المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[القسم الأول أن لا يكون حكما بتعلق شيء بشيء آخر أو يكون كالحكم] - التلويح على التوضيح لمتن التنقيح - جـ ٢

[السعد التفتازاني - المحبوبي صدر الشريعة الأصغر]

فهرس الكتاب

- ‌(الرُّكْنُ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ

- ‌[فَصْلٌ اتِّصَالُ الْخَبَرِ] [

- ‌التَّوَاتُرُ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ]

- ‌[فَصْلٌ] الرَّاوِي إمَّا مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ وَإِمَّا مَجْهُولٌ

- ‌[فَصْلٌ شَرَائِطُ الرَّاوِي]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْقِطَاعِ الْحَدِيثِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ]

- ‌[فَصْلٌ] فِي كَيْفِيَّةِ السَّمَاعِ وَالضَّبْطِ وَالتَّبْلِيغِ

- ‌(فَصْلٌ) فِي الطَّعْنِ

- ‌(فَصْلٌ) فِي أَفْعَالِهِ عليه الصلاة والسلام

- ‌[فَصْلٌ فِي الْوَحْيِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ]

- ‌[فَصْلٌ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ]

- ‌[بَابُ الْبَيَانِ]

- ‌(فَصْلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ)

- ‌[مَسْأَلَةٌ شَرْطُ الِاسْتِثْنَاءِ]

- ‌(مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَمُنْقَطِعٌ

- ‌(مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرَقُ

- ‌[مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا تَعَقَّبَ الْجُمَلَ الْمَعْطُوفَةَ]

- ‌(فَصْلٌ) فِي بَيَانِ التَّبْدِيلِ

- ‌[بَيَانُ النَّاسِخِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ كَوْنُ النَّاسِخِ أَشَقَّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الضَّرُورَةِ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّالِثُ فِي الْإِجْمَاعِ وَفِيهِ خَمْسَةُ أُمُورٍ]

- ‌[الْأَمْرُ الْأَوَّلُ رُكْنُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي قَوْلَيْنِ]

- ‌[الْأَمْرُ الثَّانِي أَهْلِيَّةُ مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ]

- ‌[الْأَمْرُ الثَّالِثُ شُرُوطُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌[الْأَمْرُ الرَّابِعُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌[الْإِجْمَاعُ عَلَى مَرَاتِبَ]

- ‌[الْأَمْرُ الْخَامِسُ سَنَدُ الْإِجْمَاعِ]

- ‌[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْقِيَاسُ]

- ‌[الْقِيَاسُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي شُرُوطِ الْقِيَاسِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعِلَّةِ]

- ‌[تَعْرِيفِ الْعِلَّةِ]

- ‌[أَبْحَاثٌ فِي الْعِلَّة]

- ‌[الْأَوَّلُ الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ عَدَمُ التَّعْلِيلِ]

- ‌[الثَّانِي كَوْنُ الْعِلَّة وَصْفًا لَازِمًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّعْلِيلُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّعْلِيلُ بِعِلَّةٍ اُخْتُلِفَ فِي وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ أَوْ الْأَصْلِ]

- ‌[الثَّالِثُ تُعْرَفُ الْعِلَّةُ بِأُمُورٍ]

- ‌[الْأَوَّلُ وَالثَّانِي النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ]

- ‌[الثَّالِثُ الْمُنَاسَبَةُ]

- ‌(فَصْلٌ: لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ

- ‌[فَصْلٌ الْقِيَاسُ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ]

- ‌ لِلْقِيَاسِ الْخَفِيِّ(قِسْمَيْنِ:

- ‌[فَصْلٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ]

- ‌[النَّقْضُ]

- ‌[وَدَفْعُ النَّقْض بِأَرْبَعِ طُرُقٍ]

- ‌[الْمُمَانَعَةُ]

- ‌الْمُعَارَضَةِ

- ‌(فَصْلٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ)

- ‌ الِاعْتِرَاضَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ بِالْعِلَّةِ الطَّرْدِيَّةِ

- ‌[فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ كَلَامٍ إلَى آخَرَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْحُجَجِ الْفَاسِدَةِ]

- ‌[التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ]

- ‌(بَابُ) الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ

- ‌[فَصْلٌ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ]

- ‌[الْأُمُور الَّتِي ذُكِرَتْ فِي تَرْجِيحِ الْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ وُجُوهُ التَّرْجِيحِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ التَّرَاجِيحِ الْفَاسِدَةِ التَّرْجِيحُ بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ]

- ‌[بَابُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ فِي الْحُكْمِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ]

- ‌[بَابٌ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ قِسْمَانِ]

- ‌[الْقَسْم الْأَوَّل أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ أَوْ يَكُونَ كَالْحُكْمِ]

- ‌[الْقَسْم الثَّانِي مِنْ الْحُكْمِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ]

- ‌[بَابُ الْمَحْكُوم بِهِ]

- ‌[بَابُ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَهْلِيَّةُ ضَرْبَانِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءً]

- ‌[فَصْلٌ الْأُمُورُ الْمُعْتَرِضَةُ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ]

- ‌[الْعَوَارِضُ السَّمَاوِيَّةُ]

- ‌[الْجُنُونُ]

- ‌[الصِّغَرُ]

- ‌[الْعَتَهُ]

- ‌[النِّسْيَانُ]

- ‌[النَّوْمُ]

- ‌ الْإِغْمَاءُ)

- ‌[الرِّقُّ]

- ‌[الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ]

- ‌[الْمَرَضُ]

- ‌[الْمَوْتُ]

- ‌[الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ]

- ‌[الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنْ نَفْسِهِ]

- ‌[الْجَهْلُ]

- ‌[السُّكْرُ]

- ‌ الْهَزْلُ

- ‌[السَّفَهُ]

- ‌ السَّفَرُ

- ‌[الْخَطَأُ]

- ‌[الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنْ غَيْرِهِ]

- ‌[الْإِكْرَاهُ وَهُوَ إمَّا مُلْجِئٌ أَوْ غَيْرُ مُلْجِئٍ]

الفصل: ‌[القسم الأول أن لا يكون حكما بتعلق شيء بشيء آخر أو يكون كالحكم]

فَنُزُولُ الْعَذَابِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ سَبْقِ الْكِتَابِ لَكِنْ سَبْقُ الْكِتَابِ كَانَ وَاقِعًا، فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ وَاقِعًا بِسَبَبِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ بَعْدَ سَبْقِ الْكِتَابِ. (وَالْمُخْطِئُ فِي الِاجْتِهَادِ لَا يُعَاقَبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ الصَّوَابِ بَيِّنًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) .

الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ فِي الْحُكْمِ وَيَفْتَقِرُ إلَى الْحَاكِمِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا الْعَقْلُ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْأَمْرِ. وَالْمَحْكُومُ بِهِ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ وَنُورِدُ الْأَبْحَاثَ فِي ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ:

(بَابٌ فِي الْحُكْمِ) اعْلَمْ أَنِّي

ــ

[التلويح]

عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ إذْ لَمْ يُوجِبْ تَكْفِيرَ الْمُخَالِفِ كَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ وَمَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ فَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْإِثْمِ وَتَحَقُّقُ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ لَا حَقِيقَةُ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ

[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ فِي الْحُكْمِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ]

[بَابٌ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ قِسْمَانِ]

[الْقَسْم الْأَوَّل أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ أَوْ يَكُونَ كَالْحُكْمِ]

(قَوْلُهُ: الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ) ، وَقَدْ وَقَعَ الْفَرَاغُ مِنْ مَبَاحِثِ الْأَدِلَّةِ، وَهَذَا شُرُوعٌ فِي مَبَاحِثِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ الْحُكْمِ وَمَبَاحِثِ الْحَاكِمِ فَرَتَّبَ الْكَلَامَ هَاهُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ: مَبَاحِثِ الْحُكْمِ نَفْسِهِ وَمَبَاحِثِ الْمَحْكُومِ بِهِ وَمَبَاحِثِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَابْتَدَأَ بِالْحُكْمِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ، ثُمَّ بِالْمَحْكُومِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَوَّلًا وَبِوَاسِطَةِ أَنَّهُ مُضَافٌ إلَى الْمُكَلَّفِ وَعِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِهِ يَصِيرُ الْمُكَلَّفُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ وَحَاوَلَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ اخْتِرَاعَ تَقْسِيمٍ حَاصِرٍ أَيْ ضَابِطٍ لِمَا تَفَرَّقَ مِنْ أَقْسَامِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحُكْمِ، وَأَمَّا التَّقْسِيمُ الْحَاضِرُ بِمَعْنَى كَوْنِهِ دَائِرًا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مُقَيَّدَ التَّكْثِيرِ مَفْهُومٌ وَاحِدٌ إلَى مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَابِلَةِ، فَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَا هِيَ مُتَدَاخِلَةٌ كَالْفَرْضِ مَثَلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِدَائِرٍ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَالتَّقْسِيمِ إلَى مَا يَكُونُ صِفَةً لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَإِلَى مَا يَكُونُ أَثَرًا لَهُ، وَأَنَا أُلْقِي إلَيْك مُحَصِّلَ الْبَابِ إجْمَالًا لِتَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ الْأَمْرِ.

وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ إمَّا حُكْمٌ بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْحُكْمُ إمَّا صِفَةٌ لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ، أَوْ أَثَرٌ لَهُ، فَإِنْ كَانَ أَثَرًا لَهُ كَالْمِلْكِ، فَلَا بَحْثَ هَاهُنَا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ صِفَةً فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا إمَّا الْمَقَاصِدُ الدُّنْيَوِيَّةُ، أَوْ الْمَقَاصِدُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَالْأَوَّلُ يَنْقَسِمُ الْفِعْلُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ تَارَةً إلَى صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ وَفَاسِدٍ وَتَارَةً إلَى مُنْعَقِدٍ وَغَيْرِ مُنْعَقِدٍ وَتَارَةً إلَى نَافِذٍ وَغَيْرِ نَافِذٍ وَتَارَةً إلَى لَازِمٍ وَغَيْرِ لَازِمٍ. وَالثَّانِي إمَّا أَصْلِيٌّ، أَوْ غَيْرُ أَصْلِيٍّ فَالْأَصْلِيُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوْلَى مِنْ التَّرْكِ، أَوْ التَّرْكُ أَوْلَى مِنْ الْفِعْلِ، أَوْ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَوْلَى فَالْأَوَّلُ: إنْ كَانَ مَعَ مَنْعِ التَّرْكِ بِقَطْعِيٍّ فَفَرْضٌ، أَوْ بِظَنِّيٍّ فَوَاجِبٌ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ طَرِيقَةً مَسْلُوكَةً فِي الدِّينِ فَسُنَّةٌ وَإِلَّا فَنَفْلٌ وَنَدْبٌ. وَالثَّانِي: إنْ كَانَ مَعَ مَنْعِ الْفِعْلِ فَحَرَامٌ وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ. وَالثَّالِثُ: مُبَاحٌ.

وَغَيْرُ الْأَصْلِيِّ رُخْصَةٌ وَهِيَ إمَّا حَقِيقَةٌ، أَوْ مَجَازٌ وَالْحَقِيقَةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ أَوْلَى وَأَحَقَّ بِمَعْنَى الرُّخْصَةِ، أَوْ لَا وَالْمَجَازُ إمَّا أَنْ

ص: 243

اخْتَرَعْت تَقْسِيمًا حَاصِرًا عَلَى وَفْقِ مَذْهَبِنَا وَعَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِنَا مِنْ الْأَقْسَامِ الْمُتَفَرِّقَةِ (وَهُوَ قِسْمَانِ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ، أَوْ يَكُونَ كَالْحُكْمِ بِأَنَّ لِهَذَا رُكْنَ ذَلِكَ، أَوْ سَبَبَهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ) .

اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعَلُّقِ تَعَلُّقٌ زَائِدٌ عَلَى التَّعَلُّقِ بِالْحُكْمِ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَالْمَحْكُومِ بِهِ كَكَوْنِ الشَّيْءِ رُكْنًا لِشَيْءٍ، أَوْ عِلَّةً، أَوْ شَرْطًا فَإِنَّ هَذَا التَّعَلُّقَ بِالْحُكْمِ وَنَحْوِهِ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ.

(أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ) كَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَأَمْثَالِهِمَا فَإِنَّهَا صِفَاتٌ لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ، (أَوْ أَثَرًا لَهُ. الثَّانِي كَالْمِلْكِ) فَإِنَّ الْمِلْكَ هُوَ

ــ

[التلويح]

يَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ لَا فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ فَالْمُتَعَلِّقُ إنْ كَانَ دَاخِلًا فِي الشَّيْءِ فَرُكْنٌ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا فِيهِ فَعِلَّةٌ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مُوَصِّلًا إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فَسَبَبٌ وَإِلَّا فَإِنْ تَوَقَّفَ الشَّيْءُ عَلَيْهِ فَشَرْطٌ وَإِلَّا فَعَلَامَةٌ.

(قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ الْحَاكِمُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَإِنْ قُلْت: الْحُكْمُ يَتَنَاوَلُ الْقِيَاسَ الْمُحْتَمِلَ لِلْخَطَأِ فَكَيْفَ يُنْسَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.

قُلْت: الْحَاكِمُ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ إلَّا بِالصَّوَابِ فَالْحُكْمُ الْمَنْسُوبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَحُومُ حَوْلَهُ الْبَاطِلُ وَمَا وَقَعَ مِنْ الْخَطَأِ لِلْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ حَقِيقَةً بَلْ ظَاهِرًا، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ.

فَإِنْ قُلْت: إذَا قَالَ الشَّارِعُ الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ فَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، هُوَ الصَّلَاةُ لَا الْمُكَلَّفُ وَالْمَحْكُومُ بِهِ هُوَ الْوُجُوبُ لَا فِعْلُ الْمُكَلَّفِ.

قُلْت: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَالْمَحْكُومِ بِهِ طَرَفَيْ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْمَنْطِقِ بَلْ الْمُرَادُ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مَنْ وَقَعَ الْخِطَابُ لَهُ وَبِالْمَحْكُومِ بِهِ مَا تَعَلَّقَ الْخِطَابُ بِهِ كَمَا يُقَالُ: حَكَمَ الْأَمِيرُ عَلَى زَيْدٍ بِكَذَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا هُوَ صِفَةُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ كَالْوُجُوبِ وَنَحْوِهِ. وَفِيمَا هُوَ حُكْمُ تَعْلِيقٍ كَالسَّبَبِيَّةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ خَاطَبَ الْمُكَلَّفَ بِأَنَّ فِعْلَهُ سَبَبٌ لِشَيْءٍ، أَوْ شَرْطٌ لَهُ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَمَّا فِيمَا هُوَ أَثَرٌ لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ كَمِلْكِ الرَّقَبَةِ، أَوْ الْمُتْعَةِ، أَوْ الْمَنْفَعَةِ وَثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ فَكَوْنُ الْمَحْكُومِ بِهِ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ إذَا جَعَلْنَا الْمِلْكَ نَفْسَ الْحُكْمِ فَلَيْسَ هَاهُنَا مَا يَصْلُحُ مَحْكُومًا بِهِ.

فَإِنْ قُلْت: قَدْ ذَكَرَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْحُكْمَ إمَّا تَكْلِيفِيٌّ كَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَنَحْوِهِمَا وَإِمَّا وَضْعِيٌّ كَالسَّبَبِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنْ أَرَادَ بِالتَّكْلِيفِيِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ فَالْوَضْعِيُّ أَيْضًا كَذَلِكَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ هَاهُنَا، وَإِنْ أَرَادَ مَا وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ فَالْإِبَاحَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.

قُلْت: أَرَادَ مَا وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ وَعَدَّ الْإِبَاحَةَ مِنْهُ تَغْلِيبًا لِكَوْنِهِ أَحَدَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمَشْهُورَةِ لِلْحُكْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ.

فَإِنْ قُلْت: الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ إمَّا الْخِطَابُ وَإِمَّا الْأَثَرُ الثَّابِتُ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَأَيًّا مَا كَانَ لَيْسَ الْمِلْكُ وَنَحْوُهُ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ لَا الْخِطَابِ.

قُلْت: لَمَّا كَانَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ مَثَلًا بِحَسَبِ وَضْعِ الشَّارِعِ جُعِلَ حُكْمُ اللَّهِ

ص: 244

أَثَرٌ لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ (وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ) كَمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ.

(وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْمَقَاصِدُ الدُّنْيَوِيَّةُ اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا، أَوْ الْأُخْرَوِيَّةُ) فَإِنَّ صِحَّةَ الْعِبَادَةِ كَوْنُهَا بِحَيْثُ تُوجِبُ تَفْرِيغَ الذِّمَّةِ فَالْمُعْتَبَرُ فِي مَفْهُومِهَا اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا إنَّمَا هُوَ الْمَقْصُودُ الدُّنْيَوِيُّ، وَهُوَ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهَا الثَّوَابُ مَثَلًا، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأُخْرَوِيُّ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي مَفْهُومِهِ اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا وَالْوُجُوبُ كَوْنُ الْفِعْلِ بِحَيْثُ لَوْ أَتَى بِهِ يُثَابُ، وَلَوْ تَرَكَهُ يُعَاقَبُ فَالْمُعْتَبَرُ

ــ

[التلويح]

تَعَالَى الثَّابِتَ بِخِطَابِهِ. عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْحُكْمُ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، أَوْ يَكُونَ مُشْعِرًا بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْحُكْمِ إسْنَادُ أَمْرٍ إلَى آخَرَ مَصْدَرُ قَوْلِك حَكَمْت بِكَذَا لَا الْخِطَابُ، وَلَا أَثَرُ الْخِطَابِ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَوْرِدُ الْقِسْمَةِ الْحُكْمَ بِمَعْنَى إسْنَادِ الشَّارِعِ أَمْرًا إلَى آخَرَ فِيمَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُكَلَّفٌ صَرِيحًا كَالنَّصِّ، أَوْ دَلَالَةً كَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ فَفِي جَعْلِ الْوُجُوبِ وَالْمِلْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَقْسَامًا لِلْحُكْمِ بِهَذَا الْمَعْنَى تَسَامُحٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ إطْلَاقَ الْحُكْمِ عَلَى خِطَابِ الشَّارِعِ وَعَلَى أَثَرِهِ وَعَلَى الْأَثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا بَيَانُ أَقْسَامِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ.

(قَوْلُهُ: وَالْأَوَّلُ) أَيْ مَا هُوَ صِفَةُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَيْ فِي مَفْهُومِهِ وَتَعْرِيفِهِ الْمَقَاصِدُ الدُّنْيَوِيَّةُ أَيْ الْحَاصِلَةُ فِي الدُّنْيَا كَتَفْرِيغِ الذِّمَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي مَفْهُومِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ أَوْ الْأُخْرَوِيَّةُ أَيْ الْحَاصِلَةُ فِي الْآخِرَةِ كَالثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ فِي مَفْهُومِ الْوُجُوبِ وَقَيَّدَ بِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْتَبَرُ فِي نَحْوِ الصِّحَّةِ الثَّوَابُ وَفِي نَحْوِ الْوُجُوبِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ لَكِنْ لَا أَوَّلِيًّا وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ الدُّنْيَوِيِّ، أَوْ الْأُخْرَوِيِّ ابْتِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَى حُكْمٍ وَأَغْرَاضٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالدُّنْيَا، أَوْ الْآخِرَةِ إذْ مِنْ الْبَعِيدِ يُقَالُ: صِحَّةُ الصَّلَاةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حِكْمَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ عَلَى حِكْمَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ التَّقْسِيمَ إلَى مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مَقْصُودٌ دُنْيَوِيٌّ، أَوْ أُخْرَوِيٌّ اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا لَيْسَ حَاصِرًا دَائِرًا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَلْ بِحَسَبِ الْوُقُوعِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي صِحَّةِ النَّوَافِلِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ قُلْنَا لَزِمَتْ بِالشُّرُوعِ فَحَصَلَ بِأَدَائِهَا تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ، وَأَمَّا عِبَادَةُ الصَّبِيِّ فَفِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى لِمَا سَيَجِيءُ ذِكْرُهُ فِي بَحْثِ الْعَوَارِضِ فَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لَا غَيْرُ.

(قَوْلُهُ: وَفِي الْمُعَامَلَاتِ الِاخْتِصَاصَاتُ) أَيْ الْأَغْرَاضُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ كَمِلْكِ الرَّقَبَةِ فِي الْبَيْعِ وَمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْبَيْنُونَةِ فِي الطَّلَاقِ، وَكَذَا مَعْنَى صِحَّةِ الْقَضَاءِ تَرَتُّبُ ثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَمَعْنَى صِحَّةِ الشَّهَادَةِ تَرَتُّبُ لُزُومِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا فَمَرْجِعُ ذَلِكَ أَيْضًا إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَالْفِعْلُ الْمُتَعَلِّقُ بِمَقْصُودٍ دُنْيَوِيٍّ إنْ وَقَعَ بِحَيْثُ يُوَصِّلُ إلَيْهِ فَصَحِيحٌ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ عَدَمُ إيصَالِهِ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ خَلَلٍ فِي أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ فَبَاطِلٌ وَإِلَّا فَفَاسِدٌ فَالْمُتَّصِفُ بِالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ حَقِيقَةً هُوَ الْفِعْلُ لَا نَفْسُ الْحُكْمِ.

نَعَمْ يُطْلَقُ

ص: 245

فِي مَفْهُومِهِ اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأُخْرَوِيُّ وَإِنْ كَانَ يَتْبَعُهُ الْمَقْصُودُ الدُّنْيَوِيُّ كَتَفْرِيغِ الذِّمَّةِ وَنَحْوِهِ.

(أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَقَاصِدُ الدُّنْيَوِيَّةُ. (فَالْمَقْصُودُ الدُّنْيَوِيُّ فِي الْعِبَادَاتِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ وَفِي الْمُعَامَلَاتِ الِاخْتِصَاصَاتُ الشَّرْعِيَّةُ) فَكَوْنُ الْفِعْلِ مُوَصِّلًا إلَى الْمَقْصُودِ الدُّنْيَوِيِّ يُسَمَّى صِحَّةً وَكَوْنُهُ بِحَيْثُ لَا يُوَصِّلُ إلَيْهِ أَصْلًا يُسَمَّى بُطْلَانًا وَكَوْنُهُ بِحَيْثُ يَقْتَضِي أَرْكَانُهُ وَشَرَائِطُهُ الْإِيصَالَ إلَيْهِ لَا أَوْصَافُهُ الْخَارِجِيَّةُ يُسَمَّى فَسَادًا، ثُمَّ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَحْكَامٌ أُخَرُ مِنْهَا الِانْعِقَادُ، وَهُوَ ارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ شَرْعًا فَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ لَا صَحِيحٌ

ــ

[التلويح]

لَفْظُ الْحُكْمِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ بِمَعْنَى أَنَّهُمَا ثَبَتَا بِخِطَابِ الشَّارِعِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الِانْعِقَادِ وَالنَّفَاذِ وَاللُّزُومِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ أَمْثَالَ ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، فَإِنَّ مَعْنَى صِحَّةِ الْبَيْعِ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ وَمَعْنَى بُطْلَانِهِ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهَا مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ حُكْمٌ بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ تَعَلُّقًا زَائِدًا عَلَى التَّعَلُّقِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ حُكْمٍ، وَهُوَ تَعَلُّقُهُ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ حَكَمَ بِتَعَلُّقِ الصِّحَّةِ بِهَذَا الْفِعْلِ وَتَعَلُّقِ الْبُطْلَانِ أَوْ الْفَسَادِ بِذَلِكَ. وَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهَا أَحْكَامٌ عَقْلِيَّةٌ لَا شَرْعِيَّةٌ، فَإِنَّ الشَّارِعَ إذَا شَرَّعَ الْبَيْعَ لِحُصُولِ الْمِلْكِ وَبَنَى شَرَائِطَهُ وَأَرْكَانَهُ فَالْعَقْلُ يَحْكُمُ بِكَوْنِهِ مُوَصِّلًا إلَيْهِ عِنْدَ تَحَقُّقِهَا وَغَيْرَ مُوَصِّلٍ عِنْدَ عَدَمِ تَحَقُّقِهَا بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ بِكَوْنِ الشَّخْصُ مُصَلِّيًا، أَوْ غَيْرَ مُصَلٍّ. فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا الصِّحَّةُ وَالْبُطْلَانُ وَالْفَسَادُ مَعَانٍ مُتَقَابِلَةٌ حَاصِلُهَا أَنَّ: الصَّحِيحَ مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ. وَالْبَاطِلَ مَا لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ، وَلَا بِوَصْفِهِ. وَالْفَاسِدَ مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الصَّحِيحُ مَا اُسْتُجْمِعَ أَرْكَانُهُ وَشَرَائِطُهُ بِحَيْثُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ. وَالْفَاسِدُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي نَفْسِهِ فَائِتَ الْمَعْنَى مِنْ وَجْهٍ لِمُلَازَمَةِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ إيَّاهُ بِحُكْمِ الْحَالِ مَعَ تَصَوُّرِ الِانْفِصَالِ فِي الْجُمْلَةِ. وَالْبَاطِلُ مَا كَانَ فَائِتَ الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ وُجُودِ الصُّورَةِ إمَّا لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، أَوْ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْمُتَصَرِّفِ كَبَيْعِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْفَاسِدُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْبَاطِلُ وَالْفَاسِدُ اسْمَانِ مُتَرَادِفَانِ لِمَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ لَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا كَانَتْ الصِّحَّةُ عِبَارَةً عَنْ كَوْنِ الْفِعْلِ مُوَصِّلًا إلَى الْمَقْصُودِ لَمْ تَكُنْ مُقَابِلَةً لِلْفَسَادِ بَلْ أَعَمَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْفَاسِدَةَ تُوجِبُ تَفْرِيغَ الذِّمَّةِ بِحَيْثُ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ يُوجِبُ الْمِلْكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا بَلْ نَافِذًا لِتَرَتُّبِ الْأَثَرِ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّافِذُ أَعَمُّ مِنْ اللَّازِمِ وَالْمُنْعَقِدُ أَعَمُّ مِنْ النَّافِذِ، وَلَا يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالنَّافِذِ

(قَوْلُهُ: فَالْفِعْلُ فَرْضٌ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْحُرْمَةِ

ص: 246

ثُمَّ النَّفَاذُ، وَهُوَ تَرَتُّبُ الْأَثَرِ عَلَيْهِ كَالْمِلْكِ فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ مُنْعَقِدٌ لَا نَافِذٌ، ثُمَّ اللُّزُومُ كَوْنُهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ.

(وَأَمَّا الثَّانِي) أَيْ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَقَاصِدُ الْأُخْرَوِيَّةُ (فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا أَصْلِيًّا) أَيْ غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ (أَوْ لَا يَكُونَ: أَمَّا الْأَوَّلُ) ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ (فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ أَوْلَى مِنْ التَّرْكِ مَعَ مَنْعِهِ) أَيْ مَعَ مَنْعِ التَّرْكِ (فَإِنْ كَانَ هَذَا) أَيْ كَوْنُ الْفِعْلِ أَوْلَى مِنْ التَّرْكِ مَعَ مَنْعِ التَّرْكِ (بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ) فَالْفِعْلُ فَرْضٌ وَبِظَنِّيٍّ وَاجِبٌ، وَبِلَا مَنْعِهِ فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ طَرِيقَةً مَسْلُوكَةً فِي الدِّينِ فَسُنَّةٌ وَإِلَّا فَنَفْلٌ، وَمَنْدُوبٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ أَيْ إنْ كَانَ التَّرْكُ

ــ

[التلويح]

وَالْوُجُوبِ وَنَحْوِهِمَا هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَالْحُكْمُ الَّذِي بِمَعْنَى الْخِطَابِ إنَّمَا هُوَ الْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ وَنَحْوُهُمَا، وَاَلَّذِي هُوَ بِمَعْنَى أَثَرِ الْخِطَابِ هُوَ الْوُجُوبُ وَالْحُرْمَةُ وَنَحْوُهُمَا، وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَقَعَ لِلْفِعْلِ أَوَّلًا بِالذَّاتِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ تَقْسِيمُ الْحُكْمِ، وَكَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ تَعْرِيفُ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَتَعْرِيفُ الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَنَحْوِهَا وَمَعْنَى أَوْلَوِيَّةٍ الْفِعْلِ، أَوْ التَّرْكِ أَوْلَوِيَّتُهُ عِنْدَ الشَّارِعِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى دَلِيلِهِ. وَفِي إطْلَاقِ الْأَوْلَوِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ لَازِمٌ يَمْتَنِعُ نَقِيضُهُ كَالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ نَوْعُ تَسَامُحٍ، وَالْمُرَادُ بِاسْتِوَاءِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فِي الْمُبَاحِ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي نَظَرِ الشَّارِعِ بِأَنْ يُحْكَمَ بِذَلِكَ صَرِيحًا، أَوْ دَلَالَةً بِقَرِينَةِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مُتَعَلِّقِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَيَخْرُجُ فِعْلُ الْبَهَائِمِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَإِنْ قُلْت: جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَقَاصِدُ الْأُخْرَوِيَّةُ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ.

قُلْت: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ التَّعْرِيفَاتُ الْمَذْكُورَةُ رُسُومًا لَا حُدُودًا، وَلَوْ سَلِمَ فَفِي الْأَوْلَوِيَّةِ وَالِاسْتِوَاءِ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.

فَإِنْ قُلْت: قَدْ يَكُونُ الْوُجُوبُ وَالْحُرْمَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ مَا هُوَ أَثَرٌ لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ لَا صِفَةٌ لَهُ كَإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ الثَّابِتَةِ بِالْبَيْعِ وَحُرْمَةِ الْوَطْءِ الثَّابِتَةِ بِالطَّلَاقِ.

قُلْت: هِيَ مِنْ صِفَاتِهِ أَيْضًا إذْ الِانْتِفَاعُ وَالْوَطْءُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الْحُكْمِ صِفَةً لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَأَثَرًا لَهُ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحُكْمَ الْغَيْرَ الْأَصْلِيِّ أَعْنِي الَّذِي يُبْتَنَى عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ أَيْضًا يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ كَالرُّخْصَةِ الْوَاجِبَةِ، أَوْ الْمَنْدُوبَةِ، أَوْ الْمُبَاحَةِ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ بِالْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ.

(قَوْلُهُ: فَالْفَرْضُ لَازِمٌ عِلْمًا) أَيْ يَلْزَمُ اعْتِقَادُ حَقِّيَّتِهِ وَالْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ لِثُبُوتِهِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ حَتَّى لَوْ أَنْكَرَهُ قَوْلًا، أَوْ اعْتِقَادًا كَانَ كَافِرًا وَالْوَاجِبُ لَا يَلْزَمُ اعْتِقَادُ حَقِّيَّتِهِ لِثُبُوتِهِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ وَمَبْنَى الِاعْتِقَادِ عَلَى الْيَقِينِ لَكِنْ يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ فَجَاحِدُهُ لَا يُكَفَّرُ وَتَارِكُ الْعَمَلِ بِهِ إنْ كَانَ مُؤَوِّلًا لَا يُفَسَّقُ، وَلَا يُضَلَّلُ؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ فِي مَظَانِّهِ مِنْ سِيرَةِ السَّلَفِ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مُسْتَخِفًّا يُضَلَّلُ؛ لِأَنَّ رَدَّ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ بِدْعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَوِّلًا، وَلَا مُسْتَخِفًّا

ص: 247

أَوْلَى مِنْ الْفِعْلِ (مَعَ مَنْعِ الْفِعْلِ فَحَرَامٌ وَبِلَا مَنْعِهِ فَمَكْرُوهٌ وَإِنْ اسْتَوَيَا فَمُبَاحٌ. فَالْفَرْضُ لَازِمٌ عِلْمًا وَعَمَلًا حَتَّى يُكَفَّرَ جَاحِدُهُ وَالْوَاجِبُ لَازِمٌ عَمَلًا لَا عِلْمًا، فَلَا يُكَفَّرُ جَاحِدُهُ بَلْ يُفَسَّقُ إنْ اسْتَخَفَّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ الْغَيْرِ الْمُؤَوَّلَةِ، وَأَمَّا مُؤَوِّلًا، فَلَا وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُمَا) أَيْ تَارِكُ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ (إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ. وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ)

فِي أَنَّ الْكِتَابَ نُقِلَ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ لَمْ يُنْقَلْ كَذَلِكَ (يُوجِبُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ مَدْلُولَيْهِمَا) فَيَكُونُ الْحُكْمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مُحْكَمُ الْكِتَابِ ثَابِتًا يَقِينًا وَالْحُكْمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مُحْكَمُ خَبَرِ

ــ

[التلويح]

يُفَسَّقُ لِخُرُوجِهِ عَنْ الطَّاعَةِ بِتَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَيُعَاقَبُ تَارِكُ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ لِلْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى وَعِيدِ الْعُصَاةِ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، أَوْ بِتَوْبَةِ الْعَاصِي وَنَدَمِهِ لِلنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَلِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجُوزُ لَهُ الْعَفْوُ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا عَفْوَ، وَلَا غُفْرَانَ بِدُونِ التَّوْبَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ وُجُوبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.

(قَوْلُهُ: وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ) لَا نِزَاعَ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَفَاوُتِ مَفْهُومَيْ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي تَفَاوُتِ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ كَمُحْكَمِ الْكِتَابِ وَمَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ كَمُحْكَمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّ جَاحِدَ الْأَوَّلِ كَافِرٌ دُونَ الثَّانِي وَتَارِكَ الْعَمَلِ بِالْأَوَّلِ مُؤَوِّلًا فَاسِقٌ دُونَ الثَّانِي، وَإِنَّمَا يَزْعُمُ أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ مَنْقُولَانِ مِنْ مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيِّ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ هُوَ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَيُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا سَوَاءٌ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، أَوْ ظَنِّيٍّ، وَهَذَا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ، فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ بِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ يُوجِبُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ مَدْلُولَيْهِمَا، أَوْ بِأَنَّ الْفَرْضَ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ، وَالْوُجُوبَ هُوَ السُّقُوطُ. فَالْفَرْضُ مَا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ مُقَدَّرٌ عَلَيْنَا وَالْوَاجِبُ مَا سَقَطَ عَلَيْنَا بِطَرِيقِ الظَّنِّ، فَلَا يَكُونُ الْمَظْنُونُ مُقَدَّرًا، وَلَا مَعْلُومُ الْقَطْعِيِّ سَاقِطًا عَلَيْنَا.

عَلَى أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: لَوْ سَلِمَ مُلَاحَظَةُ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ أَنْ يَثْبُتَ كَوْنُ الشَّيْءِ مُقَدَّرًا عَلَيْنَا بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ وَكَوْنُهُ سَاقِطًا عَلَيْنَا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ أَلَا يُرَى إلَى قَوْلِهِمْ: الْفَرْضُ أَيْ الْمَفْرُوضُ الْمُقَدَّرُ فِي الْمَسْحِ هُوَ الرُّبُعُ وَأَيْضًا الْحَقُّ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثُّبُوتُ، وَأَمَّا مَصْدَرُ الْوَاجِبِ بِمَعْنَى السَّاقِطِ وَالْمُضْطَرِبِ، فَإِنَّمَا هُوَ الْوَجْبَةُ وَالْوَجِيبُ، ثُمَّ اسْتِعْمَالُ الْفَرْضِ فِيمَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ وَالْوَاجِبِ فِيمَا ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ شَائِعٌ مُسْتَفِيضٌ كَقَوْلِهِمْ: الْوِتْرُ فَرْضٌ وَتَعْدِيلُ الْأَرْكَانِ فَرْضٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيُسَمَّى فَرْضًا عَمَلِيًّا وَكَقَوْلِهِمْ: الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَاجِبُ عِنْدَنَا عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَيْضًا فَلَفْظُ الْوَاجِبِ يَقَعُ عَلَى مَا هُوَ فَرْضٌ عِلْمًا وَعَمَلًا كَصَلَاةِ الْفَجْرِ وَعَلَى ظَنِّيٍّ هُوَ فِي قُوَّةِ الْفَرْضِ فِي

ص: 248

الْوَاحِدِ ثَابِتًا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ.

(وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَاجِبُ عِنْدَنَا عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَيْضًا) أَيْ أَعَمَّ مِنْ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوْلَى مِنْ التَّرْكِ مَعَ مَنْعِ التَّرْكِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى الْقَطْعِيِّ، أَوْ الظَّنِّيِّ (فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَاجِبَةٌ) .

(وَالسُّنَّةُ نَوْعَانِ سُنَّةُ الْهُدَى وَتَرْكُهَا يُوجِبُ إسَاءَةً وَكَرَاهِيَةً كَالْجَمَاعَةِ وَالْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَنَحْوِهَا وَسُنَّةُ الزَّوَائِدِ وَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ ذَلِكَ كَسُنَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فِي لِبَاسِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ تُطْلَقُ عَلَى طَرِيقَةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَنَا تَقَعُ عَلَى غَيْرِهِ أَيْضًا فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَقُولُونَ: سُنَّةُ الْعُمَرَيْنِ وَالنَّفَلُ مَا يُثَابُ

ــ

[التلويح]

الْعَمَلِ كَالْوِتْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله حَتَّى يَمْتَنِعَ تَذَكُّرُهُ صِحَّةَ الْفَجْرِ كَتَذَكُّرِ الْعِشَاءِ، وَعَلَى ظَنِّيٍّ هُوَ دُونَ الْفَرْضِ فِي الْعَمَلِ وَفَوْقَ السُّنَّةِ كَتَعَيُّنِ الْفَاتِحَةِ حَتَّى لَا تَفْسُدَ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا لَكِنْ يَجِبُ سَجْدَةُ السَّهْوِ

(قَوْلُهُ: وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ) كَمَا إذَا قَالَ الرَّاوِي مِنْ السُّنَّةِ كَذَا: يُحْمَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَعِنْدَ جَمْعٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ رحمه الله تُطْلَقُ عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا، وَلَا تَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بِدُونِ قَرِينَةٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: سُنَّةُ الْعُمَرَيْنِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي السُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ، وَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: عليه السلام «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً» الْحَدِيثَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: عليه السلام «مَنْ سَنَّ سُنَّةً» قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ عَنْ التَّخْصِيصِ بِالنَّبِيِّ عليه السلام، وَلَا نِزَاعَ فِي صِحَّةِ إطْلَاقِ السُّنَّةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَدْلُولُ اللُّغَوِيُّ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْمُجَرَّدَ عَنْ الْقَرَائِنِ يَنْصَرِفُ فِي الشَّرْعِ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ عليه السلام لِلْعُرْفِ الطَّارِئِ كَالطَّاعَةِ تَنْصَرِفُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَقَدْ يُرَادُ بِالسُّنَّةِ مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ وَعَلَيْهِ يُحْمَلَ قَوْلُهُمْ: عِيدَانِ اجْتَمَعَا أَحَدُهُمَا فَرْضٌ وَالْآخَرُ سُنَّةٌ أَيْ وَاجِبٌ بِالسُّنَّةِ.

(قَوْلُهُ: وَالنَّفَلُ يُثَابُ فَاعِلُهُ) أَيْ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ، وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ جَعَلَهُ حُكْمَ النَّفْلِ وَبَعْضُهُمْ تَعْرِيفَهُ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ صَوْمَ الْمُسَافِرِ وَالزِّيَادَةَ عَلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقَعُ فَرْضًا، وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ.

وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّرْكُ مُطْلَقًا، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الزِّيَادَةَ قَبْلَ تَحَقُّقِهَا كَانَتْ نَفْلًا فَانْقَلَبَتْ فَرْضًا بَعْدَ التَّحَقُّقِ لِدُخُولِهَا تَحْتَ قَوْله تَعَالَى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} [المزمل: 20] كَالنَّافِلَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ تَصِيرُ فَرْضًا حَتَّى لَوْ أَفْسَدَهَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا ذَكَرَهُ أَبُو الْيُسْرِ وَالنَّفَلُ دُونَ سُنَنِ الزَّوَائِدِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ طَرِيقَةً مَسْلُوكَةً فِي الدِّينِ وَسِيرَةً لِلنَّبِيِّ عليه السلام -

ص: 249

فَاعِلُهُ، وَلَا يُسِيءُ تَارِكُهُ، وَهُوَ دُونَ سُنَنِ الزَّوَائِدِ، وَهُوَ) الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى النَّفْلِ (لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيمَا لَمْ يَفْعَلْهُ بَعْدُ فَلَهُ إبْطَالُ مَا أَدَّاهُ تَبَعًا، وَعِنْدَنَا يَلْزَمُ) أَيْ النَّفَلُ بِالشُّرُوعِ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَلِأَنَّ مَا أَدَّاهُ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ صِيَانَتُهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهَا) أَيْ إلَى صِيَانَةِ مَا أَدَّاهُ (إلَّا بِلُزُومِ الْبَاقِي فَالتَّرْجِيحُ بِالْمُؤَدَّى

ــ

[التلويح]

بِخِلَافِ النَّفْلِ.

(قَوْلُهُ: وَهُوَ أَيْ النَّفَلُ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) حَتَّى لَوْ لَمْ يَمْضِ فِيهِ لَا يُؤَاخَذُ بِالْقَضَاءِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّفْلِ التَّخْيِيرُ فِيهِ فَإِذَا شَرَعَ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيمَا لَمْ يَأْتِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى النَّفْلِيَّةِ إذْ النَّفَلُ لَا يَنْقَلِبُ فَرْضًا وَإِتْمَامُهُ لَا يَكُونُ إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ بَلْ أَدَاءً لِلنَّفْلِ وَلِهَذَا يُبَاحُ الْإِفْطَارُ بِعُذْرِ الضِّيَافَةِ، وَإِذَا كَانَ مُخَيَّرًا فِيمَا لَمْ يَأْتِ فَلَهُ تَرْكُهُ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى التَّخْيِيرِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ بُطْلَانُ الْمُؤَدَّى ضِمْنًا وَتَبَعًا لَا قَصْدًا، فَلَا يَكُونُ إبْطَالًا لِخُلُوِّهِ عَنْ الْقَصْدِ كَمَنْ سَقَى زَرْعَهُ فَفَسَدَ زَرْعُ الْغَيْرِ بِالنَّزِّ، فَإِنَّهُ لَا يُجْعَلُ إتْلَافًا وَجَوَابُهُ مَنْعُ التَّخْيِيرِ فِي النَّفْلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ، فَإِنَّهُ عَيْنُ النِّزَاعِ، وَعِنْدَنَا النَّفَلُ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ حَتَّى يَجِبَ الْمُضِيُّ فِيهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ لِوُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَفِي عَدَمِ الْإِتْمَامِ إبْطَالٌ لِلْمُؤَدَّى، فَإِنْ قِيلَ: لَا إبْطَالَ، وَإِنَّمَا هُوَ بُطْلَانٌ أَدَّى إلَيْهِ أَمْرٌ مُبَاحٌ لَهُ هُوَ تَرْكُ النَّفْلِ قُلْنَا لَا مَعْنَى لِلْإِبْطَالِ هَاهُنَا إلَّا فِعْلٌ يَحْصُلُ بِهِ الْبُطْلَانُ كَشَقِّ زِقٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فِيهِ مَاءٌ لِغَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بُطْلَانَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ النَّفْلِ إنَّمَا حَصَلَ بِفِعْلِهِ الْمُنَاقِضِ لِلْعِبَادَةِ إذْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ سِوَاهُ بِخِلَافِ فَسَادِ زَرْعِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ يُضَافُ إلَى رَخَاوَةِ الْأَرْضِ لَا إلَى فِعْلِهِ الَّذِي هُوَ سَقْيُ أَرْضِهِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي أَدَّاهُ صَارَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى حَقًّا لَهُ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ؛ لِأَنَّ التَّعَرُّضَ لِحَقِّ الْغَيْرِ بِالْإِفْسَادِ حَرَامٌ، وَلَا طَرِيقَ إلَى صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى سِوَى لُزُومِ الْبَاقِي إذْ لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْكُلَّ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ بِتَمَامِهَا يَتَحَقَّقُ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ.

لَا يُقَالُ: صِحَّةُ الْأَجْزَاءِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَكَوْنُهَا عِبَادَةً مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَكَوْنِهَا عِبَادَةً، فَلَوْ تَوَقَّفَتْ هِيَ عَلَيْهَا لَزِمَ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ دَوْرُ مَعِيَّةٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَضَايِفَيْنِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ يَتَوَقَّفُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ ذَاتُ الْأَبِ مُتَقَدِّمًا فَكَذَا هَاهُنَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ كُلِّ جُزْءٍ عَلَى صِحَّةِ الْجُزْءِ الْآخَرِ مَعَ تَقَدُّمِ ذَاتِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ يَنْعَقِدُ عِبَادَةً لِكَوْنِهِ فِعْلًا قُصِدَ بِهِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ بَقَاءَ هَذَا الْوَصْفِ يَتَوَقَّفُ عَلَى انْعِقَادِ الْجُزْءِ الثَّانِي عِبَادَةً وَانْعِقَادُ الْجُزْءِ الثَّانِي عِبَادَةً يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ لَا عَلَى وَصْفِ كَوْنِهِ عِبَادَةً فَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْأَجْزَاءِ الْبَاقِيَةِ هُوَ بَقَاءُ صِحَّةِ الْمُؤَدَّى وَكَوْنُهُ عِبَادَةً لَا صَيْرُورَتُهُ عِبَادَةً وَالْمَوْقُوفُ عَلَى صِحَّةِ الْمُؤَدَّى هُوَ صَيْرُورَةُ الْأَجْزَاءِ الْبَاقِيَةِ عِبَادَةً

ص: 250

أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا، وَلَمَّا وَجَبَ صِيَانَةُ مَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى تَسْمِيَةً، وَهُوَ النَّذْرُ فَمَا صَارَ فِعْلًا أَوْلَى) أَيْ صِيَانَةُ مَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِعْلًا أَوْلَى بِالْوُجُوبِ. وَقَوْلُهُ: فِعْلًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: تَسْمِيَةً وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ تَسْمِيَةً وَفِعْلًا عَلَى الْحَالِ تَقْدِيرُهُ حَالَ كَوْنِهِ مُسَمًّى وَحَالَ كَوْنِهِ مَفْعُولًا.

(وَالْحَرَامُ يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ، وَهُوَ إمَّا حَرَامٌ لِعَيْنِهِ) أَيْ مَنْشَأُ الْحُرْمَةِ عَيْنُ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهِمَا.

(وَإِمَّا حَرَامٌ لِغَيْرِهِ كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ وَالْحُرْمَةُ هُنَا مُلَاقِيَةٌ لِنَفْسِ الْفِعْلِ لَكِنَّ الْمَحَلَّ قَابِلٌ لَهُ. وَفِي الْأَوَّلِ)

أَيْ فِي الْحَرَامِ لِعَيْنِهِ (قَدْ خَرَجَ الْمَحَلُّ عَنْ قَبُولِ الْفِعْلِ فَعَدَمُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ فَيَكُونُ الْمَحَلُّ هُنَاكَ) أَيْ فِي الْحَرَامِ

ــ

[التلويح]

فَلَا دَوْرَ.

فَإِنْ قِيلَ: بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي لَمْ يَبْقَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ نَفْسُهُ فَضْلًا عَنْ وَصْفِ الصِّحَّةِ وَالْعِبَادَةِ.

قُلْنَا: هَذِهِ اعْتِبَارَاتٌ شَرْعِيَّةٌ حَيْثُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْحُكْمُ بِالْبَقَاءِ وَالْإِحْبَاطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُثَابَ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطِ بَقَاءِ الْمُؤَدَّى عِبَادَةً قُلْنَا الْمَوْتُ مُنْهٍ لَا مُبْطِلٌ فَجَعْلُ الْعِبَادَةِ كَأَنَّهَا هَذَا الْقَدْرُ بِمَنْزِلَةِ تَمَامِ عِبَادَةِ الْحَيِّ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ عِبَادَةً.

فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ صِيَانَةَ الْمُؤَدَّى تَقْتَضِي لُزُومَ الْبَاقِي لَكِنَّ كَوْنَ الْبَاقِي نَفْلًا مُخَيَّرًا فِيهِ يَقْتَضِي جَوَازَ إبْطَالِ الْمُؤَدَّى فَتَعَارَضَا فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْمُؤَدَّى أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ أَيْ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى أَوْلَى مِنْ إبْطَالِهِ احْتِيَاطًا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ وَصَوْنًا لَهَا عَنْ الْبُطْلَانِ وَأَيْضًا الْمُؤَدَّى قَائِمٌ حُكْمًا بِدَلِيلِ احْتِمَالِ الْبَقَاءِ وَالْبُطْلَانِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى مَا هُوَ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَهُوَ غَيْرُ الْمُؤَدَّى.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُنْذِرَ قَدْ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى تَسْمِيَةً بِمَنْزِلَةِ الْوَعْدِ فَيَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِمَّا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِعْلًا، وَهُوَ الْمُؤَدَّى، ثُمَّ إبْقَاءُ الشَّيْءِ وَصِيَانَتُهُ عَنْ الْبُطْلَانِ أَسْهَلُ مِنْ ابْتِدَاءِ وُجُودِهِ، وَإِذَا وَجَبَ أَقْوَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ لِصِيَانَةِ أَدْنَى الشَّيْئَيْنِ، وَهُوَ مَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى تَسْمِيَةً، فَلَأَنْ يَجِبَ أَسْهَلُ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ إبْقَاءُ الْفِعْلِ لِصِيَانَةِ أَقْوَى الشَّيْئَيْنِ، وَهُوَ مَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِعْلًا أَوْلَى

(قَوْلُهُ: وَالْحَرَامُ) قَدْ يُضَافُ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ إلَى الْأَعْيَانِ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْأُمَّهَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّهَا مَجَازٌ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ اسْمِ الْحِلِّ عَلَى الْحَالِ، أَوْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ حُرِّمَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَنِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى الْحَذْفِ. وَالْمَقْصُودُ أَظْهَرُ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَالْمَقْصُودُ الْأَظْهَرُ مِنْ اللُّحُومِ أَكْلُهَا، وَمِنْ الْأَشْرِبَةِ شُرْبُهَا، وَمِنْ النِّسَاءِ نِكَاحُهُنَّ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْحُرْمَةِ هُوَ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ حَرَمُ مَكَّةَ وَحَرِيمُ الْبِئْرِ فَمَعْنَى حُرْمَةِ الْفِعْلِ كَوْنُهُ مَمْنُوعًا بِمَعْنَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُنِعَ عَنْ اكْتِسَابِهِ وَتَحْصِيلِهِ وَمَعْنَى

ص: 251

لِعَيْنِهِ (أَصْلًا وَالْفِعْلُ تَبَعًا فَتُنْسَبُ الْحُرْمَةُ إلَى الْمَحَلِّ لِتَدُلَّ عَلَى عَدَمِ صَلَاحِيَّتِهِ لِلْفِعْلِ لَا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْمَحَلَّ وَيَقْصِدُ بِهِ الْحَالَ كَمَا فِي الْحَرَامِ لِغَيْرِهِ) فَفِي الْحَرَامِ لِغَيْرِهِ إذَا قِيلَ: هَذَا الْخُبْزُ حَرَامٌ يَكُونُ مَجَازًا بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ أَيْ أَكْلُهُ حَرَامٌ، وَإِذَا قِيلَ: الْمَيْتَةُ حَرَامٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا مَنْشَأُ الْحُرْمَةِ لَا أَنَّهَا ذَكَرَ الْمَحَلَّ وَقَصَدَ بِهِ الْحَالَ فَالْمَجَازُ ثَمَّةَ فِي الْمُسْنَدِ إلَيْهِ وَهُنَا فِي الْمُسْنَدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: حَرَامٌ إذَا أُرِيدَ بِهِ مَنْشَأُ الْحُرْمَةِ.

(وَالْمَكْرُوهُ نَوْعَانِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَهُوَ إلَى الْحِلِّ أَقْرَبُ وَمَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَهُوَ إلَى الْحُرْمَةِ أَقْرَبُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بَلْ هَذَا)

ــ

[التلويح]

حُرْمَةِ الْعَيْنِ أَنَّهَا مُنِعَتْ مِنْ الْعَبْدِ تَصَرُّفَاتُهُ فِيهَا فَحُرْمَةُ الْفِعْلِ مِنْ قَبِيلِ مَنْعِ الرَّجُلِ عَنْ الشَّيْءِ كَمَا نَقُولُ لِلْغُلَامِ لَا تَشْرَبْ هَذَا الْمَاءَ وَمَعْنَى حُرْمَةِ الْعَيْنِ مَنْعُ الشَّيْءِ عَنْ الرَّجُلِ بِأَنْ يَصُبَّ الْمَاءَ مَثَلًا، وَهُوَ أَوْكَدُ.

وَثَانِيهِمَا: أَنَّ مَعْنَى حُرْمَةِ الْعَيْنِ خُرُوجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ شَرْعًا كَمَا أَنَّ مَعْنَى حُرْمَةِ الْفِعْلِ خُرُوجُهُ عَنْ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فَالْخُرُوجُ عَنْ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا مُتَحَقِّقٌ فِيهِمَا، فَلَا يَكُونُ مَجَازًا وَخُرُوجُ الْعَيْنِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ يَسْتَلْزِمُ مَنْعَ الْفِعْلِ بِطَرِيقٍ أَوْكَدَ وَأَلْزَمَ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى احْتِمَالُ الْفِعْلِ أَصْلًا فَنَفْيُ الْفِعْلِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ تَبَعًا أَقْوَى مِنْ نَفْيِهِ إذَا كَانَ مَقْصُودًا، وَلَمَّا لَاحَ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ أَثَرُ الضَّعْفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الشَّرْعِ قَدْ نُقِلَتْ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ إلَى كَوْنِ الْفِعْلِ مَمْنُوعًا عَنْهُ شَرْعًا، أَوْ كَوْنِهِ بِحَيْثُ يُعَاقَبُ فَاعِلُهُ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ إضَافَةُ الْحُرْمَةِ إلَى بَعْضِ الْأَعْيَانِ مُسْتَحْسَنَةً جِدًّا كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ دُونَ الْبَعْضِ كَحُرْمَةِ خُبْزِ الْغَيْرِ سَلَكَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي ذَلِكَ طَرِيقَةً مُتَوَسِّطَةً، وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الْحَرَامَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ مَنْشَأُ حُرْمَتِهِ عَيْنَ ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَحُرْمَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَيُسَمَّى حَرَامًا لِعَيْنِهِ.

وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ مَنْشَأُ الْحُرْمَةِ غَيْرَ ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَحُرْمَةِ أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لِنَفْسِ ذَلِكَ الْمَالِ بَلْ لِكَوْنِهِ مِلْكَ الْغَيْرِ فَالْأَكْلُ مُحَرَّمٌ مَمْنُوعٌ لَكِنَّ الْمَحَلَّ قَابِلٌ لِلْأَكْلِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَأْكُلَهُ مَالِكُهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْمَحَلَّ قَدْ خَرَجَ عَنْ قَابِلِيَّةِ الْفِعْلِ وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الْفِعْلِ ضَرُورَةَ عَدَمِ مَحَلِّهِ فَفِي الْحَرَامِ لِعَيْنِهِ الْمَحَلُّ أَصْلٌ وَالْفِعْلُ تَبَعٌ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَحَلَّ أُخْرِجَ أَوَّلًا مِنْ قَبُولِ الْفِعْلِ وَمُنِعَ، ثُمَّ صَارَ الْفِعْلُ مَمْنُوعًا وَمُخْرَجًا عَنْ الِاعْتِبَارِ فَحُسْنُ نِسْبَةِ الْحُرْمَةِ وَإِضَافَتِهَا إلَى الْمَحَلِّ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْفِعْلِ شَرْعًا حَتَّى كَأَنَّهُ الْحَرَامُ نَفْسُهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إطْلَاقِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْفِعْلِ الْحَالِّ فِيهِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْمَيْتَةِ أَكْلُهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ فَوَاتِ الدَّلَالَةِ عَلَى خُرُوجِ الْمَحَلِّ عَنْ صَلَاحِيَّةِ الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْحَرَامِ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ إذَا أُضِيفَ الْحُرْمَةُ فِيهِ إلَى الْمَحَلِّ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَوْ عَلَى إطْلَاقِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ.

فَإِذَا قُلْنَا: الْمَيْتَةُ حَرَامٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَيْتَةَ

ص: 252

الْإِشَارَةُ تَرْجِعُ إلَى الْمَكْرُوهِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ (حَرَامٌ لَكِنْ بِغَيْرِ الْقَطْعِيِّ كَالْوَاجِبِ مَعَ الْفَرْضِ) .

(وَأَمَّا الثَّانِي) الْمُرَادُ بِالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا أَصْلِيًّا أَيْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ (فَيُسَمَّى رُخْصَةً وَمَا وَقَعَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ) أَيْ الَّذِي هُوَ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ (فِي مُقَابَلَتِهَا) أَيْ فِي مُقَابَلَةِ الرُّخْصَةِ (يُسَمَّى عَزِيمَةً وَهِيَ إمَّا فَرْضٌ) الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى الْعَزِيمَةِ (أَوْ وَاجِبٌ، أَوْ سُنَّةٌ، أَوْ نَفْلٌ لَا غَيْرُ. وَالرُّخْصَةُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعَانِ مِنْ الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا أَحَقُّ بِكَوْنِهِ رُخْصَةً مِنْ الْآخَرِ وَنَوْعَانِ مِنْ الْمَجَازِ أَحَدُهُمَا أَتَمُّ فِي الْمَجَازِيَّةِ مِنْ الْآخَرِ)

أَيْ نَوْعَانِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا

ــ

[التلويح]

مَنْشَأُ الْحُرْمَةِ أَكْلُهَا، وَإِذَا قُلْنَا خُبْزُ الْغَيْرِ حَرَامٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّ أَكْلَهُ حَرَامٌ إمَّا مَجَازًا، أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يُحْمَلُ تَارَةً عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَتَارَةً عَلَى أَنَّ الْقَرْيَةَ مَجَازٌ عَنْ الْأَهْلِ إطْلَاقًا لِلْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ صِفَتَا فِعْلٍ لَا صِفَتَا مَحَلِّ الْفِعْلِ لَكِنْ مَتَى ثَبَتَ الْحِلُّ، أَوْ الْحُرْمَةُ لِمَعْنًى فِي الْعَيْنِ أُضِيفَ إلَيْهَا لِأَنَّهَا سَبَبُهُ كَمَا يُقَالُ: جَرَى النَّهْرُ؛ لِأَنَّهُ سَبِيلُ الْجَرَيَانِ وَطَرِيقٌ يُجْرَى فِيهِ فَيُقَالُ: حُرِّمَتْ الْمَيْتَةُ؛ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ لِمَعْنًى فِيهَا، وَلَا يُقَالُ: حُرِّمَتْ شَاةُ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ لِاحْتِرَامِ الْمَالِكِ

(قَوْلُهُ: وَهُوَ إلَى الْحِلِّ أَقْرَبُ) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ فَاعِلُهُ أَصْلًا لَكِنْ يُثَابُ تَارِكُهُ أَدْنَى ثَوَابٍ وَمَعْنَى الْقُرْبِ إلَى الْحُرْمَةِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَحْذُورٌ دُونَ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ بِالنَّارِ كَحُرْمَةِ الشَّفَاعَةِ فَتَرْكُ الْوَاجِبِ حَرَامٌ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالنَّارِ وَتَرْكُ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ قَرِيبٌ مِنْ الْحَرَامِ يَسْتَحِقُّ حِرْمَانَ الشَّفَاعَةِ لِقَوْلِهِ: عليه السلام «مَنْ تَرَكَ سُنَّتِي لَمْ يَنَلْ شَفَاعَتِي» وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَيْسَ الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ بَلْ هُوَ حَرَامٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ فَعِنْدَهُ مَا لَزِمَ تَرْكُهُ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يُسَمَّى حَرَامًا وَإِلَّا يُسَمَّى مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ كَمَا أَنَّ مَا لَزِمَ الْإِتْيَانُ بِهِ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِيهِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يُسَمَّى فَرْضًا وَإِلَّا يُسَمَّى وَاجِبًا

(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الثَّانِي) مِنْ قِسْمَيْ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَوَّلًا الْمَقَاصِدُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَيُسَمَّى رُخْصَةً وَيُقَابِلُهَا الْعَزِيمَةُ فَحُرْمَةُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ عَزِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ وَإِبَاحَتُهَا لِلْمُكْرَهِ رُخْصَةٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ أَصْلِيٍّ بَلْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ.

فَإِنْ قِيلَ: الرُّخْصَةُ قَدْ تَتَّصِفُ بِالْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَالْوُجُوبِ وَهِيَ مِنْ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فَيَلْزَمُ كَوْنُهَا حُكْمًا أَصْلِيًّا وَغَيْرَ أَصْلِيٍّ، وَلَا مَجَالَ لِتَغَايُرِ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ لَيْسَتْ حُكْمًا أَصْلِيًّا بِشَيْءٍ مِنْ الِاعْتِبَارَاتِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَكُونُ حُكْمًا أَصْلِيًّا إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ يُخَالِفُ اصْطِلَاحَ الْقَوْمِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِرَاعُ التَّقْسِيمِ الْحَاصِرِ، وَأَمَّا كَوْنُ الرُّخْصَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصُودٌ أُخْرَوِيٌّ

ص: 253

الرُّخْصَةُ حَقِيقَةً، ثُمَّ أَحَدُهُمَا أَحَقُّ بِكَوْنِهِ رُخْصَةً مِنْ الْآخَرِ وَنَوْعَانِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا اسْمُ الرُّخْصَةِ مَجَازًا لَكِنَّ أَحَدَهُمَا أَتَمُّ فِي الْمَجَازِيَّةِ أَيْ أَبْعَدُ مِنْ حَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ مِنْ الْآخَرِ.

(أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الَّذِي هُوَ رُخْصَةٌ حَقِيقَةً، وَهُوَ أَحَقُّ بِكَوْنِهِ رُخْصَةً مِنْ الْآخَرِ (فَمَا اُسْتُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ وَالْحُرْمَةِ كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا) أَيْ بِالْقَتْلِ، أَوْ الْقَطْعِ (فَإِنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ قَائِمَةٌ أَبَدًا) ؛ لِأَنَّ الْمُحَرِّمَ لِلْكُفْرِ، وَهُوَ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ قَائِمَةٌ فَتَكُونُ حُرْمَةُ الْكُفْرِ قَائِمَةً أَبَدًا أَيْضًا (لَكِنَّ حَقَّهُ) أَيْ حَقَّ الْعَبْدِ (يَفُوتُ صُورَةً لَهُ وَمَعْنًى وَحَقُّ اللَّهِ

ــ

[التلويح]

بِمَعْنَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي مَفْهُومِهِ اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا فَيَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ فِي عِبَارَاتِ الْقَوْمِ فِي تَفْسِيرِهَا فَفِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ: إنَّ الرُّخْصَةَ مَا شُرِعَ مِنْ الْأَحْكَامِ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ لَوْلَا الْعُذْرُ لَثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ وَالْعَزِيمَةُ بِخِلَافِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ دَلِيلَ الْحُرْمَةِ إذَا بَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ وَكَانَ التَّخَلُّفُ عَنْهُ لِمَانِعٍ طَارِئٍ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ لَوْلَاهُ لَثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِ، فَهُوَ الرُّخْصَةُ فَخَرَجَ الْحُكْمُ بِحِلِّ الشَّيْءِ ابْتِدَاءً، أَوْ نَسْخًا لِتَحْرِيمٍ، أَوْ تَخْصِيصًا مِنْ نَصٍّ مُحَرِّمٍ. وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعَزِيمَةَ اسْمٌ لِمَا هُوَ أَصْلٌ مِنْ الْأَحْكَامِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْعَوَارِضِ. وَالرُّخْصَةُ اسْمٌ لَمَا بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ، وَهُوَ مَا يُسْتَبَاحُ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ وَذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ أَنَّ الرُّخْصَةَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ، وَحُرْمَةُ الْفِعْلِ وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِتَرْكِ الْفِعْلِ مَعَ وُجُودِ الْمُوجِبِ وَالْوُجُوبِ وَفِي الْمِيزَانِ أَنَّ الرُّخْصَةَ اسْمٌ لِمَا تَغَيَّرَ عَنْ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ إلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ تَرَفُّهًا وَتَوْسِعَةً عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ وَقَالَ الْعَزِيمَةُ مَا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالرُّخْصَةُ مَا وَسِعَ لِلْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ.

(قَوْلُهُ: وَهِيَ إمَّا فَرْضٌ) حَصَرَ الْعَزِيمَةَ فِي الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ وَالنَّفَلِ يَعْنِي قَبْلَ وُرُودِ الرُّخْصَةِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَقَدْ تَكُونُ الْعَزِيمَةُ حَرَامًا كَصَوْمِ الْمَرِيضِ إذَا خَافَ الْهَلَاكَ، فَإِنَّ تَرْكَهُ وَاجِبٌ فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الْعَزِيمَةُ قَبْلَ وُرُودِ الرُّخْصَةِ مُبَاحًا، وَلَا حَرَامًا، وَلَا مَكْرُوهًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُبَاحًا لَكَانَتْ الرُّخْصَةُ أَيْضًا مُبَاحًا وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَصْلِيًّا وَالْآخَرُ مَبْنِيًّا عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ، وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لَوْ كَانَ حُرْمَةً، أَوْ كَرَاهَةً لَكَانَ الطَّرَفُ الْمُقَابِلُ فِي أَصْلِهِ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِلِابْتِنَاءِ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ إذْ الْمُنَاسِبُ لِلْعُذْرِ، هُوَ التَّرْفِيهُ وَالتَّوْسِعَةُ لَا التَّضْيِيقُ، فَلَا يَكُونُ رُخْصَةً، فَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي هُوَ الْحُرْمَةُ، أَوْ الْكَرَاهَةُ عَزِيمَةً؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ الرُّخْصَةِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الطَّرَفَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْعَزِيمَةُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّخْصَةُ لَا مُسَاوِيًا لَهُ لِيَكُونَ مُبَاحًا، وَلَا مَرْجُوحًا لِيَكُونَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا وَالرَّاجِحُ إمَّا فَرْضٌ، أَوْ وَاجِبٌ، أَوْ سُنَّةٌ، أَوْ نَفْلٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ

ص: 254

تَعَالَى لَا يَفُوتُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ قَلْبَهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَلَهُ أَنْ يُجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ وَإِنْ أَخَذَ) بِالْعَزِيمَةِ وَبَذَلَ نَفْسَهُ حِسْبَةً فِي دِينِهِ فَأَوْلَى، وَكَذَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَأَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ وَالْإِفْطَارُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَيْ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ، أَوْ عَلَى الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالرُّخْصَةِ حَقِيقَةً لَكِنْ إنْ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ وَبَذَلَ نَفْسَهُ فَأَوْلَى.

(وَالثَّانِي) أَيْ الَّذِي هُوَ رُخْصَةٌ حَقِيقَةً لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ مِنْهُ بِكَوْنِهِ رُخْصَةً (مَا اُسْتُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ دُونَ الْحُرْمَةِ كَإِفْطَارِ الْمُسَافِرِ) فَإِنَّ الْمُحَرِّمَ لِلْإِفْطَارِ، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ قَائِمٌ لَكِنَّ حُرْمَةَ الْإِفْطَارِ غَيْرُ قَائِمَةٍ (رُخِّصَ بِنَاءً عَلَى سَبَبِ تَرَاخِي حُكْمِهِ)

ــ

[التلويح]

- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

وَفِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَزِيمَةَ لَوْ كَانَتْ إبَاحَةً لَكَانَتْ الرُّخْصَةُ أَيْضًا كَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ وُجُوبًا، أَوْ نَدْبًا إذْ الْعُذْرُ قَدْ يُنَاسِبُهُ الْإِيجَابُ كَأَكْلِ مَالِهِ عِنْدَ خَوْفِ تَلَفِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَزِيمَةَ لَوْ كَانَتْ حُرْمَةً، أَوْ كَرَاهَةً لَكَانَ الطَّرَفُ الْآخَرُ وُجُوبًا، أَوْ نَدْبًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إبَاحَةً كَمَا فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ وَيُبَاحُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الرُّخَصِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَلَوْ سَلِمَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوُجُوبَ، أَوْ النَّدْبَ لَا يُنَاسِبُ الِابْتِنَاءَ عَلَى الْأَعْذَارِ كَوُجُوبِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، أَوْ نَدْبِ إفْطَارِ الْمَرِيضِ عِنْدَ بَعْضِ الْأَضْرَارِ لَا يُقَالُ: الْعَزِيمَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ تُرْجِعُ الْوُجُوبَ كَوُجُوبِ تَرْكِ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَوُجُوبِ تَرْكِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْفَرْضَ قَدْ يَكُونُ هُوَ الْفِعْلُ كَالصَّوْمِ، وَقَدْ يَكُونُ هُوَ التَّرْكُ كَتَرْكِ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا تَأْوِيلٌ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ، فَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حُكْمِ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْحُرْمَةُ لَا الْوُجُوبُ وَاسْتِلْزَامُهُ لِوُجُوبِ التَّرْكِ لَا يَنْفِي كَوْنَهُ الْحُرْمَةَ وَإِلَّا لَارْتَفَعَتْ الْحُرْمَةُ مِنْ بَيْنِ الْأَحْكَامِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَزِيمَةَ تَشْتَمِلُ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا عَلَى مَا قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ بَعْدَ تَقْسِيمِ الْأَحْكَامِ إلَى الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ وَالنَّفَلِ وَالْمُبَاحِ وَالْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ وَغَيْرِهَا إنَّ الْعَزِيمَةَ اسْمٌ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ وَالنَّفَلِ وَنَحْوِهَا.

(قَوْلُهُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا اُسْتُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ وَالْحُرْمَةِ) كَلَامُهُ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ مُشْعِرٌ بِانْحِصَارِ حَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ فِي الْإِبَاحَةِ وَيَلْزَمُهُ انْحِصَارُ الْعَزِيمَةِ فِي الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهَا تُقَابِلُهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِبَاحَةِ هَاهُنَا مُجَرَّدُ تَجْوِيزِ الْفِعْلِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّسَاوِي، أَوْ بِدُونِهِ فَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ وَالْمُرَادُ بِالْحُرْمَةِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الرُّخْصَةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي جَانِبِ الْفِعْلِ، أَوْ فِي جَانِبِ التَّرْكِ فَيَشْمَلُ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ أَيْضًا كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ فِي قَوْلِهِ: وَهِيَ فَرْضٌ وَوَاجِبٌ وَسُنَّةٌ

ص: 255

فَالسَّبَبُ شُهُودُ الشَّهْرِ وَالْحُكْمُ وُجُوبُ الصَّوْمِ وَقَدْ تَرَاخَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184](وَالْعَزِيمَةُ أَوْلَى عِنْدَنَا لِقِيَامِ السَّبَبِ وَلِأَنَّ فِي الْعَزِيمَةِ نَوْعَ يُسْرٍ لِمُوَافَقَةِ الْمُسْلِمِينَ) .

هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى أَنَّ الْعَزِيمَةَ أَوْلَى وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالرُّخْصَةِ وَتَرْكَ الْعَزِيمَةِ إنَّمَا شُرِعَ لِلْيُسْرِ وَالْيُسْرُ حَاصِلٌ فِي الْعَزِيمَةِ أَيْضًا فَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ مُوَصِّلٌ إلَى ثَوَابٍ يَخْتَصُّ بِالْعَزِيمَةِ وَمُتَضَمِّنٌ لَيْسَ يَخْتَصُّ بِالرُّخْصَةِ فَالْأَخْذُ بِهَا أَوْلَى (إلَّا أَنْ يُضْعِفَهُ الصَّوْمُ فَلَيْسَ لَهُ بَذْلُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلَ

ــ

[التلويح]

وَنَفْلٌ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ الْفِعْلِ، أَوْ طَرَفِ التَّرْكِ لِيَشْمَلَ الْحَرَامَ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مُنَافَاةٌ. نَعَمْ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُ انْحِصَارُ الْعَزِيمَةِ فِي الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ، وَهَذَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ سُنَّةً، أَوْ نَفْلًا كَمَا إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي صَلَاةِ نَفْلٍ، أَوْ سُنَّةٍ كَوْنَهَا مَنْدُوبَةً، فَإِذَا عَرَضَتْ حَالَةٌ لَمْ تَبْقَ تِلْكَ الصَّلَاةُ مَعَهَا مَنْدُوبَةً كَحَالَةِ الْخَوْفِ مَثَلًا فَيَكُونُ تَرْكُهَا رُخْصَةً، أَوْ حُكْمًا مَبْنِيًّا عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُرْمَةِ الْمَنْعُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، أَوْ الرُّجْحَانِ وَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ الْإِشْكَالُ.

فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِبَاحَةُ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ وَالْحُرْمَةِ تُوجِبُ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ وَهُمَا الْحُرْمَةُ وَالْإِبَاحَةُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ.

أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِبَاحَةِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يُعَامَلَ مُعَامَلَةَ الْمُبَاحِ بِتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ. وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحُرْمَةِ كَمَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فَعُفِيَ عَنْهُ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُحَرِّمُ قَائِمٌ فِي الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا فَكَيْفَ اقْتَضَى تَأْيِيدَ الْحُرْمَةِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي قُلْنَا الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ أَمَارَاتٌ جَازَ تَرَاخِي الْحُكْمِ عَنْهَا، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِذَلِكَ فَيَحْتَمِلُهُ بِخِلَافِ أَدِلَّةِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهَا عَقْلِيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّرَاخِي عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا فَتَقُومُ الْحُرْمَةُ بِقِيَامِهَا وَتَدُومُ بِدَوَامِهَا.

(قَوْلُهُ: لَكِنَّ حَقَّهُ أَيْ حَقَّ الْعَبْدِ يَفُوتُ صُورَةً) بِخَرَابِ الْبِنْيَةِ وَمَعْنًى بِزُهُوقِ الرُّوحِ أَيْ خُرُوجِهِ مِنْ الْبَدَنِ.

(قَوْلُهُ: حِسْبَةً) أَيْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَهِيَ اسْمٌ مِنْ الِاحْتِسَابِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ اللَّهِ صُورَةً وَمَعْنًى بِتَفْوِيتِ حَقِّ نَفْسِهِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: مَا تَقُولُ فِي مُحَمَّدٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي قَالَ: أَنْتَ أَيْضًا فَخَلَّاهُ. وَقَالَ لِلْآخَرِ: مَا تَقُولُ فِي مُحَمَّدٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي قَالَ: أَنَا أَصَمُّ فَأَعَادَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَأَعَادَ جَوَابَهُ فَقَتَلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَدْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الثَّانِي، فَقَدْ صَدَعَ بِالْحَقِّ فَهَنِيئًا لَهُ» .

(قَوْلُهُ: وَكَذَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) نَبَّهَ بِهَذَا الْمِثَالِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقِيَامِ الْمُحَرِّمِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تُرَجَّحَ الْحُرْمَةُ إلَى الْفِعْلِ كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، أَوْ إلَى التَّرْكِ كَمَا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنَّهُ فَرْضٌ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ

ص: 256

نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) أَيْ إلَّا أَنْ يُضْعِفَ الصَّوْمُ الصَّائِمَ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْعَزِيمَةُ أَوْلَى.

وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ بِكَوْنِهِ رُخْصَةً مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّ فِي الثَّانِي وُجِدَ السَّبَبُ لِلصَّوْمِ لَكِنَّ حُكْمَهُ مُتَرَاخٍ فَصَارَ رَمَضَانُ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ فَيَكُونُ فِي الْإِفْطَارِ شُبْهَةُ كَوْنِهِ حُكْمًا أَصْلِيًّا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْمُحَرِّمَ وَالْحُرْمَةَ قَائِمَانِ فَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِيهِ الْحُرْمَةُ وَلَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ كَوْنِ اسْتِبَاحَةِ الْكُفْرِ حُكْمًا أَصْلِيًّا فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِكَوْنِهِ رُخْصَةً (وَالثَّالِثُ) أَيْ الَّذِي هُوَ رُخْصَةٌ مَجَازًا، وَهُوَ أَتَمُّ فِي الْمَجَازِيَّةِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْحَقِيقَةِ مِنْ الْآخَرِ.

(مَا وُضِعَ عَنَّا مِنْ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ يُسَمَّى رُخْصَةً مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا أَصْلًا. وَالرَّابِعُ) أَيْ الَّذِي هُوَ رُخْصَةٌ

ــ

[التلويح]

تَرْكُهُ حَرَامًا وَيُسْتَبَاحُ لَهُ التَّرْكُ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا يَفُوتُ صُورَةً لَا مَعْنًى لِبَقَاءِ اعْتِقَادِ الْفَرْضِيَّةِ.

وَفِي أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ الْمُحَرِّمُ، وَهُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ قَائِمٌ وَالْحُرْمَةُ بَاقِيَةٌ لَكِنَّ حَقَّ الْغَيْرِ لَا يَفُوتُ إلَّا صُورَةً لِانْجِبَارِهِ بِالضَّمَانِ فَيُسْتَبَاحُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ.

وَفِي التَّمْثِيلِ بِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ، وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْعِبَادَاتِ وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ لَكِنَّ حَقَّ الْعِبَادِ أَيْضًا كَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ التَّصَلُّبِ فِي الدِّينِ بِبَذْلِ نَفْسِهِ فِي الِاجْتِنَابِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَا فِي الْإِفْطَارِ، وَالْحُرْمَةُ بَاقِيَةٌ لِقِيَامِ الْمُحَرِّمِ، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ وَمَرَضٍ فَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ. أَمَّا لَوْ كَانَ مَرِيضًا، أَوْ مُسَافِرًا فَأُكْرِهَ عَلَى الْإِفْطَارِ فَامْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ عَلَى الْمُبَاحِ كَالْمُضْطَرِّ إذَا تَرَكَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ حَتَّى مَاتَ.

(قَوْلُهُ: وَالْعَزِيمَةُ أَوْلَى عِنْدَنَا) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعَمَلَ بِالرُّخْصَةِ أَوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَيَّدَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ عِنْدَهُ قَوْلًا وَاحِدًا عِنْدَ عَدَمِ التَّضَرُّرِ حَتَّى أَنَّهُ وَقَعَ فِي مِنْهَاجِ الْأُصُولِ أَنَّ الْإِفْطَارَ مُبَاحٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُسَاوٍ لِلصَّوْمِ فَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَظْفَرَ بِرِوَايَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَسَاوِيهِمَا بَلْ الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ إنْ تَضَرَّرَ وَإِلَّا فَالصَّوْمُ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافِ رِوَايَةٍ.

(قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) أَيْ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِفْطَارِ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ إذَا لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ قَاتِلَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ صَدَرَ مِنْ الْمُكْرِهِ الظَّالِمِ، وَالْمُكْرَهُ الْمَظْلُومُ فِي صَبْرِهِ مُسْتَدِيمٌ لِلْعِبَادَةِ مُسْتَقِيمٌ عَلَى الطَّاعَةِ فَيُؤْجَرُ.

(قَوْلُهُ: مِنْ الْإِصْرِ) هُوَ الثِّقْلُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ مِنْ الْحَرَاكِ إنَّمَا جُعِلَ مَثَلًا لِثِقْلِ تَكْلِيفِهِمْ وَصُعُوبَتِهِ. مِثْلُ اشْتِرَاطِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي صِحَّةِ تَوْبَتِهِمْ، وَكَذَا الْأَغْلَالُ مَثَلٌ لِمَا كَانَتْ فِي شَرَائِعِهِمْ مِنْ الْأَشْيَاءِ الشَّاقَّةِ كَجَزْمِ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ عَمْدًا كَانَ الْقَتْلُ أَوْ خَطَأً، وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْخَاطِئَةِ، أَوْ قَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ وَنَحْوِ

ص: 257

مَجَازًا لَكِنَّهُ أَقْرَبُ مِنْ حَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ مِنْ الثَّالِثِ

(مَا سَقَطَ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَقَطَ كَانَ مَجَازًا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَبِيهًا بِحَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ كَقَوْلِ الرَّاوِي رُخِّصَ فِي السَّلَمِ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُلَاقِيَ عَيْنًا، وَهَذَا حُكْمٌ مَشْرُوعٌ لَكِنَّهُ سَقَطَ فِي السَّلَمِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ التَّعْيِينُ عَزِيمَةً، وَلَا مَشْرُوعًا، وَكَذَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ ضَرُورَةً فَإِنَّ حُرْمَتَهُمَا سَاقِطَةٌ هُنَا) أَيْ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ (مَعَ كَوْنِهَا ثَابِتَةً فِي الْجُمْلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام: 119] فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْحُرْمَةِ) فَالْفَرْقُ بَيْنَ

ــ

[التلويح]

ذَلِكَ مِمَّا كَانَتْ فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى غَيْرِنَا، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْنَا تَوْسِعَةً وَتَخْفِيفًا شَابَهَتْ الرُّخْصَةَ فَسُمِّيَتْ بِهَا لَكِنْ لَمَّا كَانَ السَّبَبُ مَعْدُومًا فِي حَقِّنَا وَالْحُكْمُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ أَصْلًا لَمْ تَكُنْ حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا فَقَوْلُهُ: لِأَنَّ الْأَصْلَ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا أَصْلًا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ تَسْمِيَتِهِ رُخْصَةً وَعَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا كَامِلًا لَا حَقِيقَةً، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا، فَلَمْ يَبْقَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدٍ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَخِيرِ، فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ فِيهَا بَقِيَتْ مَشْرُوعَةً فِي الْجُمْلَةِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا حُرِّمَ الصَّوْمُ عَلَى الْمَرِيضِ الَّذِي يَخَافُ التَّلَفَ، فَإِنَّهُ صَارَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّهِ لَا غَيْرُ.

(قَوْلُهُ: فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَقَطَ كَانَ مَجَازًا) . فَإِنْ قُلْت: فَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَيْضًا سَقَطَ الْحُكْمُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَجَازًا.

قُلْت: لَا تَرَاخِيَ بِعُذْرٍ فَالْمُوجِبُ قَائِمٌ وَالْحُكْمُ مُتَرَاخٍ وَهَاهُنَا الْحُكْمُ سَاقِطٌ بِسُقُوطِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ مَحَلَّ الرُّخْصَةِ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَيْ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا أَصْلًا فَكَانَ كَامِلًا فِي الْمَجَازِيَّةِ بَعِيدًا عَنْ الْحَقِيقَةِ.

(قَوْلُهُ: كَقَوْلِ الرَّاوِي)«نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنِيَّةَ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِي السَّلَمِ حَتَّى يَفْسُدَ السَّلَمُ فِي الْمُعَيَّنِ كَانَتْ الرُّخْصَةُ مَجَازًا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ فِي الْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ لَهُ شَبَهٌ بِحَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ.

(قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُلَاقِيَ عَيْنًا) لِتَتَحَقَّقَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ «وَلِأَنَّهُ عليه السلام نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ» وَعَنْ «بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» فَفِي هَذَا بَيَانٌ لِكَوْنِهِ السَّلَمَ حُكْمًا غَيْرَ أَصْلِيٍّ لِتَحَقُّقِ كَوْنِهِ رُخْصَةً، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْقَ التَّعْيِينُ فِي السَّلَمِ مَشْرُوعًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّعْيِينِ وَإِلَّا لَبَاعَهُ مُسَاوَمَةً مِنْ غَيْرِ وَكْسٍ فِي الثَّمَنِ.

(قَوْلُهُ: وَكَذَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ) حَالَ الِاضْطِرَارِ، فَإِنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَالْحُرْمَةُ سَاقِطَةٌ إلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ رُخِّصَ فِيهِ بِمَعْنَى تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ إبْقَاءً لِلْمُهْجَةِ كَمَا فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ أَمَّا فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَلِأَنَّ النَّصَّ الْمُحَرِّمَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا حَالَ الِاضْطِرَارِ لِكَوْنِهَا مُسْتَثْنَاةً فَبَقِيَتْ مُبَاحَةً

ص: 258

هَذَا وَبَيْنَ الثَّانِي أَنَّ الْمُحَرَّمَ قَائِمٌ وَفِي الثَّانِي، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْمُحَرَّمُ غَيْرُ قَائِمٍ حَالَ الضَّرَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام: 119] فَالنَّصُّ لَيْسَ بِمُحَرِّمٍ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ (وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِصِيَانَةِ عَقْلٍ، وَلَا صِيَانَةَ عِنْدَ فَوْتِ النَّفْسِ، وَكَذَا صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ لِقَوْلِهِ: عليه السلام «إنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ» الْحَدِيثَ) رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ

ــ

[التلويح]

بِحُكْمِ الْأَصْلِ وَبِمِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] بَلْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ يَكُونُ النَّصُّ دَالًّا عَلَى عَدَمِ حُرْمَتِهَا عِنْدَ الِاضْطِرَارِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام: 119] اسْتِثْنَاءٌ وَإِخْرَاجٌ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي حَرَّمَ أَيْ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ الْأَشْيَاءَ الَّتِي حَرَّمَ أَكْلَهَا إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرَّمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُفَرَّغًا عَلَى أَنَّ " مَا " فِي " مَا اُضْطُرِرْتُمْ " مَصْدَرِيَّةٌ وَضَمِيرُ إلَيْهِ عَائِدٌ إلَى مَا حَرَّمَ أَيْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالِ اضْطِرَارِكُمْ إلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا حَرَّمَ لِيَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ إخْرَاجًا عَنْ حُكْمِ التَّفْصِيلِ لَا عَنْ حُكْمِ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ الْأَحْكَامِ لَا الْإِخْبَارُ عَنْ عَدَمِ الْبَيَانِ.

لَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَيْضًا مُبَاحًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ إلْزَامِ الْغَضَبِ لَا مِنْ التَّحْرِيمِ فَغَايَتُهُ أَنْ يُفِيدَ نَفْيَ الْغَضَبِ عَلَى الْمُكْرَهِ لَا عَدَمَ الْحُرْمَةِ.

فَإِنْ قُلْت: ذِكْرُ الْمَغْفِرَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْإِثْمُ وَالْمُؤَاخَذَةُ.

قُلْت: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْمَغْفِرَةِ بِاعْتِبَارِ مَا يَقَعُ مِنْ تَنَاوُلِ الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ إبْقَاءُ الْمُهْجَةِ إذْ يُعْتَبَرُ عَلَى الْمُضْطَرِّ رِعَايَةُ قَدْرِ الْإِبَاحَةِ، وَأَمَّا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ فَلِأَنَّ حُرْمَتَهَا لِصِيَانَةِ الْعَقْلِ أَيْ الْقُوَّةِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ، وَلَا يَبْقَى ذَلِكَ عِنْدَ فَوَاتِ النَّفْسِ أَيْ الْبِنْيَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لِفَوَاتِ الْقُوَى الْقَائِمَةِ بِهَا عِنْدَ فَوَاتِهَا وَانْحِلَالِ تَرْكِيبِهَا، وَإِنْ كَانَتْ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ الَّتِي هِيَ الرُّوحُ بَاقِيَةً وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ تَغَذِّي خَبَثِ الْمَيْتَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ، فَإِذَا خَافَ بِالِامْتِنَاعِ فَوَاتَ النَّفْسِ لَمْ يَسْتَقِمْ صِيَانَةُ الْبَعْضِ بِفَوَاتِ الْكُلِّ إذْ فِي فَوَاتِ الْكُلِّ فَوَاتُ الْبَعْضِ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالنَّفْسِ أَوَّلًا الْبَدَنَ وَثَانِيًا الْمَجْمُوعَ الْمُرَكَّبَ مِنْ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ وَبِفَوَاتِهَا مُفَارَقَةُ الرُّوحِ وَانْحِلَالَ تَرْكِيبِ الْبَدَنِ.

(قَوْلُهُ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) الرَّاوِي هُوَ عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ الْوَالِبِيُّ قَالَ سَأَلْت عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا بَالُنَا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَلَا نَخَافُ شَيْئًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فَقَالَ أَشْكَلَ عَلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْك فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «إنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ

ص: 259

أَنَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَنَحْنُ آمِنُونَ فَقَالَ عليه السلام إنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» وَإِنَّمَا سَأَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّ الْقَصْرَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَوْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَكَذَا سُؤَالُ عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَالًّا عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ لَمَا سَأَلَ عُمَرُ رضي الله عنه وَلَكَانَ عَالِمًا بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَأَرْبَابِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ.

(وَالتَّصَدُّقُ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إسْقَاطٌ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَإِنْ كَانَ) أَيْ التَّصَدُّقُ (مِمَّنْ لَا يَلْزَمُ طَاعَتُهُ كَوَلِيِّ الْقِصَاصِ فَهَاهُنَا أَوْلَى) أَيْ فِي صُورَةٍ يَكُونُ التَّصَدُّقُ مِمَّنْ يَلْزَمُ طَاعَتُهُ، وَهُوَ اللَّهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ إسْقَاطًا لَا يَحْتَمِلُ

ــ

[التلويح]

اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» فَقَوْلُهُ: هَذِهِ إشَارَةٌ إلَى الصَّلَاةِ الْمَقْصُورَةِ، أَوْ إلَى قَصْرِ الصَّلَاةِ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ صَدَقَةً وَقَوْلُهُ: فَاقْبَلُوا مَعْنَاهُ اعْمَلُوا بِهَا وَاعْتَقِدُوهَا كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ قَبِلَ الشَّرَائِعَ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْوَاحِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ قُلْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِيمَ إقْصَارُ النَّاسِ الصَّلَاةَ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ؟ ، فَقَالَ عَجِبْت مِنْهُ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» ، ثُمَّ إنَّ سُؤَالَ عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَتَعَجُّبَهُ وَإِشْكَالَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا سَأَلَ لِكَوْنِ الْعَمَلِ وَاقِعًا عَلَى خِلَافِ مَا فَهِمَهُ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ السُّؤَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ اسْتِصْحَابَ وُجُوبِ الْإِتْمَامِ لَا عَلَى أَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ سِيَاقَ الْقِصَّةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مَفْهُومِ الشَّرْطِ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَرْضَ رَأْسًا بِرَأْسٍ حَتَّى جَعَلَ سُؤَالَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دَلِيلًا عَلَى أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ إذْ لَوْ كَانَ دَالًّا عَلَيْهِ لَفَهِمَهُ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلسُّؤَالِ بِنَاءً عَلَى وُقُوعِ الْعَمَلِ عَلَى خِلَافِ مَا فَهِمَهُ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ سِيَاقُ الْقِصَّةِ، وَكَذَا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْقَوْلَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا لَمْ تَظْهَرْ لَهُ فَائِدَةٌ أُخْرَى مِثْلُ الْخُرُوجِ مَخْرَجَ الْغَالِبِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الْخَوْفُ. وَكَذَا قَوْله تَعَالَى:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُكَاتِبُ الْعَبْدَ إذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا وَذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ لَازِمٌ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَإِلَّا لَكَانَ التَّقْيِيدُ بِالشَّرْطِ لَغْوًا، وَأَنَّ فِي آيَةِ الْكِتَابَةِ الْمُعَلَّقِ

ص: 260