الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به إلىّ فاشتكيت، فأتاه شراحيل- وحلف بالله أنه ما شرب لبنا فى يومه، ولا بعث به إليك واسترجع، وقال: احتيل والله عليك، فبات إبراهيم ليلته وأصبح ميتا. وكان إبراهيم خيّرا فاضلا كريما، قدم المدينة مرّة ففرّق فى أهلها مالا جليلا، فنال بعضهم منه ألف دينار- وخمسمائة دينار- وأربعمائة دينار، وكانت هذه عطاياه وهباته. وكان مولده فى سنة اثنتين وثمانين، وأمه أم ولد بربرية إسمها سلمى.
قال: ولما قبض على إبراهيم بالحميمة نعى نفسه إلى أهل بيته، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه أبى العباس عبد الله بن محمد- وهو السفاح، وأوصاهم بالسمع والطاعة له، وأوصاه وجعله الخليفة من بعده وودّعهم، وسار فهلك على ما ذكرنا، وكان من أمر أبى العباس ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ابتداء الدولة العباسية وانقضاء الدولة الأموية
ذكر بيعة أبى العباس عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو ابن الحارثية الذى نصّ عليه أبو هاشم محمد بن الحنفيّة، لما فوّض أمر الشيعة إلى والده، ووعدهم أنه صاحب الأمر، وكان ذلك قبل مولد أبى العباس على ما قدّمنا، وأمه ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدّان «1» الحارثى، بويع له بالخلافة يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وذلك أنه لما قبض على أخيه إبراهيم بن محمد الإمام عهد إليه كما ذكرناه، وأمره بالمسير إلى الكوفة؛ سار من الحميمة ومعه أهل بيته وأخوه أبو جعفر المنصور، وعبد الوهاب ومحمد
ابنا أخيه إبراهيم، وعمومته داود، وعيسى، وصالح، وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد- بنو على بن عبد الله بن عباس، وموسى ابن عمه داود، وابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن على، ويحيى بن جعفر بن تمام بن العباس، فقدموا الكوفة فى صفر من هذه السنة، وشيعتهم من أهل خراسان بظاهر الكوفة بحمام أعين، فأنزلهم أبو سلمة الخلال دار الوليد بن سعد «1» مولى بنى هاشم فى بنى أود «2» ، وكتم أمرهم من جميع القواد نحو أربعين ليلة، وأراد فيما ذكر أن يحوّل الأمر إلى آل طالب، لما بلغه موت إبراهيم الإمام، فكان أبو الجهم يقول له: ما فعل الإمام، فيقول لم يقدم بعد، فلما ألحّ عليه قال: ليس هذا وقت خروجه، لأن واسط لم تفتح بعد، وكان أبو سلمة إذا سئل عن الإمام يقول: لا تعجلوا، فلم يزل هذا دأبه حتى دخل أبو حميد محمد بن إبراهيم الحميرى من حمام أعين يريد الكناسة، فلقى خادما لإبراهيم الإمام يقال له سابق الخوارزمى فعرفه، فقال له ما فعل إبراهيم؟ فأخبره أن مروان قتله، وأنه أوصى إلى أخيه أبى العباس من بعده، وأنه قدم الكوفة ومعه عامة أهل بيته، فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم فقال له سابق: الوعد بينى وبينك غدا فى هذا الموضع، وكره سابق أن يأتيهم به إلا بإذنهم، فرجع أبو حميد إلى أبى الجهم وأخبره، وهو فى عسكر أبى سلمة، فأمره أن يتلطف للقائهم، فرجع أبو حميد إلى موضع ميعاد سابق، فلقيه وانطلق به إليهم، فلما دخل سأل من «3» الخليفة منهم؟
فقال له داود بن على: هذا إمامكم وخليفتكم، وأشار إلى أبى العباس، فسلّم عليه بالخلافة وقبّل يديه ورجليه وعزّاه بإبراهيم، وقال: مرنا بأمرك، ثم رجع وصحبه «4» إبراهيم بن سلمة- رجل كان يخدم بنى
العباس- إلى أبى الجهم، فأخبره عن منزلتهم وأن الإمام بعثه إلى أبى سلمة «1» ، يسأله مائة دينار يعطيها أجرة الجمال التى حملتهم، فلم يبعث بها إليهم، فمشى أبو الجهم وأبو حميد وإبراهيم بن سلمة إلى موسى بن كعب، وقصّوا عليه القصّة، وبعثوا إلى الإمام بمائتى دينار مع إبراهيم بن سلمة، واتفق رأى القواد أن يلقوا الإمام، فمضى موسى بن كعب وأبو الجهم وغيرهم «2» من القواد إلى أبى العباس، وبلغ ذلك أبا سلمة فسأل عنهم، فقيل له إنهم دخلوا الكوفة لحاجة لهم، وأتى القوم إليهم فقالوا: أيكم عبد الله بن محمد بن الحارثية؟ فقالوا: هذا- فسلموا عليه بالخلافة وعزّوه بإبراهيم، ورجع موسى بن كعب وأبو الجهم، وأمر أبو الجهم بقية القواد فتخلفوا عند الإمام، فأرسل أبو سلمة إلى أبى الجهم: أين كنت؟ قال:
ركبت إلى إمامى، فركب أبو سلمة إلى الإمام، فأرسل أبو الجهم إلى أبى حميد: أن أبا سلمة قد أتاكم، فلا يدخلنّ على الإمام إلا وحده، فلما انتهى إليهم أدخلوه وحده ومنعوا حفدته من الدخول، فسلّم بالخلافة، فقال له رجل منهم: على رغم أنفك يا ماصّ بظر أمّه، فنهاه أبو العباس وأمر أبا سلمة بالعود إلى معسكره فعاد، وأصبح الناس يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول فلبسوا السلاح، واصطفوا لخروج أبى العباس، وأتوه بالدواب»
فركب برذونا أبلق، وركب معه أهل بيته فدخلوا دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد فخطب وصلّى بالناس، ثم صعد المنبر ثانية فقام فى أعلاه، وصعد عمه داود فقام دونه، فتكلم أبو العباس فقال:
الحمد لله الذى اصطفى الإسلام لنفسه، فكرّمه «4» وشرفه وعظّمه
واختاره لنا، وأيّده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه، والقوّام به والذابّين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحقّ بها وأهلها، وخصّنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته، وأنشأنا من آبائه «1» ، وأنبتنا من شجرته، واشتقنا من نبعته، جعله من أنفسنا عزيزا عليه ما عنتنا، حريصا علينا بالمؤمنين رءوفا رحيما، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك كتابا على أهل الإيمان «2» يتلى عليهم فقال تبارك وتعالى فيما أنزل فى محكم كتابه: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «3»
وقال تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «4»
وقال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «5»
وقال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى «6»
وقال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى «7»
فأعلمهم جلّ ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفىء والغنيمة نصيبنا، تكرمة لنا وفضلا علينا، والله ذو الفضل العظيم؛ وزعمت السبأيّة «8» الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منّا فشاهت وجوههم، ثم ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصّرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا، ورفع بنا الخسيسة، وتمّم بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف
وبرّ ومواساة فى دينهم، وإخوانا على سرر متقابلين فى آخرتهم، فتح الله ذلك منّة ومنحة «1» لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما قبضه الله إليه قام بالأمر من بعده أصحابه شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم فعدّلوا فيها، ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصا منها، ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فابتزوها وتداولوها، فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، وردّ علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولى نصرنا والقيام بأمرنا، ليمنّ بنا على الذين استضعفوا فى الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإنى لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله. يا أهل الكوفة، أنتم أهل محبّتنا، ومنزل «2» مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدرككم «3» زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم فى أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح «4» ، والثائر المنيح «5» .
وكان موعكا فاشتد عليه الوعك، فجلس على المنبر وقام عمه داود على مراقى المنبر، فقال:
الحمد لله شكرا الذى أهلك عدوّنا، وأصار إلينا ميراثنا من نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم. أيها الناس: الآن قد قشعت حنادس الدنيا، وانكشف غطاؤها وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من
مطالعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه، ورجع الحق إلى نصابه، فى أهل بيت نبيّكم أهل الرأفة والرحمة والعطف عليكم.
أيها الناس: والله ما خرجنا فى طلب هذا الأمر لنكنز «1» لجينا، ولا عقيانا، ولا نحفر نهرا، ولا نبنى قصرا، وإنما أخرجتنا الأنفة من ابترازهم حقنا، والغضب لبنى عمنا، وما كرهنا «2» من أموركم، فلقد كانت أموركم ترمضنا، ونحن على فراشنا، وتشتد علينا سوء سيرة بنى أمية فيكم واستذلالهم «3» لكم. واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم، لكم ذمة الله تبارك وتعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم. تبا تبا لبنى حرب وبنى أمية «4» ، آثروا مدتهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا الجرائم «5» ، وجاروا فى سيرتهم فى العباد وسنّتهم «6» فى البلاد «7» ، ومرحوا فى أعنة المعاصى، وركضوا فى ميدان «8» الغى، جهلا باستدارج الله. وأمنا لمكر الله فأتاهم بأس الله بياتا وهم نائمون.
فأصبحوا أحاديث ومزّقوا كل ممزق، فبعدا للقوم الظالمين، وأدالنا الله من مروان وقد غرّه بالله الغرور، وأرسل لعدو الله فى عنانه حتى عثر فى فضل
خطامه، أظنّ عدو الله أن لن يقدر عليه، فنادى حزبه، وجمع مكايده.
ورمى بكتائبه «1» . فوجد أمامه ووراءه. وعن يمينه وشماله، من مكر الله وبأسه ونقمته، ما أمات باطله. ومحق ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شرفنا وعزّنا، وردّ إلينا حقّنا وإرثنا.
أيها الناس: إن أمير المؤمنين- نصره الله نصرا عزيزا- إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة، لأنه كره «2» أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك، فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم «3» الله بمروان. عدو الرحمن وخليفة الشيطان، المتبع السفلة الذين أفسدوا فى الأرض بعد صلاحها «4» الشاب «5» المكتهل المتمهل «6» ، المقتدى بسلفه الأبرار الأخيار، الذين أصلحوا الأرض بعد إفسادها «7» بمعالم الهدى ومناهج التقوى. فعجّ الناس بالدعاء له ثم قال:
يا أهل الكوفة: إنا والله مازلنا مظلومين مقهورين على حقنا، حتى أتاح الله (لنا)«8» شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا، وأفلج «9» بهم حجتنا، وأظهر بهم دولتنا، فأراكم الله بهم ما كنتم تنتظرون «10» ، وأظهر فيكم الخليفة من هاشم، وبيّض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشام،
ونقل إليكم السلطان وعزّ الإسلام، ومنّ عليكم بإمام منحه العدالة، وأعطاه حسن الإيالة، فخذوا ما أتاكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن أنفسكم، فإنّ الأمر أمركم، وإنّ لكل أهل بيت مصرا، وإنكم مصرنا، ألا وإنّه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين على بن أبى طالب، وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد (وأشار بيده إلى أبى العباس) . واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منّا، حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا.
ثم نزلا، وداود أمامه حتى دخل القصر، وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور يأخذ البيعة على الناس فى المسجد، فلم يزل يأخذها عليهم حتى صلّى بهم العصر ثم المغرب وجهنّم الليل، وخرج أبو العباس فعسكر بحمام أعين فى عسكر أبى سلمة، ونزل معه فى حجرته «1» بينهما ستر، وحاجب السفاح يومئذ عبد الله بن بسّام، واستخلف على الكوفة وأرضها عمه داود بن على، وبعث عمه عبد الله بن على إلى أبى عون «2» بن يزيد بشهر زور، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ يحاصر ابن هبيرة بواسط «3» ، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن عباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة «4» بن محمد بن عمّار بن ياسر إلى بسّام بن إبراهيم بن بسّام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف. وأقام السفاح بالعسكر أشهرا، ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية بقصر الإمارة، وكان قد تنكّر لأبى سلمة قبل تحوّله حتى عرف ذلك منه.