الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر وفاة أبى العباس المأمون
كانت وفاته بالبذندون «1» من أرض الروم لثمان خلون من شهر رجب، وقيل لاثنتى عشرة بقيت منه، سنة ثمانى عشرة ومائتين، وكان ابتداء مرضه لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة منها؛ وكان سبب مرضه ما ذكره سعيد بن «2» العلّاف القارئ، قال: دعانى المأمون يوما فوجدته جالسا على شاطئ البذندون، والمعتصم عن يمينه، وقد دلّيا أرجلهما فى الماء، فأمرنى أن أضع رجلىّ فى الماء، وقال: ذقه- هل رأيت أعذب منه! أو أصفى أو أشد بردا؟ ففعلت وقلت ما رأيت قط مثله، فقال: أى شىء أن يؤكل ويشرب عليه هذا الماء؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم، فقال: الرطب الآزاذ، فبينما هو يقول ذلك إذ سمع وقع لجم البريد، فالتفت فإذا بغال البريد عليها الحقائب فيها الألطاف، فقال لخادم: انظر إن كان فى هذه الألطاف رطب آزاذ فأت به؟ فمضى وعاد ومعه سلّتان فيهما منه، كأنما جنى تلك الساعة، فأظهر شكر الله تعالى وتعجبنا جميعا، وأكلنا وشربنا من ذلك الماء، فما قام منّا أحد إلا وهو محموم، ودامت العلة بالمأمون حتى مات، ولمّا اشتدت عليه قال لأبى إسحاق: يا أبا إسحاق أدن منّى واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك فى القرآن، واعمل فى الخلافة- إذا طوّقكها الله- عمل المريد لله، الخائف من عذابه وعقابه، ولا تغتر بالله ومهلته، ولا تغفل أمر الرعية الرعية الرعية- العوامّ العوامّ فإنّ الملك بهم وبتعهدك لهم، الله الله فيهم وفى غيرهم من المسلمين، ولا ينتهينّ إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة إلا قدّمته وآثرته على غيره من هواك، وخد من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم فى شىء، وانصف بعضهم من بعض بالحق
بينهم، وعجّل الرحلة عنّى إلى دار ملكك بالعراق «1» ، وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم فى كل وقت، والخرّمية فاغزهم ذا حزامة وصرامة «2» وجلد، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود، فإن طالت مدّتهم فتجرّد لهم فيمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل فى ذلك عملا مقدم النية فيه راجيا ثواب الله عليه، ثم دعاه بعد ساعة حين اشتد وجعه وأحسّ بمجىء أمر الله، فقال: يا أبا إسحاق عليك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم لتقومنّ بحق الله فى عباده، ولتوثرنّ طاعة الله على معصيته، إذا أنا نقلتها من غيرك إليك، قال: اللهم نعم، قال: هؤلاء بنو عمّك ولد أمير المؤمنين علىّ رضى الله عنه فأحسن صحبتهم وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسنهم، ولا تغفل ضلاتهم فى كل سنة عند محلّها، فإنّ حقوقهم تجب من وجوه شتى، اتقوا الله ربكم حق تقاته، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، واتقوا الله واعملوا له، اتقوا الله فى أموركم كلها، أستودعكم الله ونفسى وأستغفر الله بما سلف منّى إنّه كان غفّارا، فإنّه ليعلم كيف ندمى على ذنوبى فعليه توكّلت من عظيمها وإليه أنيب، ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، حسبى الله ونعم الوكيل، وصلّى الله على محمد نبى الهدى والرحمة.
قال: ولما اشتد مرضه وحضره الموت كان عنده ابن ماسويه، فجاء من يلقنه فعرض عليه الشهادة، فقال الطبيب: دعه فإنه لا يفرّق فى هذه الحال بين ربه ومانى، ففتح المأمون عينيه وأراد أن يبطش به فعجز، وأراد الكلام فعجز عنه، ثم قال: يا من لا يموت ارحم من يموت، ومات من ساعته. ولما توفى حمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إلى طرسوس، فدفناه بها بدار خاقان خادم الرشيد، وصلّى عليه المعتصم ووكلوا به حرسا من أبناء