الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْمَصْلَحَةُ فِي شَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ وَالضَّمَانِ وَحَدِّ الزِّنَا وَالْجِهَادِ وَحُرْمَةِ الْمُسْكِرَاتِ، وَالْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ هُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ وَالسَّرِقَةُ وَالْغَصْبُ مَثَلًا وَالزِّنَا وَحَرْبِيَّةُ الْكَافِرِ وَالْإِسْكَارِ، وَإِمَّا مُحْتَاجٌ إلَيْهَا كَمَا فِي تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ فَالْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ هُوَ الصِّغَرُ، وَالْحُكْمُ شَرْعِيَّةُ التَّزْوِيجِ وَالْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ كَوْنُ الْمُوَلِّيَةِ تَحْتَ الْكُفْءِ، وَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً لَكِنَّهَا فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَفُوتَ الْكُفْءُ لَا إلَى بَدَلٍ.
وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ ضَرُورِيَّةً وَلَا مُحْتَاجًا إلَيْهَا بَلْ لِلتَّحْسِينِ كَحُرْمَةِ الْقَاذُورَاتِ فَإِنَّهَا حُرِّمَتْ لِنَجَاسَتِهَا وَعُلُوِّ مَنْصِبِ الْآدَمِيِّ فَلَا يَحْسُنُ تَنَاوُلُهَا، وَالْإِقْنَاعِيُّ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ ثُمَّ إذَا تُؤُمِّلَ يَظْهَرُ خِلَافُهُ كَنَجَاسَةِ الْخَمْرِ لِبُطْلَانِ بَيْعِهَا فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا نَجِسَةٌ تُنَاسِبُ الْإِدْلَالَ، وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي الْإِعْزَازَ لَكِنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ كَوْنُهَا مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ.
(وَالْحِكْمَةُ الْمُجَرَّدَةُ لَا تُعْتَبَرُ فِي كُلِّ فَرْدٍ لِخَفَائِهَا، وَعَدَمِ انْضِبَاطِهَا بَلْ فِي الْجِنْسِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَى وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ يَدُورُ مَعَهَا) أَيْ: يَدُورُ الْوَصْفُ مَعَ الْحِكْمَةِ.
(أَوْ يَغْلِبُ وُجُودُهَا) أَيْ: وُجُودُ الْحِكْمَةِ (عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدَ الْوَصْفِ وَالْمُرَادُ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَكُونُ مُحَصِّلًا لِلْحِكْمَةِ دَائِمًا، وَفِي الْأَغْلَبِ (كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ) أَيْ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَشَقَّةَ هِيَ الْحِكْمَةُ بَلْ الْحِكْمَةُ هِيَ دَفْعُ الضَّرَرِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ إنَّمَا
ــ
[التلويح]
إمَّا حَقِيقِيٌّ، وَإِمَّا إقْنَاعِيٌّ، وَأَحَالَهُ عَلَى الْغَيْرِ لِمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله بَلْ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ وَهُوَ أَنَّ الْمُنَاسِبَ عِبَارَةٌ عَنْ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ يَلْزَمُ مِنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ حُصُولُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مِنْ شَرْعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْصُودُ جَلْبَ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَفْسَدَةٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَرَتُّبِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَتْلِ، حُصُولُ مَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ، وَهُوَ بَقَاءُ النُّفُوسِ عَلَى مَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسِّرَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو زَيْدٍ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْ: الْمُنَاسِبُ هُوَ الَّذِي إذَا عُرِضَ عَلَى الْعَقْلِ أَنْ يَلْزَمَ مِنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ حُصُولُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ يَقْبَلُهُ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ الْآمِدِيُّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصْلُحُ لِلنَّاظِرِ لَا لِلْمُنَاظِرِ إذْ رُبَّمَا يَقُولُ الْخَصْمُ هَذَا مِمَّا لَا يَتَلَقَّاهُ عَقْلِي بِالْقَبُولِ فَلَا يَكُونُ مُنَاسِبًا بِالنِّسْبَةِ إلَيَّ، وَلَيْسَ الِاحْتِجَاجُ بِقَبُولِ الْغَيْرِ عَلَيَّ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ عَامَّةُ الْعُقُولِ وَلِذَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ
[أَبْحَاثٌ فِي الْعِلَّة]
[الْأَوَّلُ الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ عَدَمُ التَّعْلِيلِ]
(قَوْلُهُ: الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ عَدَمُ التَّعْلِيلِ) اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ فَقِيلَ: الْأَصْلُ عَدَمُ التَّعْلِيلِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّعْلِيلِ وَقِيلَ: الْأَصْلُ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَصْفٍ صَالِحٍ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ حَتَّى يُوجَدَ مَانِعٌ عَنْ الْبَعْضِ وَقِيلَ الْأَصْلُ التَّعْلِيلُ بِوَصْفٍ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُهُ مِنْ بَيْنِ الْأَوْصَافِ، وَنَسَبَ ذَلِكَ إلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ اشْتَهَرَ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ
يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ وُجُودِ الضَّرَرِ وَوُجُودُ الضَّرَرِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ مَوْجُودَةً ثُمَّ الْمَشَقَّةُ غَالِبَةُ الْوُجُودِ فِي السَّفَرِ فَتَرَتُّبُ الْحُكْمِ وَهُوَ الرُّخْصَةُ عَلَى الْوَصْفِ وَهُوَ السَّفَرُ يَكُونُ مُحَصِّلًا لِلْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ دَفْعُ الضَّرَرِ فِي الْأَغْلَبِ.
(وَهُنَا أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ عَدَمُ التَّعْلِيلِ) عِنْدَ الْبَعْضِ إلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «الْهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ عَلَيْكُمْ» فَتَعْلِيلُهُ عليه الصلاة والسلام دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّصَّ مُعَلَّلٌ، وَأَنَّ عَدَمَ نَجَاسَتِهَا مُعَلَّلٌ بِالطَّوَافِ (لِأَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ بِصِيغَتِهِ لَا بِالْعِلَّةِ؛ وَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِكُلِّ الْأَوْصَافِ مُحَالٌ، وَبِالْبَعْضِ مُحْتَمَلٌ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ هِيَ مُعَلَّلَةٌ بِكُلِّ وَصْفٍ إلَّا لِمَانِعٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَصْفٍ صَالِحٌ لِهَذَا) أَيْ: لِلتَّعْلِيلِ.
(وَالنَّصُّ مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ وَالْعِلَّةُ دَاعِيَةٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ بِصِيغَتِهِ إلَّا بِالْعِلَّةِ أَيْ: نَعَمْ أَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ بِصِيغَتِهِ لَا أَنَّهُ دَاعٍ بَلْ الدَّاعِي إلَى الْحُكْمِ هُوَ الْعِلَّةُ.
(وَالتَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ) جَوَابٌ آخَرُ عَنْ قَوْلِهِ: أَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ بِصِيغَتِهِ أَيْ: نَعَمْ أَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ بِصِيغَتِهِ فِي الْأَصْلِ لَا فِي الْفَرْعِ بَلْ فِي الْفَرْعِ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ بِسَبَبِ الْعِلَّةِ، وَنَحْنُ إنَّمَا نُعَلِّلُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ لَا فِي الْأَصْلِ.
(وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُعَلَّلَةٌ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مُمَيِّزٍ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَوْصَافِ مُتَعَدٍّ، وَبَعْضَهَا قَاصِرٌ فَلَوْ عَلَّلَ بِكُلِّ وَصْفٍ يَلْزَمُ التَّعْدِيَةُ وَعَدَمُهَا وَعِنْدَنَا لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ) أَيْ: مَعَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ النَّصَّ مُعَلَّلٌ فِي الْجُمْلَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ النُّصُوصِ الْغَيْرِ الْمُعَلَّلَةِ
ــ
[التلويح]
هُوَ التَّعَبُّدُ دُونَ التَّعْلِيلِ.
وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ وَمَعَ ذَلِكَ لَا بُدَّ قَبْلَ التَّعْلِيلِ وَالتَّمْيِيزِ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا النَّصِّ الَّذِي يُرَادُ اسْتِخْرَاجُ عِلَّتِهِ مُعَلَّلٌ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ إنَّمَا يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ دُونَ الْإِلْزَامِ وَفِي الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَلْ يَكْفِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ بِصِيغَتِهِ لَا بِعِلَّتِهِ إذْ الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ مَدْلُولَاتِ النَّصِّ، وَبِالتَّعْلِيلِ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ مِنْ الصِّيغَةِ إلَى الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ الصِّيغَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَأَيْضًا التَّعْلِيلُ إمَّا بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّعْدِيَةُ، وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ جَمِيعِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ ضَرُورَةُ التَّغَايُرِ وَالتَّمَايُزِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِمَّا بِالْبَعْضِ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَصْفٍ عَيَّنَهُ الْمُجْتَهِدُ مُحْتَمِلٌ لِلْعِلِّيَّةِ وَعَدَمِهَا، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُرَجِّحُ الْبَعْضَ.
فَإِنْ قِيلَ هَاهُنَا قِسْمٌ آخَرُ هُوَ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَصْفٍ قُلْنَا إمَّا أَنْ يُرَادَ كُلُّ وَصْفٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَسْتَلْزِمُ تَعْدِيَةَ الْحُكْمِ إلَى جَمِيعِ الْمَحَالِّ إذْ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ مَا فِي وَصْفٍ مَا، أَوْ يُرَادَ كُلُّ وَصْفٍ صَالِحٍ لِلْعِلِّيَّةِ، وَإِضَافَةِ الْحُكْمِ فَيُفْضِي إلَى التَّنَاقُضِ أَيْ: التَّعْدِيَةِ وَعَدَمِهَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَوْصَافِ مُتَعَدٍّ وَبَعْضَهَا
نَظِيرُهُ فِي حَدِيثِ الرِّبَا أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «يَدًا بِيَدٍ» يُوجِبُ التَّعْيِينَ. وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الرِّبَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ تَعْيِينَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ احْتِرَازًا عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ)
فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ (شَرَطَ تَعْيِينَ الْآخَرِ احْتِرَازًا عَنْ شُبْهَةِ الْفَضْلِ) فَإِنَّ لِلنَّقْدِ مَزِيَّةً عَلَى النَّسِيئَةِ.
(وَقَدْ وَجَدْنَا هَذَا الْحُكْمَ مُتَعَدِّيًا حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِعَيْنِهَا بِشَعِيرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ إجْمَاعًا، وَشَرَطَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّقَابُضَ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ فَإِذَا وَجَدْنَاهُ مُعَلَّلًا فِي رِبَا النَّسِيئَةِ نُعَلِّلُهُ فِي رِبَا الْفَضْلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتُ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي مِنْ الْعِوَضِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً فِي رِبَا الْفَضْلِ كَبَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ الْحِنْطَةِ بِقَفِيزَيْنِ مِنْهَا.
أَمَّا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، وَهُوَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِعَيْنِهَا بِشَعِيرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ نَسِيئَةً فَشُبْهَةُ الْفَضْلِ قَائِمَةٌ لَا حَقِيقَةُ الْفَضْلِ هَذَا مَا قَالُوا.
ــ
[التلويح]
قَاصِرٌ عَلَى مَا سَيَجِيءُ؛ فَلِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ هَاهُنَا لِهَذَا الْقِسْمِ.
وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْأَدِلَّةَ قَائِمَةٌ عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ نَصٍّ وَنَصٍّ، فَيَكُونُ التَّعْلِيلُ هُوَ الْأَصْلُ، وَلَا يُمْكِنُ بِالْكُلِّ وَلَا بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لِمَا مَرَّ فَتَعَيَّنَ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَصْفٍ إلَّا أَنْ يَقُومَ مَانِعٌ كَمُخَالَفَةِ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ مُعَارَضَةِ أَوْصَافٍ
وَوَجْهُ الثَّالِثِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ لِمَا مَرَّ وَلَا بِكُلِّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ قَاصِرٌ يُوجِبُ حَجْرَ الْقِيَاسِ وَقَصْرَ الْحُكْمِ عَلَى الْأَصْلِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَدٍّ يُوجِبُ التَّعْدِيَةَ إلَى الْفَرْعِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَتَعَيَّنَ الْبَعْضُ، وَأَيْضًا اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْفُرُوعِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْعِلَّةِ يَدُلُّ عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ هُوَ الْبَعْضُ دُونَ الْمَجْمُوعِ أَوْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَالْبَعْضُ مُحْتَمَلٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُمَيِّزٍ، وَاحْتِيَاجُ التَّعْيِينِ وَالتَّمْيِيزِ إلَى الدَّلِيلِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْأَصْلِ هُوَ التَّعْلِيلُ، وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ الدَّلِيلِ الثَّانِي عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَلِهَذَا اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى جَوَابِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ. وَوَجْهُ الرَّابِعِ ظَاهِرٌ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ التَّعْلِيلَ بِالْقَاصِرَةِ يُوجِبُ عَدَمَ التَّعْدِيَةِ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّعْدِيَةَ، وَلَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمَنْصُوصِ فَعَلَى تَقْدِيرِ التَّعْلِيل بِكُلِّ وَصْفٍ ثَبَتَ التَّعْدِيَةُ بِالْمُتَعَدِّيَةِ، وَتَكُونُ الْقَاصِرَةُ لِتَأْكِيدِ الثُّبُوتِ فِي الْأَصْلِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ أَنَّ نَصَّ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ مُعَلَّلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالثَّمَنِيَّةِ مَعَ تَعَدِّي وُجُوبِ التَّعْيِينِ إلَى الْمَطْعُومِ.
(قَوْلُهُ: نَظِيرُهُ) أَيْ: نَظِيرُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ عليه السلام «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ» أَنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «يَدًا بِيَدٍ» يُوجِبُ التَّعْيِينَ؛ لِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ التَّعْيِينِ كَالْإِشَارَةِ، وَالْإِحْضَارِ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الرِّبَا أَيْضًا أَيْ: وُجُوبُ التَّعْيِينِ مِنْ بَابِ مَنْعِ الرِّبَا، وَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ فِي مُطْلَقِ الْبَيْعِ تَعْيِينَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ احْتِرَازًا عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ شَرَطَ فِي بَابِ الصَّرْفِ تَعْيِينَ الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا احْتِرَازًا عَنْ شُبْهَةِ الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ رِبًا.
كَمَا شَرَطَ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْقَدْرِ
وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِرَاطَ هَذَا الشَّرْطِ، وَهُوَ كَوْنُ هَذَا النَّصِّ مُعَلَّلًا فِي الْجُمْلَةِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ إنْ تَوَقَّفَ عَلَى تَعْلِيلٍ آخَرَ فَالتَّعْلِيلُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ إنْ تَوَقَّفَ عَلَى تَعْلِيلٍ آخَرَ يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ يَثْبُتُ أَنَّ بَعْضَ التَّعْلِيلَاتِ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّا لَمَّا شَرَطْنَا فِي الْعِلَّةِ التَّأْثِيرَ، وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ جِنْسَ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ نَوْعَهُ فِي جِنْسِ هَذَا الْحُكْمِ أَوْ نَوْعِهِ لَا يَثْبُتُ التَّأْثِيرُ إلَّا وَأَنْ يَثْبُتَ كَوْنُ هَذَا النَّصِّ مِنْ النُّصُوصِ الْمُعَلَّلَةِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ جِنْسَ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ نَوْعَهُ فِي جِنْسِ هَذَا الْحُكْمِ أَوْ نَوْعِهِ ثَبَتَ
ــ
[التلويح]
احْتِرَازًا عَنْ حَقِيقَةِ الْفَضْلِ وَقَدْ وَجَدْنَا وُجُوبَ التَّعْيِينِ مُتَعَدِّيًا عَنْ بَيْعِ النَّقْدَيْنِ إلَى غَيْرِهِ حَتَّى وَجَبَ التَّعْيِينُ فِي بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا بِشَعِيرٍ لَا بِعَيْنِهِ مَعَ الْحُلُولِ وَذِكْرِ الْأَوْصَافِ، وَحَتَّى شَرَطَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّقَابُضَ فِي الْمَجْلِسِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوْ اخْتَلَفَ لِيَحْصُلَ التَّعْيِينُ فَثَبَتَ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَعْدِيَةِ وُجُوبِ التَّعْيِينِ إلَى غَيْرِ النَّقْدَيْنِ أَنَّ نَصَّ الرِّبَا مُعَلَّلٌ فِي حَقِّ وُجُوبِ التَّعْيِينِ إذْ لَا تَعْدِيَةَ بِدُونِ التَّعْلِيلِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ حَتَّى يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ؛ لِأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ مَبْنَى تَعْدِيَةِ وُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ أَشَدُّ ثُبُوتًا وَتَحَقُّقًا مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ مَبْنَى تَعْدِيَةِ وُجُوبِ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْفَضْلِ بِاعْتِبَارِ مَزِيَّةِ النَّقْدِ عَلَى النَّسِيئَةِ، وَحَقِيقَةُ الشَّيْءِ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ مِنْ شُبْهَتِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَعْلِيلَ هَذَا النَّصِّ فِي رِبَا النَّسِيئَةِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مُعَلَّلًا فِي رِبَا الْفَضْلِ، وَكَوْنُهُ مُعَلَّلًا فِي رِبَا النَّسِيئَةِ مُسْتَنِدٌ إلَى الْإِجْمَاعِ أَوْ النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، وَأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ بَيْعِ الرِّبَا، وَالرِّيبَةِ» ، وَالْمُرَادُ بِالرِّيبَةِ شُبْهَةُ الرِّبَا وَفِي بَيْعِ النَّقْدِ بِالنَّسِيئَةِ شُبْهَةُ الرِّبَا. فَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ النَّصِّ مُعَلَّلًا فِي الْجُمْلَةِ قَدْ يَكُونُ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا، وَقَدْ يَكُونُ تَعْلِيلًا آخَرَ وَيَنْتَهِي بِالْآخِرَةِ إلَى نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُوهِمُ أَنَّ كُلَّ تَعْلِيلٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعْلِيلٍ آخَرَ حَتَّى يُتَوَهَّمَ وُرُودُ الْإِشْكَالِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ لُزُومِ التَّسَلْسُلِ أَوْ اسْتِغْنَاءِ بَعْضِ التَّعْلِيلَاتِ عَنْ كَوْنِ النَّصِّ مُعَلَّلًا.
وَتَقْرِيرُ جَوَابِهِ أَنَّا نَشْتَرِطُ فِي الْعِلَّةِ التَّأْثِيرَ أَيْ: اعْتِبَارَ الشَّارِعِ جِنْسَهُ أَوْ نَوْعَهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ نَوْعِهِ فَكُلَّمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ ثَبَتَ تَأْثِيرُهُ، وَكُلَّمَا ثَبَتَ تَأْثِيرُهُ ثَبَتَ كَوْنُ النَّصِّ مُعَلَّلًا فِي الْجُمْلَةِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ عِلَّةً لِنَوْعِ الْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ، أَوْ لِجِنْسِهِ وَعِلَّةُ الْجِنْسِ عِلَّةٌ لِلنَّوْعِ، وَرُبَّمَا يُقَالُ إنَّ اسْتِخْرَاجَ الْعِلَّةِ وَاعْتِبَارَ كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِ النَّصِّ مُعَلَّلًا فَإِثْبَاتُ ذَلِكَ بِهِ دَوْرٌ.
(قَوْلُهُ هَذَا مَا قَالُوا) إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِمَا تَوَهَّمَ مِنْ وُرُودِ الْإِشْكَالِ؛ وَلِأَنَّ إثْبَاتَ التَّعْلِيلِ فِي رِبَا النَّسِيئَةِ كَافٍ وَكَوْنِ النَّصِّ مِنْ