الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إليه فانتهر التجار وشتمهم، فتزايد طمع الجند فعدوا على صيرفى فنازعوه كيسه، فاستعان بالناس فخلصوه منه «1» ، وشكا أهل المدينة إلى ابن الربيع فلم ينكره، ثم جاء رجل من الجند إلى جزار، فاشترى منه لحما فى يوم جمعة فلم يعطه الثمن، وشهر عليه السيف فضربه الجزار بشفرة فى خاصرته فقتله، واجتمع الجزارون وتنادى السودان فقاتلوهم، ونفخوا فى بوق لهم فسمع السودان من العالية والسافلة فاجتمعوا، وكان رؤساؤهم ثلاثة، وهم: وثيق ويعقل وزمعة، فقتلوا فى الجند حتى أمسوا، وقصدوا ابن الربيع فهرب منهم، وأتى بطن نخل على ليلتين من المدينة فنزل به، وانتهب السودان طعاما للمنصور وزيتا وغيره، فباعوا الحمل الدقيق بدرهمين، والراوية الزيت بأربعة دراهم، ولم يصل الناس فى ذلك اليوم جمعة، فذهب محمد بن عمران ومحمد بن عبد العزيز وغيرهما إلى العبيد فكلموهم، فقالوا: مرحبا بموالينا، والله ما قمنا إلا أنفة بما عمل بكم، فأمرنا إليكم، فأقبلوا بهم إلى المسجد فخطبهم ابن أبى سبرة، وحثهم على الطاعة فتراجعوا، ثم قال لهم- من الغد إنكم كان منكم ما كان بالأمس «2» - نهبتهم طعام أمير المؤمنين، فلا يبقيّن عند أحد منه شىء إلا ردّه فردّوه، ورجع ابن الربيع إلى المدينة فقطع يد وثيق ويعقل وغيرهما.
ذكر بناء مدينة بغداد وانتقال أبى جعفر المنصور إليها
وفى هذه السنة ابتدأ المنصور فى بناء مدينة بغداد، وسبب ذلك أنه كان قد ابنتى المدينة الهاشمية بنواحى الكوفة، فلما ثارت الراوندية فيها كره سكناها لذلك، ولجوار أهل الكوفة فإنه كان لا يأمنهم على نفسه، فخرج يرتاد موضعا لبنائها، وكان بعض جنده قد تخلف عنه بالمدائن لرمد أصابه،
فسأله الطبيب الذى يعالجه عن سبب حركة المنصور فأخبره، فقال الطبيب: إنّا نجد فى كتاب عندنا أن رجلا يدعى مقلاصا يبنى مدينة، بين دجلة والصراة تدعى الزوراء، فإذا أسسها وبنى بعضها أتاه فتق من الحجاز، فقطع بناءها وأصلح ذلك الفتق، ثم أتاه فتق من البصرة أعظم منه، فلم يلبث الفتقان أن يلتئما، ثم يعود إلى بنائها فيتمه، ثم يعمر زمنا طويلا ويبقى الملك فى عقبه، فقدم ذلك الجندى على المنصور وأخبره الخبر، فقال: أنا والله كنت أدعى مقلاصا ثم زال عنّى، وسار حتى نزل الدير- هو جوار قصره المعروف بالخلد، ودعا صاحب الدير والبطريق وغيرهما، فاتفق رأيهم على عمارتها فى موضعها «1» ، وابتدأ بعمارتها فى سنة خمس وأربعين ومائة، وكتب إلى سائر البلاد فى إنفاذ الصناع والفعلة، وأمر أن يختار له من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة، فكان ممن أحضر لذلك الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة، وأمر فخطت المدينة بالرماد، فشقها ورآها، ثم أمر أن يجعل على الرماد حب القطن ويشعل بالنار، ونظر إليها وهى تشتعل ففهمها، وأمر بحفر أساسها على ذلك الرسم، ووكل بها أربعة من القواد، كل قائد على ربع، ووكل أبا حنيفة بعدّ «2» الآجر واللبن، وكان قبل ذلك أراده المنصور على ولاية القضاء والمظالم فلم يجب، فحلف المنصور أنه لا بد أن يعمل له، فأجابه أن ينظر فى عمارة بغداد، ويعدّ الآجر واللبن بالقصب- وهو أول من فعل ذلك، وجعل المنصور عرض أساس السور من أسفله خمسين ذراعا ومن أعلاه عشرين ذراعا، وجعل فى البناء القصب والخشب، ووضع بيده أول لبنة وقال: بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، ثم قال: ابنوا على بركة الله، فلما بلغ السور قدر قامة جاء الخبر
بظهور محمد بن عبد الله فقطع البناء وأقام بالكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه إبراهيم، ثم عاد إلى بغداد فأتم بناءها، وكان المنصور قد أعد جميع ما تحتاج إليه المدينة، من آلات البناء والخشب والساج وغيره، واستخلف حين شخص إلى الكوفة على إصلاح ما أعدّ سلّم «1» مولاه، فبلغه أن إبراهيم قد هزم عسكر المنصور فأحرق جميع ذلك.
قال: ولما انقضى أمر إبراهيم عاد المنصور إلى بغداد فى صفر سنة ست وأربعين ومائة، واستشار خالد بن برمك فى نقض المدائن وإيوان كسرى، ونقل النقاضة إلى بغداد، فقال: لا أرى ذلك لأنه علم من أعلام الإسلام، فقال له: أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم!! وأمر بنقض القصر الأبيض فنقضت ناحية منه، فلم يوف ما تحصل من النقاضة بما غرم عليه من الكلفة، فاستشار خالد بن برمك فقال: كنت لا أرى ذلك قبل، أما إذ فعلت فأرى أن يهدم لئلا يقال عجزت عن هدم ما بناه غيرك، فأعرض عنه وترك هدمه، ونقل أبواب مدينة واسط فجعلها على بغداد، وبابا جىء به من الشام، وبابا من الكوفة كان عمله خالد القسرى، وجعل المدينة مدورة لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض، وجعل لها سورين، فالسور الداخل أعلى من الخارج، وبنى قصره فى وسطها، والمسجد الجامع بجانب القصر، وكان اللبن الذى يبنى به ذراع فى ذراع، ووزن بعض اللبن لما نقص فكان مائة رطل وسبعة عشر رطلا، وكانت الأسواق فى المدينة فجاء رسول لملك الروم، فأمر أن يطاف به المدينة، ثم قال له: كيف رأيت؟ فقال: رأيت بناء حسنا إلا أنّ أعداءك معك، وهم السوقة، فأمر المنصور بإخراجهم إلى الكرخ.
قال ابن الأثير: وكان مقدار النفقة على بنائها وبناء المسجد والقصر والأسواق والفصلان والخنادق والأبواب أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة