الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر وصية المنصور لابنه المهدى
قال: ولما سار المنصور من بغداد ليحج نزل قصر عبدويه «1» ، وأحضر المهدى وكان قد صحبه فوصّاه بالمال والسلطان، يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه بكرة وعشية، فلما كان فى اليوم الذى ارتحل فيه قال له:
إنى لم أدع شيئا إلا وقد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال وما أظنك تفعل منها واحدة- وكان له سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يفتحه غيره، فقال للمهدى: انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به، فإنّ فيه علم آبائك- ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة- فإن أهمّك أمر فانظر إلى الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد وإلا فى الثانى والثالث حتى بلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل! واقطن «2» هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين لكفاك لأرزاق الجند والنفقات ومصلحة الثغور والذريّة ومصلحة البعوث، فاحتفظ به، فإنك لا تزال عزيزا مادام بيت مالك عامرا، وما أظنك تفعل! وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر كرامتهم، وأن تحسن إليهم وتقدمهم، وتوطىء الناس أعقابهم وتوليهم المنابر، فإنّ عزّك فى عزّهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل! وانظر إلى مواليك وأحسن إليهم وقرّبهم واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك، وما أظنك تفعل.! وأوصيك بأهل خراسان فإنهم أنصارك، وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم فى دولتك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم فى أهله وولده، وما أظنك تفعل!
وإياك أن تبنى المدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها، وأظنك ستفعل! وإياك أن تستعين برجل من بنى سليم، وأظنك ستفعل! وإياك أن تدخل النساء فى أمرك، واظنك ستفعل! وقيل: إنه قال له إنى ولدت فى ذى الحجة، ووليت فى ذى الحجة، وقد هجس فى نفسى أن أموت فى ذى الحجة من هذه السنة، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدى، يجعل الله لك فيما كربك وحزبك «1» فرجا ومخرجا، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب.
يا بنى احفظ محمدا صلى الله عليه وسلم فى أمته يحفظ الله عليك أمورك. وإياك والدم الحرام فإنه خوب عند الله عظيم. وعار فى الدنيا لازم مقيم. والزم الحدود فإن فيها صلاحك فى العاجل. ولا تعتد فيها فتبور.
فإن الله تعالى لو علم شيئا أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به فى كتابه. واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه أمر فى كتابه بتضعيف العذاب والعقاب. على من سعى فى الأرض فسادا. مع ما ذخره له عنده من العذاب العظيم، فقال تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ
«2» الأية، فالسلطان- يا بنى- حبل الله المتين وعروته الوثقى ودينه القيم. فاحفظه وحصّنه وذبّ عنه. وأوقع بالملحدين فيه واقمع المارقين منه واقتل الخارجين عنه بالعقاب. ولا تجاوز ما أمر الله به فى محكم القرآن. فاحكم بالعدل ولا تشطط. فإن ذلك اقطع للشغب. وأحسم للعدو. وأنجع فى الدواء. وعفّ عن الفىء فليس بك
حاجة إليه مع ما أخلفه «1» لك، وافتتح بصلة الرحم وبرّ القرابة، وإياك «2» والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور واضبط الأطراف وأمّن السبل، وسكن العامّة وأدخل المرافق عليهم، وادفع المكاره عنهم، وأعدّ الأموال واخزنها، وإياك والتبذير فإن النوائب غير مأمونة- وهى من شيم الزمان، وأعدّ الكراع والرجال والجند ما استطعت، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد فتتدارك عليك الأمور وتضيع؛ خذ «3» فى إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا أولا وشمّر فيها، واعدد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون فى الليل، وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظن وأسىء بعمالك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من أقمته على بابك، وستهل إذنك للناس وانظر فى أمر النزاع إليك، ووكّل بهم عينا غير نائمة ونفسا غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم مذ ولى الخلافة، ولا دخل عليه الغمض إلا وقلبه مستيقظ هذه وصيتى إليك، والله خليفتى عليك، ثم ودّعه وبكيا.
ثم سار المنصور إلى الكوفة وجمع بين الحج والعمرة، وساق الهدى وأشعره «4» وقلّده لأيام خلت من ذى القعدة، فلما سار منازل من الكوفة عرض له وجعه الذى مات به- وهو القيام، ولما اشتد به جعل يقول للربيع: بادر بى حرم ربى هاربا من ذنوبى، وكان الربيع عديله، ووصّاه بما أراد، ولما وصل بئر ميمون مات بها فى التاريخ الذى قدّمناه، ولم يحضر عند موته أحد إلا خدمه والربيع مولاه، فكتم الربيع موته ومنع من البكاء عليه؛ ثم أصبح فحضر أهل بيته على عادتهم، فأذن الربيع لعمه عيسى
فمكث ساعة، ثم أذن لابنه موسى، ثم أذن للأكابر وذوى الأسنان منهم ثم لعامّتهم، فبايعهم الربيع للمهدى ولعيسى بن موسى من بعده، ثم بايع القواد وعامة الناس، وسار العباس بن محمد، ومحمد بن سليمان إلى مكة ليبايعا الناس، فبايعوا بين الركن والمقام.
وجهزوا المنصور ففرغوا منه العصر، وكفن وغطى وجهه وبدنه وجعل رأسه مكشوفا لأجل إحرامه، وصلّى عليه عيسى بن موسى، وقيل إبراهيم ابن يحيى بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس، ودفن فى مقبرة المعلاة، وحفر له مائة قبر ليغمّوه على الناس، ودفن فى غيرها، ونزل فى قبره عيسى ابن على، وعيسى بن محمد، والعباس بن محمد والربيع والريان مولياه ويقطين، وكان عمره ثلاثا وستين سنة، وقيل أربعا وستين سنة، وقيل ثمانيا وستين. وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا سبعة أيام. وكان أسمر نحيفا خفيف العارضين. أولاده: محمد المهدى وجعفر الأكبر أمهما أروى بنت منصور أخت يزيد بن منصور الحميرى، وكانت تكنى أم موسى، ومات جعفر قبل المنصور، ومنهم سليمان وعيسى ويعقوب أمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله، وجعفر الأصغر أمه أم ولد كرديّه، وصالح المسكين وأمه أم ولد روميّة، والقاسم مات قبل المنصور وله عشر سنين أمه أم ولد تعرف بأم القاسم، والعالية أمها امرأة من بنى أمية- هذا ما نقله ابن الأثير، قال غيره وعبد العزيز والعباس. وزراؤه: أبو عطية الباهلى ثم أبو أيوب الموريانى ثم الربيع مولاه، ووزر له: خالد بن برمك مدة يسيرة. قضاته: عبد الله بن محمد بن صفوان، وشريك بن عبد الله، والحسن بن عمار، والحجاج بن أرطاة؛ وقيل إن يحيى بن سعيد وأبا عثمان التميمى قضيا فى أيامه. حجابه: الربيع مولاه قبل أن يستوزره، ثم عيسى مولاه، ثم أبو الخصيب مولاه.
الأمراء بمصر: صالح بن على واستخلف أبا عون عبد الملك بن يزيد،