الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ الْعَمَلَ بِالِاسْتِحْسَانِ جَهْلًا مِنْهُمْ فَإِنْ أَنْكَرُوا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ وَإِنْ أَنْكَرُوهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَبَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَعْنِي بِهِ دَلِيلًا مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا يَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَيُعْمَلُ بِهِ إذَا كَانَ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهِ
(؛ لِأَنَّهُ إمَّا بِالْأَثَرِ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَبَقَاءِ الصَّوْمِ فِي النِّسْيَانِ وَإِمَّا بِالْإِجْمَاعِ كَالِاسْتِصْنَاعِ وَإِمَّا بِالضَّرُورَةِ كَطَهَارَةِ الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ وَإِمَّا بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ، وَذَكَرُوا لَهُ) أَيْ
لِلْقِيَاسِ الْخَفِيِّ
(قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ) أَيْ تَأْثِيرُهُ
(وَالثَّانِي مَا ظَهَرَ صِحَّتُهُ وَخَفِيَ فَسَادُهُ) أَيْ إذَا نَظَرْنَا إلَيْهِ بَادِئَ النَّظَرِ نَرَى صِحَّتَهُ ثُمَّ إذَا تَأَمَّلْنَا حَقَّ التَّأَمُّلِ عَلِمْنَا أَنَّهُ فَاسِدٌ
(وَلِلْقِيَاسِ) أَيْ لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ (قِسْمَانِ
مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ وَمَا ظَهَرَ فَسَادُهُ وَخَفِيَ صِحَّتُهُ
ــ
[التلويح]
الْمَعْنَى فَقَدْ قِيلَ هُوَ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ يَعْسُرُ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ فَإِنْ أُرِيدَ بِالِانْقِدَاحِ الثُّبُوتُ فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَا أَثَرَ لَعَجْزِهِ عَنْ التَّعْبِيرِ عَنْهُ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ شَكٌّ فَلَا نِزَاعَ فِي بُطْلَانِ الْعَمَلِ وَقِيلَ هُوَ الْعُدُولُ عَنْ قِيَاسٍ إلَى قِيَاسٍ أَقْوَى وَقِيلَ الْعُدُولُ إلَى خِلَافِ الظَّنِّ لِدَلِيلٍ أَقْوَى، وَلَا نَزَالُ فِي قَبُولِ ذَلِكَ وَقِيلَ تَخْصِيصُ الْقِيَاسِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ فَيَرْجِعُ إلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ رحمه الله هُوَ الْعُدُولُ فِي مَسْأَلَةٍ عَنْ مِثْلِ مَا حُكِمَ بِهِ فِي نَظَائِرِهَا إلَى خِلَافِهِ بِوَجْهٍ هُوَ أَقْوَى وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّخْصِيصُ وَالنَّسْخُ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ هُوَ تَرْكُ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ غَيْرِ شَامِلٍ شُمُولَ الْأَلْفَاظِ بِوَجْهٍ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَلَى الْأَوَّلِ وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ غَيْرِ شَامِلٍ عَنْ تَرْكِ الْعُمُومِ إلَى الْخُصُوصِ وَبِقَوْلِهِ وَهُوَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَنْ الْقِيَاسِ فِيمَا إذَا قَالُوا لَوْ تَرَكْنَا الِاسْتِحْسَانَ بِالْقِيَاسِ وَأَوْرَدَ عَلَى هَذِهِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِحْسَانِ بِالْقِيَاسِ يَكُونُ عُدُولًا عَنْ الْأَقْوَى إلَى الْأَضْعَفِ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَى الْقِيَاسِ يَصِيرُ بِهِ أَقْوَى وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَاتُ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِحْسَانِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى مَا يَهْوَاهُ الْإِنْسَانُ وَيَمِيلُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَحًا عِنْدَ الْغَيْرِ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَانَ إنْكَارُ الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِمَعْنَاهُ مُسْتَحْسَنًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ مِنْهُ إذْ لَا وَجْهَ لِقَبُولِ الْعَمَلِ بِمَا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ.
[لِلْقِيَاسِ الْخَفِيِّ قِسْمَيْنِ]
وَبَعْدَمَا اسْتَقَرَّتْ الْآرَاءُ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِدَلِيلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ نَصًّا كَانَ أَوْ إجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا خَفِيًّا إذَا وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ تَسْبِقُ إلَيْهِ الْأَفْهَامُ حَتَّى لَا يُطْلَقَ عَلَى نَفْسِ الدَّلِيلِ مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ فَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرِ خِلَافٍ ثُمَّ إنَّهُ غَلَبَ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِ عَلَى الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ خَاصَّةً كَمَا غَلَبَ اسْمُ الْقِيَاسِ عَلَى الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ تَمْيِيزًا بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ، وَأَمَّا فِي الْفُرُوعِ فَإِطْلَاقُ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عِنْدَ وُقُوعِهِمَا فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ شَائِعٌ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ
فَأَوَّلُ ذَلِكَ رَاجِحٌ عَلَى أَوَّلِ هَذَا) أَيْ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ رَاجِحٌ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَهُوَ مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا ذَكَرْنَا الْقِيَاسَ نُرِيدُ بِهِ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَإِذَا ذَكَرْنَا الِاسْتِحْسَانَ نُرِيدُ بِهِ الْقِيَاسَ الْخَفِيَّ فَلَا تَنْسَ هَذَا الِاصْطِلَاحَ
(لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْأَثَرُ لَا الظُّهُورُ وَثَانِي هَذَا عَلَى ثَانِي ذَلِكَ) أَيْ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ وَهُوَ مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ وَخَفِيَ صِحَّتُهُ رَاجِحٌ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ مَا ظَهَرَ صِحَّتُهُ وَخَفِيَ فَسَادُهُ
(فَالْأَوَّلُ) وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِيَاسِ كَسُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ قِيَاسًا عَلَى سُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، طَاهِرٌ اسْتِحْسَانًا لَأَنَّهَا تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا وَهُوَ عَظْمٌ طَاهِرٌ. وَالثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ
(كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ تُؤَدَّى بِالرُّكُوعِ قِيَامًا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الرُّكُوعَ مَقَامَ السَّجْدَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِالسُّجُودِ فَلَا تُؤَدَّى بِالرُّكُوعِ كَسُجُودِ الصَّلَاةِ فَعَمِلْنَا بِالصِّحَّةِ الْبَاطِنَةِ فِي الْقِيَاسِ وَهِيَ أَنَّ
ــ
[التلويح]
لَا يُتَمَسَّكُ بِهِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ.
(قَوْلُهُ: وَذَكَرُوا لَهُ) قِسْمَيْنِ الصِّحَّةُ تُقَارِبُ الْأَثَرَ وَالضَّعْفُ يُقَارِبُ الْفَسَادَ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَحَقَّقُ تَقَابُلُ الْقِسْمَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَالْقِيَاسِ وَالْمُرَادُ بِظُهُورِ الصِّحَّةِ فِي الِاسْتِحْسَانِ ظُهُورُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى فَسَادِ الْخَفِيِّ وَهُوَ لَا يُنَافِي خَفَاءَهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْقِيَاسِ وَالْمُرَادُ بِخَفَاءِ الصِّحَّةِ فِي الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ خَفَاؤُهَا بِأَنْ يَنْضَمَّ إلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ مَعْنًى دَقِيقٌ يُورِثُهُ قُوَّةً وَرُجْحَانًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ ثُمَّ الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَى الرُّجْحَانِ هَاهُنَا تَعَيُّنُ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالْمَرْجُوحِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ الْأَوْلَوِيَّةُ حَتَّى يَجُوزَ الْعَمَلُ بِالْمَرْجُوحِ.
(قَوْلُهُ: فَالْأَوَّلُ) يَعْنِي أَنَّ سُؤْرَ سِبَاعِ الطَّيْرِ مِنْ الْبَازِي وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهِمَا نَجِسٌ قِيَاسًا عَلَى سُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ لِمُخَالَطَتِهِ بِاللُّعَابِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ لَحْمٍ نَجِسٍ. فَإِنَّ اخْتِيَارَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ لَحْمَ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ نَجِسٌ لَا يَطْهُرُ بِالزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِيمَا يَصْلُحُ لِلْغِذَاءِ إذَا لَمْ تَكُنْ لِلضَّرُورَةِ أَوْ الِاسْتِخْبَاثِ أَوْ الِاحْتِرَامِ آيَةُ النَّجَاسَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ فِي السَّبُعِ مَا لَا يُؤْكَلُ وَهُوَ طَاهِرٌ كَالْجِلْدِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَالشَّعْرِ وَمَا يُؤْكَلُ وَهُوَ نَجَسٌ كَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ أَشْبَهَ دُهْنًا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَجُعِلَ لَهُ حُكْمٌ بَيْنَ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّتَيْنِ بِأَنْ حُرِّمَ أَكْلُهُ وَتَنَجَّسَ لُعَابُهُ لَكِنْ جَازَ بَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ وَلَمْ تُجْعَلْ نَجَاسَةُ سِبَاعِ الطَّيْرِ أَيْضًا بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي سِبَاعِ الْبَهَائِمِ دُونَ الطُّيُورِ فَاحْتِيجَ فِيهَا إلَى الْقِيَاسِ وَهَذَا قِيَاسٌ ضَعِيفُ الْأَثَرِ قَلِيلُ الصِّحَّةِ لِقُصُورِ عِلَّةِ التَّنَجُّسِ فِي الْفَرْعِ أَعْنِي الْمُخَالَطَةَ، وَقَدْ قَابَلَهُ اسْتِحْسَانٌ قَوِيُّ الْأَثَرِ
السُّجُودَ غَيْرُ مَقْصُودٍ هُنَا وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مَا يَصْلُحُ تَوَاضُعًا مُخَالَفَةً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) . وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَوْنَ السُّجُودِ يُؤَدَّى بِالرُّكُوعِ حُكْمًا ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ وَعَدَمَهُ حُكْمًا ثَابِتًا بِالِاسْتِحْسَانِ وَلَا أَدْرِي خُصُوصِيَّةَ الْأَوَّلِ بِالْقِيَاسِ وَالثَّانِي بِالِاسْتِحْسَانِ فَلِهَذَا أَوْرَدْتُ مِثَالًا آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ
(وَكَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي ذِرَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَفِي الْقِيَاسِ يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ السَّلَمِ فَيُوجِبُ التَّحَالُفَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا؛ لِأَنَّهُمَا مَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْمَبِيعِ بَلْ فِي وَصْفِهِ وَذَا لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ لَكِنْ عَمِلْنَا بِالصِّحَّةِ الْبَاطِنَةِ لِلْقِيَاسِ وَهِيَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْوَصْفِ هُنَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَصْلِ) اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي ذِرَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَفِي الْقِيَاسِ يَتَحَالَفَانِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ السَّلَمِ فَيُوجِبُ التَّحَالُفَ كَمَا فِي الْمَبِيعِ. فَهَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ يَسْبِقُ إلَيْهِ الْأَفْهَامُ ثُمَّ إذَا نَظَرْنَا عَلِمْنَا أَنَّهُمَا مَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْمَبِيعِ بَلْ فِي وَصْفِهِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الذِّرَاعِ، وَالذِّرَاعُ وَصْفٌ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الذِّرَاعِ تُوجِبُ جَوْدَةً فِي الثَّوْبِ بِخِلَافِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَإِذَا كَانَ الذِّرَاعُ وَصْفًا وَالِاخْتِلَافُ فِي الْوَصْفِ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَهَذَا الْمَعْنَى أَخْفَى مِنْ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ هَذَا اسْتِحْسَانًا وَالْأَوَّلُ قِيَاسًا هَذَا مَا ذَكَرُوهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى انْحِصَارِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي هَذَيْنِ
ــ
[التلويح]
يَقْتَضِي طَهَارَةَ سُؤْرِهَا؛ لِأَنَّهَا تَشْرَبُ بِالْمِنْقَارِ عَلَى سَبِيلِ الْأَخْذِ ثُمَّ الِابْتِلَاعِ وَالْمِنْقَارُ عَظْمٌ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ جَافٌّ لَا رُطُوبَةَ فِيهِ فَلَا يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ بِمُلَاقَاتِهِ فَيَكُونُ سُؤْرُهُ طَاهِرًا كَسُؤْرِ الْآدَمِيِّ وَالْمَأْكُولِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّجَاسَةِ وَهِيَ الرُّطُوبَةُ النَّجِسَةُ فِي الْآلَةِ الشَّارِبَةِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا أَنَّ سِبَاعَ الطُّيُورِ لَا تَحْتَرِزُ عَنْ الْمَيْتَةِ وَالنَّجَاسَةِ كَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ.
(قَوْلُهُ وَالثَّانِي) لَمَّا كَانَ عَدَمُ تَأَدِّي الْمَأْمُورِ بِهِ بِالْإِتْيَانِ بِغَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَمْرًا جَلِيًّا وَعَكْسُهُ أَمْرًا خَفِيًّا اشْتَبَهَ عَلَى الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جِهَةُ جَعْلِ تَأَدِّي السَّجْدَةِ بِالرُّكُوعِ قِيَاسًا وَعَدَمِ تَأْدِيهَا بِهِ اسْتِحْسَانًا وَنُقِلَ عَنْهُ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَازَ إقَامَةُ الرُّكُوعِ مَقَامَ السَّجْدَةِ ذِكْرًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ أَعْنِي اشْتِمَالَهَا عَلَى التَّعْظِيمِ وَالِانْحِنَاءِ فَجَازَ إقَامَتُهُ مَقَامَهُ فِعْلًا لِتِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ وَهَذَا أَمْرٌ جَلِيٌّ تَسْبِقُ إلَيْهِ الْأَفْهَامُ فَيَكُونُ قِيَاسًا إلَّا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ أَنْ لَا يَتَأَدَّى بِهِ كَالسَّجْدَةِ الصَّلَاتِيَّةِ لَا تَتَأَدَّى بِالرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي حُسْنَهُ لِذَاتِهِ فَيَكُونُ مَطْلُوبًا لِعَيْنِهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِغَيْرِهِ وَهَذَا قِيَاسٌ خَفِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِ فَيَكُونُ اسْتِحْسَانًا، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ عَدَمَ تَأَدِّي الْمَأْمُورِ بِهِ بِغَيْرِهِ قِيَاسًا عَلَى أَرْكَانِ الصَّلَاةِ أَظْهَرُ وَأَجْلَى مِنْ تَأَدِّيهِ بِهِ قِيَاسًا عَلَى جَوَازِ إقَامَةِ اسْمِ الشَّيْءِ مَقَامَ اسْمِ غَيْرِهِ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالُ لَمَّا اشْتَمَلَ كُلٌّ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى التَّعْظِيمِ كَانَ الْقِيَاسُ فِيمَا وَجَبَ بِالتِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَتَأَدَّى بِالرُّكُوعِ كَمَا يَتَأَدَّى بِالسُّجُودِ
الْقِسْمَيْنِ وَعَلَى انْحِصَارِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلِهَذَا أَوْرَدْت الْأَقْسَامَ الْمُمْكَنَةَ عَقْلًا وَقُلْتُ
(وَبِالتَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ يَنْقَسِمُ كُلٌّ إلَى ضَعِيفِ الْأَثَرِ وَقَوِيِّهِ وَعِنْدَ التَّعَارُضِ لَا يَرْجِعُ الِاسْتِحْسَانُ إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ) وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ ضَعِيفَ الْأَثَرِ وَالِاسْتِحْسَانُ قَوِيَّ الْأَثَرِ أَمَّا فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْأُخَرَ فَالْقِيَاسُ رَاجِحٌ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ أَمَّا إذَا كَانَ الْقِيَاسُ قَوِيَّ الْأَثَرِ وَالِاسْتِحْسَانُ ضَعِيفَ الْأَثَرِ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا إذَا كَانَا قَوِيِّينَ فَالْقِيَاسُ يَرْجُحُ لِظُهُورِهِ وَأَمَّا إذَا كَانَا ضَعِيفَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يُسْقَطَ أَوْ يُعْمَلَ بِالْقِيَاسِ لِظُهُورِهِ فَلِهَذَا أَوْرَدْتُ الْحُكْمَ الْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَا يَرْجُحُ عَلَى الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ وَيَرْجُحُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ
(وَإِلَى صَحِيحِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَفَاسِدِهِمَا وَصَحِيحِ الظَّاهِرِ فَاسِدِ الْبَاطِنِ وَالْعَكْسُ فَالْأَوَّلُ مِنْ الْقِيَاسِ يُرَجَّحُ عَلَى كُلِّ اسْتِحْسَانٍ وَثَانِيهِ مَرْدُودٌ بَقِيَ الْأَخِيرَانِ فَالْأَوَّلُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ أَيْ صَحِيحُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ يُرَجَّحُ عَلَيْهِمَا أَيْ عَلَى قِيَاسٍ صَحِيحِ الظَّاهِرِ فَاسِدِ الْبَاطِنِ وَعَكْسِهِ، وَثَانِيهِ مَرْدُودٌ أَيْ ثَانِي الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ فَاسِدُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ بَقِيَ الْأَخِيرَانِ أَيْ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَهُمَا صَحِيحُ الظَّاهِرِ فَاسِدُ الْبَاطِنِ وَعَكْسُهُ فَالتَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَخِيرَيْ الْقِيَاسِ إنْ وَقَعَ مَعَ خِلَافِ النَّوْعِ فَمَا ظَهَرَ فَسَادُهُ بَادِئَ
ــ
[التلويح]
لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ وَلِهَذَا صَحَّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالرُّكُوعِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] أَيْ سَقَطَ سَاجِدًا فَهَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ فِيهِ فَسَادٌ ظَاهِرٌ هُوَ الْعَمَلُ بِالْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ، وَصِحَّةٌ خَفِيَّةٌ هِيَ أَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ لَمْ تَجِبْ قُرْبَةً مَقْصُودَةً وَلِهَذَا لَا تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ كَالطَّهَارَةِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ التَّوَاضُعُ وَمُخَالَفَةُ الْمُتَكَبِّرِينَ وَمُوَافَقَةُ الْمُطِيعِينَ عَلَى قَصْدِ الْعِبَادَةِ وَلِهَذَا اشْتَرَطَ الطَّهَارَةَ وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَهَذَا حَاصِلٌ فِي الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ السُّجُودُ وَهُوَ مُغَايِرٌ لِلرُّكُوعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنُوبَ الرُّكُوعُ عَنْهُ كَمَا لَا يَنُوبُ عَنْ السَّجْدَةِ الصَّلَاتِيَّةِ مَعَ قُرْبِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَمُوجِبَاتِ التَّحْرِيمَةِ وَكَمَا لَا يَنُوبُ الرُّكُوعُ خَارِجَ الصَّلَاةِ عَنْ السَّجْدَةِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِجِهَةٍ أُخْرَى بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا قِيَاسٌ خَفِيٌّ يُسَمَّى اسْتِحْسَانًا وَفِيهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ هُوَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَعَدَمِ تَأْدِيَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِغَيْرِهِ وَفَسَادٌ خَفِيٌّ هُوَ جَعْلُ غَيْرِ الْمَقْصُودِ مُسَاوِيًا لِلْمَقْصُودِ فَعَمِلْنَا بِالصِّحَّةِ الْبَاطِنَةِ فِي الْقِيَاسِ وَجَعَلْنَا سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ مُتَأَدِّيَةً بِالرُّكُوعِ سَاقِطَةً بِهِ كَمَا تَسْقُطُ الطَّهَارَةُ لِلصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ لِغَيْرِهَا بِخِلَافِ الرُّكُوعِ خَارِجَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ عِبَادَةً وَبِخِلَافِ السَّجْدَةِ الصَّلَاتِيَّةِ فَإِنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا كَالرُّكُوعِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى:{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] .
(قَوْلُهُ: بِالتَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ يَنْقَسِمُ) الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ تَارَةً
النَّظَرِ لَكِنْ إذَا تُؤُمِّلَ تَبَيَّنَ صِحَّتُهُ أَقْوَى مِمَّا كَانَ عَلَى الْعَكْسِ) اعْلَمْ أَنَّ التَّعَارُضَ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ أَيْ صَحِيحِ الظَّاهِرِ فَاسِدِ الْبَاطِنِ وَعَكْسِهِ وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَخِيرَيْ الْقِيَاسِ إنْ وَقَعَ مَعَ اخْتِلَافِ النَّوْعِ وَهَذَا فِي صُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يُعَارِضَ صَحِيحُ الظَّاهِرِ فَاسِدُ الْبَاطِنِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فَاسِدَ الظَّاهِرِ صَحِيحَ الْبَاطِنِ مِنْ الْقِيَاسِ وَثَانِيَتُهُمَا أَنْ يُعَارِضَ فَاسِدُ الظَّاهِرِ صَحِيحَ الْبَاطِنِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ صَحِيحَ الظَّاهِرِ فَاسِدَ الْبَاطِنِ مِنْ الْقِيَاسِ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ بَادِئَ النَّظَرِ لَكِنْ إذَا تُؤَمِّلَ تَبَيَّنَ صِحَّتُهُ أَقْوَى مِمَّا كَانَ عَلَى الْعَكْسِ سَوَاءٌ كَانَ قِيَاسًا أَوْ اسْتِحْسَانًا
(وَمَعَ اتِّحَادِهِ إنْ أَمْكَنَ فَالْقِيَاسُ أَوْلَى) أَيْ إنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا مَعَ اتِّحَادِ النَّوْعِ وَهُوَ أَنْ يُعَارِضَ اسْتِحْسَانٌ صَحِيحُ الظَّاهِرِ فَاسِدُ الْبَاطِنِ قِيَاسًا كَذَلِكَ أَوْ يُعَارِضَ اسْتِحْسَانٌ فَاسِدُ الظَّاهِرِ صَحِيحُ الْبَاطِنِ قِيَاسًا كَذَلِكَ يَكُونُ الْقِيَاسُ رَاجِحًا فِي الصُّورَتَيْنِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ تَعَارُضَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الِاسْتِحْسَانُ عَلَى صِفَةٍ كَانَ الْقِيَاسُ عَلَى خِلَافِ تِلْكَ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَّا وَقَدْ جَعَلَ الشَّرْعُ وَصْفًا مِنْ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ
ــ
[التلويح]
بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ أَمَّا بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا قَوِيَّيْ الْأَثَرِ أَوْ ضَعِيفَيْ الْأَثَرِ أَوْ الْقِيَاسُ قَوِيًّا وَالِاسْتِحْسَانُ ضَعِيفًا أَوْ بِالْعَكْسِ فَفِي الرَّابِعِ يَتَرَجَّحُ الِاسْتِحْسَانُ قَطْعًا وَفِي الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ يُتَيَقَّنُ عَدَمُ تَرْجِيحِ الِاسْتِحْسَانِ، وَأَمَّا تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ فَفِي الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ مُتَيَقَّنٌ لَا فِي الثَّانِي فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ سُقُوطَ الِاسْتِحْسَانِ وَالْقِيَاسِ لِضَعْفِهِمَا وَتَسْمِيَةُ الِاسْتِحْسَانِ فِي جَمِيعِ الْأَقْسَامِ تَكُونُ بِاعْتِبَارِ خَفَائِهِ إلَّا أَنَّهُ يُشْكِلُ بِمَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنْ سَمَّيْنَا مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ قِيَاسًا وَمَا قَوِيَ أَثَرُهُ اسْتِحْسَانًا، وَأَمَّا بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَوْ فَاسِدَهُمَا أَوْ صَحِيحَ الظَّاهِرِ فَاسِدَ الْبَاطِنِ أَوْ بِالْعَكْسِ وَفِي الْجَمِيعِ يَكُونُ الْقِيَاسُ جَلِيًّا بِمَعْنَى سَبْقِ الْأَفْهَامِ إلَيْهِ وَالِاسْتِحْسَانِ خَفِيًّا بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَيَقَعُ التَّعَارُضُ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ وَجْهًا حَاصِلَةً مِنْ ضَرْبِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لِلْقِيَاسِ فِي الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لِلِاسْتِحْسَانِ فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ يَتَرَجَّحُ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ يَكُونُ مَرْدُودًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُلِّ فَتَبْقَى ثَمَانِيَةُ أَوْجُهٍ حَاصِلَةٌ مِنْ ضَرْبِ أَقْسَامِ الِاسْتِحْسَانِ فِي أَخِيرَيْ الْقِيَاسِ فَالْأَوَّلُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ يَرْجُحُ عَلَيْهَا لِصِحَّتِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَالثَّانِي يُرَدُّ مُطْلَقًا لِفَسَادِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بَقِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ حَاصِلَةٌ مِنْ ضَرْبِ أَخِيرَيْ الِاسْتِحْسَانِ فِي أَخِيرَيْ الْقِيَاسِ: الْأَوَّلُ تَعَارُضُ
الْوَصْفُ مُطْلَقًا أَوْ كُلَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ الْوَصْفُ بِلَا مَانِعٍ يُوجَدُ ذَلِكَ الْحُكْمُ لَكِنَّهُ وُجِدَ ذَلِكَ الْوَصْفُ بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْفَرْعِ فَيُوجَدُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُعَارِضُهُ قِيَاسٌ صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانَ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الشَّرْعُ وَصْفًا آخَرَ عِلَّةً لِنَقِيضِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ ثُمَّ يُوجَدُ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِي الْفَرْعِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَلْزَمُ حُكْمُ الشَّرْعِ بِالتَّنَاقُضِ وَهَذَا مُحَالٌ عَلَى الشَّارِعِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ فَعُلِمَ أَنَّ تَعَارُضَ قِيَاسَيْنِ صَحِيحَيْنِ فِي الْوَاقِعِ مُمْتَنِعٌ وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّعَارُضُ لِجَهْلِنَا بِالصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ فَالتَّعَارُضُ لَا يَقَعُ بَيْنَ قِيَاسٍ قَوِيِّ الْأَثَرِ وَاسْتِحْسَانٍ كَذَلِكَ وَكَذَا لَا يَقَعُ بَيْنَ قِيَاسٍ صَحِيحِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَبَيْنَ اسْتِحْسَانٍ كَذَلِكَ وَكَذَا لَا يَقَعُ بَيْنَ قِيَاسٍ فَاسِدِ الظَّاهِرِ صَحِيحِ الْبَاطِنِ وَبَيْنَ اسْتِحْسَانٍ كَذَلِكَ
(وَمَا ذَكَرُوا مِنْ حَيْثُ الْقُوَّةُ وَالضَّعْفُ فَعِنْدَ التَّحْقِيقِ دَاخِلٌ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ أَيْضًا) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الظَّاهِرِ أَوْ فَاسِدَ الظَّاهِرِ وَعَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنَّهُ إذَا تُؤَمِّلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ يَتَبَيَّنُ صِحَّتُهُ أَوْ يَتَبَيَّنُ فَسَادُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ مُنْحَصِرَةً فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَقَوِيُّ الْأَثَرِ وَضَعِيفُهُ
ــ
[التلويح]
الِاسْتِحْسَانِ الصَّحِيحِ الظَّاهِرِ الْفَاسِدِ الْبَاطِنِ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدِ الظَّاهِرِ الصَّحِيحِ الْبَاطِنِ وَالثَّانِي بِالْعَكْسِ وَالثَّالِثُ تَعَارُضُ اسْتِحْسَانِ صَحِيحِ الظَّاهِرِ فَاسِدِ الْبَاطِنِ وَقِيَاسٌ كَذَلِكَ وَالرَّابِعُ تَعَارُضُ اسْتِحْسَانِ صَحِيحِ الْبَاطِنِ فَاسِدِ الظَّاهِرِ وَقِيَاسٌ كَذَلِكَ وَسُمِّيَ اتِّفَاقُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي صِحَّةِ الظَّاهِرِ وَفَسَادِ الْبَاطِنِ بِاتِّحَادِ النَّوْعِ وَاخْتِلَافِهِمَا فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ النَّوْعِ وَحَكَمَ بِرُجْحَانِ الِاسْتِحْسَانِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَبِرُجْحَانِ الْقِيَاسِ فِي الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ وَادَّعَى أَنَّ الظَّاهِرَ امْتِنَاعُ التَّعَارُضِ بَيْنَ قِيَاسٍ وَاسْتِحْسَانٍ يَتَّفِقَانِ فِي قُوَّةِ الْأَثَرِ أَوْ صِحَّةِ الْبَاطِنِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الِاتِّفَاقِ فِي صِحَّةِ الظَّاهِرِ أَوْ بِدُونِهِ وَبَعْدَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ جَزَمَ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَمِنْ سَوْقِ الْكَلَامِ بِالْآخِرَةِ أَنَّ قَوْلَهُ إذَا كَانَ الِاسْتِحْسَانُ عَلَى صِفَةٍ كَانَ الْقِيَاسُ عَلَى خِلَافِ تِلْكَ الصِّفَةِ مُقَيَّدًا بِالْقُوَّةِ وَالصِّحَّةِ الْبَاطِنَةِ إذْ لَا امْتِنَاعَ فِي أَنَّ تَعَارُضَ قِيَاسٍ ضَعِيفِ أَوْ صَحِيحِ الظَّاهِرِ فَقَطْ أَوْ فَاسِدِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ فَقَطْ لِاسْتِحْسَانِ كَذَلِكَ.
(قَوْلُهُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ) أَيْ بِمَعْنَى أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ الْوَصْفُ مُطْلَقًا أَوْ بِلَا مَانِعٍ يُوجَدُ ذَلِكَ الْحُكْمُ.
(قَوْلُهُ: وَمَا ذَكَرُوا) هَذَا كَلَامٌ قَلِيلُ الْجَدْوَى؛ لِأَنَّ تَدَاخُلَ الْأَقْسَامِ ضَرُورِيٌّ فِيمَا إذَا قَسَّمَ الشَّيْءَ تَقْسِيمَاتٍ مُتَعَدِّدَةً بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ يُقَالُ اللَّفْظُ ثُلَاثِيٌّ أَوْ رُبَاعِيٌّ أَوْ خُمَاسِيٌّ وَبِاعْتِبَارٍ آخَرَ اسْمٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ حَرْفٌ وَبِاعْتِبَارٍ آخَرَ مُعْرَبٌ أَوْ مَبْنِيٌّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ نَعَمْ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ الْبَعْضُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالضَّعْفِ وَالْفَسَادِ
لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَطْعًا
(وَالْمُسْتَحْسَنُ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ يُعَدَّى لَا الْمُسْتَحْسَنُ بِغَيْرِهِ نَظِيرُهُ أَنَّ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَقَطْ قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُ الْمُنْكِرُ وَعَلَيْهِمَا قِيَاسًا خَفِيًّا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يُنْكِرُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ) أَيْ إنَّمَا يَحْلِفُ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِقَبْضِ مَا هُوَ ثَمَنٌ فِي زَعْمِ الْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ زِيَادَةَ الثَّمَنِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا ظَاهِرًا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمَتْنِ
(فَيُعَدَّى إلَى الْوَارِثِينَ) أَيْ إذَا اخْتَلَفَ وَارِثَا الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ تَحَالَفَ الْوَارِثَانِ.
(وَإِلَى الْإِجَارَةِ) أَيْ إذَا اخْتَلَفَ الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ تَحَالَفَا.
(وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَثُبُوتُهُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» فَلَا يُعَدَّى إلَى الْوَارِثِ وَإِلَى حَالِ هَلَاكِ السِّلْعَةِ وَالِاسْتِحْسَانُ لَيْسَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي) بَعْضُ النَّاسِ زَعَمُوا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا يَأْتِي فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا.
(فَصْلٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ) أَيْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ مِنْهُ النَّقْضُ وَهُوَ وُجُودُ الْعِلَّةِ فِي صُورَةٍ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ وَدَفْعُهُ بِأَرْبَعِ طُرُقٍ أَيْ الْجَوَابُ عَنْهُ يَكُونُ بِأَرْبَعِ طُرُقٍ
(الْأَوَّلُ مَنْعُ
ــ
[التلويح]
وَاحِدٌ، وَكَذَا بِالْقُوَّةِ وَالصِّحَّةِ لَكَانَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ مُسْتَدْرَكًا (قَوْلُهُ وَالْمُسْتَحْسَنُ) قَدْ سَبَقَ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ دَلِيلٌ يُقَابِلُ قِيَاسًا جَلِيًّا سَوَاءٌ كَانَ أَثَرًا أَوْ إجْمَاعًا أَوْ ضَرُورَةً أَوْ قِيَاسًا خَفِيًّا فَهَاهُنَا يُرِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَالْمُسْتَحْسَنِ بِغَيْرِهِ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ تَعَدَّى إلَى صُورَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقِيَاسِ التَّعْدِيَةَ وَالثَّانِي لَا يَقْبَلُ التَّعْدِيَةَ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ مَثَلًا إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ الْمُنْكِرُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ الْبَائِعُ أَيْضًا مُنْكِرًا. فَهَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ عَلَى سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ بِالِاسْتِحْسَانِ التَّحَالُفُ أَيْ وُجُوبُ الْيَمِينِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي أَمَّا قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ فَبِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ يُنْكِرُ وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُنْكِرُ وُجُوبَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ فَيَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَإِنَّ الْيَمِينَ تَكُونُ عَلَى الْمُنْكِرِ، وَأَمَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ فَبِالْأَثَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» فَوُجُوبُ التَّحَالُفِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَتَعَدَّى إلَى وَارِثَيْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ بَعْدَ مَوْتِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُورِثِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ وَالْحُكْمُ مَعْقُولٌ، وَكَذَا يَتَعَدَّى إلَى الْإِجَارَةِ قَبْلَ الْعَمَلِ حَتَّى لَوْ اخْتَلَفَ
وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ نَحْوُ: خُرُوجُ النَّجَاسَةِ عِلَّةُ الِانْتِقَاضِ فَنُوقِضَ بِالْقَلِيلِ فَيُمْنَعُ الْخُرُوجُ فِيهِ وَكَذَا وُجُودُ مِلْكِ بَدَلِ الْمَغْصُوبِ يُوجِبُ مِلْكَهُ) أَوْ مِلْكَ الْمَغْصُوبِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ
(فَنُوقِضَ بِالْمُدَبَّرِ) أَيْ إذَا كَانَ مِلْكُ بَدَلِ الْمَغْصُوبِ عِلَّةً لِمِلْكِ الْمَغْصُوبِ فَفِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ يَكُونُ كَذَلِكَ لَكِنَّ الْحُكْمَ مُتَخَلِّفٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلِانْتِقَالِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ عِنْدَكُمْ
(فَيَمْنَعُ مِلْكَ بَدَلِهِ) أَيْ مِلْكَ بَدَلِ الْمَغْصُوبِ بِأَنْ يُمْنَعَ فِي الْمُدَبَّرِ كَوْنُ بَدَلِهِ بَدَلَ الْمَغْصُوبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَدَلَ الْعَيْنِ بَلْ بَدَلُ الْيَدِ الْفَائِتَةِ
(فَإِنَّ ضَمَانَ الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ بَلْ بَدَلٌ عَنْ الْيَدِ الْفَائِتَةِ وَالثَّانِي مَنْعُ مَعْنَى الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ) أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَتْ الْعِلَّةُ عِلَّةً لِأَجْلِهِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِلَّةِ كَالثَّابِتِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَنْصُوصِ
(نَحْوُ: مَسْحِ الرَّأْسِ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ فِيهِ التَّثْلِيثُ كَمَسْحِ الْخُفِّ فَنُوقِضَ بِالِاسْتِنْجَاءِ فَيُمْنَعُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْمَسْحِ وَهُوَ أَنَّهُ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلِأَجْلِهِ) أَيْ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولٍ
(لَا يُسَنُّ فِي الْمَسْحِ التَّثْلِيثُ؛ لِأَنَّهُ لِتَوْكِيدِ التَّطْهِيرِ الْمَعْقُودِ فَلَا يُفِيدُ) أَيْ التَّثْلِيثُ
(فِي الْمَسْحِ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ وَيُفِيدُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَالثَّالِثُ قَالُوا هُوَ الدَّفْعُ بِالْحُكْمِ) وَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ تَلَفَ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ
(وَذَكَرُوا لَهُ أَمْثِلَةً خُرُوجُ النَّجَاسَةِ عِلَّةٌ لِلِانْتِقَاضِ
ــ
[التلويح]
الْقَصَّارُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ أَخْذِ الْقَصَّارِ فِي الْعَمَلِ تَحَالَفَا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَصْلُحُ مُدَّعِيًا وَمُنْكِرًا وَالْإِجَارَةُ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَهُوَ فِي التَّحَالُفِ ثُمَّ الْفَسْخُ دَفْعٌ لِلضَّرَرِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَأَمَّا وُجُوبُ التَّحَالُفِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْوَارِثِ وَلَا إلَى حَالِ هَلَاكِ السِّلْعَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى إذْ الْبَائِعُ لَا يُنْكِرُ شَيْئًا فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَهُوَ تَحَالُفُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» فَهُوَ أَيْضًا يُفِيدُ التَّقْيِيدَ بِقِيَامِ السِّلْعَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ رَدُّ الْمَأْخُوذِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ أُرِيدَ رَدُّ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ إذْ الْفَسْخُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ. فَإِنْ قُلْت قَدْ سَبَقَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّعْدِيَةِ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَعْدِيَةُ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ؟ . قُلْتُ الْمُعَدَّى بِالْحَقِيقَةِ هُوَ حُكْمُ أَصْلِ الِاسْتِحْسَانِ كَوُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ إلَّا أَنَّ صُورَةَ التَّحَالُفِ وَجَرَيَانَ الْيَمِينِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَمَّا كَانَتْ حُكْمَ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ أُضِيفَتْ التَّعْدِيَةُ إلَيْهِ إذْ لَا يُوجَدُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ يَمِينُ الْمُنْكِرِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَى الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ (قَوْلَهُ: وَالِاسْتِحْسَانُ لَيْسَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ) هُوَ مَا تَوَهَّمَهُ الْبَعْضُ مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ ثَابِتٌ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ وَفِي سَائِرِ الصُّوَرِ، وَقَدْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ