الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشَّرْعِيَّةِ.
وَشَرَطْنَا حَقَّ السَّمَاعِ احْتِرَازًا عَنْ أَنْ يَحْضُرَ رَجُلٌ مَجْلِسًا، وَقَدْ مَضَى صَدْرٌ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْفَى عَلَى الْمُتَكَلِّمِ هُجُومُهُ لِيُعِيدَهُ، وَهُوَ يَزْدَرِي نَفْسَهُ فَلَا يَسْتَعِيدُهُ. (وَفَهْمَ الْمَعْنَى) بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى حَقِّ السَّمَاعِ فِي قَوْلِهِ: وَشَرَطْنَا حَقَّ السَّمَاعِ (هُنَا لَا فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي نَقْلِهِ نَظْمُهُ فَلِهَذَا يُبَالَغُ فِي حِفْظِهِ عَادَةً بِخِلَافِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُنْقَلُ بِالْمَعْنَى حَتَّى وَلَوْ بُولِغَ فِي حِفْظِهِ كَانَتْ كَافِيَةً؛ وَلِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . وَالْمُرَاقَبَةَ)
بِالنَّصْبِ عَطْفٌ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ (احْتِرَازًا عَمَّا لَا يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِلتَّبْلِيغِ فَيُقَصِّرُ فِي مُرَاقَبَةِ بَعْضِ مَا أُلْقِيَ إلَيْهِ، وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَهِيَ الِاسْتِقَامَةُ، وَهِيَ الِانْزِجَارُ عَنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ، وَأَقْصَاهَا أَنْ يَسْتَقِيمَ كَمَا أُمِرَ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا النَّبِيَّ عليه السلام فَاعْتُبِرَ مَا لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ، وَهُوَ رُجْحَانُ جِهَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ عَلَى دَاعِي الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ فَقِيلَ إنَّ مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ، وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الصَّغِيرَةِ فَكَذَا. أَمَّا مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ فَتَامُّ الْعَدَالَةِ فَشَهَادَةُ الْمَسْتُورِ، وَإِنْ كَانَتْ مَرْدُودَةً لَكِنَّ خَبَرَ الْمَجْهُولِ يُقْبَلُ عِنْدَنَا لِشَهَادَةِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام عَلَى ذَلِكَ الْقَرْنِ بِالْعَدَالَةِ. وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَإِنَّمَا شَرَطْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ
ــ
[التلويح]
الْوَزْنِ بِحَبَّةٍ، وَالِاجْتِمَاعِ مَعَ الْأَرْذَالِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ، فَلَا خَفَاءَ فِي شُمُولِهَا الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ فَيَخْرُجُ بِقَيْدِ الْعَدَالَةِ الْكَافِرُ كَمَا يَخْرُجُ الْمُبْتَدِعُ، وَالْفَاسِقُ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الضَّبْطُ) لَا يَخْفَى أَنَّ الضَّبْطَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْبَلُونَ أَخْبَارَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الِاتِّصَافُ بِذَلِكَ وَشَاعَ وَذَاعَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ إلَّا أَنَّ هَذَا يُفِيدُ الرُّجْحَانَ عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي سَائِرِ كُتُبِ الْأُصُولِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا فِي التَّرْجِيحِ
[فَصْلٌ فِي انْقِطَاعِ الْحَدِيثِ]
(قَوْلُهُ: فَصْلٌ فِي الِانْقِطَاعِ) وَهُوَ قِسْمَانِ ظَاهِرٌ كَالْإِرْسَالِ وَبَاطِنٌ وَذَلِكَ إمَّا؛ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْخَبَرِ بِكَوْنِهِ مُعَارِضًا لِلْكِتَابِ أَوْ لِلْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَوْ الْمَشْهُورِ أَوْ بِكَوْنِهِ شَاذًّا فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَإِمَّا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ النَّاقِلِ كَنُقْصَانٍ فِي الْعَقْلِ كَخَبَرِ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ أَوْ فِي الضَّبْطِ كَخَبَرِ الْمُغَفَّلِ أَوْ فِي الْعَدَالَةِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ، وَالْمَسْتُورِ أَوْ فِي الْإِسْلَامِ كَخَبَرِ الْمُبْتَدِعِ، وَإِمَّا لِأَمْرٍ غَيْرِ ذَلِكَ كَإِعْرَاضِ الصَّحَابَةِ عَنْهُ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ إنْ ذَكَرَ الرَّاوِي الَّذِي لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ جَمِيعَ الْوَسَائِطِ فَالْخَبَرُ مُسْنَدٌ، وَإِنْ تَرَكَ وَاسِطَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الرَّاوِيَيْنِ فَمُنْقَطِعٌ، وَإِنْ تَرَكَ وَاسِطَةً فَوْقَ الْوَاحِدِ فَمُعْضَلٌ بِفَتْحِ الضَّادِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْوَاسِطَةَ أَصْلًا فَمُرْسَلٌ.
(قَوْلُهُ: وَمُرْسَلُ الْقَرْنِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ خَمْسَةٍ أَنْ يُسْنِدَهُ غَيْرُهُ أَوْ أَنْ يُرْسِلَهُ آخَرُ، وَعُلِمَ أَنَّ شُيُوخَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ أَوْ أَنْ يَعْضُدَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ أَوْ أَنْ يَعْضُدَهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
الْكَذِبُ حَرَامًا فِي كُلِّ دِينٍ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ يَسْعَى فِي هَدْمِ دِينِ الْإِسْلَامِ تَعَصُّبًا فَيَرُدُّ قَوْلَهُ، فِي أُمُورِهِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، وَهُوَ نَوْعَانِ ظَاهِرٌ بِنُشُوئِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَثَابِتٌ بِالْبَيَانِ بِأَنْ يَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا هُوَ إلَّا أَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ حَرَجًا فَيَكْفِي الْإِجْمَالُ بِأَنْ يُصَدِّقَ بِكُلِّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ عليه السلام فَلِهَذَا قُلْنَا الْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَوْصَفُ فَيُقَالُ أَهُوَ كَذَا، وَكَذَا فَإِذَا قَالَ نَعَمْ يَكْمُلُ إيمَانُهُ)
أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّ الْإِجْمَالَ كَافٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ فِي الدِّينِ قُلْنَا إنَّ الْوَاجِبَ الِاسْتِيصَافُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِيصَافِ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ نَسْأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ، وَمَا صِفَتُهُ فَإِنَّ هَذَا بَحْرٌ عَمِيقٌ تَغْرَقُ فِيهِ الْعُقُولُ وَالْأَفْهَامُ، وَلَا يَكَادُ الْعُلَمَاءُ يَعْلَمُونَ صِفَاتِ اللَّهِ بَلْ الْمُرَادُ أَنْ نَذْكُرَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَنَسْأَلَهُ أَهُوَ كَذَلِكَ أَيْ: أَتَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيَكْمُلُ إيمَانُهُ.
(وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ يُقْبَلُ حَدِيثُهُ سَوَاءٌ كَانَ أَعْمَى أَوْ عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ تَائِبًا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ النَّاسِ فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى تَمْيِيزٍ زَائِدٍ يَنْعَدِمُ بِالْعَمَى، وَإِلَى وِلَايَةٍ كَامِلَةٍ تَنْعَدِمُ بِالرِّقِّ وَتَقْصُرُ بِالْأُنُوثَةِ) .
فَإِنَّ الشَّهَادَةَ وَالْقَضَاءَ وِلَايَةٌ لِلشَّاهِدِ وَالْقَاضِي عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ أَلَا يُرَى أَنَّ الشَّاهِدَ يُلْزِمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ شَيْئًا، (وَهَذَا) أَيْ: الْإِخْبَارُ بِالْحَدِيثِ (لَيْسَ مِنْ
ــ
[التلويح]
أَوْ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا بِرِوَايَتِهِ عَنْ عَدْلٍ فَإِنْ قِيلَ: اشْتِرَاطُ إسْنَادِ غَيْرِهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ حِينَئِذٍ بِالْمُسْنَدِ، وَالْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِدَلِيلٍ وَانْضِمَامُ غَيْرِ الْمَقْبُولِ إلَى غَيْرِ الْمَقْبُولِ لَا يُصَيِّرُهُ مَقْبُولًا قُلْنَا الْمُسْنَدُ قَدْ لَا يَثْبُتُ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ فَيُقْبَلُ الْمُرْسَلُ وَيُعْمَلُ بِهِ وَبِانْضِمَامِ أَمْرٍ إلَى أَمْرٍ قَدْ يَحْصُلُ الظَّنُّ أَوْ يَقْوَى فَيَجِبُ الْعَمَلُ، وَعِنْدَنَا يُقْبَلُ بَلْ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُسْنَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ قَبُولَ الرِّوَايَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِ الرَّاوِي مُتَّصِفًا بِالْعَقْلِ، وَالْعَدَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الرُّوَاةِ، وَعِنْدَ عَدَمِ ذِكْرِ الرَّاوِي لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَبُولِ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ثَالِثُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَوْقَ الْمُسْنَدِ الْأَوَّلُ إرْسَالُ الصَّحَابَةِ، وَقَبُولُهُ مَعَ وُجُودِ الْوَاسِطَةِ فِي الْبَعْضِ الثَّانِي أَوْ كَلَامُنَا فِي إرْسَالِ الْعَدْلِ الَّذِي لَوْ أَسْنَدَهُ لَا يُظَنُّ أَنَّهُ كَذَبَ عَلَى مَنْ رَوَى عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يُظَنَّ بِهِ الْكَذِبُ عَلَى مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكْذِبَ فَعَدَمُ ظَنِّ كَذِبِهِ عَلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَهُوَ مَعْصُومٌ أَوْلَى.
وَقَدْ عَرَفْت أَنْ لَيْسَ النِّزَاعُ فِي مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ وَمُرْسَلِ مَنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا بِرِوَايَتِهِ عَنْ عَدْلٍ. الثَّالِثُ أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ إذَا كَانَ وَاضِحًا لِلنَّاقِلِ جَزَمَ بِنَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ إسْنَادٍ.
بَابِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّ الْمُخْبِرَ لَا يُلْزِمُهُ) أَيْ: النَّاقِلَ لَا يُلْزِمُ الْمَنْقُولَ إلَيْهِ شَيْئًا (بَلْ يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ) أَيْ: يَلْزَمُ الْحُكْمُ عَلَى الْمَنْقُولِ إلَيْهِ بِالْتِزَامِهِ الشَّرَائِعَ (وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى الْغَيْرِ) أَيْ: يَلْزَمُ الْحُكْمُ النَّاقِلَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ.
(وَلَا تُشْتَرَطُ لِمِثْلِهِ الْوِلَايَةُ) أَيْ: لِمِثْلِ الْحُكْمِ الَّذِي يَلْزَمُ عَلَى الْغَيْرِ بِتَبَعِيَّةِ لُزُومِهِ أَوَّلًا عَلَى الشَّاهِدِ وَبِالْتِزَامِ الشَّاهِدِ عَلَيْهِ شَيْئًا كَمَا فِي الشَّهَادَةِ بِهِلَالِ رَمَضَانَ فَإِنَّ الصَّوْمَ يَلْزَمُ الشَّاهِدَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى الْغَيْرِ تَبَعًا فَلَا يَكُونُ وِلَايَةً عَلَى الْغَيْرِ أَيْ: ثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ بِالتَّبَعِيَّةِ عَلَى الْغَيْرِ إذْ لَيْسَ هُوَ إلْزَامًا عَلَى الْغَيْرِ قَصْدًا فَلِهَذَا يُقْبَلُ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ الشَّهَادَةُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ (وَرَدُّ الشَّهَادَةِ أَبَدًا مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ) هَذَا بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَبُولِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ، وَبَيْنَ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ مِنْهُ فَإِنَّ حَدِيثَهُ مَقْبُولٌ وَشَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فَإِنَّ عَدَمَ قَبُولِ شَهَادَتِهِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] .
فَبَعْدَ التَّوْبَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا لَكِنْ يُقْبَلُ حَدِيثُهُمْ بِنَاءً عَلَى عَدَالَتِهِمْ (وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَصْحَابِهِ عليه السلام قَبُولُ الْحَدِيثِ عَنْ الْأَعْمَى وَالْمَرْأَةِ كَعَائِشَةَ، وَهُوَ عليه السلام قَبِلَ خَبَرَ بَرِيرَةَ وَسَلْمَانَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.
ــ
[التلويح]
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا نَسَبَهُ إلَى الْغَيْرِ لِيُحَمِّلَ النَّاقِلُ ذَلِكَ الْغَيْرَ الشَّيْءَ الَّذِي حَمَلَهُ هُوَ أَيْ: النَّاقِلُ فَالْمُرْسَلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاضِحٌ لِلنَّاقِلِ بِخِلَافِ الْمُسْنَدِ، وَقَدْ يُمْنَعُ جَرْيُ الْعَادَةِ بِذَلِكَ بَلْ رُبَّمَا يُرْسِلُ؛ لِعَدَمِ إحَاطَتِهِ بِالرُّوَاةِ، وَكَيْفِيَّةِ الِاتِّصَالِ وَيُسْنِدُ إلَى الْعُدُولِ تَحْقِيقًا لِلْحَالِ، وَأَنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ فِي ذَلِكَ الْمَقَالِ.
(قَوْلُهُ: وَلَا بَأْسَ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْنِي أَنَّ جَهْلَ السَّامِعِ بِصِفَاتِ الرَّاوِي لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ النَّاقِلَ عَدْلٌ ضَابِطٌ، فَلَا يُتَّهَمُ بِالْغَفْلَةِ عَنْ حَالِ الرُّوَاةِ، وَلَا يَجْزِمُ بِنَقْلِ الْحَدِيثِ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عَدْلٍ، وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ أَمْرَ الْعَدَالَةِ عَلَى الظَّنِّ وَالِاجْتِهَادِ، فَرُبَّمَا يَظُنُّ غَيْرَ الْعَدْلِ عَدْلًا.
(قَوْلُهُ: أَلَا يُرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ أَخْبَرَنِي ثِقَةٌ يُقْبَلُ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَثِيرًا مَا يَقُولُ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ إلَّا أَنَّ مُرَادَهُ بِالثِّقَةِ إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَبِمَنْ لَا يَتَّهِمُ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ وَذَلِكَ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ.
(قَوْلُهُ: كَحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ) فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي خَبَرِ الْعَدْلِ، وَهَذَا مُسْتَنْكَرٌ مُتَّهَمٌ رُوَاتُهُ بِالْكَذِبِ، وَالْغَفْلَةِ، وَالنِّسْيَانِ لَا لِكَوْنِهِ فِي مُقَابَلَةِ عُمُومِ الْكِتَابِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ: أَحَفِظْت أَمْ نَسِيتَ وَصَدَقْت أَمْ كَذَبْت مَعْنًى، وَأَيْضًا لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ، وَلَا مُفِيدَةٌ لِلْقَطْعِ فَكَيْفَ يُرَدُّ الْحَدِيثُ لِمُعَارَضَتِهَا؟ وَكَيْفَ يُقْبَلُ مِنْ الرَّاوِي أَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُقْبَلُ أَنَّ ذَاكَ كَلَامُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِمَرْأًى مِنْهُ وَمَسْمَعٍ؟ (قَوْلُهُ: وَكَحَدِيثِ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ) هُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
(فَصْلٌ فِي الِانْقِطَاعِ) أَيْ: انْقِطَاعِ الْحَدِيثِ عَنْ الرَّسُولِ عليه السلام (وَهُوَ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ أَمَّا الظَّاهِرُ فَكَالْإِرْسَالِ) الْإِرْسَالُ عَدَمُ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ الْإِسْنَادَ وَالْإِسْنَادُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرْسَلُ مُنْقَطِعٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لِعَدَمِ الْإِسْنَادِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الِاتِّصَالُ لَا مِنْ حَيْثُ الْبَاطِنُ لِلدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَتْنِ الدَّالَّةِ عَلَى قَبُولِ الْمُرْسَلِ.
(وَمُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ مَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ وَيُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ، وَمُرْسَلُ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا أَنْ يَثْبُتَ اتِّصَالُهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ كَمَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ؛ لِأَنِّي وَجَدْتهَا مَسَانِيدَ، لِلْجَهْلِ بِصِفَاتِ الرَّاوِي الَّتِي تَصِحُّ بِهَا الرِّوَايَةُ)، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَيُقْبَلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ، وَهُوَ فَوْقَ الْمُسْنَدِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَرْسَلُوا، وَقَالَ الْبَرَاءُ مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُهُ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا حُدِّثْنَا عَنْهُ لَكِنَّا لَا نَكْذِبُ. وَلِأَنَّ كَلَامَنَا فِي إرْسَالِ مَنْ لَوْ أَسْنَدَ لَا يُظَنُّ بِهِ الْكَذِبُ فَلَأَنْ لَا يُظَنَّ الْكَذِبُ عَلَى الرَّسُولِ أَوْلَى، وَالْمُعْتَادُ أَنَّهُ إذَا وَضَحَ لَهُ الْأَمْرُ طَوَى الْإِسْنَادَ وَجَزَمَ، وَإِذَا لَمْ يَتَّضِحْ نَسَبُهُ إلَى الْغَيْرِ لِيُحَمِّلَهُ مَا حَمَلَهُ)
هَذَا جَوَابُ فِي دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ
ــ
[التلويح]
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الطَّالِبِ» ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] الْآيَةَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِشْهَادِ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ مَا هُوَ شَهَادَةٌ فَفَسَّرَهُ بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَتَفْسِيرُ الْمُجْمَلِ يَكُونُ بَيَانًا لِجَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ الثَّانِي أَنَّ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] نَصٌّ عَلَى أَنَّ أَدْنَى مَا يَنْتَفِي بِهِ الرِّيبَةُ هُوَ هَذَانِ النَّوْعَانِ، وَلَيْسَ بَعْدَ الْأَدْنَى شَيْءٌ الثَّالِثُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُمْنَعُ الْإِجْمَالُ، وَالْحَصْرُ فِيمَا ذُكِرَ بَلْ لِلشَّارِعِ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ الْأُمُورِ إلَى الِاجْتِهَادِ أَوْ إلَى الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى ذَلِكُمْ إشَارَةٌ إلَى أَنْ تَكْتُبُوهُ، وَأَدْنَاهُ مَعْنَاهُ أَقْرَبُ مِنْ انْتِفَاءِ الرِّيَبِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّفْسِيرِ (قَوْلُهُ: وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ) لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ ابْتَدَعَهُ مُعَاوِيَةُ فِي الدِّينِ بِنَاءً عَلَى خَطَئِهِ كَالْبَغْيِ فِي الْإِسْلَامِ، وَمُحَارَبَةِ الْإِمَامِ، وَقَتْلِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَمْرٌ مُبْتَدَعٌ لَمْ يَقَعْ الْعَمَلُ بِهِ إلَى زَمَنِ مُعَاوِيَةَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَكِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «قَضَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ» وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يَقْضُونَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي» ، وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِالشَّاهِدِ، وَالْيَمِينِ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ مُبْتَدَعَاتِ مُعَاوِيَةَ.
(قَوْلُهُ: وَكَحَدِيثِ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ قَالَ لِلْجَهْلِ بِصِفَاتِ الرَّاوِي (وَلَا بَأْسَ بِالْجَهَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرْسِلَ إذَا كَانَ ثِقَةً لَا يُتَّهَمُ بِالْغَفْلَةِ عَلَى حَالِ مَنْ سَكَتَ عَنْهُ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَخْبَرَنِي ثِقَةٌ يُقْبَلُ مَعَ الْجَهْلِ، وَلَا يَعْزِمُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ الثِّقَةِ. وَمُرْسَلُ مَنْ دُونَ هَؤُلَاءِ يُقْبَلُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِمَا ذَكَرْنَا وَيُرَدُّ عِنْدَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ زَمَانُ الْفِسْقِ وَالْكَذِبِ إلَّا أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَاتُ مُرْسَلَهُ كَمَا رَوَوْا مُسْنَدَهُ مِثْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَمْثَالِهِ. وَأَمَّا الِانْقِطَاعُ الْبَاطِنُ فَإِمَّا بِالْمُعَارَضَةِ أَوْ بِنُقْصَانٍ فِي النَّاقِلِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِمَّا بِمُعَارَضَةِ الْكِتَابِ كَحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَوْله تَعَالَى)
بِالنَّصْبِ أَيْ: كَمُعَارَضَةِ حَدِيثِ فَاطِمَةَ قَوْله تَعَالَى فَنُصِبَ قَوْله تَعَالَى لِكَوْنِهِ مَفْعُولَ الْمُعَارَضَةِ {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] أَمَّا فِي السُّكْنَى فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي النَّفَقَةِ فَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] يُحْمَلُ عِنْدَنَا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهِيَ: وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ وَكَحَدِيثِ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي) قَوْله تَعَالَى بِالنَّصْبِ أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهَكَذَا الْأَمْثِلَةُ الَّتِي تَأْتِي {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الْآيَةَ، وَعِنْدَ عَدَمِ الرَّجُلَيْنِ أَوْجَبَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ وَحَيْثُ نَقَلَ إلَى مَا لَيْسَ بِمَعْهُودٍ فِي مَجَالِسِ الْحُكْمِ دَلَّ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَعَ الْيَمِينِ) فَإِنَّ حُضُورَ النِّسَاءِ لَا يُعْهَدُ فِي مَجَالِسِ
ــ
[التلويح]
الْمُصَرَّاةِ) صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ لَا لِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ.
(قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا يُرَدُّ) أَيْ: خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مُقَدَّمٌ؛ لِكَوْنِهِ قَطْعِيًّا مُتَوَاتِرَ النَّظْمِ لَا شُبْهَةَ فِي مَتْنِهِ، وَلَا فِي سَنَدِهِ لَكِنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَظَوَاهِرِهِ فَمَنْ يَجْعَلُهَا ظَنِّيَّةً يَعْتَبِرُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ عَلَى شَرَائِطِهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ وَمَنْ يَجْعَلُ الْعَامَّ قَطْعِيًّا، فَلَا يَعْمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي مُعَارَضَتِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الظَّنِّيَّ يَضْمَحِلُّ بِالْقَطْعِيِّ، فَلَا يُنْسَخُ الْكِتَابُ بِهِ، وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: عليه السلام «يَكْثُرُ لَكُمْ الْأَحَادِيثُ مِنْ بَعْدِي فَإِذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ، وَمَا خَالَفَهُ فَرُدُّوهُ» وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ، وَقَدْ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ أَعْنِي: الْمُتَوَاتِرَ وَالْمَشْهُورَ، فَلَا يَكُونُ قَطْعِيًّا فَكَيْفَ يُثْبِتُ بِهِ مَسْأَلَةَ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّهُ يُخَالِفُ عُمُومَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] ، وَقَدْ طَعَنَ فِيهِ الْمُحَدِّثُونَ بِأَنَّ فِي رُوَاتِهِ يَزِيدَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَتَرَكَ فِي إسْنَادِهِ وَاسِطَةً بَيْنَ الْأَشْعَثِ وَثَوْبَانَ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ، وَإِيرَادُ الْبُخَارِيِّ إيَّاهُ فِي صَحِيحِهِ لَا يُنَافِي الِانْقِطَاعَ أَوْ كَوْنَ أَحَدِ رُوَاتِهِ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالرِّوَايَةِ فَإِنْ قِيلَ الْمَشْهُورُ أَيْضًا لَا يُفِيدُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ فِي مُعَارَضَةِ عُمُومِ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَطْعِيٌّ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُفِيدُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ.
الْحُكْمِ، وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ كَافِيَةً مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَقَامَ الْمَرْأَتَيْنِ لَمَا أَوْجَبَ حُضُورَهُمَا عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ مَمْنُوعَاتٌ مِنْ الْخُرُوجِ وَحُضُورِ مَجَالِسِ الرِّجَالِ وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ بِدْعَةٌ، وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ.
(وَكَحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ قَوْله تَعَالَى فَاعْتَدُوا، وَإِنَّمَا يُرَدُّ لِتَقَدُّمِ الْكِتَابِ حَتَّى يَكُونَ عَامُّ الْكِتَابِ وَظَاهِرُهُ أَوْلَى مِنْ خَاصِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَنَصِّهِ، وَلَا يُنْسَخُ ذَلِكَ بِهَذَا، وَلَا يُزَادُ بِهِ عَلَيْهِ. وَإِمَّا بِمُعَارَضَةِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ كَحَدِيثِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ قَوْلَهُ عليه السلام «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَكَحَدِيثِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ «فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الرُّطَبُ هُوَ التَّمْرُ يُعَارِضُ قَوْلَهُ عليه السلام التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» ، وَقَوْلَهُ «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُعَارِضُ قَوْلَهُ «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» )
تَحْقِيقُهُ: أَنَّ الرُّطَبَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ تَمْرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ تَمْرًا فَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ يَكُونُ مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ: عليه السلام «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» ، وَلَا يُقَالُ إنَّهُ تَمْرٌ لَكِنْ الرُّطَبُ وَالتَّمْرُ مُخْتَلِفَانِ فِي الصِّفَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا اعْتِبَارَ لِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم «جَيِّدُهَا وَرَدِيُّهَا سَوَاءٌ» وَلِدَفْعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ صَرِيحًا زِدْت قَوْلَهُ «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» (وَأَمَّا بِكَوْنِهِ شَاذًّا فِي الْبَلْوَى الْعَامِّ كَحَدِيثِ الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فَخَفَاؤُهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ مِمَّا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ) .
فَإِنْ قِيلَ جَعَلَ هَذَا النَّوْعَ مِنْ أَقْسَامِ الْمُعَارَضَةِ، وَلَا مُعَارَضَةَ فِيهِ قُلْتُ أَمْثَالُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّبْلِيغِ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام
ــ
[التلويح]
وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْيَقِينِ، وَالْعَامُّ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ بِحَيْثُ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الظَّنِّ، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ كَقَوْلِهِ: عليه السلام «لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ» ، وَقَوْلُهُ: عليه السلام «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ) حَصَرَ جِنْسَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَجِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ، فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الشَّاهِدِ، وَالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
(قَوْلُهُ: وَكَحَدِيثِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ) هُوَ مَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ: أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ قَالَ، فَلَا إذَنْ» إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُورِدَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَجَابَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَارَ عَلَى زَيْدِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ وَاسْتَحْسَنَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْهُ هَذَا الطَّعْنَ حَتَّى قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ كَيْفَ يُقَالُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ، وَهُوَ يَقُولُ زَيْدُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ؟ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِنَاءً عَلَى مُعَارَضَتِهِ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ، وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الرُّطَبُ تَمْرًا مُطْلَقًا؛ لِفَوَاتِ وَصْفِ الْيُبُوسَةِ، وَلَا نَوْعًا آخَرَ لِبَقَاءِ أَجْزَائِهِ عِنْدَ صَيْرُورَتِهِ تَمْرًا كَالْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ لَيْسَتْ حِنْطَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ لِفَوَاتِ
أَوْ عَلَى تَرْكِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - التَّبْلِيغَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ فَتَكُونُ مُعَارِضَةً لِدَلَائِلِ وُجُوبِ التَّبْلِيغِ أَوْ لِدَلَائِلَ تَدُلُّ عَلَى عَدَالَتِهِمْ أَوْ تَكُونُ مُعَارِضَةً لِلْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَاشْتَهَرَ، وَفِي الْمَتْنِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا (وَإِمَّا بِإِعْرَاضِ الصَّحَابَةِ عَنْهُ نَحْوَ «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ» فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ، وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَيْهِ. وَأَمَّا الثَّانِي) :
وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ الِانْقِطَاعُ بِنُقْصَانٍ فِي النَّاقِلِ فَصَارَ الِانْقِطَاعُ الْبَاطِنُ عَلَى قِسْمَيْنِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُعَارَضًا. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الِانْقِطَاعُ بِنُقْصَانٍ فِي النَّاقِلِ، وَالْأَوَّلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ أَوْ بِكَوْنِهِ شَاذًّا فِي الْبَلْوَى الْعَامِّ أَوْ بِإِعْرَاضِ الصَّحَابَةِ عَنْهُ فَإِنَّهُ مُعَارِضٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.
فَلَمَّا ذَكَرَ الْوُجُوهَ الْأَرْبَعَةَ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الِانْقِطَاعِ الْبَاطِنِ، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ، وَإِنْ كَانَا مُتَّصِلَيْنِ ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْإِسْنَادِ لَكِنَّهُمَا مُنْقَطِعَانِ بَاطِنًا وَحَقِيقَةً. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ: عليه السلام «يَكْثُرُ لَكُمْ الْأَحَادِيثُ مِنْ بَعْدِي فَإِذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَاقْبَلُوهُ، وَمَا خَالَفَ فَرُدُّوهُ» فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَدِيثِ الرَّسُولِ عليه السلام، وَإِنَّمَا هُوَ مُفْتَرًى، وَكَذَلِكَ كُلُّ حَدِيثٍ يُعَارِضُ
ــ
[التلويح]
وَصْفِ الْإِنْبَاتِ، وَلَا نَوْعًا آخَرَ لِوُجُودِ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ فِيهَا، وَكَذَا الْحِنْطَةُ مَعَ الدَّقِيقِ.
(قَوْلُهُ: لَا اعْتِبَارَ لِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: عليه السلام «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الِاخْتِلَافِ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الِاخْتِلَافِ بِالْوَصْفِ أَصْلًا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ بَعْضَ اخْتِلَافِ الْأَوْصَافِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مُوجِبًا لِتَبَدُّلِ الِاسْمِ، وَالْحَقِيقَةِ فِي الْعُرْفِ حَتَّى إنَّ الْإِتْيَانَ بِالتَّمْرِ لَا يُعَدُّ امْتِثَالًا لِطَلَبِ الرُّطَبِ كَالزَّبِيبِ وَالْعِنَبِ فَإِنْ قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِوَاءِ كَوْنُ الْوَصْفِ لَيْسَ مِنْ صُنْعِ الْعِبَادِ قُلْنَا مَمْنُوعٌ بَلْ الْعِلَّةُ عَدَمُ تَبَدُّلِ الِاسْمِ وَالْحَقِيقَةِ فِي الْعُرْفِ وَلَوْ سُلِّمَ، فَلَا عِبْرَةَ بِالْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ الْخَبَرِ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا بِكَوْنِهِ شَاذًّا) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَمَّا بِمُعَارَضَةِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَكَذَا قَوْلُهُ: وَإِمَّا بِإِعْرَاضِ الصَّحَابَةِ عَنْهُ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَقْسَامِ الِانْقِطَاعِ بِالْمُعَارَضَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْخَبَرَ الشَّاذَّ مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى يُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُوبِ تَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ وَتَأْدِيَةِ مَقَالَاتِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَوْ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّبْلِيغِ إنْ كَانَ تَرْكًا لِلْوَاجِبِ لَزِمَ عَدَمُ عَدَالَتِهِمْ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرْكًا لِلْوَاجِبِ لَزِمَ عَدَمُ وُجُوبِ التَّبْلِيغِ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قِسْمًا آخَرَ بَلْ مِنْ الِانْقِطَاعِ بِوَاسِطَةِ مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ أَوْ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ قُلْنَا جَعَلَهُ قِسْمًا آخَرَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِمَّا ذَكَرْتُمْ مَعَ احْتِمَالِ الْمُعَارَضَةِ لِلْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ هَذَا الْحَدِيثُ لَاشْتَهَرَ لِتَوَفُّرِ.
دَلِيلًا أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ عليه السلام؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَإِنَّمَا التَّنَاقُضُ مِنْ الْجَهْلِ الْمَحْضِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاتِّصَالُ بِوُجُودِ الشَّرَائِطِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الرَّاوِي فَحَيْثُ عُدِمَ بَعْضِهَا لَا يَثْبُتُ الِاتِّصَالُ (فَكَخَبَرِ الْمَسْتُورِ إلَّا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمَجْهُولِ وَخَبَرِ الْفَاسِقِ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ خَبَرِ الْمَسْتُورِ (وَالْمَعْتُوهِ) وَسَيَأْتِي مَعْنَاهُ فِي فَصْلِ الْعَوَارِضِ. (وَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْمُغَفَّلِ الشَّدِيدِ الْغَفْلَةِ لَا مَنْ غَالِبُ حَالِهِ التَّيَقُّظُ وَالْمُسَاهِلِ) أَيْ: الْمُجَازِفِ الَّذِي لَا يُبَالِي مِنْ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ وَالتَّزْوِيرِ وَصَاحِبِ الْهَوَى (فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ لِلشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ) أَيْ: لِاشْتِرَاطِ الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الرَّاوِي.
(فَصْلٌ فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ) أَيْ: الْحَادِثَةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْخَبَرُ (وَهُوَ إمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ إمَّا الْعِبَادَاتُ أَوْ الْعُقُوبَاتُ. وَالْأُولَى تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ الدِّيَانَاتِ كَالْإِخْبَارِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ فَكَذَا) أَيْ: يَثْبُتُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ بِالشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ أَيْ: إذَا أَخْبَرَ الْوَاحِدُ الْعَدْلُ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ يُقْبَلُ خَبَرُهُ ثُمَّ اسْتَدْرَكَ عَنْ قَوْلِهِ: فَكَذَا بِقَوْلِهِ: (لَكِنْ إنْ أَخْبَرَ بِهَا الْفَاسِقُ أَوْ الْمَسْتُورُ يُتَحَرَّى؛ لِأَنَّ هَذَا) إشَارَةٌ
ــ
[التلويح]
الدَّوَاعِي، وَعُمُومِ حَاجَةِ الْكُلِّ إلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً حَتَّى يُرَدَّ الْخَبَرُ بِمُعَارَضَتِهَا نَعَمْ الْأَصْلُ هُوَ الِاشْتِهَارُ لَكِنْ رُبَّ أَصْلٍ قَلَعَهُ الْحَدِيثُ، وَأَيْضًا لَيْسَ وُجُوبُ التَّبْلِيغِ أَنْ يُبَلِّغَ كُلُّ وَاحِدٍ كُلَّ حَدِيثٍ إلَى كُلِّ أَحَدٍ بَلْ عَدَمُ الْإِخْفَاءِ وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيلِ الْمَشْهُورِ حَتَّى إنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ احْتَجُّوا بِهِ عَلَى مِثْلِ مُعَاوِيَةَ وَرَدُّوهُ عَنْ تَرْكِ الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ اضْطَرَبَتْ رِوَايَاتُهُ فِيهِ بِسَبَبِ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَانَ يُبَالِغُ فِي الْجَهْرِ وَحَاوَلَ مُعَاوِيَةُ وَبَنُو أُمَيَّةَ مَحْوَ آثَارِهِ فَبَالَغُوا عَلَى التَّرْكِ فَخَافَ أَنَسٌ وَرُوِيَ الْجَهْرُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَرْكَ الْجَهْرِ نَفْيٌ، وَالْجَهْرُ إثْبَاتٌ فَرُبَّمَا لَا يَسْمَعُهُ الرَّاوِي لَا سِيَّمَا مِثْلُ أَنَسٍ، وَقَدْ كَانَ يَقِفُ خَلْفَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَبْعَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي سَمَاعَهُ الْفَاتِحَةَ عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَجْهَرُونَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّ أَنَسًا سُئِلَ عَنْ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ فَقَالَ: لَا أَدْرِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَالسَّبَبُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ انْقِطَاعُ الْخَبَرِ بِالْمُعَارَضَةِ بِسَبَبِ إعْرَاضِ الصَّحَابَةِ؛ فَلِأَنَّهُ يُعَارِضُ إجْمَاعَهُمْ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ، وَعَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ سَهْوٌ أَوْ مَنْسُوخٌ. لَا يُقَالُ لَا إجْمَاعَ مَعَ مُخَالَفَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَيْفَ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الطَّلَاقَ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الرِّجَالِ مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَائِشَةُ رضي الله عنهم وَرَاوِي الْحَدِيثِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَرْكِ الْحُكْمِ بَلْ عَدَمَ التَّمَسُّكِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ.