الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ الْخِلَافَةُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَالْمُوصَى لَهُ خَلِيفَةٌ لِلْمَيِّتِ فِي الْمُوصَى بِهِ (، فَيَكُونُ سَبَبًا) أَيْ: التَّعْلِيقُ بِالْمَوْتِ سَبَبًا (فِي الْحَالِ لِلْعِتْقِ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ: الْمَوْتَ (كَائِنٌ بِيَقِينٍ) فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ عَبْدٍ عُلِّقَ عِتْقُهُ بِأَمْرٍ كَائِنٍ يَقِينًا قُلْنَا بَيْعُ الْعَبْدِ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِالْمَوْتِ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا الِاسْتِخْلَافِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالثَّانِي التَّعْلِيقُ بِأَمْرٍ كَائِنٍ لَا مَحَالَةَ فَصَارَ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ عِلَّةً لِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ جُزْءُ الْعِلَّةِ (فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ وَيَصِيرُ كَأُمِّ الْوَلَدِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّيَّةِ دُونَ سُقُوطِ التَّقَوُّمِ؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَهَا إنَّمَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَفْرَشَهَا صَارَ التَّمَتُّعُ فِيهَا أَصْلًا وَالْمَالُ تَبَعًا عَلَى عَكْسِ مَا كَانَ قَبْلُ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَيِّتُ يَبْقَى دُونَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ (قُلْنَا الْمَرْأَةُ تُغَسِّلُ الزَّوْجَ فِي عِدَّتِهَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ مَالِكِيَّتَهُ حَقٌّ
ــ
[التلويح]
الْمَيِّتِ لِانْتِفَاعِهِمْ بِحَيَاتِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُمْ الْقِصَاصُ ابْتِدَاءً تَشَفِّيًا لِلصُّدُورِ، وَدَرْكًا لِلثَّأْرِ لَا انْتِقَالًا مِنْ الْمَيِّتِ فَإِنْ قِيلَ: الْمُتْلَفُ نَفْسُ الْمَيِّتِ، وَقَدْ كَانَ انْتِفَاعُهُ بِحَيَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ انْتِفَاعِ غَيْرِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْقِصَاصُ حَقًّا لَهُ قُلْنَا نَعَمْ إلَّا أَنَّهُ خَرَجَ عِنْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، فَيَثْبُتُ ابْتِدَاءً لِلْوَلِيِّ الْقَائِمِ مَقَامَهُ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ كَمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ ابْتِدَاءً عِنْدَ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ خِلَافَةً عَنْ الْوَكِيلِ فَالسَّبَبُ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْمُوَرِّثِ، وَالْحَقُّ وَجَبَ لِلْوَارِثِ فَصَحَّ عَفْوُ الْمُوَرِّثِ رِعَايَةً لِجَانِبِ السَّبَبِ، وَصَحَّ عَفْوُ الْوَارِثِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْوَاجِبِ مَعَ أَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ، فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ الْحَقِّ قَبْلَ ثُبُوتِهِ سِيَّمَا إسْقَاطُ الْمُوَرِّثِ فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ.
(قَوْلُهُ: حَتَّى لَا يَنْتَصِبَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ خَصْمًا عَنْ الْبَقِيَّةِ) يَعْنِي: لَوْ أَقَامَ الْوَارِثُ الْحَاضِرُ بَيِّنَةً عَلَى الْقِصَاصِ فَحُبِسَ الْقَاتِلُ ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ كُلِّفَ أَنْ يُعِيدَ الْبَيِّنَةَ، وَلَا يُقْضَى لَهُمَا بِالْقِصَاصِ قَبْلَ إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُمَا ابْتِدَاءً فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْقِصَاصِ كَأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ، وَلَيْسَ الثُّبُوتُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا ثُبُوتًا فِي حَقِّ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا يَكُونُ مَوْرُوثًا كَالْمَالِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْقِصَاصُ مَوْرُوثٌ؛ لِأَنَّ خَلَفَهُ، وَهُوَ الْمَالُ مَوْرُوثٌ إجْمَاعًا، وَالْخَلَفُ لَا يُخَالِفُ حُكْمَ الْأَصْلِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً إنَّمَا هُوَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ صُلُوحِهِ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ فَإِذَا انْقَلَبَ مَالًا بِالصُّلْحِ أَوْ بِالْعَفْوِ، وَالْمَالُ يَصْلُحُ لِحَوَائِجِ الْمَيِّتِ مِنْ التَّجْهِيزِ، وَقَضَاءِ الدُّيُونِ، وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ، وَصَارَ الْوَاجِبُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَالُ إذْ الْخَلَفُ إنَّمَا يَجِبُ بِهِ الْأَصْلُ، فَيَثْبُتُ الْفَاضِلُ مِنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ لِوَرَثَتِهِ خِلَافَةً لَا أَصَالَةً
[الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ]
[الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنْ نَفْسِهِ]
[الْجَهْلُ]
. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ) أَيْ: الَّتِي يَكُونُ لِكَسْبِ الْعِبَادِ مَدْخَلٌ فِيهَا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ
لَهُ فَتَبْقَى بِخِلَافِ مَمْلُوكِيَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَا لَا يَصْلُحُ لِحَاجَتِهِ كَالْقِصَاصِ) ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ وَجَبَتْ لِدَرْكِ الثَّأْرِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَيَاةِ، وَالْمَيِّتُ لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا بَلْ الْوَرَثَةُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ (فَإِنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً حَتَّى يَصِحَّ عَفْوُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْرُوحِ لَكِنَّ السَّبَبَ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ حَتَّى يَصِحَّ عَفْوُهُ أَيْضًا؛ وَلِهَذَا) أَيْ: وَلِأَجْلِ أَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ ابْتِدَاءً لِلْوَرَثَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْقِصَاصُ غَيْرُ مُوَرَّثٍ حَتَّى لَا يَنْتَصِبَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ خَصْمًا عَنْ الْبَقِيَّةِ لَكِنْ (إذَا انْقَلَبَ) أَيْ: الْقِصَاصُ (مَالًا وَهُوَ يَصْلُحُ لِحَوَائِجِ الْمَيِّتِ يُصْرَفُ إلَى حَوَائِجِهِ وَيُورَثُ مِنْهُ، وَأَمَّا أَحْكَامُ الْآخِرَةِ فَكُلُّهَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِ) .
، (وَأَمَّا الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ فَهِيَ إمَّا مِنْ نَفْسِهِ، وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْهَا الْجَهْلُ، وَهُوَ إمَّا جَهْلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا كَجَهْلِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ مُكَابَرَةٌ بَعْدَمَا وَضَحَ الدَّلِيلُ فَدِيَانَةُ الْكَافِرِ) أَيْ: اعْتِقَادُهُ (فِي
ــ
[التلويح]
كَالسُّكْرِ أَوْ بِالتَّقَاعُدِ عَنْ الْمُزِيلِ كَالْجَهْلِ، وَهِيَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ الَّذِي يَبْحَثُ عَنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ كَالسُّكْرِ، وَالْجَهْلِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ كَالْإِكْرَاهِ فَمِنْ الْأَوْلَى أَيْ: الَّتِي تَكُونُ مِنْ الْمُكَلَّفِ الْجَهْلُ، وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ فَإِنْ قَارَنَ اعْتِقَادُ النَّقِيضِ فَمُرَكَّبٌ هُوَ الْمُرَادُ بِالشُّعُورِ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، وَإِلَّا فَبَسِيطٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الشُّعُورِ، وَأَقْسَامُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ أَرْبَعَةٌ: جَهْلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا، وَلَا شُبْهَةً، وَهُوَ فِي الْغَايَةِ، وَجَهْلٌ هُوَ دُونَهُ، وَجَهْلٌ لَا يَصِحُّ شُبْهَةً، وَجَهْلٌ يَصْلُحُ عُذْرًا فَالْأَوَّلُ جَهْلُ الْكَافِرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَوَحْدَانِيِّتِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهٍ، وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام فَإِنَّهُ مُكَابَرَةٌ أَيْ: تَرَفُّعٌ عَنْ انْقِيَادِ الْحَقِّ، وَاتِّبَاعِ الْحُجَّةِ إنْكَارًا بِاللِّسَانِ، وَإِبَاءً بِالْقَلْبِ بَعْدَ وُضُوحِ الْحُجَّةِ، وَقِيَامِ الدَّلِيلِ فَإِنْ قُلْت: الْكَافِرُ الْمُكَابِرُ قَدْ يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُهُ جُحُودًا، وَاسْتِكْبَارًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ جَهْلًا قُلْت: مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَمُكَابَرَتُهُ تَرْكُ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَالتَّأَمُّلِ فِي الْآيَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَيُنْكِرُهُ مُكَابَرَةً، وَعِنَادًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] الْآيَةَ، وَمَعْنَى الْجَهْلِ فِيهِمْ عَدَمُ التَّصْدِيقِ الْمُفَسَّرِ بِالْإِذْعَانِ، وَالْقَبُولِ. (قَوْلُهُ: وَنَحْوَهَا) أَيْ: مِثْلُ الْمَذْكُورَاتِ كَهِبَةِ الْخَمْرِ، وَالْوَصِيَّةِ بِهَا، وَالتَّصَدُّقِ بِهَا، وَأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ قِيمَتِهَا، وَكَذَا الْخِنْزِيرُ.
(قَوْلُهُ: فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ) أَيْ: قَاذِفُ الْمُسْلِمِ الَّذِي وَطِئَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ حَالَ الْكُفْرِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى ثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَقَوْلُهُ، وَتَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ تَفْرِيعٌ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ لَا عَلَى ثُبُوتِ الْإِحْصَانِ، فَلَا يَكُونُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ بَلْ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَلَا يُفْسَخُ أَيْ: نِكَاحُ الْمَحَارِمِ بِرَفْعِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي، وَطَلَبِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ
حُكْمٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ) كَعِبَادَةِ الصَّنَمِ مَثَلًا (بَاطِلَةٌ فَلَا يَكُونُ لِلْكُفْرِ حُكْمُ الصِّحَّةِ أَصْلًا بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ الْقَابِلَةِ لِلتَّبَدُّلِ كَبَيْعِ الْخَمْرِ مَثَلًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُمْ، وَأَمَّا فِي حُكْمٍ يَحْتَمِلُهُ فَدَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ لَهُمْ فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) أَيْ: دِيَانَتُهُ دَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ لَهُمْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» (فَلَا يُحَدُّ الذِّمِّيُّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هِيَ دَافِعَةٌ لَهُ) أَيْ: لِلتَّعَرُّضِ (وَلِدَلِيلِ الشَّرْعِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا اسْتِدْرَاجًا وَمَكْرًا وَزِيَادَةً لِإِثْمِهِمْ وَعَذَابِهِمْ كَأَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ فِيهَا) أَيْ: فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا: اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْرَاجَ تَقْرِيبُ اللَّهِ تَعَالَى الْعَبْدَ إلَى الْعُقُوبَةِ بِالتَّدْرِيجِ فَتَكُونُ دِيَانَتُهُمْ دَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَيُوهِمُ تَخْفِيفًا لَكِنَّهُ تَغْلِيظٌ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا بَيَّنَّا فِي فَصْلِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالشَّرَائِعِ أَنَّ الطَّبِيبَ يُعْرِضُ عَنْ مُدَاوَاةِ الْعَلِيلِ عِنْدَ الْيَأْسِ، وَصُورَةُ التَّخْفِيفِ، وَالْإِمْهَالِ تُوقِعُهُمْ فِي
ــ
[التلويح]
يَجْتَمِعَ الزَّوْجَانِ عَلَى التَّرَافُعِ فَحِينَئِذٍ يُفْسَخُ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْفُرُوعُ الثَّلَاثَةُ مُتَعَلِّقَةً بِثُبُوتِ الْإِحْصَانِ كَانَ فِي تَأْخِيرِهَا عَنْهُ ثُمَّ إيرَادِ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ الْإِحْصَانِ مُنْضَمًّا إلَى الدَّلِيلِ عَلَى تَقَوُّمِ الْخَمْرِ نَوْعُ تَعْقِيدٍ، وَسُوءُ تَرْتِيبٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ لِتَغْيِيرِهِ أُسْلُوبَ كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ جَوَابًا عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ دِيَانَتَهُمْ تُعْتَبَرُ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ لَا لِلْخِطَابِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْجَهْلِ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا فَكَيْفَ الْمُكَابَرَةُ، وَالْعِنَادُ.؟ ، لَكِنْ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ، مَا يَدِينُونَ، وَعَدَمِ التَّعَرُّضِ لِهَذَا بِسَبَبِ عَقْدِ الذِّمَّةِ فَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُمْ لَكِنْ لَا يَثْبُتُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى مُتْلِفِ الْخَمْرِ، وَلَا صِحَّةُ بَيْعِهَا، وَلَا إيجَابُ النَّفَقَةِ عَلَى نَاكِحِي الْمَحَارِمِ، وَلَا الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ تَقَوُّمَ الْمَالِ، وَإِحْصَانَ النَّفْسِ أَيْضًا مِنْ بَابِ الْعِصْمَةِ، وَهِيَ الْحِفْظُ عَلَى التَّعَرُّضِ فَكَانَتْ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: وَأَكْلِهِمْ الرِّبَا، وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) مِنْ سَهْوِ الْقَلَمِ، وَالصَّوَابِ {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا} [النساء: 161] . (قَوْلُهُ: فَإِنَّ دِيَانَةَ الْكَافِرِ) يَعْنِي: مَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِهِ مُخَالِفًا لِلْإِسْلَامِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً بِخِلَافِ مَا يُوَافِقُ الْإِسْلَامَ كَحُرْمَةِ الزِّنَا، وَحُرْمَةِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
(قَوْلُهُ: بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ مُعْتَقَدَهُمْ) أَيْ: مَا كَانَ شَائِعًا مِنْ دِينِهِمْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ سَوَاءٌ وَرَدَتْ بِهِ شَرِيعَتُهُمْ أَوْ لَمْ تَرِدْ، وَسَوَاءٌ كَانَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا دَافِعٌ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ فِي دِينِ الْمَجُوسِيِّ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا غَيْرَ ثَابِتٍ فِي كِتَابِهِمْ إلَّا أَنَّهُ شَائِعٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَمْ تَثْبُتْ حُرْمَتُهُ عِنْدَهُمْ، فَيَكُونُ دِيَانَةً لَهُمْ بِخِلَافِ الرِّبَا عِنْدَ الْيَهُودِ فَإِنَّ حُرْمَتَهُ ثَابِتَةٌ فِي التَّوْرَاةِ فَارْتِكَابُهُ فِسْقٌ مِنْهُمْ لَا دِيَانَةٌ اعْتَقَدُوا حِلَّهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمُعْتَقَدِهِمْ مَا يَعْتَقِدُهُ بَعْضٌ مِنْهُمْ كَمَا إذَا اعْتَقَدُوا حَدَّ جَوَازِ السَّرِقَةِ أَوْ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَافِعًا أَصْلًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّيَانَةِ الدَّافِعَةِ هُوَ الْمُعْتَقَدُ الشَّائِعُ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَى شَرْعٍ فِي الْجُمْلَةِ قَالَ
زِيَادَةِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَفِي تَوَهُّمِ الْإِهْمَالِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ وَهُوَ قَوْلُهُ: عليه الصلاة والسلام «أَمْهَلْنَاهُمْ فَظَنُّوا أَنَّنَا أَهْمَلْنَاهُمْ» وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182]{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183] وَقَالَ {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] وَقَالَ {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] الْآيَةَ (فَيَثْبُتُ عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (تَقَوُّمُ الْخَمْرِ وَالضَّمَانُ بِإِتْلَافِهَا، وَجَوَازُ الْبَيْعِ) وَنَحْوِهَا (وَصِحَّةُ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ حَتَّى إنْ وَطِئَ فِيهِ) أَيْ: فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ (ثُمَّ أَسْلَمَ يَكُونُ مُحْصَنًا فَإِنَّ الْعِفَّةَ عَنْ الزِّنَا شَرْطٌ لِإِحْصَانِ الْقَذْفِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ وَطْأَهُ فِي هَذَا النِّكَاحِ لَا يَكُونُ زِنًا فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ وَتَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ) أَيْ: بِنِكَاحِ الْمَحَارِمِ (وَلَا يُفْسَخُ) أَيْ: نِكَاحُ الْمَحَارِمِ مَا دَامَ الزَّوْجَانِ كَافِرَيْنِ (إلَّا أَنْ يَتَرَافَعَا) ثُمَّ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى ثُبُوتِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ فِي حَقِّهِمْ وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ بِنِكَاحِ الْمَحَارِمِ بِقَوْلِهِ؛ (لِأَنَّ تَقَوُّمَ
ــ
[التلويح]
شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَبْسُوطِ إنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ، وَإِنْ حُكِمَ بِصِحَّتِهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ جَوَازُ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام، وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلْمِيرَاثِ فِي دِينِهِ فَلَا يَثْبُتُ سَبَبًا لِلْمِيرَاثِ بِاعْتِقَادِهِمْ، وَدِيَانَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِدِيَانَةِ الذِّمِّيِّ فِي حُكْمٍ إذَا لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى شَرْعٍ.
(قَوْلُهُ: وَلَا كَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِهَا) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَجُوسِيٍّ خَلَّفَ بِنْتَيْنِ إحْدَاهُمَا زَوْجَتُهُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِ الْمُتَنَاكِحَيْنِ يَعْنِي: الْبِنْتَ الَّتِي لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْوَارِثِ الْآخَرِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ زَوْجِ الْمَحْرَمِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِدِيَانَتِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُهُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ مِنْهُ، فَيَكُونُ تَعْدِيَةً بِخِلَافِ تَضَرُّرِ الزَّوْجِ بِالنَّفَقَةِ فَإِنَّهُ بِالْتِزَامِهِ فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ تُؤَاخَذَ الْبِنْتُ الْغَيْرُ الْمَنْكُوحَةِ بِدِيَانَتِهَا، وَاعْتِقَادِهَا؛ لِأَنَّهَا مَجُوسِيَّةٌ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى نِزَاعِهَا فِي زِيَادَةِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نِزَاعِ الزَّوْجِ فِي النَّفَقَةِ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِزَاعُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ هَذِهِ الدِّيَانَةَ حَيْثُ نَكَحَ الْمَحْرَمُ بِخِلَافِ الْبِنْتِ الْغَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ. (قَوْلُهُ: وَغِنَاهَا) يَعْنِي: أَنَّ الْمَالَ فِي نَفْسِهِ إنْ قَلَّ، وَإِنْ كَثُرَ، وَالْحَاجَةُ دَائِمَةٌ لِإِمْكَانِ الْحَيَاةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
(قَوْلُهُ كَجَهْلِ صَاحِبِ الْهَوَى) مِثْلُ جَهْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِزِيَادَةِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذَّاتِ، وَكَوْنِهِ تَعَالَى مَرْئِيًّا فِي الْجَنَّةِ بِالْأَبْصَارِ، وَكَوْنِهِ خَالِقًا لِلشُّرُورِ، وَالْقَبَائِحِ، وَبِجَوَازِ الشَّفَاعَةِ لِحَطِّ الْكَبَائِرِ، وَجَوَازِ الْعَفْوِ عَمَّا دُونَ الْكُفْرِ، وَعَدَمِ خُلُودِ الْفُسَّاقِ فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْجَهْلُ عُذْرًا لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْمَعْقُولِ، وَإِنَّمَا كَانَ دُونَ جَهْلِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْهَوَى مُؤَوِّلٌ لِلْقُرْآنِ أَيْ: يَصْرِفُهُ عَنْ ظَوَاهِرِهِ الدَّالَّةِ عَلَى نَقِيضِ مُعْتَقَدِهِ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى وَفْقِ مُعْتَقَدِهِ لَا أَنْ يَنْبِذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ مِثْلَ الْكَافِرِ، وَفِي عِبَارَةِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ بِالْقُرْآنِ أَيْ: مُتَمَسِّكٌ بِهِ صَارِفٌ
الْمَالِ وَإِحْصَانَ النَّفْسِ مِنْ بَابِ الْعِصْمَةِ، وَهِيَ الْحِفْظُ، فَيَكُونُ فِي ثُبُوتِهِمَا الْحِفْظُ عَنْ التَّعَرُّضِ) تَقْرِيرُهُ أَنَّ دِيَانَتَهُمْ تَصْلُحُ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ اتِّفَاقًا وَدَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَيْ: فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَصْلُحُ دِيَانَتُهُمْ دَافِعَةً لَهَا لَا يَتَنَاوَلُهُمْ دَلِيلُ الشَّرْعِ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ عِنْدَنَا فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَتَقَوُّمُ الْخَمْرِ وَإِحْصَانُ النَّفْسِ مِنْ بَابِ دَفْعِ التَّعَرُّضِ لَا مِنْ بَابِ التَّعَدِّي إلَى الْغَيْرِ، فَيَثْبُتَانِ (وَلَا يَلْزَمُ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ نُهُوا عَنْهُ) هَذَا جَوَابُ إشْكَالٍ عَلَى أَنَّ دِيَانَتَهُمْ مُعْتَبَرَةٌ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُتْرَكُوا عَلَى دِيَانَتِهِمْ فِي بَابِ الرِّبَا أَيْضًا، فَأَجَابَ بِأَنَّ مُعْتَقَدَهُمْ فِي الرِّبَا لَيْسَ هُوَ الْحِلُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي عَلَى هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: دِيَانَتُهُمْ دَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ اتِّفَاقًا، وَدَلِيلُ الشَّرْعِ لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّ دِيَانَتَهُمْ الصَّحِيحَةَ دَافِعَةٌ لَهُمَا فَإِنَّ دِيَانَةَ الْكَافِرِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ مُعْتَقَدَهُمْ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا دَافِعٌ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ فِي شَرِيعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ؛ لِأَنَّ حِلَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام لِلضَّرُورَةِ ثُمَّ نُسِخَ فِي شَرِيعَةِ نُوحٍ عليه الصلاة والسلام فَارْتِكَابُ الْمَجُوسِ ذَلِكَ، وَارْتِكَابُ أَهْلِ الْكِتَابِ الرِّبَا سِيَّانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا صَعْبٌ جِدًّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ
ــ
[التلويح]
إيَّاهُ إلَى مَا يُوَافِقُ اعْتِقَادَهُ، وَإِنَّمَا لَزِمَنَا مُنَاظَرَتُهُ، وَإِلْزَامُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُلْتَزِمٌ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ مُعْتَرِفٌ بِحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ، وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام.
(قَوْلُهُ: وَكَجَهْلِ الْبَاغِي) هُوَ الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ، وَشُبْهَةٍ طَارِئَةٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَنَعَةٌ، فَقَدْ سَقَطَتْ؛ وَلِأَنَّهُ الْإِلْزَامُ لِتَعَذُّرِهِ حِسًّا، وَحَقِيقَةً، فَيَعْمَلُ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ مَا أُتْلِفَ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ لَكِنْ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ مَا كَانَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُفْتَى بِوُجُوبِ أَدَاءِ الضَّمَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَكِنَّهُمْ لَا يُلْزَمُونَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ تَبْلِيغَ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَنَعَةٍ قَائِمَةٍ حِسًّا فِيمَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِخِلَافِ الْإِثْمِ، فَإِنَّ الْمَنَعَةَ لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّارِعِ، وَلَا تَسْقُطُ حُقُوقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنَعَةٌ، فَلَا مَانِعَ مِنْ تَبْلِيغِ الْحُجَّةِ، وَإِلْزَامِ الْحُكْمِ فَيُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ، وَيَجِبُ عَلَيْنَا مُحَارَبَةُ الْبَاغِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وَلِأَنَّ الْبَغْيَ مَعْصِيَةٌ، وَمُنْكَرٌ، وَنَهْيُ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ، وَذَلِكَ بِالْقِتَالِ، وَقِيلَ: إنَّمَا تَجِبُ مُحَارَبَتُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا، وَعَزَمُوا عَلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ.
(قَوْلُهُ: وَلَمْ يُحْرَمْ الْمِيرَاثَ بِقَتْلِهِ) أَيْ: قَتْلِ الْبَاغِي لِوُجُودِ السَّبَبِ مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ إذْ الْقَتْلُ إنَّمَا يَكُونُ مَانِعًا إذَا كَانَ مَحْظُورًا لِيَكُونَ الْحِرْمَانُ جَزَاءً، وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ لَا إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ كَقَتْلِ الْبَاغِي، وَالْقَتْلِ رَجْمًا أَوْ قِصَاصًا، وَكَذَا لَا يُحْرَمُ الْبَاغِي الْمِيرَاثَ بِقَتْلِ مُوَرِّثِهِ الْعَادِلِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ حَقٌّ فِي زَعْمِ الْبَاغِي بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِهِ، وَتَمَسُّكِهِ بِمَا عُرِضَتْ لَهُ مِنْ الشُّبْهَةِ، وَوِلَايَتُنَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْهُ لِمَكَانِ الْمَنَعَةِ فَكَانَ قَتْلُهُمْ أَهْلَ الْحَقِّ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ لَا فِي
حُرْمَةُ الرِّبَا مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ فَارْتِكَابُهُمْ ذَلِكَ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْفِسْقِ وَحُرْمَةُ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ الْمَجُوسِ وَلَا يُمْكِنُ لَنَا إلْزَامُهُمْ بِمَا فِي كُتُبِنَا فَافْتَرَقَا (فَإِنْ قِيلَ دِيَانَتُهُمْ لَيْسَتْ حُجَّةً مُتَعَدِّيَةً إجْمَاعًا فَلَا تُوجِبُ ضَمَانَ الْخَمْرِ وَحَدَّ الْقَذْفِ، وَالنَّفَقَةَ كَمَا فِي مَجُوسِيٍّ غَلَبَ بِنْتَيْنِ إحْدَاهُمَا لَا تَرِثُ بِالزَّوْجِيَّةِ) اعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَقِيسِ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَعَدَمُ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ وَعَدَمُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْحُكْمَ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ عَدَمُ الْإِرْثِ فَالْحُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لَكِنَّهُمَا مُنْدَرِجَانِ تَحْتَ حُكْمٍ وَاحِدٍ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ لَهُمَا، وَهُوَ أَنَّ دِيَانَتَهُمْ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ (قُلْنَا يَثْبُتُ بِدِيَانَتِهِمْ بَقَاءُ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ عَلَى مَا كَانَ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا دَفْعُ دَلِيلِ الشَّرْعِ ثُمَّ هُوَ) أَيْ: التَّقَوُّمُ (شَرْطٌ لِلضَّمَانِ لَا عِلَّتُهُ، وَكَذَا الْإِحْصَانُ) أَيْ: إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ (فَلَا يَكُونُ فِي إثْبَاتِهِمَا) أَيْ: فِي إثْبَاتِ التَّقَوُّمِ، وَالْإِحْصَانِ (إثْبَاتُ الضَّمَانِ وَالْحَدِّ) بَلْ الضَّمَانُ وَالْحَدُّ إنَّمَا يَثْبُتَانِ بِإِتْلَافِ الْخَمْرِ، وَبِالْقَذْفِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِتَعَدِّي دِيَّاتِهِمْ لَوْ أَثْبَتْنَا الضَّمَانَ وَالْحَدَّ بِاعْتِقَادِهِمْ التَّقَوُّمَ، وَالْإِحْصَانَ وَلَمْ نَفْعَلْ كَذَلِكَ (وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَإِنَّمَا تَجِبُ دَفْعُهَا لِلْهَلَاكِ فَتَكُونُ دَافِعَةً لَا مُتَعَدِّيَةً، وَلِأَنَّهُمَا لَمَّا تَنَاكَحَا دَانَا بِصِحَّتِهِ
ــ
[التلويح]
حَقِّ الْأَثَامِ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّ انْضِمَامَ الْمَنَعَةِ، وَانْقِطَاعَ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ إلَى التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ الصَّحِيحِ فِي حَقِّ التَّوْرِيثِ كَمَا فِي حَقِّ الضَّمَانِ، وَهَذَا إذَا قَالَ الْوَارِثُ كُنْت عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَا الْآنَ عَلَى الْحَقِّ، وَإِلَّا فَيُحْرَمُ اتِّفَاقًا.
(قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَ الدَّارُ وَاحِدَةً) يَعْنِي: أَنَّ تَمَلُّكَ الْمَالِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَمَالِ اخْتِلَافِ الدَّارِ، وَوُجُوبِ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ يُنْبِئُ عَنْ كَمَالِ الْعِصْمَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الدَّارِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَنَحْنُ لَا نَمْلِكُ مَالَ الْبَاغِي حَتَّى إذَا انْكَسَرَتْ شَوْكَةُ الْبُغَاةِ نَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ لِاتِّحَادِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَكِنْ لَا تَضْمَنُ أَمْوَالَهُمْ بِالْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّيَانَةِ مَعَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ يُوجِبُ شُبْهَةَ اخْتِلَافِ الدَّارِ فَيُوجِبُ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ مِنْ وَجْهٍ فَلَوْ قُلْنَا بِعَدَمِ الْمِلْكِ، وَبِوُجُوبِ الضَّمَانِ جَعَلْنَا الْعِصْمَةَ مِنْ وَجْهٍ بِمَنْزِلَةِ الْعِصْمَةِ الْكَامِلَةِ، وَلَوْ قُلْنَا بِالْمِلْكِ، وَعَدَمِ الضَّمَانِ جَعَلْنَا اتِّحَادَ الدَّارِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهَا، وَلَوْ قُلْنَا بِالْمِلْكِ، وَالضَّمَانِ كَانَ مُتَنَاقِضًا؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْمِلْكِ مَعْنَاهُ عَدَمُ الضَّمَانِ فَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ الْمِلْكِ مَعَ عَدَمِ الضَّمَانِ كَمَا فِي غَصْبِ غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ فَإِنْ قِيلَ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْمِلْكِ، وَضَمَانِ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ قُلْنَا لَوْ مَلَكَهُ لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ الْعَيِّنَةَ، وَالْمِلْكُ بِالضَّمَانِ إنَّمَا يَصِحُّ اسْتِنَادًا لَا ابْتِدَاءً.
(قَوْلُهُ:، وَكَجَهْلِ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ) يُرِيدُ أَنَّ الْجَهْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الدِّينِ، وَأُصُولِهِ، وَهُوَ الْغَايَةُ أَوْ لَا، وَهُوَ دُونَهُ، وَذَلِكَ إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أُصُولِ الْمَذْهَبِ كَمَا مَرَّ أَوْ فِي فُرُوعِهِ، وَذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَيَصْلُحُ عُذْرًا أَوْ لِلْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ
فَيُؤْخَذُ الزَّوْجُ بِدِيَانَتِهِ وَلَا كَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِهِمَا كَالْوَارِثِ الْآخَرِ) لِأَنَّ تَقَوُّمَ الْمَالِ وَإِحْصَانَ النَّفْسِ مِنْ بَابِ الْعِصْمَةِ وَهِيَ الْحِفْظُ فَيَكُونُ فِي ثُبُوتِهِمَا الْحِفْظُ عَنْ التَّعَرُّضِ وَلَا يَلْزَمُ الرِّبَا لِأَنَّ هُمْ قَدْ نُهُوا عَنْهُ جَوَابٌ عَنْ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَمَا فِي مَجُوسِيٍّ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ فِي إرْثِ الْبِنْتِ الَّتِي هِيَ زَوْجَتُهُ ضَرَرًا بِالْوَارِثِ الْآخَرِ أَيْ: الْبِنْتِ الَّتِي هِيَ لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ، فَتَكُونُ مُتَعَدِّيَةً هُنَا (وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَكَذَلِكَ) اعْلَمْ أَمَّا مَا ذُكِرَ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَكَذَلِكَ (أَيْضًا) أَيْ: دِيَانَتُهُمْ دَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ وَلِدَلِيلِ الشَّرْعِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا (إلَّا أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَيْسَ حُكْمًا أَصْلِيًّا بِخِلَافِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ بَلْ كَانَ ضَرُورِيًّا إذْ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَحِلَّ نِكَاحُ الْأُخْتِ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ) أَيْ: نِكَاحُ الْمَحَارِمِ كَانَ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام حُكْمًا ضَرُورِيًّا إذْ لَوْلَا جَوَازُهُ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ لَا يَحْصُلُ النَّسْلُ أَصْلًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ نِكَاحَ الْأُخْتِ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا فِي شَرِيعَةِ آدَمَ عليه السلام وَكَانَتْ السُّنَّةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وِلَادَةَ ذَكَرٍ مَعَ أُنْثَى مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ وَالْمَشْرُوعُ أَنْ يَتَزَوَّجَ كُلَّ أُنْثَى ذَكَرٌ مِنْ بَطْنٍ آخَرَ، فَكَانَ النِّكَاحُ بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ حَرَامٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّوْأَمَيْنِ مَخْلُوقَانِ مِنْ مَاءٍ انْدَفَقَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَالْوَلَدَانِ مِنْ بَطْنَيْنِ مَخْلُوقَانِ مِنْ مَاءَيْنِ انْدَفَقَا دَفْعَتَيْنِ فَالْأُخْتُ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ أَقْرَبُ مِنْ أُخْتٍ لَا تَكُونُ
ــ
[التلويح]
وَالْإِجْمَاعِ، فَيَكُونُ مِثْلَ جَهْلِ صَاحِبِ الْهَوَى، وَقَيَّدَ السُّنَّةَ بِالْمَشْهُورَةِ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْمُتَوَاتِرِ تَكُونُ كُفْرًا لِكَوْنِهِ قَطْعِيًّا، وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ أَيْضًا كَذَلِكَ فَمُخَالَفَتُهُ إنَّمَا لَا تَكُونُ كُفْرًا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَتْنُ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ قَطْعِيَّةِ الْمَتْنِ، وَالدَّلَالَةِ فَالْمُخَالِفُ كَافِرٌ لَا مَحَالَةَ فَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ تَقْيِيدِ الْكِتَابِ بِأَنْ لَا يَكُونَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ، وَتَقْيِيدُ السُّنَّةِ بِأَنْ تَكُونَ مَشْهُورَةً أَوْ تَكُونَ مُتَوَاتِرَةً غَيْرَ قَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ فَمِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ الْقَوْلُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا عِنْدَ ذَبْحِهِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» ، وَبِأَنَّ الْمُؤْمِنَ ذَاكِرٌ بِقَلْبِهِ التَّسْمِيَةَ، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «تَسْمِيَةُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ» ، وَمِنْهَا الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ، وَيَمِينٍ تَمَسُّكًا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام قَضَى بِشَاهِدٍ، وَيَمِينٍ» ، وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ قِيَامِ نَصِّ الْكِتَابِ خَطَأٌ فِي الِاجْتِهَادِ إلَّا أَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، فَيَكُونَ قَيْدًا لِلنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الْمَيْتَةُ أَوْ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] فَإِنَّ الْفِسْقَ هُوَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِحَصْرِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي هِيَ الشَّهَادَةُ الْمَحْضَةُ فِي رَجُلَيْنِ، وَرَجُلٍ، وَامْرَأَتَيْنِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي ثُبُوتَ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ الْبَيِّنَةِ هِيَ
كَذَلِكَ وَلَمَّا كَانَتْ الضَّرُورَةُ تَنْقَضِي بِالْبُعْدِ لَمْ تَحِلَّ الْقُرْبَى فَعُلِمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ الْحُرْمَةُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْحِلُّ بِالضَّرُورَةِ فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِكَثْرَةِ النَّسْلِ نُسِخَ حِلُّ الْأَخَوَاتِ فَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ دِيَانَتِهِمْ دَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ حِلُّ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ إذْ بَعْدَ قَصْرِ دَلِيلِ الشَّرْعِ عَنْهُمْ يَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ وَهُوَ الْحُرْمَةُ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ إذْ بَعْدَ قَصْرِ دَلِيلِنَا عَنْهُمْ يَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ، وَهُوَ الْحِلُّ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنِكَاحُ الْمَحَارِمِ لَا يَكُونُ مُثْبِتًا لِلْإِحْصَانِ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُ مَنْ نَكَحَ الْمَحَارِمَ وَوَطِئَ ثُمَّ أَسْلَمَ (وَأَيْضًا حَدُّ الْقَذْفِ يَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ) أَيْ: سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِمْ لَكِنَّ شُبْهَةَ عَدَمِ الصِّحَّةِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ، فَيَنْدَرِئُ حَدُّ الْقَذْفِ بِهَا، فَقَوْلُهُ وَأَيْضًا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ إلَخْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْطُوفِ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِ مَنْ نَكَحَ الْمَحَارِمَ وَوَطِئَ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ وَأَيْضًا (وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ أَيْضًا) عَطْفٌ عَلَى الْحُكْمِ الْمَفْهُومِ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَنَعْنِي بِالْحُكْمِ الْمَفْهُومِ عَدَمَ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ (أَمَّا عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ) وَهُوَ أَنَّ حِلَّ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ لَيْسَ حُكْمًا أَصْلِيًّا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ يُوجِبُ بُطْلَانَ النِّكَاحِ فَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ (وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي)
ــ
[التلويح]
شَهَادَةُ الْوَاحِدِ مَعَ الْيَمِينِ، وَمِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ أَعْنِي: قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَسَامَةِ، وَهِيَ أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ لَا يُدْرَى قَاتِلُهُ، وَادَّعَى الْوَلِيُّ قَتْلَهُ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنَّهُ إنْ ظَهَرَ لَوْثٌ أَيْ: عَلَامَةٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ دَعْوَاهُ يُسْتَحْلَفُ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ يَمِينًا، ثُمَّ يُقْضَى لَهُ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ فِي صُورَةِ الْخَطَأِ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْعَمْدِ فَفِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَفِي الْقَدِيمِ بِالْقِصَاصِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ عليه السلام لِأَوْلِيَاءِ مَقْتُولٍ وُجِدَ فِي خَيْبَرَ «أَتَحْلِفُونَ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ أَيْ: دَمَ قَاتِلِ صَاحِبِكُمْ» إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ فَظَهَرَ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَقْرِيرِ الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَأَنَّهُ لَا جِهَةَ لِتَخْصِيصِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَمِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ الْقَوْلُ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ تَمَسُّكًا بِمَا رُوِيَ عَنْ «جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ» ، وَبِأَنَّ الْمَالِيَّةَ ثَبَتَتْ بِيَقِينٍ، وَارْتِفَاعُهَا بِالْوِلَادَةِ مَشْكُوكٌ، فَإِنَّ الْآثَارَ الدَّالَّةَ عَلَى مَنْعِ بَيْعِهَا قَدْ اشْتَهَرَتْ، وَتَلَقَّاهَا الْقَرْنُ الثَّانِي بِالْقَبُولِ فَصَارَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ.
(قَوْلُهُ: كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ) أَوْرَدَ مَسْأَلَتَيْنِ: أُولَاهُمَا مِثَالٌ لِلْجَهْلِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ، وَالثَّانِيَةُ تَتْمِيمٌ، وَتَكْمِيلٌ لِلْأُولَى لَا مِثَالٌ آخَرُ؛ لِأَنَّ فِيهَا مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ فَلَا يَكُونُ الِاجْتِهَادُ صَحِيحًا.
(قَوْلُهُ: وَلَمْ يَقْضِ الظُّهْرَ بِنَاءً) أَيْ: بَنَى عَدَمَ
وَهُوَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ (فَالنِّكَاحُ، وَإِنْ صَحَّ لَكِنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ فَلَا تَجِبُ كَالْمِيرَاثِ إذْ لَوْ وَجَبَتْ تَصِيرُ الدِّيَانَةُ مُتَعَدِّيَةً) ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشُّبْهَةِ لِدَرْءِ حَدِّ الْقَذْفِ شُبْهَةُ عَدَمِ صِحَّةِ النِّكَاحِ، فَهَذَا الدَّلِيلُ مُشْعِرٌ بِتَسْلِيمِ صِحَّةِ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ، وَكَوْنِهَا حُكْمًا أَصْلِيًّا فِي حَقِّهِمْ (وَالْجَوَابُ) أَيْ: جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي النَّفَقَةِ (أَنَّهَا لِدَفْعِ الْهَلَاكِ) فَإِيجَابُ النَّفَقَةِ بِنَاءً عَلَى دِيَانَتِهِمْ لَا يَكُونُ قَوْلًا بِأَنَّ دِيَانَتَهُمْ مُتَعَدِّيَةٌ بَلْ دِيَانَتُهُمْ دَافِعَةٌ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ حَابِسٌ لِلزَّوْجَةِ فَإِنْ حَبَسَهَا بِلَا نَفَقَةٍ يَكُونُ مُتَعَرِّضًا لَهَا بِالْإِهْلَاكِ فَإِيجَابُ النَّفَقَةِ دَفْعٌ لِهَذَا التَّعَرُّضِ ثُمَّ وَرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّ إيجَابَ النَّفَقَةِ لَيْسَ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ بِدَلِيلِ وُجُوبِهَا مَعَ غِنَى الْمَرْأَةِ، فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَغِنَاهَا لَا يَدْفَعُ الْحَاجَةَ الدَّائِمَةَ بِدَوَامِ الْحَبْسِ، وَأَمَّا جَهْلٌ كَمَا ذَكَرْنَا) أَيْ: لَا يَصْلُحُ عُذْرًا، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَأَمَّا جَهْلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا (لَكِنَّهُ دُونَهُ) أَيْ: دُونَ الْجَهْلِ الْأَوَّلِ (كَجَهْلِ صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُؤَوِّلًا لِلْقُرْآنِ كَانَ دُونَ الْأَوَّلِ وَلَمَّا كَانَ مُسْلِمًا لَزِمَنَا مُنَاظَرَتُهُ وَإِلْزَامُهُ، فَلَا يُتْرَكُ عَلَى دِيَانَتِهِ فَلَزِمَهُ جَمِيعُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَكَجَهْلِ الْبَاغِي، فَيَضْمَنُ بِإِتْلَافِ مَالِ الْعَادِلِ أَوْ نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنَعَةٌ، فَتَسْقُطُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ وَتَجِبُ عَلَيْنَا مُحَارَبَتُهُ وَلَمْ يُحْرَمْ الْمِيرَاثَ بِقَتْلِهِ
ــ
[التلويح]
قَضَاءِ الظُّهْرِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِعَدَمِ الْوُضُوءِ حِينَ صَلَّى، وَأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُؤَدَّاةَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِذَلِكَ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ. (قَوْلُهُ: وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ، وَاقْتَصَّ الْآخَرُ) بِجَهْلِهِ بِالْعَفْوِ أَوْ بِأَنَّ عَفْوَ أَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ يُسْقِطُ الْقَوَدَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ هَذَا جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ؛ وَلِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَنَّ الْقِصَاصَ إذَا ثَبَتَ لِوَلِيَّيْنِ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ التَّفَرُّدُ بِالْقَتْلِ حَتَّى لَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ الْقَتْلُ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَلَا يَكُونُ اجْتِهَادًا صَحِيحًا بَلْ هُوَ جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ لِأَنَّهُ عُلِمَ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ وَمَا ثَبَتَ فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ وَأَيْضًا الظَّاهِرُ عَدَمُ نَفَاذِ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ فَيَكُونُ مَحَلَّ الِاشْتِبَاهِ، وَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ.
(قَوْلُهُ: إذْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ) يَعْنِي: كَفَّارَةَ الصَّوْمِ تَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ لِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْعُقُوبَةِ فِيهَا، وَهَذَا إذَا اسْتَفْتَى فَقِيهًا، فَأَفْتَاهُ بِفَسَادِ الصَّوْمِ فَحَصَلَ لَهُ الظَّنُّ بِذَلِكَ أَوْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ أَعْنِي: قَوْلَهُ عليه السلام «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ، وَالْمَحْجُومُ» ، وَلَمْ يَعْرِفْ نَسْخَهُ، وَلَا تَأْوِيلَهُ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ اتِّفَاقًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ كَانَ ظَنُّهُ مُسْتَنِدًا إلَى الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِّيِّ الْأَخْذُ بِظَوَاهِرِ الْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا التَّمَسُّكُ بِهَا لِلْفُقَهَاءِ، وَالْقَوْلُ بِفَسَادِ الصَّوْمِ بِالْحِجَامَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَوْزَاعِيُّ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ اجْتِهَادًا صَحِيحًا لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ.
(وَقَوْلُهُ وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةِ امْرَأَتِهِ أَوْ وَالِدِهِ يَظُنُّ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَالَ الزَّوْجَةِ مَالُ الزَّوْجِ مِنْ وَجْهٍ لِفَرْطِ الِاخْتِلَاطِ أَوْ حِلِّ الزَّوْجَةِ يُوجِبُ حِلَّ مَمْلُوكَتِهَا، وَأَنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ
لِأَنَّ الْإِسْلَامَ جَامِعٌ) أَيْ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَاغِي، فَيَكُونُ سَبَبُ الْإِرْثِ مَوْجُودًا (وَالْقَتْلُ حَقٌّ) فَلَا يَكُونُ مَانِعًا مِنْ الْإِرْثِ (وَكَذَا إنْ قَتَلَ عَادِلًا) أَيْ: لَا يُحْرَمُ الْبَاغِي الْإِرْثَ إنْ قَتَلَ عَادِلًا (لِأَنَّهُ حَقٌّ فِي زَعْمِهِ وَوِلَايَتُنَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ الدَّارُ وَاحِدَةً وَالدِّيَانَةُ مُخْتَلِفَةً تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ مِنْ وَجْهٍ فَلَا نَمْلِكُ مَالَهُ لَكِنْ لَا نَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ) كَمَا فِي غَصْبِ مَالٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ فَإِنَّ الْغَاصِبَ لَا يَمْلِكُهُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ، وَأَمَّا إذَا أَتْلَفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْكَسْ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَالَهُ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَالَهُ مَعَ التَّنَاقُضِ (وَكَجَهْلِ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ كَمَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا) فَإِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] (وَالْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ) أَيْ: يَمِينِ الْمُدَّعِي فَإِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282](أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ كَالتَّحْلِيلِ بِدُونِ الْوَطْءِ) عَلَى مَذْهَبِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ حَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ (وَالْقِصَاصِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَسَامَةِ) فَإِنَّهُ إنْ وُجِدَ لَوْثٌ أَيْ: عَلَامَةُ الْقَتْلِ اُسْتُحْلِفَ الْأَوْلِيَاءُ خَمْسِينَ يَمِينًا عَمْدًا كَانَتْ الدَّعْوَى أَوْ خَطَأً، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ رحمه الله يُقْضَى بِالْقَوَدِ إنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْعَمْدِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِيهِ خِلَافُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، وَهَذَا وَحَدِيثُ الْعُسَيْلَةِ مِنْ الْمَشَاهِيرِ (أَوْ الْإِجْمَاعِ كَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ) فَإِنَّ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ انْعَقَدَ عَلَى بُطْلَانِهِ (حَتَّى لَا يَنْفُذَ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ) مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْبَحْثِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِعُذْرٍ حَتَّى إنْ قَضَى الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ (، وَأَمَّا جَهْلٌ يَصْلُحُ شُبْهَةً) عَطْفٌ عَلَى النَّوْعَيْنِ
ــ
[التلويح]
مِلْكُ الْجُزْءِ أَوْ حَلَالٌ لَهُ فَهَذَا شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ أَعْنِي: الشُّبْهَةَ فِي الْفِعْلِ، وَهِيَ أَنْ يَظُنَّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلِ الْحِلِّ دَلِيلًا، فَيَظُنُّ الْحِلَّ، فَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ لَكِنْ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَلَا تَجِبُ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ تَمَحَّضَ زِنًا بِخِلَافِ شُبْهَةِ الْحِلِّ، وَتُسَمَّى شُبْهَةَ الدَّلِيلِ، وَهِيَ أَنْ يُوجَدَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ لَكِنْ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ لِمَانِعٍ كَمَا إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ الِابْنِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ، وَالْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَتَمَحَّضْ زِنًا نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ أَعْنِي: قَوْلَهُ عليه السلام «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» ، وَأَمَّا شُبْهَةُ جَارِيَةِ الْأَخِ أَوْ الْأُخْتِ فَلَيْسَتْ مَحَلًّا لِلِاشْتِبَاهِ لَا شُبْهَةَ فِعْلٍ، وَلَا شُبْهَةَ مَحَلٍّ فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا جَهْلٌ يَصْلُحُ عُذْرًا) كَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَجَهْلُهُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ يَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي التَّرْكِ حَتَّى لَا يَجِبَ بَعْدَ الْمُهَاجَرَةِ قَضَاءُ مُدَّةِ اللُّبْثِ فِي دَارِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَمَاعِ الْخِطَابِ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا بِشُهْرَتِهِ فِي مَحَلِّهِ.
(قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] الْمَذْكُورُ
الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْجَهْلِ (كَالْجَهْلِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ) أَيْ: غَيْرِ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ (أَوْ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ ثُمَّ الْعَصْرَ بِهِ) أَيْ: بِالْوُضُوءِ زَاعِمًا صِحَّةَ ظُهْرِهِ (ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ) ثُمَّ قَضَى الظُّهْرَ (بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّذَكُّرِ) ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْعَصْرَ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى جَهْلِهِ بِفَرْضِيَّةِ التَّرْتِيبِ (يَصِحُّ الْمَغْرِبُ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ) فَلَا يَضُرُّ جَهْلُهُ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْمَغْرِبِ كَمَا يَجِبُ قَضَاءُ الْعَصْرِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ زَاعِمًا صِحَّةَ ظُهْرِهِ وَهَذَا زَعْمٌ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ قَضَاءُ الْعَصْرِ لِعَدَمِ فَرْضِيَّةِ التَّرْتِيبِ عِنْدَهُ هَذَا إذَا كَانَ يَزْعُمُ وَقْتَ أَدَاءِ الْمَغْرِبِ أَنَّ عَصْرَهُ جَائِزٌ أَمَّا لَوْ عَلِمَ وَقْتَ أَدَاءِ الْمَغْرِبِ أَنَّ عَصْرَهُ لَمْ يَجُزْ كَانَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْمَغْرِبِ كَمَا يَجِبُ قَضَاءُ الْعَصْرِ (وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الظُّهْرَ وَصَلَّى الْعَصْرَ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ أَنَّ الظُّهْرَ جَائِزٌ) أَيْ: صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ ثُمَّ الْعَصْرَ بِوُضُوءٍ زَاعِمًا صِحَّةَ الظُّهْرِ، وَلَمْ يَقْضِ الظُّهْرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِعَدَمِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ مَنْ صَلَّى صَلَاةً بِغَيْرِ وُضُوءٍ جَاهِلًا أَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَصَلَّى فَرْضًا آخَرَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَالْفَرْضُ الثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ خِلَافًا لِحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ إنَّمَا يَجِبُ رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُهُ، وَأَيْضًا فِيهِ خِلَافُ زُفَرَ رحمه الله فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ الْفَرْضَ الْأَوَّلَ يُجْزِيهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّاسِي لِلْفَائِتَةِ فَيُجْزِيهِ الْفَرْضُ الثَّانِي (لَمْ يَصِحَّ الْعَصْرُ) أَيْ: صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ ثُمَّ الْعَصْرَ بِوُضُوءٍ زَاعِمًا صِحَّةَ الظُّهْرِ وَلَمْ يَقْضِ الظُّهْرَ لَمْ يَصِحَّ الْعَصْرُ؛ لِأَنَّ زَعْمَهُ مُخَالِفٌ (لِلْإِجْمَاعِ، وَالْمَسْأَلَةُ الْمُسْتَشْهَدُ بِهَا هِيَ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةُ وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ ثُمَّ اقْتَصَّ الْآخَرُ
ــ
[التلويح]
فِي عَامَّةِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ نُزُولِ آيَةِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ فَقَالُوا: كَيْفَ مَنْ مَاتَ قَبْلَ التَّحْوِيلِ مِنْ إخْوَانِنَا؟ .
(قَوْلُهُ: وَقِصَّةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ) هِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَشَرِبُوا الْخَمْرَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِحُرْمَتِهَا فَنَزَلَ {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] ، وَعَنْ ابْنِ كَيْسَانَ «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا، وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ، وَأَكَلُوا الْمَيْسِرَ، وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ بِتَحْرِيمِهَا، وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا فَنَزَلَتْ» .
(قَوْلُهُ: وَالْبِكْرُ) أَيْ:، وَكَجَهْلِ الْبِكْرِ بِالنِّكَاحِ فِيمَا إذَا زَوَّجَهَا، وَلِيٌّ غَيْرِ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ مِنْ الْكُفْءِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ زَوَّجَهَا الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ أَوْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ عُذْرًا حَتَّى يَكُونَ لَهَا الْفَسْخُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالنِّكَاحِ، وَأَمَّا إذَا زَوَّجَهَا الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ مِنْ الْكُفْءِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ لِكَمَالِ النَّظَرِ، وَوُفُورِ الشَّفَقَةِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُ الْأَبِ، وَالْجَدِّ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَوْ بِغَبْنٍ