الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعالى فى أخبارهم وفيها قتل محمد «1» بن زيد العلوى صاحب طبرستان والديلم على ما نذكر ذلك إن شاء الله فى أخبار الدولة العلوية.
وحج بالناس فى هذه السنة: محمد بن عبد الله بن داود. وفيها توفيت قطر الندى بنت خماروية زوجة المعتضد لسبع خلون من شهر رجب، ودفنت داخل قصر الرصافة.
ودخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين
فى هذه السنة توفى عبيد الله بن سليمان الوزير، فعظم موته على المعتضد وفوّض الوزارة إلى ابنه القاسم بن عبيد الله. وكان من أخبار المتغلبين على الأطراف على ما نذكره إن شاء الله فى أخبارهم.
وحجّ بالناس فى هذه السنة هارون بن محمد.
ودخلت سنة تسع وثمانين ومائتين
فى هذه السنة لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول أخرج من كان له دار أو حانوت بباب الشماسية عن داره وحانوته، وقيل لهم: خذوا أنقاضكم «2» واخرجوا، وسبب ذلك أن المعتضد بالله كان قد عزم أن يبتنى لنفسه دارا يسكنها هنالك، فخط موضع السور وحفر بعضه، وابتدأ فى دكة على دجلة لينتقل إليها فيقيم بها، إلى أن يفرغ من بناء الدار والقصر، فمرض المعتضد ومات قبل ذلك.
ذكر وفاة المعتضد بالله وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاته ليلة الإثنين لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين
ومائتين، قال: ولما اشتد مرضه اجتمع يونس «1» الخادم وغيره من القواد إلى الوزير القاسم ليجدّد البيعة للمكتفى، وقالوا: إنّا لا نأمن الفتنة، فقال: أخاف أن أطلق المال فيبرأ أمير المؤمنين من علّته فينكر ذلك، فقالوا: إن برىء فنحن المحتجون والمناظرون، وإن صار الأمر إلى ولده فلا يلومنا ونحن نطلب الأمر له، فأطلق المال وجدّد البعية للمكتفى بالله، وأحضر أولاد المعتمد ووكل بهم، ثم توفى المعتضد وكانت علّته فساد الجوف والمزاج والجفاف من «2» كثرة الجماع، وكان يؤمر بأن يقلّ الغذاء ويرطب معدته ولا يتعب نفسه، فيستعمل ضد ذلك ويريهم أنّه يحتمى، فإذا خرجوا من عنده دعا بالجبن والزيتون والسمك فأكل، فسقطت لذلك قوّته واشتدت علّته، ومات رحمه الله وتولّى غسله محمد بن يوسف القاضى، وصلّى عليه الوزير- حكاه ابن الأثير «3» . وقال أبو الفرج بن الجوزى «4» :
غسّله أحمد بن شيبة عند زوال الشمس، وصلّى عليه يوسف بن يعقوب القاضى «5» . ودفن ليلا فى دار محمد بن عبد الله بن طاهر بوصيّة منه، وجلس الوزير فى دار الخلافة للعزاء وجدّد البيعة للمكتفى، ومات المعتضد وله من العمر ست وأربعون «6» سنة وقيل إلا شهرين، وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيام «7» ، وقيل وثلاثة وعشرين يوما. وكان نحيفا خفيف العارضين يخضب بالسواد، ولما حضرته الوفاة أنشد:
تمتّع من الدنيا فإنّك لا تبقى
…
وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا
ولا تأمننّ الدهر إنى أمنته
…
فلم يبق لى حالا «1» ولم يرع لى حقا
قتلت صناديد الرجال ولم أدع
…
عدوا ولم أمهل على ظنة «2» خلقا
وأخليت دار الملك من كل نازع
…
فشرّدتهم غربا وشرّدتهم «3» شرقا
فلما بلغت النجم عزا ورفعة
…
وصارت رقاب الخلق أجمع لى رقا
رمانى الردى سهما فأخمد جمرتى
…
فهأنذا فى حفرتى عاجلا ألقى
فياليت شعرى بعد موتى ما ألقى
…
إلى نعم الرحمن «4» أم ناره ألقى
قال: وكان المعتضد ذا عزم وشهامة ونهضة، بصيرا بالأمور حسن السياسة والسيرة، ولما ولى وضع عن الناس البواقى وأسقط المكوس بالحرمين، وبث العدل فى الآفاق وبذل الأموال، وغزا وجالس المحدّثين وأهل الفضل والدين. قال ثابت بن قرة الحرّانى: ولى المعتضد الخلافة وليس فى بيت المال إلا قراريط لا تبلغ الدينار، والحضرة مطلوبة والأعمال منهوبة والأعراب والأكراد عائثون والأعداء متسلطون، فأصلح الأمور وأحسن التدبير وقمع الخوارج وبالغ فى العمارة وأنصف فى المعاملة ورفق بالرعيّة، حتى استفضل من ارتفاعه فى سنى خلافته تسعة عشر ألف ألف دينار، وتقدّم إلى اجناده وأتباعه بلزوم الطريقة الحميدة، وعرّفهم أنّه متى أفسد غلام أحد منهم كان المأخوذ به مولاه، فسمع يوما صوتا من بعض الكروم مما يلى دجلة فأمر باستعلام الحال، فأخبر أنّ غلام بعض الأمراء أخذ حصر ما من الكرم فأمر بإحضار الأمير، وتقدّم بضرب عنقه، فلم يجسر أحد من الجند بعد ذلك على الفساد؛ ثم قال المعتضد بعد ذلك لوزيره عبيد الله ابن سليمان: لعلّك أنكرت ما جرى من قتلى هذا الأمير بجرم جناه غيره،
فقال: هو ذاك يا أمير المؤمنين، قال: كنت فى خلافة المعتمد فرأيت هذا الأمير قتل رجلا عمدا بغير ذنب، ولم يكن له وارث فنذرت لله تعالى إن ولّانى الله أن أقتله به، فلما وليت كنت أتطلّب له العورات حتى جرى ما جرى من غلامه، فقتلته بذلك الرجل وأقمت السياسة بقتله. قال:
وكان المعتضد يسمى السفّاح الثانى لأنّه جدّد ملك بنى العباس، ووطّده بعد أن كانت الأتراك قد أخلقته، وفى ذلك يقول ابن الرومى:
هنيئا بنى العبّاس إنّ إمامكم
…
إمام الهدى والجود والباس أحمد
كما بأبى العبّاس أسّس ملككم
…
كذا بأبى العباس أيضا تجدّد
وحكى أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى فى المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم بسند رفعه إلى أبى محمد عبد الله بن حمدون «1» :
قال: كان المعتضد بالله فى بعض متصيّداته مجتازا «2» بعسكره وأنا معه، فصاح «3» ناظور فى قراح قثاء فاستدعاه، وسأله عن سبب صياحه فقال: أخذ بعض الجيش من القثاء شبئا، فقال: اطلبوهم، فجاءوا بثلاثة نفر «4» ، فقال: هؤلاء الذين أخذوا القثاء؟ فقال الناظور: نعم، فقيّدهم فى الحال وأمر بحبسهم، فلما كان من الغد أنفذهم إلى القراح وضرب أعناقهم فيه، وسار فأنكر الناس ذلك وتحدّثوا به، ومضت على ذلك مدة طويلة، فجلست أحادثه ليلة فقال لى: يا أبا عبد الله- هل يعيب الناس علىّ شيئا؟ عرّفنى حتى أزيله، فقلت: كلا يا أمير المؤمنين، فقال:
أقسمت عليك بحياتى إلا صدقتنى، قلت: يا أمير المؤمنين- وأنا آمن؟
قال: نعم، قلت: سفك «1» الدماء، قال: والله ما هرقت دما منذ وليت إلا بحقه، قال: فأمسكت إمساك من ينكر عليه، فقال: بحياتى ما تقول؟ فقلت: يقولون إنك قتلت أحمد بن الطيّب- وكان خادمك، ولم تكن له جناية ظاهرة، قال: دعانى إلى الإلحاد- قلت له يا هذا أنا ابن عم صاحب الشريعة صلوات الله عليه وسلّم، وأنا الآن منتصب منصبه فألحد- حتى أكون من؟! فسكت سكوت من يريد الكلام، فقال: فى وجهك كلام؟ فقلت: الناس ينقمون عليك أمر الثلاثة الذين قتلتهم فى قراح القثّاء، فقال: والله ما كان أولئك الذين أخذوا القثاء، وإنما كانوا لصوصا حملوا من موضع كذا وكذا، ووافق ذلك أمر القثّاء، وأردت أن أهول على الجيش بأنّ من [عاث «2» ] فى عسكرى وأفسد فى هذا القدر كانت عقوبتى له هكذا ليكفّوا عمّا فوقه، ولو أردت قتلهم لقتلتهم فى الحال، وإنما حبستهم وأمرت بإخراج اللصوص من غد مغطين الوجوه ليقال إنّهم أصحاب القثّاء، فقلت: فكيف تعلم العامّة هذا؟ قال: بإخراج القوم الذين أخذوا القثّاء وإطلاقهم فى هذه الساعة، ثم قال: هاتوا القوم، فجاءوا بهم وقد تغيّرت حالهم من الحبس والضرب، فقال:
ما قصّتكم؟ فقصّوا عليه قصّة القثّاء، قال: أفتتوبون من مثل هذا الفعل حتى أطلقكم؟ قالوا: نعم، فأخذ عليهم التوبة وخلع عليهم وأمر بإطلاقهم وردّ أرزاقهم عليهم، فاشتهرت «3» الحكاية وزالت عنه التهمة.
وحكى عبد الله بن عبدون فى كتابه المترجم بكمامة الزهر وصدفة الدرر «4» :
أنّ أحد كبراء دولته ووزرائه كان قد بنى بناء عاليا مشرفا على جيرانه، فلم يعارضه أحد منهم لمكانه من الخليفة، وكان يجلس فيه فنظر يوما إلى دار من دور جيرانه، فرأى جاربة بارعة الجمال فأولع بها، وسأل عنها وإذا هى ابنة أحد التجار، فخطبها «1» من أبيها فامتنع من زواجه- وكان من أهل اليسار، وقال: لا أزوّج ابنتى إلا من تاجر مثلى، فإنّه إن ظلمها قدرت على الانتصاف «2» منه، وأنت إن ظلمتها لم أقدر لها على حيلة، فأرغبه بالأموال وهو يأبى، فلما أيس منه شكى ذلك إلى أحد خواصّه، فقال:
ألف مثقال تقوم لك بهذا الأمر، فقال: والله لو علمت أنى أنفق عليها مائة ألف دينار وأنالها لفعلت، قال له: لا عليك تحضر لى ألف دينار، وأمر بألف دينار فأحضرت فأخذها الرجل، ومشى بها إلى عشرة من العدول، وذكر لهم الأمر وسهّله عليهم، وقال: إنّكم تحيون نفسا قد أشرفت على الهلاك، وقال: إنّه قد بذل لها كذا وكذا من المهر وأعلى لهم، وأبوها إنما هو عاضل لها وإلا فما يمنعه، وقد خطبها مثل فلان فى جلاله قدره، وقد أعطاها صداقا لا يعطى إلا لبنت ملك، ثم هو يتأبى- هل هذا إلا عضل بيّن؟ ولكم ألف مثقال لكل منكم مائة، وتشهدون أنّه زوجها منه على صداق مبلغه كذا وكذا، ورفع قدر الصداق إلى غاية، وقال: إن أباها إذا علم أنّكم قد شهدتم عليه رجع إلى هذا، وليس فيه إلا الخير والعزّ، فأجابوه إلى ذلك وأخذوا الذهب، وشهدوا أن أباها زوّجها منه على صداق كبير، فلما علم أبوها بذلك زاد نفاره، فمشى الوزير إلى القاضى وقال: إنى تزوّجت ابنة فلان على هذا الصداق وهؤلاء الشهود على أبيها، وقد أنكر ذلك، فأمر القاضى بإحضار أبيها فحضر، فشهد الشهود عليه، وأحضر
الوزير مال النقد بين يدى القاضى- والرجل متماد على الإنكار، فحكم القاضى عليه وأمر بحمل المال إليه، وأن تؤخذ ابنته أحبّ أم كره، فأخذت منه ونقلت إلى الوزير، فأعمل أبوها الحيلة فى الوصول إلى المعتضد، وكان المعتضد غليظ الحجاب لا يصل إليه غير الخاصة، فقيل للرجل: إنه يحضر ساعة فى كل يوم لبنيان بنى له بقصره، فإن استطعت أن تكون فى جملة رجال الخدمة فإنّك تصل إليه، فغيّر الرجل شكله ودخل فى جملة رجال الخدمة للبناء، فلما جاء المعتضد ترامى الرجل إلى الأرض ونثر التراب على رأسه، فسأله المعتضد عن شأنه فقصّ عليه القصّة، فأحضر الوزير وأغلظ له فى القول، فحملته هيبة المعتضد على أن ذكر له الواقعة كما وقعت، ثم أحضر الشهود فقالوا كما قال، كل ذلك إجلالا له أن يقعوا فى الكذب بين يديه، وهم يظنّون أنّه لا يؤاخذهم لتمكن ذلك الوزير منه، فلما تبيّن له الأمر أمر أن يصلب كل شاهد منهم على باب داره، وأن يجعل ذلك الوزير فى جلد ثور طرىّ السلخ، ويضرب حتى يختلط عظمه ولحمه بدمه، فصنع به ذلك، ثم أمر أن يفرغ بين يدى نمور كانت عنده، فلعقته تلك النمور، وأمر بتسليم الجارية إلى أبيها، وأن تعطى ما أقرّ الوزير لها به من الصداق من عقار وغيره.
وحكى أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى «1» :
أنّ شيخا من التجار كان له على أحد القوّاد فى أيام المعتضد بالله مال، قال التاجر: فمطلنى «2» وكان يحجبنى إذا حضرت إلى بابه، ويضع غلمانه على الاستخفاف بى والاستطالة علىّ إذا رمت لقاء؟؟؟
وتظلّمت إلى عبيد الله بن سليمان الوزير منه، فما نفعنى ذاك، فعزمت على الظلامة إلى المعتضد بالله، فبينما أنا مترو فى أمرى قال لى بعض أصدقائى:
علىّ أن آخذ لك مالك من غير حاجة إلى ظلامة- فاستبعدت هذا، فقمت معه فجئنا إلى خياط شيخ فى سوق الثلاثاء، يقرأ القرآن فى مسجد هناك ويخيط بأجرة، فقصّ عليه قصّتى وشرح له الصورة «1» ، وسأله أن يقصد القائد ويخاطبه فى الخروج إلىّ من حقّى، وكانت دار القائد قريبة من مسجد الخيّاط، فنهض معنا فلما مشينا خفت بادرة القائد وسطوته، وتصورت أنّ قول الخيّاط لا ينفع مع مثله مع محلّه وبسطته، فتأخرت قلت لصديقى:
قد عرّضنا هذا الشيخ ونفوسنا لمكروه عظيم، وما هو إلا أن يراه غلمانه وقد أوقعوا به، وإن كان لم يقبل أمر الوزير فأولى ألا يقبل منه ولا يفكّر فيه، فضحك وقال: لا عليك، وجئنا إلى باب القائد، فحين رأى غلمانه الخيّاط تلقّوه وأعظموه، وأهووا ليقبّلوا يده، فمنعهم منها، وقالوا: ما جاء بك أيها الشيخ فإنّ قائدنا راكب، فإن كان لك أمر تقدّم بذكره لنا ونحن نخبره به «2» ، وإن أردت الجلوس وانتظاره فالدار بين يديك، فلما سمعت ذلك قويت نفسى ودخلنا وجلسنا، ووافى القائد فلما رآه أكرمه إكراما شديدا، وقال له: لست أنزع ثيابى حتى تأمر بأمرك، فخاطبه فى أمرى «3» ، فقال: والله ما معى إلا خمسة آلاف درهم، فتسأله أن يأخذها ويأخذ رهونا من مراكبى الذهب والفضّة بقيمة ما بقى من ماله لأعطيه إياه بعد شهر، فبادرت أنا إلى الإجابة وأحضر الدراهم والمراكب بقيمة الباقى «4» ، وأشهدت الخيّاط وصديقى: أن الرهن عندى إلى مدة شهر، فإن جاز كنت وكيله فى بيعه وأخذ مالى من تمنه، وخرجنا فلما بلغنا مسجد الخيّاط ودخله طرحت الدراهم بين يديه، وقلت: قد ردّ الله مالى بك وعلى يديك فخذ ما تريده منه على طيب نفس منّى «5» ، فقال:
يا هذا- ما أسرع ما قابلتنى بالقبيح على الجميل، انصرف بمالك بارك الله لك فيه، قلت: قد بقيت لى حاجة، قال: ما هى «1» ؟ قلت: أحبّ أن تخبرنى عن سبب طاعة هذا القائد لك، مع إقلاله الفكر بأكابر الدولة، فقال: قد بلغت غرضك فلا تقطعنى عن شغلى بحديث لا فائدة لك فيه، فألححت عليه فقال: أنا رجل أقرأ وأؤم وأقرئ فى هذا المسجد منذ أربعين سنة، لا أعرف كسبا إلا من الخياطة، وكنت صلّيت المغرب منذ مدة وخرجت أريد منزلى، فاجتزت على تركى كان فى هذه الدار، وأومأ إلى دار بالقرب منه، وإذا امرأة جميلة الوجه قد اجتازت عليه، فعلق بها وهو سكران وطالبها بالدخول إلى داره، وهى تمتنع وتستغيث وتقول فى جملة كلامها: إنّ زوجى قد حلف بالطلاق لا أبيت عنه، وإن أخذنى هذا وغصبنى وبيّتنى عن منزلى خرب بيتى ولحقنى من العار ما لا تدحضه «2» الأيام عنى، وما أحد يغيثها ولا يمنع منها، فجئت إلى التركى ورفقت به فى أن يخلى عنها فلم يفعل، وضرب رأسى بدبّوس كان فى يده فشجّه، وأدخل المرأة، فصرت إلى منزلى وغسلت الدم عن وجهى وشددت رأسى، وخرجت لصلاة العشاء الآخرة، فلما فرغنا منها قلت لمن حضر: قوموا معى إلى هذا التركى عدو الله، لننكر عليه ونخرج المرأة من عنده، فقاموا فجئنا وصحنا على بابه، فخرج إلينا فى عدة من غلمانه فأوقع بنا، وقصدنى من بين الجماعة بالضرب الشديد الذى كاد يتلفنى، وحملت إلى منزلى وأنا لا أعقل أمرى، فنمت قليلا للوجع ثم طار النوم عن عينى، وسهرت متقلّبا على فراشى ومفكرا فى أمر المرأة، فإنّها متى أصبحت طلّقت، ثم قلت: هذا رجل شرب طول ليلته ولا يعرف الأوقات، فلو أذّنت لوقع له أن الفجر قد طلع، فربما أخرج المرأة فمضت إلى بيتها وبقيت فى حبال زوجها، فتكون قد
تخلّصت من أحد المكروهين، فخرجت متحاملا الى المسجد وصعدت المنارة وأذّنت، وجلست أطّلع إلى الطريق فأرتقب خروج المرأة من الدار «1» ، فما مضت ساعة حتى امتلأ الشارع خيلا ورجلا ومشاعل، وهم يقولون من ذا الذى أذّن؟ ففزعت وسكتّ ثم قلت أخاطبهم وأصدقهم عن أمرى لعلّهم يعينوننى على خروج المرأة، فصحت من المنارة: أنا أذّنت، فقالوا: أنزل وأجب أمير المؤمنين، فنزلت ومضيت معهم فإذا هم غلمان بدر، فأدخلنى على المعتضد بالله فلما رأيته هبته وأخذتنى رعدة شديدة فقال لى: اسكن- ما حملك على الآذان فى غير وقته؟ وأن تغرّ الناس فيخرج ذو الحاجة فى غير حينه، ويمسك المريد للصوم وقت قد أبيح له الأكل والشرب، قلت:
يؤمّننى أمير المؤمنين لأصدقه، قال: أنت آمن، فقصصت عليه قصة التركى، وأريته الآثار التى فى رأسى ووجهى، فقال: يا بدر- علىّ بالغلام والمرأة، فجىء بهما فسألهما المعتضد عن أمرها فذكرت له مثل ما ذكرت له، فأمر بإنفاذها إلى زوجها مع ثقة يدخلها دارها، ويشرح له خبرها، ويأمره «2» بالتمسك بها والإحسان إليها ثم استدعانى فوقفت بين يديه وجعل يخاطب الغلام ويسمعنى، ويقول له: كم رزقك؟ وكم عطاؤك؟ فيقول كذا وكذا «3» قال: فما كان لك فى هذه النعمة وفى هذه السعة وفى هؤلاء الجوارى ما يكفيك ويكفك عن محارم الله؟ وخرق سياسة السلطان والجرأة عليه؟ وما كان عذرك فى الوثوب بمن أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر «4» ؟
فأسقط فى يد الغلام ولم يكن له جواب يورده، ثم قال: يحضر جوالق ومداق الجص وقيود وغل. فأحضر جميع ذلك فقّيده وغلّه وأدخله
الجوالق، وأمر فدقّوه بمداق الجص وهو يصيح إلى أن خفت صوته وانقطع حسّه، وأمر به فطرح إلى دجلة وتقدم إلى بدر بتحويل ما فى داره، ثم قال لى:- وقد شاهدت ذلك كله- متى رأيت يا شيخ منكرا كبيرا أو صغيرا فأنكره ولو على هذا- وأشار «1» إلى بدر، ومن تقاعس عن القبول منك فالعلامة بيينا أن تؤذن فى مثل هذا الوقت لأسمع صوتك وأستدعيك، قال الشيخ: فدعوت له وانصرفت، وشاع الخبر بين «2» الجند والغلمان، فما سألت أحدا منهم بعدها إنصافا أو كفا عن قبيح إلا أطاعتى فما رأيت خوفا من المعتضد، وما احتجت أن أؤذّن فى مثل ذلك الوقت إلى الآن.
وحكى أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزى أيضا بسند رفعه إلى أبى بكر بن حورى- وكان يصحب أبا عبد الله بن أبى عوف قال «3» كنت ألزم ابن أبى عوف سنين «4» بيننا جوار ومودة «5» ، وكان رسمى كل ليلة أن أجىء بعد العتمة، فحين يرانى يمد رجله فى حجرى فأغمزها، وأحادثه ويسألنى عن الحوادث ببغداد وكتب استقربها له، فإذا أراد أن ينام قبض رجله فقمت إلى بيتى، وقد مضى ثلث الليل أو نصفه أو أقل «6» ، فلما كان ذات يوم جاءنى رجل كان يعاملنى، فقال: قد دفعت إلى أمر إن تمّ علىّ افتقرت، قلت وما هو؟ قال: رجل كنت أعامله فاجتمع لى عليه ألف دينار، فطالبته فرهننى عقد جوهر قوّم بألف دينار إلى أن يفتكه بعد شهور أو أبيعه، وأذن لى فى ذلك، فلما كان أمس وجّه يونس «7» صاحب الشرطة
من كبس دكانى، وفتح صندوقى وأخذ العقد، فقلت: أنا أخاطب ابن أبى عوف فيلزمه بردّه، قال: وأنا مدلّ بابن أبى عوف لمكانى منه ومكانته من المعتضد، فلما كانت تلك الليلة جئته وحادثته على رسمى، وذكرت له فى جملة حديثى حديث العقد، فلما سمع نحّى رجله من حجرى وقال: مالى ولهذا!! أعادى خادما صاحب شرطة الخليفة؟! فورد علىّ أمر عظيم وخرجت من بيته ألا أعود، فلما صلّيت العتمة من الليلة المقبلة جاءنى خادم لابن أبى عوف، وقال: يقول لك لم تأخرت الليلة؟ إن كنت مشتكيا جئناك، فاستحييت وقلت أمضى الليلة، فلما رآنى مدّ رجله وأقبلت أحدّثه بحديث متكلف، فصبر على ساعة ثم قبض رجله فقمت، فقال: يا أبا بكر انظر أى شىء تحت المصلّى فخذه، فرفعت المصلّى فإذا برقعة فأخذتها، وتقدمت إلى الشمعة فإذا فيها: يا يونس جسرت على قصد دكّان رجل تاجر، وفتحت صندوقه وأخذت منه عقد جوهر- وأنا فى الدنيا، والله لولا أنّها أول غلطة غلطتها ما جرى فى ذلك مناظرة، اركب بنفسك إلى دكّان الرجل حتى تردّ العقد فى الصندوق بيدك ظاهرا، فقلت لأبى عبد الله: ما هذا؟ فقال: خط المعتضد- مثلث بين وجدك وبين يونس فاخترتك عليه، فأخذت خط أمير المؤمنين بما تراه، وامض وأرسله إليه، فقبّلت رأسه وجئت إلى الرجل، فأخذت بيده ومضينا إلى يونس وسلّمت التوقيع إليه، فلما رآه أسودّ وجهه وارتعد، حتى سقطت الرقعة من يده، ثم قال: يا هذا- الله بينى وبينك- هذا شىء ما علمت به، فألا تظلّمتم فإن لم أنصفكم فإلى الوزير- بلغتم الأمر أمير المؤمنين من أول وهلة! [قال] «1» فقلت: بعملك جرى والعقد معك فأحضره، فقال: خذ الألف دينار التى عليه، واكتبوا على الرجل ببطلان ما ادعاه، فقلت: لا نفعل، فقال:
ألف وخمسمائة، فقلت: والله لا نرضى حتى تركب بنفسك إلى الدكان فتردّ
العقد، فركب وردّ العقد إلى مكانه.
وحكى عبد الرحمن أبو الفرج بن الجوزى «1» أيضا بسند رفعه إلى أبى محمد عبد الله بن حمدون «2» قال:
قال لى المعتضد ليلة- وقد قدّم له العشاء- لقّمنى، وكان الذى قدّم فراريج ودراريج، فلقّمته من صدر فرّوج، قال: لا، لقّمنى من فخده فلقّمته لقما، ثم قال: هات من الدراريج فلقّمته من أفخاذها، فقال:
ويلك- هوذا أتتنادر علىّ، هات من صدورها، فقلت: يا مولاى ركبت القياس، فضحك، فقلت: إلى كم أضحكك ولا تضحكنى، فقال: شل المطرح وخذ ما تحته، قال: فشلته فإذا دينار واحد، فقلت آخذ هذا؟ قال: نعم، فقلت: بالله هوذا تتنادر أنت الساعة علىّ، خليفة يجيز «3» نديمه بدينار!! فقال: ويلك- لا أجد لك فى بيت المال حقا أكثر من هذا، ولا تسمح نفسى أن أعطيك من مالى شيئا، ولكن هوذا احتال لك بحيلة تأخذ فيها خمسة آلاف دينار، فقبّلت يده فقال: إذا كان غدا وجاء القاسم- يعنى ابن عبيد الله- فهوذا أسارّك حتى تقع عينى عليه سرارا طويلا، ألتفت فيه إليه كالمغضب وانظر أنت إليه فى خلال ذلك كالمخالس لى نظر المترثى، فإذا انقطع السرار فاخرج ولا تبرح من الدهاليز، فإذا خرج خاطبك بجميل وأخذك إلى دعوته وسألك عن حالك، فاشك الفقر والخلّة وقلّة حظّك معى وثقل ظهرك بالدين والعيال، وخذ ما يعطيك واطلب كل ما تقع عليه عينك، فإنّه لا يمنعك حتى تستوفى خمسة آلاف دينار، فإذا أخذتها فسيسألك عما جرى فاصدقه وإياك أن تكذبه، وعرّفه أن ذلك حيلة منّى عليه حتى وصل إليك هذا وحدّثه بالحديث كله على
شرحه، وليكن إخبارك إياه بذلك بعد امتناع شديد، وإحلاف لك منه بالطلاق والعتاق أن تصدقه وبعد أن تخرج من داره كل ما يعطيك إياه ويصير فى بيتك. قال: فلما كان من غد حضر القاسم فحين رآه بدأ يساررنى، وفعل وفعلت كما تقرّر، ثم خرجت فإذا القاسم فى الدهليز ينتظرنى، فقال:
يا أبا محمد- ما هذا الجفاء! لا تجيئنى ولا تزورنى ولا تسألنى حاجة! فاعتذرت إليه باتصال الخدمة علىّ، فقال: لا يقنعنى إلا أن تزورنى اليوم ونتفرج، فقلت: أنا خادم الوزير- فأخذنى إلى طيّارة وجعل يسألنى عن حالى وأخبارى فأشكو إليه الخلة والإضافة والبنات وجفاء الخليفة وإمساكه يده، فيسترجع ويقول: يا هذا مالى لك ولم تضيّق عليك ما يتسع علىّ؟ أو تتجاوز نعمة خلصت لى؟ أو يتخطّاك حظ نازل [فى فنائى]«1» ؟ ولو عرّفتنى لعاونتك على إزالة هذا كله فشكرته، وبلغنا داره فصعد ولم ينظر فى شىء، وقال: هذا يوم أحتاج أن أختص فيه بالسرور بأبى محمد، ولا يقطعنى أحد عنه، وأمر كتابه بالتشاغل بالأعمال، وخلّانى فى دار الخلوة وجعل يجادثنى ويبسطنى، وقدّمت الفاكهة فجعل يلقمنى بيده، وجاء الطعام وكانت هذه سبيله، ووقّع لى بثلاثة آلاف دينار فأخذتها للوقت، وأحضر لى ثيابا وطيبا ومركوبا فأخذت ذلك، وكان بين يدىّ صينيّة فضّة فيها مغسل فضّة فأخذتها، وخرداذى «2» بللور وكوز وقدح بللور فأمر بحمله إلى طيّارى، وأقبلت كلما رأيت شيئا حسنا له قيمة طلبته. فحمل إلىّ فرشا «3» وقال:
هذا للبنات، فلما تقوّض المجلس خلا بى وقال لى: يا أبا محمد- أنت عالم بحقوق أبى عليك ومودّتى لك، فقلت: أنا خادم الوزير، فقال: أريد أن أسالك عن شىء وتحلف لى أنك تصدقنى عنه، فقلت: السمع
والطاعة- فأحلفنى بالله وبالطلاق وبالعتاق على الصدق، ثم قال: بأى شىء سارّك الخليفة اليوم فى أمرى؟ فصدقته عن كل ما جرى حرفا بحرف، فقال: فرّجت عنّى، ولكون هذا هكذا مع سلامة نيّته لى أسهل علىّ فشكرته وودّعته وانصرفت إلى منزلى «1» ، فلما كان من غد بكرت إلى المعتضد فقال: هات حديثك فسقته عليه، فقال: احفظ الدنانير ولا يقع لك أنّى أعمل مثلها معك بسرعة.
وحكى عبد الرحمن أبو الفرج بن الجوزى أيضا بسند رفعه إلى إسماعيل ابن إسحاق القاضى «2» قال:
دخلت على المعتضد بالله وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه، فنظرت إليهم فرآنى المعتضد بالله «3» ، فلما أردت القيام أشار إلىّ فمكثت ساعة، فلما خلا بى قال: أيها القاضى- والله ما حللت سراويلى على حرام قط.
وحكى أيضا بسند رفعه إلى أبى محمد الحسن بن محمد الطلحى قال «4» :
حدّثنى أحد خدم المعتضد المختص «5» بخدمته، قال: كنّا حوالى سرير المعتضد ذات يوم نصف النهار وقد نام بعد أن أكل، وكان رسمنا أن نكون حول سريره أوقات منامه من ليل أو نهار، فانتبه منزعجا وقال:
يا خدم- فأسرعنا الجواب، فقال: ويلكم أغيثونى والحقوا الشط، وأول ملاح ترونه منحدرا فى سفينة فارغة فاقبضوا عليه، وجيئونى به ووكلوا بسفينته، فأسرعنا فوجدنا ملاحا فى سميرية منحدرا- وهى فارغة- فقبضنا عليه، ووكلنا بسميريّته وأصعدناه إليه، فحين رآه الملاح تلف «6» ، فصاح
عليه صيحة عظيمة كادت روحه تخرج معها، وقال: اصدقنى يا ملعون عن قصّتك مع المرأة التى قتلتها اليوم وإلا ضربت عنقك، قال: فتلعثم وقال:
نعم، كنت اليوم من سحر فى مشرعتى فنزلت امرأة «1» وعليها ثياب فاخرة وحلى كثير وجوهر، فطمعت فيها فاحتلت عليها حتى سددت فاها وغرّقتها، وأخذت جميع ما كان عليها، ولم أجسر على حمل سلبها إلى بيتى كيلا يفشو الخبر، فعملت على الهرب وانحدرت الساعة لأمضى إلى واسط، فعلقنى هؤلاء الخدم وحملونى «2» ، فقال له: أين الحلى والسلب؟ قال:
فى «3» السفينة تحت البوارى، فقال المعتضد للخدم: جيئونى به، فمضوا «4» وأحضروه، فقال: خذوا الملّاح فغرّقوه ففعلوا، ثم أمر أن ينادى ببغداد على امرأة خرجت إلى المشرعة الفلانيّة سحرا وعليها الثياب والحلى فليحضر من يعرفها، ويعطى صفة ما كان عليها ويأخذه فقد تلفت المرأة، فحضر فى اليوم الثانى أو الثالث أهل المرأة، وأعطوا صفة ما كان عليها فسلّم ذلك إليهم، قال: فقلنا يا مولانا أوحى إليك، فقال: رأيت فى منامى كأنّ رجلا شيخا أبيض الرأس واللحية والثياب وهو ينادى بالأخذ لأوّل «5» ملّاح ينحدر الساعة فاقبض عليه، وقرّره عن خبر امرأة قتلها اليوم وسلبها، وأقم عليه الحدّ- فكان ما شاهدتم.
وكان المعتضد بالله رحمه الله شجاعا مقداما، فما حكى عن شجاعته ما حكاه أبو الفرج بسند رفعه إلى خفيف السمرقندى قال «6» :
كنت مع مولاى المعتضد فى بعض متصيّداته، وقد انقطع عن العسكر وليس معه غيرى، فخرج علينا أسد فقصدنا، فقال لى المعتضد:
يا خفيف «1» - أفيك خير؟ فقلت: لا يا مولاى، قال: ولا حتى تمسك فرسى وأنزل أنا إلى الأسد، فقلت: بلى، فنزل وأعطانى فرسه وشدّ أطراف ثيابه فى منطقته، واستلّ السيف ورمى بالقراب إلىّ، فأقبل يمشى إلى الأسد، فحين قرب منه وثب الأسد عليه فتلقّاه المعتضد فضربه، فإذا يده طارت فتشاغل الأسد بالضربة، فغشيه «2»
بأخرى ففلق هامته فخرّ صريعا، فدنا منه- وقد تلف- فمسح السيف فى صوفه، فرجع إلىّ فأغمد السيف وركب، ثم عدنا إلى العسكر «3» ، فإلى أن مات ما سمعته تحدّث بحديث الأسد، ولا علمت أنّه لفظ منه «4» بلفظة، فلم أدر من أى شىء أعجب:
من شجاعته وشدته أو من قلة احتفاله بما صنع حتى كتمه أو من عفوه عنّى، فما عاتبنى على ضنّى بنفسى.
وكان رحمه الله حسن الفراسة صادقا، فمن ذلك ما حكاه خفيف السمرقندى قال «5» :
كنت واقفا بحضرة المعتضد إذ دخل بدر وهو يبكى، وقد ارتفع الصراخ من دار عبيد الله بن سليمان الوزير عند موته، فأعلم المعتضد بالله الخبر، فقال: أو قد صحّ الخبر؟ أو هى غشية؟ قال: بل توفى وشدّ لحينه، فرأيت المعتضد بالله وقد سجد فأطال السجود، فلما رفع رأسه قال له بدر: والله يا أمير المؤمنين لقد كان صحيح الموالاة مجتهدا فى خدمتك عفيفا عن الأموال، قال: يا بدر- أظننت أنى سجدت سرورا بموته؟ إنما سجدت شكرا لله عز وجل إذ وفّقنى فلم أصرفه ولم أوحشه، ورفّهت على ورثته ما خلفه لهم من كسبه معى ما يجاوز قيمته ألفى ألف دينار، وقد كنت
عزمت على أخذ ذلك منهم، وأن استوزر أحد الرجلين: إما جرادة- وهو أقوى الرجلين فى نفسى لهيبته فى قلوب الجيش، والآخر أحمد بن محمد بن الفرات وهو أعرف بمواقع الأموال، فقال له بدر: يا مولاى- غرست غرسا حتى إذا أثمر قلعته، أنت ربّيت القاسم وقد ألف خدمتك عشر سنين، وعرف ما يرضى حاشيتك، وجرادة رجل متكبّر ويخرج من الجيش جائعا وابن الفرات لا هيبة له فى النفوس، وإنما يصلح أن يكون بحضرة وزير ليحفظ المال، ومال القاسم وورثته لك أى وقت أردته أخذته، فراجعه المعتضد وبيّن له فساد هذا الرأى، فعدل عن المناظرة إلى تقبيل الأرض مرّات، فقال له المعتضد: قد أجبتك فامض إلى القاسم فعزّه بأبيه، وبشّره بتقرير رأيى على استيزاره، وليسلو عن مصابه، ومره بالبكور إلى الجامع، قال خفيف: فولّى بدر وخرجت معه فدعانى المعتضد [فعدت]«1» ، فقال: أرأيت ما جرى؟ قلت: نعم، قال: والله ليقتلنّ بدرا القاسم «2» - وكان الأمر كذلك، قتله فى خلافة المكتفى بالله على ما نذكره إن شاء الله، فقال خفيف: رحم الله المعتضد كأنّه نظر إلى هذا من وراء ستر.
وكان المعتضد رحمه الله جيد الشعر، فمن شعره ما قاله عند موت جارية كان يحبها وتحبه غاية المحبة، فلما «3» ماتت جزع لموتها جزعا منعه عن الطعام والشراب فقال «4» :
يا حبيبا لم يكن يع
…
دله عندى حبيب
أنت عن عينى بعيد
…
ومن القلب قريب
ليس لى بعدك فى شى
…
ء من اللهو نصيب
لك من قلبى على قل
…
بى وإن بنت رقيب
وخيالى منك مذغب
…
ت خيال لا يغيب
لو ترانى كيف لى بع
…
دك عول ونحيب
وفؤادى حشوه من
…
حرق الحزن لهيب
لتيقّنت بأنّى
…
بك محزون كئيب
ما أرى نفسى وإن طبّ
…
بتها «1» عنك تطيب
لى دمع ليس يعصي
…
نى وصبرء ما يجيب
وقال أيضا:
لم أبك للدار ولكن بما
…
قد كان فيها مرّة ساكنا
فخاننى الدهر بفقدانه
…
وكنت من قبل له آمنا
ودّعت صبرى يوم «2» توديعه
…
وبان «3» قلبى معه ظاعنا
فقال له عبيد الله بن سليمان: يا أمير المؤمنين- مثلك تهون عليه المصائب، لأنه يجد من كل فقيد خلفا، ويقدر على ما يريد، والعوض منك لا يوجد، فلا ابتلى الله الإسلام بفقدك، وعمّره ببقائك. وقد قال الشاعر فى المعنى الذى ذكرته.
يبكى علينا ولا نبكى على أحد
…
ونحن «4» أغلظ أكبادا من الإبل
فضحك المعتضد وعاد إلى عادته.
وقال عبد الله بن المعتز يعزى المعتضد عن هذه الجارية:
يا إمام الهدى بنا لا بك اله
…
مّ «1» وأفنيتنا وعشت سليما
أنت علّمتنا على النعم الشك
…
ر وعند المصائب التسليما
فاسل عمّا مضى فإنّ التى كا
…
نت سرورا صارت ثوابا عظيما
قد رضينا بأن تموت وتحيا
…
إنّ عندى فى ذاك خطا جسيما
من يمت طائعا لديك فقد أع
…
طى نورا ومات موتا كريما
وأخبار المعتضد بالله كثيرة، قد أشرنا إلى ما فيه كفاية.
وكان له من الأولاد على- وهو المكتفى بالله، وجعفر- وهو المقتدر بالله، وهارون، ومحمد- وهو القاهر بالله، ومن البنات إحدى عشرة وقيل تسع.
عشرة «2» .
وكان نقش خاتمه: الاضطرار يزيل الاختيار. ووزراؤه: عبيد الله ابن سليمان بن وهب ثم ابنه القاسم بن عبيد الله. قضاته: إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل «3» بن حماد بن زيد، ثم أبو العباس أحمد بن محمد «4» البرتى، ثم أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز السكّونى، ثم يوسف بن يعقوب «5» بن إسماعيل بن حماد بن زيد، ثم على بن أبى الشوارب، ثم أبو
عمر «1» محمد بن يوسف بن يعقوب «2» . حاجبه: صالح الأمير.
الأمراء بمصر: خمارويه بن أحمد بن طولون، ثم ابنه جيش بن خمارويه، ثم هارون بن خمارويه. القضاة بها: أبو عبدة إلى أن خلع جيش ابن خمارويه فاستتر فى داره، وولى بعده أبو زرعة محمد بن عثمان الدمشقى من قبل هارون بن خمارويه.
(نهاية الجزء العشرين بتجزئة المؤلف)