولِهِ إلَيْهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَفْعَالِ، وَيَحْرُمُ بَعْضُهَا بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لَا

ص: 319

الْعَقْلِ) هَذَا فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَابِ الْأَمْرِ (فَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ، وَشَاهِقُ الْجَبَلِ مُكَلَّفَانِ بِالْإِيمَانِ حَتَّى إنْ لَمْ يَعْتَقِدَا كُفْرًا، وَلَا إيمَانًا يُعَذَّبَانِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ يُعْذَرَانِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ كُفْرُ شَاهِقِ الْجَبَلِ فَيَضْمَنُ قَاتِلُهُ، وَلَا إيمَانُ الصَّبِيِّ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا التَّوَسُّطُ بَيْنَهُمَا إذْ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُ الْعَقْلِ بِالْعَقْلِ، وَلَا بِالشَّرْعِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ) أَيْ الشَّرْعُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَقْلِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعِلْمِ بِوَحْدَانِيِّتِهِ، وَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ دَالَّةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تُعْرَفُ شَرْعًا بَلْ عَقْلًا قَطْعًا لِلدُّورِ (لَكِنْ قَدْ يَتَطَرَّقُ الْخَطَأُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ) فَإِنَّ مَبَادِئَ الْإِدْرَاكَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْحَوَاسُّ فَيَقَعُ الِالْتِبَاسُ بَيْنَ الْقَضَايَا الْوَهْمِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ فَيَتَطَرَّقُ

ــ

[التلويح]

فَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ نَعَمْ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ لَا إذْ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ، وَلَا تَعْذِيبَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ.

(قَوْلُهُ قَطْعًا لِلدَّوْرِ) يَعْنِي أَنَّ ثُبُوتَ الشَّرْعِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامِهِ، وَبَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَاتِ فَلَوْ تَوَقَّفَتْ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى الشَّرْعِ لَزِمَ الدَّوْرُ.

(قَوْلُهُ: وَثَانِيهِمَا مُعَارَضَةُ الْوَهْمِ الْعَقْلَ) فَإِنْ قِيلَ: الْوَهْمُ لَا يُدْرِكُ إلَّا الْمَعَانِيَ الْجُزْئِيَّةَ، وَالْعَقْلُ لَا يُدْرِكُ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ فَكَيْفَ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مُدْرِكَ الْكُلِّ هُوَ النَّفْسُ لَكِنَّهَا تُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ بِالْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ وَالْجُزْئِيَّاتِ بِالْحَوَاسِّ، وَمَعْنَى الْمُعَارَضَةِ انْجِذَابُ النَّفْسِ إلَى آلَةِ الْوَهْمِ دُونَ الْعَقْلِ فِيمَا مَنْ حَقُّهُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ الْعَقْلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إلْفَهَا بِالْحِسِّ، وَالْوَهْمِ، وَمُدْرَكَاتُهُمَا أَكْثَرُ.

(قَوْلُهُ: فَهُوَ) أَيْ الْعَقْلُ وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي جَمِيعِ مَا يَحْصُلُ بِهِ كَمَالُ النَّفْسِ، وَوَرَدَ بِهِ أَمْرُ الشَّارِعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَطَرُّقِ الْخَطَأِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَقِلُّ فِي إدْرَاكِ شَيْءٍ، وَاكْتِسَابِ حُكْمٍ أَلْبَتَّةَ عَلَى مَا هُوَ رَأْيُ الْإِسْمَاعِيلِيَّة فِي إثْبَاتِ الْحَاجَةِ إلَى الْمُعَلِّمِ.

(قَوْلُهُ فَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ لَا يُكَلَّفُ بِالْإِيمَانِ) ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ حَتَّى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ إلَى أَنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا بِكَمَالِ الْعَقْلِ، وَالْبَالِغُ وَالصَّبِيُّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا عُذِرَ فِي عَمَلِ الْجَوَارِحِ لِضَعْفِ الْبِنْيَةِ بِخِلَافِ عَمَلِ الْقَلْبِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كَمَالَ الْعَقْلِ مُعَرِّفٌ لِلْوُجُوبِ، وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْعَقْلَ عِنْدَهُمْ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ كَمَا أَنَّ الْعَبْدَ مُوجِدٌ لِأَفْعَالِهِ كَذَا فِي الْكِفَايَةِ.

(قَوْلُهُ وَإِنْ كَفَرَتْ) أَيْ الْمُرَاهِقَةُ تَبِينُ عَنْ الزَّوْجِ لِأَنَّا إنَّمَا، وَضَعْنَا الْبُلُوغَ مَوْضِعَ كَمَالِ الْعَقْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ إذَا لَمْ تَعْرِفْ ذَلِكَ حَقِيقَةً أَمَّا إذَا تَحَقَّقَ التَّوَجُّهُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالْكُفْرِ فَلَا عُذْرَ فَإِنْ قِيلَ: إذَا نِيطَ الْحُكْمُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ دَارَ مَعَهُ وُجُودًا، وَعَدَمًا، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِحَقِيقَةِ السَّبَبِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُعْذَرَ الْمُرَاهِقَةُ الَّتِي كَفَرَتْ كَالْمُسَافِرِ سَفَرًا عَلِمَ أَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ أَصْلًا فَإِنَّهُ تَبْقَى الرُّخْصَةُ بِحَالِهَا قُلْنَا ذَاكَ فِي الْفُرُوعِ، وَأَمَّا فِي الْأُصُولِ لَا سِيَّمَا فِي الْإِيمَانِ فَيَجِبُ إذَا وُجِدَ

ص: 320