الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغوّر ما حوله من المياه، فقال لأصحابه: ألم أقل لكم، ورجع فنزل فى مكان عسكر أبى مسلم الذى كان به أولا، ثم التقوا واقتتلوا خمسة أشهر عدة وقعات، حتى كادت الهزيمة تكون على أصحاب أبى مسلم، وانهزم بعضهم، فكان أبو مسلم يرتجز فى ذلك فيقول:
من كان ينوى أهله فلا رجع
…
فرّ من الموت وفى الموت وقع
فلما كان يوم الثلاثاء أو الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سبع وثلاثين التقوا واقتتلوا، فانهزم أصحاب عبد الله وتركوا معسكرهم فحواه أبو مسلم، وكتب بذلك إلى المنصور، فأرسل أبا الخصيب مولاه يحصى ما أصابوا من العسكر، فغضب أبو مسلم. قال: ومضى عبد الله وعبد الصمد ابنا علىّ، فقدم عبد الصمد الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى المنصور، وأما عبد الله فإنه أتى أخاه سليمان بن علىّ بالبصرة، فأقام عنده زمانا متواريا.
ذكر مقتل أبى مسلم الخراسانى
وكان مقتله لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة، قال:
وسبب ذلك أن المنصور كان قد حقد عليه أشياء كثيرة، منها أن أبا مسلم كان قد كتب إلى السفاح يستأذنه فأذن له، وكتب السفاح إلى المنصور- وهو على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان- أن أبا مسلم استأذننى فى الحج وأذنت له، وهو يريد أن أوليه الموسم فاستأذنى أنت فى الحج، فإنك إذا كنت بمكة لا يطمع أن يتقدمك، فكتب المنصور إلى السفاح يستأذنه فى الحج فأذن له، فقال أبو مسلم: ما «1» وجد أبو «2» جعفر عاما يحج فيه غير هذا!! وحجّا معا، فكان أبو مسلم يكسو الأعراب، ويصلح الآبار
والطرق، فصار الذكر له، فلما صدر الناس عن الموسم تقدم أبو مسلم فى الطريق على المنصور، وأتاه خبر السفاح كما قدّمناه، فكتب إلى أبى جعفر يعزيه بالسفاح ولم يهنئه بالولاية، ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع، فغضب المنصور لذلك وكتب إليه كتابا غليظا، فلما أتاه الكتاب كتب إليه يهنئه بالخلافة، وتقدم أبو مسلم فأتى الأنبار، فدعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له، فأبى عيسى وقد قيل فى أمره ما قدمناه، ثم جهّزه لمحاربة عبد الله بن على ومعه الحسن بن قحطبة، فأرسل الحسن إلى أبى أيوب وزير المنصور يقول: إنى قد ارتبت «1» من أبى مسلم، فإنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقيه إلى أبى الهيثم ويضحكان استهزاء، فقال أبو أيوب: نحن لأبى مسلم أشد تهمة (منّا)«2» لعبد الله.
فلما انهزم عبد الله وبعث المنصور أبا الخصيب يجمع الأموال، فأراد أبو مسلم قتله فكلّم فيه فخلى سبيله، وقال: أنا أمين على الدماء خائن فى الأموال، وشتم المنصور فرجع أبو الخصيب وأخبر المنصور، فخاف أن يمضى أبو مسلم إلى خراسان، فكتب إليه: إنى قد ولّيتك مصر والشام، فهى خير لك من خراسان، فوجه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام، فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحبّ لقاءك أتيته من قرب، فلما أتاه الكتاب غضب وقال: يولينى مصر والشام وخراسان لى!! فكتب الرسول إلى المنصور بذلك.
وأقبل أبو مسلم من الجزيرة وقد أجمع على الخلاف، وخرج يريد خراسان، وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبى مسلم فى المسير إليه، فكتب إليه أبو مسلم وهو بالزاب: إنه لم يبق لأمير المؤمنين عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنّا نروى عن ملوك بنى ساسان: إن أخوف ما
يكون الوزراء إذا سكنت «1» الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء لك ما وفيت، حريّون بالسمع والطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطى نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسى، فلما وصل الكتاب إلى المنصور كتب إليه: قد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغشيشة ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، وأنت فى طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر ما أنت به، وليس من الشريطة التى أوجبت منك سمع ولا طاعة، وحمّل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة، لتسكن إليها إن أصغيت، وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به ذات «2» بينك أوكد عنده وأقرب من الباب الذى فتحه عليك.
وقيل إن مكاتبة أبى مسلم إلى المنصور كانت على خلاف ما قدمناه، وأن المنصور لما سار إلى المدائن أخذ أبو مسلم طريق حلوان، فقال المنصور لعمه عيسى بن على ولمن حضره من بنى هاشم: اكتبوا إلى أبى مسلم، فكتبوا إليه يعظمون أمره ويشكرونه، ويسألونه أن يتمّ ما كان منه وعليه من الطاعة، ويحذّرونه عاقبة البغى، ويأمرونه بالرجوع إلى المنصور، وبعث المنصور الكتب مع أبى حميد المروروذى وقال له: كلّم أبا مسلم بألين ما تكلم به أحدا، ومنّه وأعلمه أنى رافعه وصانع به ما لم أصنع بأحد- إن هو صلح وراجع فله ما أحب «3» ، فإن أبى فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: لست للعباس وأنا برىء من محمد إن مضيت مشاقا ولم تأتنى، إن «4» وكلت أمرك
إلى أحد سواى، وإن لم آل طلبك وقتالك بنفسى، ولو خضت البحر لخضته، ولو «1» اقتحمت النار لاقتحمتها، حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك، وأوصاه ألا يقول له هذا القول إلا بعد الإياس منه، فسار أبو حميد وقدم على أبى مسلم بحلوان، فدفع إليه الكتب وقال: إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله، وخلاف ما عليه رأيه فيك- حسدا وبغيا، يريدون إزالة النعمة وتغييرها، فلا تفسد ما كان منك، وقال له: يا أبا مسلم إنك لم تزل أمين آل محمد، يعرفك بذلك الناس وما ذخره الله لك فى ذلك من الأجر عنده أعظم مما أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك ولا يستهوينّك الشيطان، فقال له: متى كنت تكلمنى بهذا الكلام!! فقال أبو حميد: إنك دعوتنا إلى هذا الأمر وإلى طاعة أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم فى بنى العباس، وأمرتنا بقتال من خالف، فدعوتنا من أرضين متفرقة وأسباب مختلفة فجمعنا الله على طاعتهم، وألف بين قلوبنا حتى أتيناهم فى بلادهم ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتهى أملنا أن يفسد أمرنا وتفرّق كلمتنا؟ وقد قلت لنا: من خالفكم فاقتلوه، وإن خالفتكم فاقتلونى، فأقبل أبو مسلم على أبى نصر مالك بن الهيثم، وقال: أما تسمع كلامه لى!! ما هذا بكلامه، فقال مالك: لا تسمع كلامه ولا يهولنّك هذا منه، فلعمرى ما هذا كلامه، ولما بعد هذا أشد منه، فامض لأمرك ولا ترجع، فو الله لئن أتيته ليقتلنّك، ولقد وقع فى نفسه منك مالا يأمنك معه أبدا، فأمرهم بالقيام فنهضوا.
وأرسل أبو مسلم الكتب إلى نيزك فقال: لا أرى أن تأتيه، وأرى أن تأتى الرى فتقيم بها، فتصيّر ما بين خراسان والرى لك، وهم جندك لا يخالفونك، فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت فى جندك، وكانت خراسان من ورائك، وأنت ورأيك.
فدعا أبا حميد وقال له: ارجع إلى صاحبك فليس من رأيى أن آتيه، قال: قد عزمت على خلافه، قال: نعم، قال: لا تفعل، قال لا أعود أبدا، فلما أيس منه أبلغه الرسالة، فوجم طويلا ثم قال: قم كررها وارتاع لقوله. وكان المنصور قد كتب لأبى داود- خليفة أبى مسلم بخراسان- حين اتهم أبا مسلم: أن لك إمرة خراسان، فكتب أبو داود إلى أبى مسلم:
إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيّه صلى الله عليه وسلم، فلا تخالفنّ إمامك ولا ترجع إلا بأمره، فوافاه كتابه وهو على تلك الحال فزاده رعبا، فأرسل إلى أبى حميد فقال له: إنى كنت عازما على المضى إلى خراسان، ثم رأيت أن أوجّه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتينى برأيه، فإنه ممن أثق به فوجّهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يحب، وقال له المنصور: اصرفه عن وجهه ولك ولاية خراسان وأجازه، فرجع أبو إسحاق إلى أبى مسلم وقال: ما أنكرت شيئا، ورأيتهم معظمين لحقك، يرون لك ما يرون لأنفسهم، وأشار عليه أن يرجع إلى المنصور فيعتذر إليه، فقال له نيزك:
قد أجمعت على الرجوع؟ قال: نعم، وتمثل:
ما للرجال مع القضاء محالة
…
غلب «1» القضاء بحيلة الأقوام
قال: فإذا عزمت على هذا فخار الله لك، احفظ عنى واحدة: إذا دخلت عليه فاقتله، ثم بايع لمن شئت، فإن الناس لا يخالفونك.
وكتب أبو مسلم إلى المنصور إنه منصرف إليه، وسار نحوه واستخلف أبا نصر مالك بن الهيثم على عسكره، وقال له: أقم حتى يأتيك كتابى، فإن أتاك مختوما بنصف خاتم فأنا كتبته، وإن أتاك بخاتمى كله فلم أختمه، وقدم المدائن فى ثلاثة آلاف رجل وخلف الناس بحلوان. قال: ولما دنا أبو مسلم من المنصور أمر الناس بتلقيه، فتلقاه بنو هاشم والناس؛ ثم قدم فدخل
على المنصور فقبّل يده، فأمره أن ينصرف ويستريح ليلته ويدخل الحمام فانصرف.
فلما كان من الغد دعا المنصور عثمان بن نهيك وأربعة من الحراس، فأمرهم أنه إذا صفّق بيده أن يقتلوا أبا مسلم وتركهم خلف الرواق، واستدعى أبا مسلم فدخل عليه، فقال له المنصور: أخبرنى عن نصلين أصبتهما مع عبد الله بن على، قال: هذا أحدهما، قال: أرنيه فانتضاه وناوله إياه، فوضعه المنصور تحت فراشه، وأقبل يعاتبه وقال له: أخبرنى عن كتابك إلى السفاح تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين!؟ قال:
ظننت أن أخذه لا يحلّ، فلما أتانى كتابه علمت أنه وأهل بيته معدن العلم؛ قال: أخبرنى عن تقدمك إياى بطريق مكة، قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس، فتقدمت للرفق؛ وذكره بذنوبه وما أنكره عليه، وكان من جملة ما ذكر له- ألست الكاتب إلىّ تبدأ بنفسك، وتخطب عمتى آمنة «1» بنت على، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس، لقد ارتقيت- لا أمّ لك- مرتقى صعبا، ثم قال: وما الذى دعاك إلى قتل سليمان بن كثير؟ مع أثره فى دعوتنا وهو أحد نقبائنا «2» قبل أن يدخلك فى هذا الأمر! قال: أراد الخلاف علىّ وعصانى فقتلته، فلما طال عتاب المنصور له قال: لا يقال لى هذا بعد بلالى وما كان منّى! قال: يا ابن الخبيثة، والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنما عملت فى دولتنا وبريحنا، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا، فأخذ أبو مسلم يد المنصور يقبّلها ويعتذر إليه، فقال: والله ما رأيت كاليوم، والله مازدتنى إلا غضبا، فقال أبو مسلم: دع هذا، فو الله قد أصبحت ما أخاف إلا الله، فشتمه المنصور وصفّق بيده على الأخرى، فخرج إليه الحرس فضربه عثمان
ابن نهيك فقطع حبائل سيفه، فقال: استبقنى لعدوك يا أمير المؤمنين، فقال: لا أبقانى الله إذن، وأى عدو أعدى لى منك؟! وأخذته سيوف الحرس حتى قتلوه، وهو ينادى العفو العفو، فقال المنصور يا ابن اللخناء والسيوف قد اعتورتك!! وأنشد المنصور «1» :
اشرب بكأس كنت تسقى بها
…
أمرّ فى فيك من العلقم
زعمت أن الدين لا يقتضى
…
كذبت والله أبا مجرم
قال: وكان أبو مسلم قد قتل ستمائة ألف صبرا، قال: ولما قتل قال لأصحابه اجتمعوا، فاجتمعوا فنثرت عليهم بدرة، فلما أكبوا ليلتقطوها طرح عليهم رأس أبى مسلم، فلما رأوه تخاذلوا وتفرقوا، قال: ثم خطب المنصور بعد مقتل أبى مسلم فقال:
أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا فى ظلمة الباطل بعد سعيكم فى ضياء الحق، إن أبا مسلم أحسن مبتدأ وأساء معقبا، وأخذ من الناس «2» أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيّته مالو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا فى قتله، وعنّفنا فى إمهاله «3» ، وما زال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحلّ لنا عقوبته، وأباحنا دمه فحكمنا فيه حكمه لنا فى غيره، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه، وما أحسن ما قال النابغة الذبيانى:
فمن أطاعك فانفعه بطاعته
…
كما أطاعك وادلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة
…
تنهى الظلوم ولا تقعد على الصمد «1»
ثم نزل.
قال: وكان أبو مسلم قد سمع الحديث من عكرمة وأبى «2» الزبير المكى وثابت البنانى ومحمد بن على بن عبد الله بن عباس والسدّى وروى عنه إبراهيم بن ميمون الصائغ وعبد الله بن المبارك وغيرهما، وقيل لعبد الله بن المبارك: أبو مسلم كان خيرا أو الحجاج؟ قال: لا أقول إن أبا مسلم خير من أحد، ولكنّ الحجاج كان شرا منه، وكان أبو مسلم فاتكا شجاعا ذا رأى وتدبير وحزم وعقل ومروءة.
قال: ولما قتل كتب المنصور إلى أبى نصر مالك بن الهيثم عن لسان أبى مسلم يأمره بحمل ثقله، وما خلّف عنده، وأن يقدم، وختم الكتاب بخاتم أبى مسلم، فلما رأى الخاتم تاما علم أن أبا مسلم لم يكتبه، فقال:
أفعلتموها، وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان، فكتب المنصور له عهدا على شهرزور، وكتب إلى زهير بن التركى وهو على همذان، إن مرّ بك أبو نصر فاحبسه، فأتاه الكتاب وهو بهمذان، فقال له زهير: قد صنعت لك طعاما، فلو أكرمتنى بدخول منزلى، فحضر عنده فأخذه زهير وحبسه، وقدم صاحب العهد على أبى نصر فخلّى زهير سبيله لهواه فيه فخرج، ثم كتب المنصور إلى زهير بقتله، فقال جاءنى كتاب بعهده فخليت سبيله، ثم قدم أبو نصر على المنصور فقال: أشرت على أبى مسلم بالمضى إلى خراسان، قال: نعم، كانت له عندى أياد فنصحته، وإن اصطنعنى أمير المؤمنين نصحت له وشكرت، فعفا عنه، فلما كان يوم الراونديّة قام أبو نصر