الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمين العراق والشام وإلى آخر المغرب. وضمّ إلى المأمون من همذان إلى آخر المشرق، ثم بايع لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون ولقّبه المؤتمن، وضمّ إليه الجزيرة والثغور والعواصم، وكان فى حجر عبد الله بن صالح، وجعل خلعه وإثباته إلى المأمون، فلما وصل الرشيد إلى مكة ومعه أولاده والقضاة والفقهاء والقوّاد كتب كتابا، أشهد فيه على محمد الأمين، وأشهد من حضر بالوفاء للمأمون، وكتب كتابا للمأمون أشهد فيه عليه بالوفاء للأمين، وعلّق الكتابين فى الكعبة، وجدّد العهود عليهما فى الكعبة، فقال الناس: قد ألقى بينهم شرا وحربا، وخافوا عاقبة ذلك وكان ما خافوه.
وفيها سار عيسى بن ماهان من مرو إلى نسا لحرب أبى الخصيب، فحاربه وقتله وسبى نساءه وذراريه واستقامت خراسان.
ودخلت سنة سبع وثمانين ومائة
.
ذكر إيقاع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى بن خالد
فى هذه السنة أوقع الرشيد بالبرامكة ونكبهم النكبة المشهورة، وقد اختلف فى سبب ذلك، فقيل إن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عبّاسة بنت المهدى، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب، فقال لجعفر أزوّجكها ليحلّ لك النظر إليها ولا تقربها، فأجابه إلى ذلك «1» ، فبقيا على ذلك ما شاء الله، فمالت العبّاسة إلى جعفر، وراودته فأبى وخاف على نفسه، فلما أعيتها الحيلة فى أمره علمت أن النساء أقرب إلى الخديعة، فبعثت إلى عتّابة- وهى أم جعفر، وكانت عتابة ترسل إلى ابنها جعفر فى كل ليلة جمعة جارية بكرا، فقالت العبّاسة لها: أرسلينى إلى ابنك كأنى جارية من
جواريك، اللواتى ترسلين إليه فأبت أم جعفر. فقالت لها العبّاسة: إن لم تفعلى قلت للرشيد كلمتنى فى كيت وكيت. وإن فعلت ذلك واشتملت منه على ولد زاد فى شرف ابنك. وما عسى أن يفعل أخى لو علم. فمالت أم جعفر إلى ذلك، ووعدت ابنها أنها ترسل اليه جارية من صفتها وحسنها.
فطالبها بها مرة بعد أخرى وهى تمطله، حتى اشتاق اليها فأرسلتها إليه.
فأدخلت عليه- وكان لا يثبت صورتها. لأنّه كان إذا جلس عند الرشيد لا يرفع طرفه إليها. فلما دخلت عليه كان قد شرب نبيذا. فاجتمع بها وقضى وطره. فقالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك؟ وأية ابنة ملك أنت!! قالت: أنا مولاتك العبّاسة. فتألم لذلك وقال لأمه: بعتنى والله رخيصا. فاشتملت العبّاسة من ليلتها على حمل. فلما ولدته وكلت به غلاما يقال له رياش وحاضنة اسمها برّة. وبعثت بهم إلى مكة. وكان يحيى بن خالد ينظر على قصر الرشيد وحرمه وخدمه. ويغلق باب القصر بالليل وينصرف بالمفاتيح معه. فضيّق على حرم الرشيد. فشكت زبيدة أم الأمين مره إلى الرشيد، فقال له: يا أبت- وكان يدعوه بذلك- ما بال أم جعفر تشكوك؟ فقال: يا أمير المؤمنين- أمّتهم أنا فى حرمك وخدمك؟ قال:
لا. قال: فلا تقبل قولها. وزاد يحيى فى الحجر والتضييق، فدخلت زبيدة على الرشيد وقالت: ما يحمل يحيى على ما يفعل من منعه خدمى ووضعى فى غير موضعه؟ فقال: إنّه عندى غير متهم فى حرمى، فقالت: لو كان كذلك لحفظ ابنه مما ارتكبه!! قال: وما ذلك؟ فأخبرته بخبر العبّاسة، فقال:
وهل على هذا من دليل؟! قالت: وأى شىء أدل من الولد، قال: وأين هو؟ قالت: كان ها هنا فلما خافت ظهوره وجهت به إلى مكة، قال:
ويعلم بهذا سواك!! قالت ما فى قصرك جارية إلا وقد عرفت ما أخبرتك به. فسكت عنها وأظهر أنه يريد الحج. وأخذ معه جعفرا، فكتبت العبّاسة إلى الخادم والداية أن يخرجا بالصبى إلى نحو اليمن. فلما وصل الرشيد إلى مكة
وكل من يثق به بالبحث عن ذلك، فلم يزل حتى تحقق الأمر، فأضمر السوء للبرامكة «1» .
وقبل إن سبب نكبة البرامكة أن يقطين بن موسى كان من أكابر الشيعة، وممّن كان مع إبراهيم الإمام، فقال يوما للرشيد: حدّثنى مولاى إبراهيم الإمام أن الخامس من خلفاء بنى العباس يغدر به كتّابه، فإن لم يقتلهم قتلوه، فقال له الرشيد: الله- يحدثك الإمام بهذا!! قال: نعم.
وقيل كان سبب ذلك أن الرشيد دفع يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب إلى جعفر بن يحيى فحبسه «2» ، ثم استدعاه وسأله عن بعض أمره، فقال له: اتق الله فى أمرى. ولا تتعرض غدا أن يكون خصمك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فو الله ما أحدثت حدثا ولا آويت محدثا، فرقّ له وقال: اذهب حيث شئت من بلاد الله.
فقال: كيف أذهب ولا آمن أن أوخذ؟ فوجّه معه من أوصله إلى مأمنه.
وبلغ الخبر الفضل بن الربيع فرفعه إلى الرشيد، فقال: ما أنت وهذا- فلعلّه «3» عن أمرى!! ثم أحضر جعفرا وسأله عن يحيى. فقال: هو بحاله فى الحبس، فقال بحياتى!! ففطن جعفر وقال: لا وحياتك، وقصّ عليه أمره، وقال: علمت أنّه لا مكروه عنده، فقال: نعم ما فعلت. ما عدوت ما فى نفسى، فلما قام عنه قال: قتلنى الله إن لم أقتلك. وقيل إن الرشيد لما دفعه لجعفر بقى عنده ما شاء الله، وكان جعفر يرى سرور الرشيد بموت من يموت فى حبسه من هؤلاء، فشرب جعفر عنده يوما فقال: يا أمير
المؤمنين إنّ يحيى قد مات، فسرّ بذلك وقال: الحمد لله الذى كفانى أمره ولم يؤثمنى فيه. وانصرف جعفر فأخبر أباه يحيى بن خالد بما كان. فقال: إنّا لله وإنا إليه راجعون، إن تركناه تلفنا. وإن قتلناه فالنار لنا. ثم كتب يحيى إلى على بن عيسى بن ماهان والى خراسان يعرّفه ما جرى. وفزع إليه أن يكون عنده موسعا عليه، إلى أن يقضى الله فيه قضاءه. ولم يكن يحيى يعلم ما كان بين على بن عيسى وبين الفضل وجعفر من العداوة. فلما وصل الكتاب إلى علىّ ووصل إليه يحيى قال: هذا من حيل الفضل وجعفر علىّ. فأجاب يحيى بأنه فعل ما أراد، وأنفذ كتاب يحيى إلى الرشيد. فكتب إليه الرشيد يعرفه بحسن موقع ذلك عنده، وأمره بانفاذ يحيى بن عبد الله إليه سرا. فلما وصل إليه أوقع بالبرامكة «1» .
هذا مما قيل فى سبب نكبة البرامكة أما كيفيّة الإيقاع بهم وقتل جعفر فقيل، إن الرشيد لما قضى حجّه أرسل السندى بن شاهك، وهو أحد قوّاده، وأمره أن يمضى إلى مدينة السلام والتوكل بالبرامكة وبدور كتّابهم وأقاربهم، وأن يجعل ذلك سرّا يحيث لا يعلم به أحد حتى يصل إلى بغداد، ففعل السندى ذلك، وكان الرشيد قد نزل بالأنبار بموضع يقال له العمر «2» ومعه جعفر، فمضى جعفر إلى موضعه فى سلخ المحرم، ودعا بأبى زكار الأعمى الطنبورى، ومدّت الستارة وجلس جواريه خلفها يضربن ويغنّين، وأبو زكّار يغنّيه:
ما يريد الناس منّا
…
ما ينام الناس عنّا
إنّما همهم أن
…
يكشفوا ما قد دفنّا
قال: واستدعى الرشيد من ساعته بياسر، غلام من غلمانه، وقيل بمسرور الخادم، فأرسله فى جماعة من الجند إلى جعفر، ليضرب عنقه وليأتيه برأسه، فمضى حتى دخل على جعفر وعنده بختيشوع الطبيب، وأبو زكّار يغنيه:
فلا تبعد فكل فتى سيأتى
…
عليه الموت يطرق أو يغادى
وكل ذخيرة لا بدّ يوما
…
وأن بقيت «1» تصير إلى نفاد
فقال له جعفر: قد سررتنى بإقبالك إليّ، وسؤتنى بدخولك عليّ بغير إذن، فقال: الأمر أكبر من ذلك، إن أمير المؤمنين أمرنى بكذا وكذا، فأقبل جعفر يقبّل يديه ورجليه، ويقول: دعنى أدخل وأوصى، فقال:
لا سبيل إلى ذلك، ولكن أوص بما شئت، فأوصى بما أراد وأعتق مماليكه، ثم قال: إن لى عندك حقا ولن تجد مكافأتى إلا فى هذه الساعة، فارجع إلى أمير المؤمنين فأعلمه أنّك قد نفّذت كما أمرك به، فإن أصبح نادما كانت حياتى على يديك، وكانت لك عندى نعمة، وإن أصبح على مثل مذهبه نفّذ ما أمرك به، قال: ولا هذا، قال: فأسير معك إلى مضرب أمير المؤمنين بحيث أسمع كلامه ومراجعتك إياه، فإذا أبليت عذرا ولم يرض إلا بمصيرك إليه برأسى فعلت، قال: أما هذا فنعم، فسارا جميعا إلى مضرب الرشيد، فلما أتاه الخادم وجده فى فراشه، فلما أحس به قال: إيتنى برأسه، فعاد إلى جعفر وأخبره، فقال: الله الله، والله ما أمرك إلا وهو سكران، فدافع حتى أصبح أو راجعه ثانية، فعاد ليراجعه فقال له: يا ماص بظرأمه، إيتنى برأسه، فرجع إلى جعفر وأخبره، فقال ومرّة أخرى، فلما رجع إليه حذفه بعمود كان فى يده، وقال: نفيت عن المهدى لئن لم
تأتنى برأسه لأقتلنّك، فخرج إلى جعفر وضرب عنقه وأتاه برأسه؛ قال: من نقل أن الرسول إلى جعفر ياسر، إنه لما وضع الرأس بين يدى الرشيد أقبل عليه مليا، ثم قال: يا ياسر جئنى بفلان وفلان، فلما أتاه بهما قال لهما الرشيد: اضربا عنق ياسر، فإنى لا أقدر أن أرى قاتل جعفر «1» .
وقيل: إنه وجد على قصر على بن عيسى بن ماهان بخراسان فى صبيحة الليلة التى قتل فيها جعفر كتابة بقلم جليل:
إنّ المساكين بنى برمك
…
صبّت عليهم غير الدهر
إنّ لنا فى أمرهم عبرة
…
فليعتبر ساكن ذا القصر «2»
قال: وكان جعفر من أهل الفصاحة البارعة والفطنة التى لا تحد، إلا أنه كان فيه بخل بالنسبة إلى أبيه وأخيه، قال: ولما قتل جعفر أمر الرشيد بتوجيه من احتاط بيحيى وولده الفضل وجميع أسبابهم، وحبس الفضل فى بعض منازل الرشيد، وحبس يحيى فى منزله، وأخذ مالهم وما وجد لهم من ضياع ومتاع وغير ذلك، وأرسل من ليلته إلى سائر البلاد بالقبض «3» على وكلائهم وأسبابهم وجميع أموالهم، وأصبح فأرسل جثة جعفر إلى بغداد وأمر بنصب رأسه وأن يقطع بدنه «4» قطعتين، ينصب كل قطعة على جسر، ولم يعرض الرشيد لمحمد بن خالد بن برمك وولده، لأنه علم براءته مما دخل فيه أهله؛ وقيل كان يسعى بهم، ثم حبس الرشيد يحيى بن خالد وبنيه الفضل ومحمد، ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم، ولا ما يحتاجون إليه من جارية وغيرها، ولم تزل حالهم سهلة حتى قبض الرشيد على عبد الملك بن صالح، فعمّهم سخطه فضيّق عليهم.
وكان مقتل جعفر فى ليلة السبت مستهل صفر سنة سبع وثمانين ومائة، وكان عمره سبعا وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة، ولما تكبوا قال الرّقاشى: وقيل إن الشعر لأبى نواس:
ألان استرحنا واستراحت مطينا «1»
…
وأمسك من يحدى ومن كان يحتدى
فقل للمطايا قد أمنت من السرى
…
وطيّ الفيافى فدفدا بعد فدفد
وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر
…
ولم «2» تظفرى من بعده بمسوّد
وقل للعطايا بعد فضل تعطّلى
…
وقل للرزايا كل يوم تجدّدى
ودونك سيفا برمكيّا مهنّدا
…
أصيب بسيف هاشمى مهنّد
وروى أبو الفرج الأصفهانى أن الرّقاشى اجتاز بجعفر وهو مصلوب، فوقف يبكى أحرّ بكاء، ثم أنشأ يقول:
أما والله لولا خوف واش
…
وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا
…
كما للناس بالحجر «3» استلام
فما أبصرت قبلك يا ابن يحيى
…
حساما فلّه السيف الحسام
على اللذات والدنيا جميعا
…
ودولة آل برمك السلام «4»