الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على شىء، فدخلها طاهر بالسيف، وأمر مناديه فنادى: من لزم بيته فهو آمن، وقصد مدينة المنصور وأحاط بها، وبقصر زبيدة وقصر الخلد- من باب الجسر الى باب خراسان وباب الشام وباب الكوفة وباب الفرات، وشاطئ الفرات إلى مصبّها فى دجلة، وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش، فنصب طاهر المجانيق بإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد، وأخذ الأمين أمّه وأولاده إلى مدينة المنصور، وتفرّق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه فى الطريق، لا يلوى بعضهم على بعض، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب.
ذكر مقتل الأمين
قال: لما دخل الأمين مدينة المنصور، واستولى طاهر على أسواق الكرخ وغيرها، جاء محمد بن حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الأفريقى وغيرهما، فقالوا للأمين: قد آلت حالنا إلى ما ترى، وقد تفرّق عنك الناس، وقد بقى معك من خيلك سبعة «1» آلاف فرس من خيارها، ونرى أن تختار ممن عرفناه بمحبّتك من الأبناء سبعة «2» آلاف، فتحملهم على هذه الخيل وتخرج ليلا، على باب من هذه الأبواب فلا يثبت لنا أحد إن شاء الله تعالى، فنلحق بالجزيرة والشام فنفرض الفروض ونجبى الخراج، ونصير فى مملكة واسعة وملك جديد، فتسارع إليك الناس ويحدث الله أمورا، فصوّب رأيهم ووافقهم عليه، فنما الخبر إلى طاهر فكتب إلى سليمان ابن المنصور ومحمد بن عيسى بن نهيك والسّندى بن شاهك، وأقسم لئن لم تردوه عن هذا الرأى لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها، ولا تكون لى همة إلا أنفسكم، فدخلوا على الأمين فقالوا: قد بلغنا الذى عزمت عليه، ونحن نذكّرك الله فى نفسك، إن هؤلاء صعاليك وقد بلغ بهم الحصار إلى ما
ترى، وهم يرون أن لا أمان لهم عند أخيك وعند طاهر لجدهم فى الحرب، ولسنا نأمن إذا خرجت معهم أن تؤخذ أسيرا، أو يأخذوا رأسك فيتقرّبوا بك ويجعلوك سبب أمانهم، وصرفوه عن ذلك فرجع إليهم، وأجاب الى طلب الأمان والخروج، وقالوا له: إنّه لا بأس عليك من أخيك، وأنّه يجعلك حيث أحببت فركن إلى ذلك، وأجاب إلى الخروج إلى هرثمة بن أعين، فدخل عليه الذين أشاروا عليه بقصد الشام وقالوا له: إذا لم تقبل ما أشرنا به عليك- وهو الصواب- وقبلت من هؤلاء المداهنين، فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة، فقال: أنا أكره طاهرا، وهرثمة مولانا وهو بمنزلة الوالد، وأرسل إلى هرثمة فى طلب الأمان، فأجابه إليه وحلف له أنّه يقاتل دونه- إن همّ المأمون بقتله، فلما علم طاهر ذلك اشتد عليه، وأبى أن يدعه يخرج إلى هرثمة وقال: هو فى حربى «1» والجانب الذى أنا فيه، وأنا ألجأته بالحصار إلى طلب الأمان، فلا أرضى أن يخرج إلى هرثمة فيكون الفتح له دونى، فاجتمع القوّاد أصحاب الأمين بطاهر وقالوا: إنّه لا يخرج إليك أبدا، وإنّه يخرج إلى هرثمة ببدنه ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة وهو الخلافة، فاغتنم هذا الأمر ولا تفسده، فرضى بذلك، فأتى الهرش إلى طاهر وأراد التقرب إليه، فأخبره أنّ الذى جرى بينهم مكر، وأنّ الخاتم والبردة والقضيب تحمل مع الأمين إلى هرثمة، فاغتاظ منه وجعل حول قصر الأمين قوما فلما تهيأ الأمين للخروج إلى هرثمة أرسل إليه هرثمة، يقول:
وافيت للميعاد لاحملك، ولكنّى أرى ألا تخرج هذه الليلة، فإنّى قد رأيت على الشط ما قد رابنى، وأخاف أن أغلب وتؤخذ من يدى، وتذهب نفسك ونفسى، فأقم الليلة حتى أستعد وآتيك الليلة القابلة، فإن حوربت حاربت دونك؛ فقال للرسول: ارجع إليه فقل له لا تبرح، فإنّى خارج إليك الساعة لا محالة، ولست أقيم إلى غد، وقلق، وقال «2» : قد تفرّق
عنّى الناس من الموالى والحرس وغيرهم، ولا آمن إن انتهى الخبر إلى طاهر أن يدخل علىّ ويأخذنى، وخرج بعد العشاء الآخرة ليلة الأحد، لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، إلى صحن الدار وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود، فدعا بابنيه فضمّهما إليه وقبّلهما وبكى، وقال: استودعكما الله، ثم جاء راكبا إلى الشط فإذا حرّاقة هرثمة فصعد إليها، فذكر أحمد بن سلام صاحب المظالم قال: كنت مع هرثمة فى الحرّاقة، فلما دخلها الأمين قمت له، وجثى هرثمة على ركبتيه واعتذر له من نقرس به، ثم احتضنه هرثمة وضمّه وجعله فى حجره وجعل يقبّل يديه ورجليه وعينيه، وأمر هرثمة الحراقة أن تدفع، فشدّ علينا أصحاب طاهر فى الزوارق ونقبوا الحرّاقة، ورموا بالآجر والنشاب فغرقت الحرّاقة، وسقط هرثمة إلى الماء وسقطنا، فتعلّق الملاح بشعر هرثمة فأخرجه، وأما الأمين فإنّه شق ثيابه لما سقط فى الماء، قال أحمد بن سلام: وخرجت أنا إلى الشط فأخذنى رجل من أصحاب طاهر، فأتى بى إلى رجل آخر من أصحابه، وأعلمه أنّى من الذين خرجوا من الحرّاقة، فسألنى: من أنا؟ فقلت: أنا أحمد بن سلام صاحب المظالم مولى أمير المؤمنين، قال: كذبت، فاصدقنى، قلت: قد صدقتك، قال ما فعل المخلوع، قلت: رأيته قد شق ثيابه فركب، وأخذنى معه أعدو وفى عنقى حيل فعجزت عن العدو، فأمر بضرب عنقى فاشتريت نفسى منه بعشرة آلاف درهم، فتركنى فى بيت حتى يقبض المال، وفى البيت بوارى وحصر مدرجة ووسادتان، فلما ذهب من الليل ساعة وإذا الباب قد فتح، وأدخل الأمين وهو عريان وعليه سراويل وعمامة، وعلى كتفه خرقة خلقة، فلما رأيته استرجعت وبكيت فى نفسى، فسألنى عن اسمى فعرّفته، فقال:
ضمّنى إليك فإنى أجد وحشة شديدة، قال: فضممته وإذا قلبه يحفق، فقال: يا أحمد- ما فعل أخى. قلت: حىّ، قال: قبّح الله بريدهم!! كان يقول قد مات- شبه المعتذر من محاربته، فقلت: بل قبّح الله
وزراءك، فقال: ما تراهم يصنعون بى؟ أيقتلوننى أم يفون بأيمانهم؟ فقلت:
يفون لك، وجعل بضم الخرقة على كتفه، فنزعت مبطّنة «1» كانت علىّ وقلت: ألق هذه عليك، فقال: دعنى فهذا من الله عز وجل، فى هذا الموضع خير كثير، فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا رجل، فنظر فى وجوهنا فاستثبته «2» ، فلما عرفه انصرف- وإذا هو محمد بن حميد الطاهرى، فلما رأيته علمت أن الأمين مقتول، فلما انتصف الليل فتح الباب ودخل قوم عجم معهم السيوف مسلولة، فلما رآهم قام قائما وجعل يسترجع ويقول:
ذهبت- والله- نفسى فى سبيل الله، أما من مغيث!! أما من من أحد من الأبناء!! وجاءوا حتى وقفوا على باب البيت الذى نحن فيه، وجعل بعضهم يقدّم بعضا ويدفعه، وأخذ الأمين بيده وسادة ويقول: ويحكم!! أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ابن هارون- أنا أخو المأمون- الله الله فى دمى! فضربه رجل منهم بسيف وقعت فى مقدّم رأسه، فضربه الأمين على وجهة بالوسادة، وأراد أن يأخذ السيف فصاح: قتلنى، قتلنى فدخل جماعة منهم فنخسه واحد بالسيف فى خاصرته، ورموا نفوسهم عليه فذبحوه من قفاه، وأخذوا رأسه ومضوا به إلى طاهر، فلما كان السحر أخذوا جثّته فأدرجوها فى جلّ وحملوها، فنصب طاهر الرأس على برج، وخرج أهل بغداد- وطاهر يقول: هذا رأس المخلوع محمد، ولما قتل بدم جند طاهر وجند بغداد على قتله، لما كانوا يأخذون من الأموال، وبعث طاهر رأسه إلى أخيه المأمون مع ابن عمه محمد بن الحسن «3» بن مصعب، وكتب معه بالفتح، فلما وصل أخذ ذو الرئاستين الرأس وأدخله إلى المأمون على ترس، فلما رآه المأمون سجد، وبعث طاهر معه بالبردة والقضيب والخاتم ولما قتل
الأمين نودى فى الناس كلهم بالأمان، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة وصلّى بالناس.
وحكى عن إبراهيم بن المهدى قال «1» : كنت مع الأمين لما حصره طاهر، فخرج ليلة يريد الفرجة لما هو فيه من الضيق، فصار إلى قصر بناحية الخلد، ثم أرسل إلىّ فحضرت عنده، فقال: ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر فى السماء وضوء فى الماء- وكان على شاطئ دجلة- فهل لك فى الشرب؟ فقلت: شأنك، فشرب رطلا وسقانى آخر، ثم غنّيته ما كنت أعلم أنه يحبّه، ثم دعا بجارية اسمها ضعف فتطيّرت من اسمها، فقال لها غنّى فغنّت شعر الجعدى:
كليب لعمرى كان أكثر ناصرا
…
وأيسر حزما منك ضرح بالدم
فتطيّر من ذلك وقال: غنى غير هذا، فغنّت:
أبكى فراقهم عينى فأرقّها
…
إن التفرّق للأحباب بكّاء
ما زال يغدو عليهم ريب دهرهم
…
حتى تفانوا وريب الدهر عدّاء
فسبّها، وقال: أما تعرفين من الغناء غير هذا، ثم غنّته:
أما ورب السكون والحرك
…
إن المنايا كثيرة الشرك
الأبيات الأربعة، فغضب ولعنها فقامت، وكان له قدح من بللّور حسن الصنعة، فعثرت به فكسرته، فقال لى: ويحك يا إبراهيم! ما ترى إلى ما جاءت به هذه الجارية!! والله ما أظن أمرى إلا قد قرب، فقلت:
يديم الله ملكك ويعز سلطانك ويكبت عدوّك، فما استتمّ الكلام حتى سمعنا صوتا قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ «2»
، فقال يا إبراهيم: أما سمعت ما سمعت!! قلت ما سمعت شيئا، فقتل بعد ليلة أو ليلتين.