الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فبوت منك وقد كافأتها بيد
…
هى الحياتان من موت ومن عدم
تعفو بعدل وتسطو إن سطوت به
…
فلا عدمناك من عارف ومنتقم
فقال: اجلس يا عم آمنا مطمئنا. فلن ترى أبدا منّى ما تكرهه، إلا أن تحدث حدثا أو تتغير عن طاعة، وأرجو ألا يكون ذلك إن شاء الله تعالى. وروى الفضل بن مروان قال «1» : لمّا دخل إبراهيم بن المهدى على المأمون- لما ظفر به- كلّمه بكلام، كان سعيد بن العاص كلّم به معاوية بن أبى سفيان فى سخطة سخطها عليه واستعطفه به، وكان المأمون يحفظ الكلام فقال المأمون: هيهات يا إبراهيم، هذا كلام سبقك به فحل بنى أميّة وقارحهم سعيد بن العاص وخطب به معاوية بن أبى سفيان، فقال له إبراهيم: يا أمير المؤمنين- وأنت أيضا إن عفوت فقد سبقك فحل بنى حرب وقارحهم إلى العفو، فلا تكن حالى عندك فى ذلك أبعد من حال سعيد عند معاوية، فإنك أشرف منه وأنا اشرف من سعيد، وأنا أقرب إليك من سعيد إلى معاوية، وإنّ أعظم الهجنة تسبق أميّة هشاما إلى مكرمة فقال له:
صدقت يا عم قد عفوت عنك.
ذكر بناء المأمون ببوران ابنة الحسن بن سهل
فى هذه السنة بنى المأمون بها فى شهر رمضان، وكان المأمون قد سار من بغداد إلى فم الصّلح إلى معسكر الحسن، فنزله وزفت إليه بوران، فلما دخل إليها المأمون كان عندها حمدونة بنت الرشيد وأم جعفر زبيدة والدة الأمين وجدّتها- أم الفضل وام الحسن ابنى سهل، فلما دخل نثرت عليه جدّتها ألف لؤلؤة من أنفس ما يكون، فأمر المأمون بجمعه وأعطاه لبوران، وقال: سلى حاجتك فأمسكت، فقالت جدّتها: سلى سيدك فقد أمرك، سألته الرضا عن إبراهيم بن المهدى، فقال: قد فعلت، وسألته الإذن لأم
جعفر فى الحج فأذن لها، وألبستها أم جعفر البدنة «1» اللؤلؤ الأموية، وأوقد المأمون فى تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون منا، وأقام المأمون عند الحسن سبعة عشر يوما، يعدّ له كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه، وخلع الحسن على القوّاد على مراتبهم وحملهم ووصلهم، وكتب الحسن أسماء ضياعه ونثرها. وحكى عبد الملك بن عبد الله بن عبدون «2» الحضرمى الشبلى، فى كتابه المترجم بكمامة الزهر وصدفة الدرر، قال حكى إسحاق بن إبراهيم بن ميمون الموصلى قال «3» : قال لى المأمون يوما: هذا يوم سرور، ثم قال للغلمان: خذوا علينا الباب واحضروا بالشراب، فبقينا بقية يومنا فى أنس وشرب، فلما كان الليل قال لى: يا إسحاق إنى أريد الصّبوح، فكن بمكانك حتى أدخل إلى الحرم وأخرج إليك، فأستبطأت خروجه فقلت:
اشتغل وغلب عليه النبيذ ونسينى، وكانت عندى جارية بكر كنت اشتريتها فتطلعت لها نفسى، فنهضت فقال لى العبد: قد انصرف عبدك بدابتك، فمشيت فلما صرت ببعض الطريق أحسست بالبول، فعدلت عن الطريق وقضيت حاجتى، فلما أردت أن أستجمر عدلت إلى حائط، وإذا بزنبيل كبير معلّق، قد ألبس بالديباج وفيه أربعة أحبل من الابريسم، فقلت: إنّ له لأمرا، ثم تجاسرت وجلست فيه «4» فجذب، وإذا أربع جوار يقلن بالسعة «5» : أصديق أم جديد؟ فقلت جديد، فسارت احداهن بين يدى حتى أدخلتنى إلى مجلس لم أر مثله، فجلست فى أدنى مجالسه، وإذا بوصائف بأيديهن «6» الشمع والمجامر يتبخّر فيها العود، وبينهنّ جارية كالبدر
الطالع ذات دلّ وشكل، فنهضت لدخولها فقالت مرحبا بالضيف، [وسألتنى عن دخولى «1» ]، فقلت: عن غير ما قصد، قالت فما السبب؟
قلت انصرفت من عند بعض أصحابى فلما رأيت الزنبيل حملنى النبيذ على الدخول فيه، قالت: فما صناعتك؟ قلت: بزّاز، قالت:
ومولدك؟ قلت: بغداد، قالت: من أى الناس؟ قلت: من أوسطهم، قالت: حيّاك الله، هل رويت من الأشعار شيئا؟ قلت: شىء ضعيف، قالت: فذاكرنى، قلت: إن للداخل دهشة، ولكن ابدأينى فالشىء بالمذاكرة، قالت: هل تحفظ قصيدة فلان التى يقول فيها كذا وكذا، فأنشدتنى لجماعة من الشعراء القدماء والمحدثين، وأنا مستمع أنظر من أى أحوالها أعجب: من حسنها أو من حسن إنشادها أو من حسن أدبها أو ضبطها للغريب من النحو واللغة!! ثم قالت: قد ذهب عنك بعض الحصر، قلت: إن شاء الله لقد كان ذلك، قالت: فأنشدنى، فأنشدتها فجعلت تسألنى عن أشياء تمرّ فى الشعر كالمختبرة، ثم قالت: والله ما قصّرت ولا توهمت أن فيك هذا!! ولا رأيت فى أبناء التجار مثلك! فكيف معرفتك بالأخبار وأيام الناس؟! قلت: نظرت فى شىء من ذلك، فأمرت بإحضار الطعام فأكلنا، ثم أحضرت نبيذا فشربت قدحا، وقالت: هذا أوان المذاكرة، فاندفعت وقلت: بلغنى كذا وكذا، وكان رجل من قصّته كذا وكذا، فسرّت بذلك، وقالت: ليس هذا من أمر التجار، وإنما هى من أحاديث الملوك، قلت: إنه كان لى جار ينادم بعض الملوك فكنت أدعوه فى بعض الأوقات إلى منزلى، فما تسمعين منّى فمن عنده أخذته، قالت: يمكن هذا!! ثم قالت: لو كان عندك شىء واحد لكنت كاملا! فحرك بعض الملاهى أو ترنّم، قلت: لا أحسن من هذا شيئا على أنى مولع بسماعه، فقالت: يا جارية- عودى، فضربت فأحسنت وغنّت غناء
بديعا، ثم قالت: هذا الغناء لإسحاق، فلم تزل على ذلك حتى إذا كان عند الفجر قالت: المجالس بالأمانات، ثم أخذت وأخرجت إلى باب صغير، فانتهيت إلى دارى فأرسل المأمون إلىّ فمشيت إليه، وبقيت عنده إلى وقت البارحة ودخل إلى حرمه، فخرجت إلى ذلك الموضع ودخلت الزنبيل، فقالت: ضيفنا!! قلت: منوا بالصفح، قالت: فعلنا ولا تعد، فلما كان عند الصباح فعلت فعلة البارحة، وخرجت فأتيت المأمون، فقال: أين كنت!! فاعتذرت إليه، فلما كان الليل صنع صنعه وصنعت كذلك، فلما دخلت فى الزنبيل قالت: ضيفنا!! قلت: اى ها الله!!، قالت:
أجعلتها دار مقام!! قلت: الضيافة ثلاث فإن رجعت فأنت من دمى فى حلّ، فلما كان عند الوقت أفكرت فى المأمون، وعلمت أنّه لا يخلصنى منه إلا أن أخبره، وعلمت من شغفه بالنساء أنه يطالبنى بالمشى إليها، فقلت:
جعلت فداك- أتأذنين فى ذكر شىء حضر؟ قالت: قل، قلت: أراك ممّن يحب الغناء ويشغف بالأدب، ولى ابن عم هو من أهل الشعر «1» والأدب والغناء، هو أعرف خلق الله بغناء إسحاق، الذى سمعتك تثنين عليه، فقالت: طفيلى ويقترح، قلت: إنما ذكرت ذلك لك وأنت المحكّمة، قالت: فإذا كان كما ذكرت فما نكره أن نعرفه، قلت: فالليلة، قالت:
نعم، ثم انصرفت على عادتى فلما وصلت دارى أتانى رسول المأمون، فمشيت إليه وهو حنق علىّ، فقال: يا إسحاق آمرك بشىء فلا تقف عنده، وكان لا يدخل إلى حرمه حتى يأمرنى بانتظاره، فأتذكّر مجالسة الجارية فأنسى عقوبته، فقلت: لى قصّة أحتاج فيها إلى خلوة، فأومأ بيده إلى من كان واقفا فتنحّوا، فذكرت له القصة فلما فرغت من كلامى قال: كيف لى بمشاهدة ذلك الموضع؟ قلت: قد علمت أنك تطالبنى بهذا، وقد قلت لها لى ابن عم من صنعته ومن حديثه، ثم جلسنا على عادتنا فى الأيام الخوالى-
وهو يسألنى عن حديثها، فلما جاء الليل صرنا «1» إلى ذلك الموضع، فألفينا فيه زنبيلين فدخل فى واحد ودخلت فى الآخر، فلما صرنا فى البيت جلست فى صدره، وجلس المأمون دونى، فلما أتت قالت: حيّا الله ضيفينا بالسلام، ثم رفعت مجلسه وقالت: هذا ضيف وأنت من أهل البيت، ولكل جديد لذّة، فجلس المأمون فى صدر البيت وأقبلت عليه تحدثه، وهو يأخذ معها فى كل فن فيسكتها، فالتفتت إلىّ وقالت: وفّيت بوعدك، ثم أحضرت النبيذ وجعلنا نشرب وهى مقبلة عليه، ثم قالت: وابن عمك هذا من أولاد التجار؟! إنّ حديثكما وأدبكما لمن أدب «2» الملوك، وليس للتجار هذه المنزلة فى الأحاديث والآداب، ثم قالت لى: موعدك؟ قلت: إنه ليجيب «3» ولكن حتى يسمع شيئا، فأخذت العود وغنّت فشربنا عليه رطلا ثم ثانيا وثالثا، فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال ارتاح وطرب، وكان الصوت الثالث ما يقترحه «4» علىّ أبدا، فلما سمعه نظر إلىّ نظر الأسد إلى فريسته، وقال لى: يا إسحاق غنّ لى هذا الصوت، فلما رأتنى وقفت بين يديه علمت أنّه المأمون وأنّنى إسحاق، فنهضت «5» فقال لها: ها هنا وأومأ إلى كلّة مضروبة فدخلتها، فلما فرغت من ذلك الصوت قال: يا إسحاق: انظر من صاحب هذه الدار؟ فسألت عجوز فقالت الحسن بن سهل وهذه ابنته بوران، فرجعت فأعلمته فقال: علىّ به الساعة فأحضرته فوقف بين يديه فقال: لك بنت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: زوجنيها، قال هى أمتك وأمرها إليك، قال: فإنى أتزوّجها على ثلاثين ألفا نحملها إليك صبيحة غد، فإذا وصل إليك المال فاحملها إلينا، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ثم