الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تظلموا من على بن عيسى بن ماهان، وشكوا سوء سيرته فيهم، وقيل للرشيد إنه قد أجمع على الخلاف، فسار إلى الرى فى جمادى الأولى ومعه ابناه المأمون والقاسم المؤتمن، وأحضر القضاة والشهود وأشهدهم أن جميع ما فى عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون، وليس له فيه شىء، وأقام الرشيد بالرى أربعة أشهر، حتى أتاه على بن عيسى من خراسان فأهدى إليه الهدايا الكثيرة والأموال العظيمة، وأهدى لجميع من معه من أهل بيته وولده وكتّابه وقواده من الطرف والجواهر وغير ذلك، فرأى الرشيد خلاف ما كان يظن فردّه إلى خراسان، ورجع الرشيد إلى العراق فى آخر هذه السنة.
وفيها كان الفداء بين الروم والمسلمين، فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودى به. وحج بالناس فى هذه السنة العباس بن موسى بن محمد بن على «1» ابن عبد الله.
ودخلت سنة تسعين ومائة
.
ذكر فتح هرقلة
فى هذه السنة فتح الرشيد هرقلة وخرّبها، وكان سبب مسيره إليها ما قدمناه فى سنة سبع وثمانين من غدر نقفور، فكان فتحها فى شوال وحصرها ثلاثين يوما. قال: ودخل البلاد فى مائة ألف وخمس وثلاثين ألفا من المرتزقة، سوى الأتباع والمتطوعة ومن لا ديوان لهم، ووجّه داود بن عيسى ابن موسى فى سبعين ألفا، فسار فى أرض الروم يخرب وينهب، وفتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن وديسه «2» ، وافتتح يزيد بن محلد
الصفصاف وملوقية «1» ، واستعمل حميد بن معيوف على ساحل الشام ومصر، فبلغ قبرس فهدم وأحرق وسبى من أهلها سبعة عشر ألفا، فلما قدم بهم الرافقة «2» بيعوا بها، وبلغ فداء أسقف قبرس ألفى دينار، ثم سار الرشيد إلى طوانة فنزل بها، ثم رحل عنها وخلف عليها عقبة بن جعفر، وبعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ولده دينارين وعن بطارقته كذلك؛ وكتب نقفور إلى الرشيد فى جارية من سبى هرقلة، كان خطبها لولده فبعثها إليه.
وقد ذكر أبو الفرج الأصفهانى عند ذكره ترجمة أشجع بن عمرو السّلمى، وما امتدح به الرشيد لما فتح هرقلة، وسياقه أتم من هذا السياق وأكثر تبيانا، فأحببنا أن نشرحه ها هنا ليكون خبرها على توال واتساق «3» ، فقال: أخبرنى على بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال: كان من خبر غزاة الرشيد هرقلة أن الروم كانت ملكت امرأة، لأنّه لم يكن فى زمانها من أهل المملكة غيرها، وكانت تكتب إلى المهدى والهادى والرشيد- فى أول خلافته- بالتعظيم والتبجيل، وتدرّ عليه الهدايا حتى بلغ ابنها.
فحاز الملك دونها وعاث وأفسد وفاسد الرشيد، فخافت على ملك الروم أن يذهب وعلى بلادهم أن تعطب، لعلمها بالرشيد وخوفها من سطوته، فاحتالت على ابنها فسملت عينيه. فبطل من الملك وعاد الملك إليها، فاستكبر ذلك أهل المملكة وأبغضوها من أجله، فخرج عليها نقفور وكان كاتبها، فأعانوه وعضدوه وقام بأمر المملكة وضبط أمر الروم، فلما قوى أمره وتمكّن من ملكه كتب إلى الرشيد: من نقفور ملك الروم إلى الرشيد ملك
العرب، أما بعد، فإن هذه المرأة كانت وضعتك وأباك وأخاك موضع الملوك، ووضعت نفسها موضع السوقة، وإنى واضعك بغير ذلك الموضع، وعامل على تطرّق بلادك والهجوم على أمصارك، أو تؤدّى إلىّ ما كانت المرأة تؤديه إليك والسلام.
فلما ورد الكتاب على الرشيد كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هارون- أمير المؤمنين- إلى نقفور- كلب الروم- أما بعد فقد فهمت كتابك، وجوابك عندى ما تراه عيانا لا ما تسمعه. ثم شخص من شهره ذلك يؤم بلاد الروم، فى جمع لم يسمع بمثله، فلما بلغ نقفور ذلك ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وشاور فى أمره، وجدّ الرشيد فجعل يوغل فى بلاد الروم، فيقتل ويسبى ويغنم ويعفى الآثار ويخرّب الحصون، حتى صار إلى طرق متضايقة دون قسطنطينيّة، فلما بلغها وجدها وقد أمر نقفور بالشجر فقطع ورمى به فى تلك الطرق وأشعلت فيه النيران، فكان الرشيد أول من لبس ثياب النفاطين فخاضها، ثم اتبعه الناس فبعث إليه نقفور بالهدايا، وخضع له أشد الخضوع وأدّى له الجزية، عن رأسه فضلا عن أصحابه، فرجع هارون- لما أطاعه ما أعطاه- إلى الرقة.
فلما رجع وأمن نقفور أن يغزى اغتر بالمهلة، ونقض ما كان بينه وبين الرشيد ورجع إلى حالته الأولى، فلم يجترئ يحيى بن خالد «1» فضلا عن غيره على إخبار الرشيد بغدر نقفور، وبذل هو وبنوه أموالا للشعراء على أن يقولوا أشعارا فى إعلام الرشيد بذلك، فكلهم أشفق إلا شاعر من أهل جدّة يكنى أبا محمد، وكان مجيدا قوىّ الشعر، فإنه أخذ من يحيى وبنيه مائة ألف درهم، ودخل إلى الرشيد فأنشده:
نقض الذى أعطيته نقفور
…
فعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنّه
…
فتح «1» أتاك به الإله كبير
فتح يزيد على الفتوح يؤمنّا
…
بالنصر فيه لواؤك المنصور «2»
فلقد تباشرت الرعيّة أن أتى
…
بالنقض منه «3» وافد وبشير
درجت يمينك أن تعجّل غزوة
…
تشفى النفوس نكالها «4» مذكور
أعطاك جزيته وطأطأ خدّه
…
حذر الصوارم والردى محذور
فأجرته من وقعها وكأنّها
…
بأكفنا «5» شعل الظلام «6» تطير
وصرفت من طول «7» العساكر قافلا
…
عنه وجارك آمن مسرور
نقفور إنّك حين تغدر إن نأى
…
عنك الإمام لجاهل مغرور «8»
ألقاك حينك فى زواخر بحره
…
فطمت عليك من الإمام بحور
إنّ الإمام على اقتسارك قادر
…
قربت ديارك أم نأت بك دور
ليس الإمام وإن غفلنا غافلا
…
عما يسوس بحزمه ويدير
ملك تجرّد للجهاد بنفسه
…
فعدوّه أبدا به مقهور
يا من يريد رضى الإله بسعيه
…
والله لا يخفى عليه ضمير
لا نصح ينفع من يغشّ إمامه
…
والنصح من نصحائه مشكور
نصح الإمام على الأنام فريضة
…
ولأهله «1» كفارة وظهور
قال: فلما أنشده قال الرشيد: أو قد فعل!! وعلم أن الوزراء قد احتالوا فى ذلك، قال: فسار الرشيد قاصدا إليه، وجعل قبل وصوله إلى هرقلة يفتتح الحصون والمدن ويحرقها، حتى أناخ على هرقلة وهى أوثق حصن وأعزه جانبا وأمنعه ركنا، فتحصّن أهلها، وكان بابها على واد ولها خندق يطيف بها؛ قال: فحدثنى شيخ من مشايخ المطوّعة وملازمى الثغور، يقال له على بن عبد الله قال حدّثنى جماعة من أهل الثغر:
أنّ الرشيد لما حصر أهل هرقلة وألحّ عليهم بالمجانيق والسهام والعرّادات فتح الباب ذات يوم، فاستشرف المسلمون لذلك، فإذا رجل من أهلها كأكمل الرجال، قد خرج فى أكمل السلاح فنادى: قد طال مواقفتكم إيانا فليبرز إلىّ منكم رجلان، ثم لم يزل يزيد حتى بلغ عشرين، فلم يجبه أحد، فدخل وأغلق الباب، وكان الرشيد نائما فلم يعلم بخبره إلا بعد انصرافه، فغضب ولام خدمه وغلمانه على تركهم إنباهه، وتأسّف لفوته، فقيل له إن الامتناع منه سيغريه «2» ويطغيه، وأحرى به أن يخرج فى غد فيطلب مثل ما طلب، فطالت على الرشيد ليلته وأصبح كالمنتظر له، فإذا بالباب قد فتح وخرج الرجل طالبا للبراز، وذلك فى يوم شديد الحر، فجعل يدعو أنه يثبت لعشرين منهم، فقال الرشيد: من له؟ فابتدره جلّة القواد كهرثمة ويزيد بن مزيد وعبد الله بن مالك وخزيمة بن خازم وأخيه عبد الله وداود بن يزيد وأخيه، فعزم على إخراج بعضهم، فضّج المطوعة حتى سمع ضجيجهم، فأذن لعشرين منهم فقال قائلهم: يا أمير المؤمنين، قوّادك
مشهورون بالنجدة والبأس وعلوّ الصوت ومدارسة الحرب، ومتى خرج واحد منهم فقتل هذا العلج لم يكبر ذاك، وإن قتله العلج كان وصمة على العسكر قبيحة وثلمة لا تسدّ، ونحن عامّة لم يرتفع لأحد منّا صوت إلا كما يصلح للعامّة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يخلينا نختار رجلا فنخرجه إليه، فإن ظفر علم أهل الحصن أن أمير المؤمنين ظفر بأعرفهم «1» ، على يد رجل من العامة «2» من أفناء الناس، وإن قتل الرجل فإنما استشهد، ولم يؤثر ذهابه فى العسكر ولم يثلمه رجل، وخرج إليه بعده مثله حتى يقضى الله ما شاء، فقال الرشيد: قد استصوبت رأيكم هذا، فاختاروا رجلا يعرف بابن الجزرى «3» ، وكان معروفا فى الثغر بالبأس والنجدة، فقال له الرشيد:
أتخرج؟ قال نعم وأستعين بالله تعالى، فقال «4» : أعطوه فرسا ورمحا وسيفا وترسا، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا بفرسى أوثق، ورمحى بيدى أشد، ولكنى قد قبلت السيف والترس، فلبس سلاحه واستدناه الرشيد فودّعه وأتبعه الدعاء، وخرج معه عشرون من المطوّعة، فلما انقضّ فى الوادى قال لهم العلج- وهو يعدّهم واحدا واحد- إنما كان الشرط عشرين، وقد زدتم رجلا ولكن لا بأس، فنادوه ليس يخرج إليك إلا رجل واحد، فلما فصل منهم ابن الجزرى تأمّله الرومى، وقد أشرف أكثر الناس من الحصن يتأملون صاحبهم والقرن «5» ، فقال له الرومى: أتصدقنى عما استخبرك؟ قال:
نعم، قال: أنت بالله ابن الجزرى؟ قال: اللهم نعم، فكفر له ثم أخذا فى شأنهما، فتطاعنا حتى طال الأمر بينهما وكاد الفرسان يقومان، وليس
يخدش واحد منهما صاحبه، ثم تحاجزا «1» بشىء فزجّ كل واحد منهما رمحه، وانتضى سيفه فتجالدا مليّا، واشتد عليهما الحرّ وتبلّد الفرسان، وجعل ابن الجزرى يضرب الضربة التى يرى أنّه قد بلغ بها، فيتّقيها الرومى وكان ترسه من حديد، ويضربه الرومى ضربة معذر، فلما يئس كل واحد منهما من الوصول إلى صاحبه انهزم ابن الجزرى، فدخلت المسلمين «2» كآبة لم يكتئبوا مثلها قط، وعطعط المشركون اختيالا وتطاولا، وإنما كانت هزيمته حيلة منه فاتبعه العلج، وتمكّن ابن الجزرى منه فرماه بوهق فوقع فى عنقه فما أخطأه، وركض فاستلبه عن فرسه ثم عطف عليه، فما وصل إلى الأرض حتى فارقه رأسه، فكبر المسلمون أعلى تكبير، وانخزل المشركون وبادروا الباب يغلقونه، واتصل الخبر بالرشيد فصاح بالقواد: اجعلوا النار فى المجانيق، ففعلوا وجعلوا الكتان والنفط على الحجارة، وأضرموا نارا ورموا بها السور، فكانت النار تلصق به وتأخذه الحجارة، وقد تصدّع فتهافت، فلما أحاطت بهم النيران فتحوا الباب مستأمنين، فقال الشاعر المكى الذى ينزل جدّة «3» :
هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا
…
حوائما «4» ترتمى بالنفط والنار
كأنّ نيراننا فى جيب «5» قلعتهم
…
مصبغات «6» على أرسان قصّار
قال محمد بن يزيد: وأعظم الرشيد الجائزة للجدّى الشاعر، وصبّ الأموال على ابن الجزرى وقوّد، فلم يقبل التقويد وسأل أن يعفى، ويترك