الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منا إلا من لبس لأمة حربه، وأمسك عنان فرسه فى يده، وتساوى فى ذلك الأمير والمأمور، وكنت قد رافقت الأمير علاء الدين مغلطاى البيسرىّ أحد أمراء الطبلخانات بدمشق، لصحبة كانت بينى وبينه، فلم نزل على ذلك وأعنة خيلنا بأيدينا حتى طلع الفجر فصلّينا وركبنا، واصطفّت العساكر إلى أن طلعت الشمس وارتفع النهار فى يوم السبت المذكور، ثم أرسل الله مطرا شديدا نحو ساعتين ثم ظهرت الشمس، ولم نزل على خيولنا إلى وقت الزّوال، وأقبل التتار كقطع اللّيل المظلم، وكان وصولهم ووصول السلطان بالعساكر المصرية فى ساعة واحدة.
ذكر خبر المصاف وهزيمة التتار
كان المصاف المبارك فى يوم السبت ثانى شهر رمضان المعظّم سنة اثنتين وسبعمائة، وهزيمة التتار فى يوم الأحد بعد الظهر، وذلك أن السلطان الملك الناصر- قرن الله مساعيه بالظفر، وحكمّ مرهفاته فى رقاب من طغى وكفر- حال وصوله إلى مرج الصّفّر بالقرب من شقحب [1] تولى [2] ترتيب عساكره فوقف- خلّد الله سلطانه- فى القلب وبإزائه الخليفة أمير المؤمنين أبو الربيع سليمان، وفى خدمته الأمير سيف الدين سلّار نائبه، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار المنصورىّ والأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار أمير جندار [3] ، والأمير جمال الدين أقش الأفرم نائب السلطنة بالشام، ومضافيهم، والمماليك السلطانية [4] هؤلاء فى القلب.
[1] شقحب- ويقال تل شقحب: وهى قرية فى الشمال الغربى من غباغب. وهذه قرية فى أول أعمال حوران من نواحى دمشق، وبينهما ستة فراسخ (معجم البلدان 3: 871، وهامش النجوم الزاهرة 8: 159) .
[2]
زيادة يقتضيها السياق.
[3]
أمير جاندار: لفظ مركب من كلمتين «جان» بمعنى روح أو نفس، و «دار» بمعنى ممسك. والمعنى الجملى حارس وحافظ السلطان أو الأمير- أو الحارس الخاص- ويتولى الاستئذان لدخول الأمراء للخدمة ويدخل أمامهم إلى الديوان. (صبح الأعشى 4: 20) .
[4]
المماليك السلطانية: فرقة من المماليك التى اشتراها السلطان أو جلبت إليه أو آلت إليه من مماليك من سبعة فى السلطنة ومرتبات هذه الفرقة من ديوان المفرد (السلوك 1: 22 هامش الدكتور زيادة) .
ووقف فى الميمنة الأمير حسام الدين لاجين الرّومى أستاذ الدار، والأمير جمال الدين أقش الموصلىّ أمير علم [1] المعروف بقتّال السّبع، والأمير جمال الدين يعقوب الشّهرزورىّ، والأمير مبارز الدين أوليا بن قرمان ومضافيهم، وفى جناح الميمنة الأمير سيف الدين قبجاق، والعربان أجمع- والله أعلم.
ووقف فى الميسرة الأمير بدر الدين بكتاش الفخرى أمير سلاح، والأمير شمس الدين قرا سنقر المنصورى نائب السلطنة بالمملكة الحلبيّة، والأمير سيف الدين أسند مركرجى نائب السلطنة بالفتوحات، والأمير سيف الدين بتخاص [2] نائب المملكة الصفدية، والأمير سيف الدين بكتمر السّلاح دار، والأمير سيف الدين طغريل الإيغانى [3] والأمير ركن الدين بيبرس الدّوادار المنصورىّ، والأمير ركن الدين بيبرس الموفقى، وغيره من مقدمى أمراء الشام، وكنت فى الميسرة. وأما غير هؤلاء الذين ذكرناهم من الأمراء مقدمى الألوف من العساكر المصرية وغيرها فلم أتحقق مواقفهم [4] فأذكرها.
وأقبل التتار وفيهم من مقدمى التمانات قطلوشاه، وقرمشىّ [5] بن الناق، وسوتاى، وجوبان بن تداون، وأقطاجى، وبولاى [6] ، وطوغان، وسياومى بن قطلوشاه، وطغريل بن أجاى، وأبشقا، وأولاجقان، وألكان، وطيطق، وهم فى مائة ألف من المغول والكرج والأرمن وغيرهم. ولما جاوزوا منزلة الكسوة [7] طلّبوا تحت الجبل المسمى كنف المصرى، وحملوا على الميمنة فصدموها بمعظم جموعهم؛ فاضطربت وقاتل من بها قتالا شديدا، فاستشهد
[1] أمير علم: هو الذى يتولى أمر الإعلام والسناجق والرايات السلطانية ويشترط فيه الدراية بنوع الإعلام اللازمة لكل موكب من المواكب السلطانية- انظر (القلقشندى: صبح الأعشى ج 4 ص 8، ج 5 ص 456- 458) .
[2]
كذا فى الأصول. وفى السلوك 1: 932 «بد خاص» .
[3]
فى الأصول بدون نقط، والمثبت من السلوك 1: 932، والنجوم الزاهرة 8: 159، وجاء فى هامش النجوم «ورد فى الدرر الكامنة» طغريل الإتقانى وكان من مماليك إتقان الملقب «سم الموت» .
[4]
فى ك «موافقتهم» والمثبت من ص، وف.
[5]
كذا فى الأصول، وفى النجوم الزاهرة والسلوك 1: 933 «قرمجى» .
[6]
فى الأصول «مولاى» والمثبت من المرجعين السابقين.
[7]
منزلة الكسوة: منزلة وضيعة يمر بها نهر الأعرج، وبينها وبين النهر اثنا عشر ميلا، وهى أول منزلة للقوافل إذا خرجت من دمشق إلى مصر (النجوم الزاهرة 8: 124 هامش) .
الأمير حسام الدين الرّومىّ، والأمير مبارز الدين أوليا بن قرمان، والأمير شمس الدين سنقر الكافرى، والأمير جمال الدين أقش الشمسى الحاجب، والأمير عز الدين أيدمر النقيب، والأمير عز الدين أيدمر الرّفّا، والأمير عز الدين أيدمر [1] الشمسى القشاش، والأمير علاء الدين على بن داود التركمانى والأمير حسام الدين على بن باخل، ونحو ألف فارس من مماليك الأمراء وأجنادهم، وانهزم بعض الأمراء، فكان منهم: الأمير سيف الدين برلغى الأشرفى. فأردف السلطان الميمنة بالقلب حتى ردّ التتار.
وأما الميسرة فقاتلها بولاى فى حماية من التتار، فلم تكن لهم طاقة بملاقاة من فيها من الجيوش؛ فهرب بولاى فى هذا اليوم بعد العصر فى نحو عشرين ألف فارس من غير طائل قتال، وتبعهم بعض الجيش الإسلامى وعادوا، ثم حجز الليل بين الفريقين، فلجأ التتار إلى الجبل، وأضرموا النيران، وأحاطت بهم العساكر الإسلامية طول الليل. فلما أسفر الصباح عن يوم الأحد ثالث شهر رمضان تقدّمت العساكر الإسلامية إلى الجبل، وضايقوهم أشدّ المضايقة، فكان ينزل من شجعانهم طائفة وتتقدّم إلى طلب [2] من أطلاب العساكر وتقاتل فيردها من يقابلها أقبح ردّ. وكان هذا اليوم بالحصار أشبه منه بالمصافّ، واستمر الحال على ذلك إلى وقت الظهر ففرّج لهم الأمير سيف الدين استدمر كرجى فرجة من رأس الميسرة، فلمّا رأوها بادروا بالفرار، وخرجوا على فرقتين، فالفرقة الأولى فيها جوبان فى نحو ثلاثين ألف فارس حتى أبعد. ثم تلاه قطلوشاه فى نحوها، وبقى منهم فرقة ثالثة فيها طيطق [3] فى زهاء عشرين ألف فارس، فلما فرّوا حملت العساكر عليهم وأبادوهم قتلا وأسرا، وتبعتهم العساكر بقيّة النهار إلى الليل.
[1] هذا اللفظ من ص.
[2]
الطلب لفظ كردى: كان يطلق على الأمير يقود مائتى فارس فى ميدان القتال، ويطلق أيضا على قائد المائة أو السبعين، وأول ما استعمل هذا اللفظ بمصر والشام أيام السلطان صلاح الدين الأيوبى. ثم عدل مدلوله فأصبح يطلق على الكتيبة أو الفرقة من الجيش. (السلوك 1: 248 حاشية للدكتور زيادة، والنجوم الزاهرة 7: 391 هامش) .
[3]
فى ك «طيطلق» والمثبت من ص، وف.
ولما كان فى يوم الإثنين رابع شهر رمضان جرّد السلطان الأمير سيف الدين سلّار، والأمير عز الدين أيبك الخزندار، وغيرهم من العساكر يقفّون آثارهم. ثم ركب السلطان فى يوم الإثنين من مكان الوقعة وبات بالكسوة ودخل إلى دمشق فى بكرة نهار الثلاثاء خامس الشهر، هو والخليفة، ونزل بالقصر الأبلق [1] ، ثم بالقلعة، ونزل الخليفة بالتّربة الناصرية [2] ، وأقام السلطان بدمشق إلى ثانى شوّال، ورحل من دمشق فى يوم الثلاثاء الثالث من شوال ووصل إلى القاهرة، ودخل فى الثالث والعشرين منه، وشقّ المدينة، ونزل بالمدرسة المنصورية؛ لزيارة قبر والده السلطان الملك المنصور، ثم ركب وطلع إلى قلعة الجبل، واحتفل الناس لمقدمه احتفالا عظيما، وزيّنت القاهرة بزينة لم يشاهد مثلها فيما مضى، واستمرت الزينة بها بعد وصول الأمير بدر الدين بكتوت الفتّاح بكتاب البشارة، فى يوم الأحد عاشر شهر رمضان، إلى أن قدم السلطان بعد ذلك بأيّام.
وقد ذكر الناس هذه الغزوة نظما ونثرا، ووقفت ممّا عمل فيها على أشياء كثيرة، وقد رأيت أن أورد من ذلك ما نقف عليه من النظم والنثر، فكان ممن عمل فى ذلك القاضى الرئيس الفاضل علاء الدين على بن عبد الظاهر [3] صنّف فى خبر هذه الوقعة جزءا سماه الرّوض الزاهر فى غزوة الملك النّاصر [4] ابتدأه بأن قال: الحمد لله الذى أيّد الدين المحمدى بناصره، وحمى حماه بمن مضى هو وسلفه بأداء فرض الجهاد فى أوّل الزمان وآخره، وجعل من الذرّيّة المنصورية من يجاهد فى الله حقّ جهاده، ويسهر فى سبيل الله فيمنع طرف السيف أن يغفى [5] فى إغماده، ويقدم يوم الوغى والموت من بعوثه للعدى
[1] القصر الأبلق: هو قصر الملك الظاهر بيبرس البندقدارى أنشأه بظاهر غربى دمشق بين المبدأتين الأخضريين، وسمى بذلك لأن بناءه كان بحجارة مختلفة الألوان. وأنظر البداية والنهاية 13: 274، والدارس فى تاريخ المدارس 1:350.
[2]
التربة الناصرية: أنشأها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن غازى بن أيوب بجبل قاسيون على نهر يزيد وبجوارها خانقاه له أيضا (الدارس فى تاريخ المدارس 2: 178.
[3]
هو علاء الدين على بن محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر، توفى بمصر سنة 717 هـ (ذيول العبر ص 94، الدرر الكامنة 3: 109، حسن المحاضرة 1: 571، شذرات الذهب 6:246.
[4]
هذا الجزء ورد بنصه فى ملحقات السلوك 1: 1027 ملحق 16، وقد أشار الدكتور زيادة إلى نقله من نهاية الأرب للنويرى.
[5]
يغطى: من أغفى بمعنى أخذه النوم أو النعاس (القاموس المحيط) .
وأجناده نحمده على ما وهبنا من نصره، ونشكره على نعمه التى خوّلنا منها بأسا أذاق العدوّ وبال أمره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترفع منار هذا الدين، وتضاعف أجر المجاهدين الذين [10] أضحوا فى درج المتقين مرتقين، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى بعثه وضروع الكفر حوافل، وربوع البغّى أواهل. فلم يزل يجرّد الصّفاح من مقرّها، ويطلق جياد الغرم فى مجراها وصعاد الحزم فى بحرها، إلى أن أخمد نار الشرك والنفاق، وظهرت معجزاته بإطفاء نار فارس بالعراق، صلى الله عليه وعلى آله الذين جرّدوا بين يديه سيوف الحتوف، فاستغلقت الأعمار، وهاجروا إليه ونصروه فسموا المهاجرين والأنصار، وبعد: فإن الوقائع التى عظمت آثارها فى الآفاق، وحفظت بها دماء المسلمين من أن تراق، وبقى بها الملك والممالك، وأشرق بها سواد الخطب الحالك، وسطّرها الله تعالى فى صحائف مولانا السلطان الملك الناصر، وآتاه فيها من الملك ما لم يبلغه أحد، فأورثه به ظفرا مخلّدا لا يفنى وإن طال المدار والأمد، وأشبه فى ثباته ووثباته بها أباه رضىّ الله عنه، والشبل فى المخبر مثل الأسد، واستقر بها الملك فى مهاد السكون بعد القلق، وتبدلّت بها الملة الإسلامية الأمن بعد الفرق، وأضحى بها وجه الإسلام سافرا بعد تقطيبه، وطلع بها بدر السرور كاملا بعد مغيبه، وعمّت الأيام إحسانا من الملك وحسنى وعلّم المؤمنين بها تحقيق قوله عز وجل وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
[1]
حقها [2] أن يسطر فيها ما يعمر ربوع السرور ويؤنس معاهده، ويقف عليه الغائب فيكون كمن شاهده ويذيع أنباء هذه النّصرة فى الأقطار، ويتحقق أهل الإسلام أن لهم ملكا يناضل عن دين الله بالسّمر الطّوال والبيض القصار، وسلطانا ما أغمد سيفه فى جفنه إلا ليستجم لأخذ الثأر ممّن ثار.
[1] سورة النور آية 55.
[2]
زيادة يقتضيها السياق.
ولما كانت هذه الغزاة المبرورة، والحركات التى عدت حسناتها فى صحائف القبول مسطورة، والسّفرة التى أسفرت بحمد الله عن الغنيمة والسلامة، وأعلمت الأمة بركة قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفة من أمتّى ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم إلى يوم القيامة» . وكنت ممن شملته نفحات الرحمة فيها، وهبّت عليه رياح النّصر التى كانت ترجّيها [1] ، وشاهدت صدق العزائم الملكية الناصرية، التى طلعت فى سماء النّقع نجوما وقّادة، وشهدت فى محضر الغزو على إقرار العدى بالعجز، وكيف لا وذاك الموطن محلّ الشهادة، ورأيت كيف أثبت السيف لنا الحقّ لأنه القاضى فى ذلك المجال، وكيف نفذت السهام لأجل تصميمه فى الحكم، فلم تمهل حتى أخذت دين الآجال وهو حالّ، وقد أحببت أن أذكر من أمرها ملحة تنشرح منها [2] الصدور، وآتى بلمعة تعرب عن ذلك النور، وها أنا أذكر نبأ السفر من افتتاحه، وأشرح حديث هذه الغزاة من وقت صباحه، فأقول:
ركب مولانا السلطان الملك [3] الناصر خلد الله ملكه- بنيّة صالحة أخلصها فى سبيل ربّه، وعزيمة ناجحة ماثلت فى المضاء سمر عواليه وبيض قضبه، من قلعة مصر التى هى كنانة الله فى أرضه، بجيوشه التى نهضت بسنن الجهاد وفرضه، تقدمها أمراؤه الذين كأنهم ليوث غاب، أو غيوث سحاب، أو بدور ليال، أو عقود لآل [4] معتضدا [5] ببضعة من الرسول، منتصرا بابن عمه، الذى لا يسمو أحد من غير أهل بيته لشرفه، ولا يطول، ملتمسا بركة هذا البيت الشريف الذى طالما كانت الملائكة من نجده وجنده، مسترسلا بيمنة الإيمان سحب كرمه، مستدعيا صادق وعده. وسار على اسم الله تعالى بالجاريات الجياد، التى تعدو فى سبيل الله النجاد، وتعلو الهضاب، وسرى يقطع المنازل، ويطوى المراحل طىّ السّجلّ للكتاب، والجيوش المنصورة قد أرهفت
[1] كذا فى الأصول. وفى السلوك 1: 1028 «تزجيها» .
[2]
وفى ص «ينشرح بها» .
[3]
الإضافة من السلوك 1: 1029.
[4]
أى لآلىء.
[5]
فى الأصول «مقتصدا» والمثبت من السلوك 1: 1029.
حدّ سيوفها وأشرعت أسنة حتوفها، وهى تسير كالجبال، وتبعث كالصدى [1] ما يرهب من طيف الخيال.
فبينما الركاب قد استقلت فى السّرى، ورقمت [2] فى البيداء من أعناق جيادها سطور من قرأها استغنى بحسنها عن القرى، إذا بالبشير قد وفد ونجم المسرّة قد وقد، وأخبر بأن جمعا من التتار قصدوا القريتين للإغارة، ما علموا أن ذلك مبدأ خمولهم الذى فتح الله به للإسلام باب الهناء والبشارة، وغرتهم الآمال، وساقتهم الحتوف للآجال، فنهض بعض العساكر المؤيدة، فأخدتهم أخذ القرى وهى ظالمة، وأعلمتهم أن السيوف الإسلامية ما تترك لهم بعد هذا العام- بقولة يدا [3] فى الحرب مبسوطة، ولا رجلا فى المواقف قائمة، وأرى الله العدوّ مصارع بغيه، وعاقبة استحواذه، وتلا لسان الوعد الصادق على حزب الإيمان وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ
[4]
، ووصل مولانا السلطان- خلّد الله ملكه- غزّة، والإسلام بحمد الله قد زاد قوة وعزّة، ثم رحل بحمد الله- بعزم لا يفتر عن المسير، وجيش أقسم النصر أن لا يفارقه وأن يصير معه حيث يصير، إلى أن وصلوا يوم السبت الثانى من شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وسبعمائة، وهو أوّل أيام السعود، واليوم الذى جمع فيه الناس ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ
[5]
إلى مرج الصّفّر الذى هو موطن الظّفر، ومكان النصر الذى يحدّث عنه السّمار بأطيب سمر.
والسلطان بين عساكره كالبدر بين النجوم، والملائكة الكرام تحمى الجيوش المؤيدة بإذن الله، وطيور النصر عليها تحوم، وهو- خلّد الله ملكه- قد بايع الله على نصرة هذه الملّة التى لا يحيد عن نصرها ولا يريم، وعاهده على بذل الهمم التى انتظمت فى سبيل الله كالعقد النّظيم، وخضع لله فى طلب النصر
[1] فى الأصول «كالعدى» والمثبت من المرجع السابق.
[2]
فى الأصول «ورقت» والمثبت من السلوك 1: 1029.
[3]
هنا انقطع الكلام فى ك بما يعادل منتصف صفحة 33 من ص إلى أول صفحة 63 وقد أكملت النص منها.
[4]
سورة الفتح آية 20.
[5]
سورة هود آية 103.
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
[1]
، وقال: رب قد بذلت نفسى فى سبيلك فتقبّلها بقبول حسن، ونويت المصابرة فى نصرة دينك، وأرجو أن أشفع النّيّة بعمل يغدو لسان السّنان فى وصفه ذا لسن، وتلا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ
[2]
واهزم عدونّا فقد بايعناك على المصابرة وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
. [3] ، وابتهل إلى الله فى طلب التأييد، وتضرّع إليه فى ذلك الموقف الذى ما رآه إلّا من هو فى الآخرة شهيد، وفى الدنيا سعيد، هذا والسيوف قد فارقت الأغماد، وأقسمت أنها لا تقرّ إلا فى الرؤوس، والأسنة قد أشرعت وآلت أنها لا تروى ظمأها إلا من دماء النفوس، والسهام قد التزمت أنها لا تتخذ كنائنها إلّا من النّحور، ولا تتعوّض عن حنايا القسىّ إلا بحنايا الأضالع أو لترفّعها لا تحلّ إلّا فى الصدور، والدروع قد لزمت الأبطال قائلة: لا أفارق الأبدان حتى تتلى سورة الفتح المبين، والجياد حرّمت وطء الأرض وقالت لفرسانها: لا أطا إلّا جثث القتلى، ورؤوس الملحدين. فلا ترى إلا بحرا من حديد، ولا تشاهد إلا لمع أسّنّة أو بروق سيوف تصيد الصيد [4] ، والسلطان قد أرهف ظباه [5] ليسعّر بها فى قلوب العدى جمرا. وآلى أنه لا يورد سيوفه الطلى بيضا إلا ويصدرها حمرا، والإسلام كأنه بنيان مرصوص، ونبأ النصر على مسامع أهل الإيمان مقصوص، والنفوس قد أرخصت فى سبيل الله، وإن كانت فى الأمن غالية، وأرواح المشركين قد أعدّ لها الدّرك الأسفل من النار، وأرواح المؤمنين فى جنة عالية.
ولما كان بعد الظهر أقدم العدو- خذله الله- بعزائم كالسيوف الحداد وجاء على قرب من مقدمنا، فكان هو والخذلان على موافاة، وجئنا نحن والنصر على ميعاد؛ وأتى كقطع الليل المظلم بهمم لا تكاد لولا دفع الله عن بزاتها
[1] سورة آل عمران آية 126.
[2]
سورة البقرة آية 250.
[3]
سورة البقرة آية 249.
[4]
الصيد: جمع أصيد، والمراد به البطل الشجاع (لسان العرب) .
[5]
الظبا: حد السيف (محيط المحيط)
تحجم [1] ، معتقدا أن الله قد بسط يده فى البلاد- ويأبى الله إلا أن يقبضها- متخيّلا أنّ هذه الكرّة مثل تلك- ويأبى الله إلا أن يخلف لهذه الأمة بالنصر ويعوّضها- متوهما أن جيشه الغالب، وعزمه القاهر، متحققا أنه منصور وكيف ذاك ومعنا الناصر!! والتقى الفريقان بعزائم لم يشبها [2] فى الحرب نكول ولا تقصير، فكان جمعنا ولله الحمد جمع سلامة وجمعهم جمع تكسير؛ وحمى الوطيس، وحمل فى يوم السبت الخميس [3] على الخميس، ودارت رحا الحرب الزّبون [4] ، وغنّت السيوف بشرب الكماة كأس المنون، والسلطان قد ثبت فى موقف المنايا، حتى كأنه فى جفن الرّدى وهو نائم، ورأى الأبطال من أوليائه جرحى فى سبيل الله والأعداء مهزومين [5] . والوجه منه وضّاح والثغر باسم، وقابل العدوّ بصدره وقاتل حتى أفنى حديد بيضه وسمره، وخاطر بنفسه والموت أقرب إليه من حبل الوريد. ونكّب عن ذكر العواقب جانبا، ولم يستصحب إلا سيفه المبيد، واشتد أزرا بامرائه الذين رأوا الحياة فى هذا اليوم مغرما، وعدوّا الممات فيه مغنما وقالوا: لا حياة إلا بنصر الإسلام، ولا استقرار حتى تطأ بين يدى السلطان سنابك الخيول هذه الهام، وما أعددنا العزائم [35] إلا لهذا الموقف، ولا أحددنا الصوارم وخبأناها إلا لنبذلها فى السفك فنسرف [6] ، وهم بين يدى سلطانهم يحثّون جيوشهم على المصابرة، ويقولون: هذا يوم تصيبنا فيه إحدى الحسنيين: فإما سعادة الدنيا وإما جنة الآخرة، وقالت الملائكة للجيوش المنصورة: يا خيل الله اركبى ويا يد النصر اكتبى، وقامت الحرب على ساق وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ
[7]
، وأتى العدوّ جملة واحدة، وحمل حملة أمست بالنفوس جائدة، ونكب عن الميسرة وقصد الميمنة
[1] كذا فى ف وفى ص «برأتها» .
[2]
كذا فى ص، وف. وفى السلوك 1: 1031 «لم ييئسها» .
[3]
الخميس: الجيش (المعجم الوسيط) .
[4]
الحرب الزبون: الشديدة (المعجم الوسيط) .
[5]
كذا فى ف. وغير واضحة فى ص. وفى السلوك 1: 1031 «مهزومة» .
[6]
كذا فى السلوك 1: 1031. وغير منقوطة فى ص، وف.
[7]
سورة القيامة الآيتان 29 و 30.
والقلب، وهاله جمع الإسلام فأراد أن يخلص بانحيازه من شدة ذلك الكرب، واستمرت المناضلة تمتد بين الفريقين وتنتشر، والمؤمنون قد وفّوا بما عاهدوا الله عليه. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ
[1]
، ومولانا السلطان يردف مواكبه بحملاته، ويقدم فتخشى الأعداء مواقع مهابته وترجو الأولياء منافع هباته، ويرى غمرات الموت ثمّ يزورها، ويمر فى مجال المنايا فيحلوله مريرها ومزورها [2] ، ويقاسم سيوف العدى شرّ قسمة، فعلى عاتقه غواشيها [3] وفى صدورهم صدورها.
ولما كان وقت المغرب لجأوا- خذلهم الله [36]- إلى هضاب اعتقدوا أن فيها النجاة، وقالوا: نأوى إلى جبل يعصمنا من الموت ونسوا أنه لا عاصم اليوم من أمر الله.
راموا النجاة وكيف تنجو عصبة مطلوبة بالله والسلطان؟
وحصرتهم العساكر الإسلامية بعزائم كالشهاب أو النار [4] ، ودارت عليهم كالسّوّار والسّوار [5] ، وصيّرتهم بقدرة الله فى ربقة الإسار، وقاتلتهم الجيوش المنصورة غير مستجنّة بقرى محصّنة ولا من وراء جدار، تتلظى كبودهم عطشا وجوعا، ويكادون من شدة الهجير يشربون من سيل قتلاهم نجيعا [6] ، ويودّون لو كانوا أولى أجنحة، ويندمون حين رأوا صفقتهم خاسرة وكان ظنهم أنها تكون مربحة، ويأسفون على فوات النجاة، ويتحيّرون عند مواقعة الجيوش المؤيدة حيث رأوا ما شملها من نصر، ويتضرّمون بنار الخيبة على حركتهم التى أدبرت لهم مآبا، وينظرون فيما أسلفوه من ذنوب ولسان الانتقام يتلو عليهم وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[7]
.
[1] سورة الأحزاب آية 23.
[2]
كذا فى الأصل.
[3]
غواشيها:/ جمع غاشية وهى غلاف السيف (لسان العرب) .
[4]
فى ص، وف «النهار» والمثبت من السلوك 1:1032.
[5]
السوار- بكسر السين وضمها مع التشديد: حلية للمرأة. وبفتح السين مع التشديد والواو هو من الكلاب الذى يأخذ بالرأس، وأيضا الرجل يواثب نديمه إذا شرب، وهو سوار أى وثاب معربد (لسان العرب) .
[6]
النجيع: هو الدم، وقيل دم الجوف خاصة، وقيل هو الطرى منه أو المصبوب (لسان العرب) .
[7]
سورة النبأ آية 40.
ودخلت ليلة الأحد وهم فى حصرهم وقد أوقعهم الله فى حبائل مكرهم، وأراهم من الحصر والضيق ما لا رأوه مدّة عمرهم، وأيقنوا بالهلاك [37] ، وتحققوا أن لا خلاص لهم من تلك الأشراك، ولو سمعوا ما سبق من الإنذار لما أتوا للمبارزة مظهرين، ولو علموا سوء صباحهم كفروا عشاء ونجوا من قبل أن يتلى فى حقهم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ
[1]
وأصبح الإسلام يوم الأحد فى قوته المنيعة، وأرواح العدى فى أجسادهم وديعة، ومولانا السلطان يصطبح من دمائهم كما اغتبق، ويريهم عزما ينثر عقد اجتماعهم الذى انتظم واتّسق، ويفهمهم أنّه لا مردّ له عن مراد الصّوارم، وأنه لا يفارق الجبل حتى يجعل عوض أحجاره جماجم، وأمراؤه- أعزّ الله نصرهم بين يديه- أولو همم فى الحرب وأولو عزائم، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ
[2]
يعدّون المصابرة فى طاعة الله وطاعة سلطانهم غنيمة جمعت لهم أسباب الفخار؛ ويمتازون بأنّ منهم من هاجر إليه، ومنهم من نصره، فعدّوا- حقا- كونهم مع محمد تابعى المهاجرين والأنصار، وزحف السلطان وبين يديه أمراؤه وعساكره المؤيدة فضيقوا عليهم الخناق، وأحدقوا بهم إحداق الهدب بالأحداق، وراسلوهم بالسهام، وشافهوهم بالكلام لا الكلام، ورفعوا من راياتهم [38] المنصورة ما طاول المنشآت فى البحر كالأعلام، وحمل بها الأبطال، فكلما رآها العدى تهتزّ بتحريك نسيم النّصر سكنوا خوف الحمام، ثم فرّجوا لهم عن فرجة من جانب الجبل ظنّوها فرجا، وخيّل لهم أنّه من سلك تلك الفرجة سلك طريقا مستقيما، وما دروا أنه سلك طريقا عوجا، واستترت لهم الجيوش المنصورة إلى الوطاة لتمكّن سيوفها من سفكهم، ويقرب مدى هلكهم، وتسلمهم إلى الحمام الذى لا ينجى منه خيل ولا جبل، وتملأ الوطاة من دمائهم، فتساوى السهل من قتلاهم بالجبل، وحلّ الحمام بساحتهم، وامتدت الأيدى لاستباحتهم، وضاقت عليهم المسالك، وغلبوا هنالك، وأنزل الله نصره على المؤمنين وأيدهم بجنود لم يروها، واشترى منهم أنفسهم بأنّ لهم الجنة- فيا طيب ما شروها، وفرّت من العدو فرقة،
[1] سورة الصافات آية 177.
[2]
سورة المائدة آية 54.
وضلّت فى حالة الحرب عن السيف فأدركهم العزم الماضى الغرار [1] وتلا عليهم لسان الحق قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ
[2]
وما انقضى ظهر يوم الأحد إلا والنصر قد خفقت بنوده، والحق- سبحانه وتعالى قد صدقت وعوده، وطائر الظفر قد رفرف بجناحه وطار باليمن والسرور [39] ونسيم الريح قد تحمّلت رسالة التأييد، فصارت إلى الإسلام بالصّبا وإلى العدوّ بالدّبور والألطاف- ولله الحمد- قد زادت للإسلام قوّة وتمكينا، ولسان النصر يتلو على السلطان إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً
[3]
والسيف قد طهّر ديار الإسلام من تلك الأدناس ومولانا السلطان يتلو ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ
[4]
، وأمست الوحوش تنوش أشلاءهم، والحوائم ترد دماءهم، والعساكر فى أعقابهم تقتل وتأسر، وتبدى فى استئصالهم [5] كل عزيمة وتظهر، وتنظم أسنتها برؤوس القتلى، وتعقد لها على عقائل النصر فتزفّ لديها وتجلى، إلى أن ناحتهم بالخيف [6] من مكان قريب، وبسطت فيهم السيف فسأل الأسر أن يسمح له بحظّ فأعطى أيسر نصيب، وملئت من قتلاهم القفار، وأمسوا حديثا فى الأمصار، وعبرة لأولى الأبصار.
ثم رحل السلطان يوم الإثنين الرابع من شهر رمضان المعظم إلى منزلة الكسوة من مكان النصر، وبقاعه تنبئ [7] على معاليه، وتشهد بمضاء قواضبه ونفوذ عواليه، ودمشق قد أخذت زخرفها وازّيّنت، وتبرّجت محاسنها للنواظر، وما باتت بل تبيتت، وكادت جددها تسعى للقائه، لتؤدّي السّنّة من خدمته والفرض، غير أنها استنابت الأنهار فسعت وقبّلت بين يدى جواده الأرض.
[1] الغرار: حد السيف (المعجم الوسيط) .
[2]
بياض فى ص، وف. المثبت يقتضيه المعنى والسياق الذى التزمه المؤلف. والآية رقم 16 من سورة الأحزاب.
[3]
سورة الفتح آية 1.
[4]
سورة يوسف آية 38.
[5]
فى ص، وف «إيصالهم» والمثبت يقتضيه السياق.
[6]
الخيف: ما انحدر عن غلظ الجبل، وارتفع عن الوادى ومجرى السيل (لسان العرب) .
[7]
كذا فى ص، وف. وفى السلوك 1: 1034 «تثنى» .
ثم رحل فى يوم الثلاثاء خامس شهر رمضان، ودخلها فى هذا اليوم والملائكة تحيّيه عن ربّه بتحيّة وإكرام، وتتلو عليه وعلى جيوشه ادْخُلُوها بِسَلامٍ [1] *
فى موكب كأنه نظام الدّرر، أو روضة كلها زهر، بل هو- حقا- هالة القمر، والدنيا قد تاهت به عجبا، والناس يدعون لسلطان قد شغفوا بدولته حبّا، ويتعجبون من نضارة ملكه الذى سرّ النواظر، ويرون أولياءه فى فلك إنعامه، فيقولون:
أبدّلت الأرض غير الأرض أو صارت سماء وإلا فما هذا القمر حوله النجوم الزواهر! وعادت المآتم بدمشق أفراحا وأعراسا، وربوع الهناء قد عوّضها أمن مقدمه عن الوحشة إيناسا، والقلعة بآلات حصارها مزينة قائلة:
كيف يستباح حماى وأنا بهذا السلطان محصّنة، وبشهادته [2] محصنة.
هذا والأنهار تساير ركابه وقد صبغت من دماء العدى بأحمر قان، والأشجار تميل طربا بالهناء كما يميل النشوان بين الأغانى، والحمام يطرب بحسن الألحان والتغريد، وقد أقسمت لا تنوح، وكيف تنوح وقد خضّبت كفّها وطوّقت الجيد، والناس يقولون: أيا عجبا فى أوّل رمضان يكون عيد، وفى آخره عيد؟! والعزائم للعدى تردى، وبنصر الله ترتدى، وتهتز [3] بردى تقول عند تغريد الحمامة:
«يا برد ذاك الذى قالت على كبدى» والأقاليم قد تاهت بسلطانها بهجة وسرورا، وهام الجوزاء تودّ لو كانت منبرا وسريرا، والرعايا تقول: هذا الملك الذى حمى الله بعزائمه الدّيار، وأدار العدى إلى دار البوار، ووقف لا يبتغى إلا وجه ربه، وقابل اليوم بنفسه وبكتائبه، وناضل الأمس بكتبه، والله لدعائهم سامع ومجيب، ومكافئه بكل فتح مبين ونصر قريب.
[1] سورة الحجر آية 46.
[2]
كذا فى ص، وف. وفى السلوك 1: 1034 «بسعادته» .
[3]
فى ص، وف، والسلوك 1: 1034 «ونهر» .
ووصل الميدان الأخضر وقد أذاق العدوّ الأزرق الموت الأحمر، فى يوم السعد الأبيض، بعلم النصر الأصفر- إلى القصر الأبلق، وقد طلع شمسا فى سماء الملك أنار به أفق الآفاق وأشرق، ففخر القصر بحلوله فيه، وقال: هذا اليوم الذى كنت أرتجيه، وهذا الوقت الذى ما برحت تبشّرنى به [43] نسمات البكر والأصائل. لأنها تمرّ لطيفة، فأعلم أن معها منه- خلّد الله ملكه- رسائل، وهذا الملك الذى أعرف فيه من الله شمائل؛ فغبطته القلعة المنصورة، وسألته [1] أن لا تبقى بغير الجسد محسورة [2] ، وفاخرت القصر بمالها من محاسن، وما شرفت به من إشراف على أنضر الأماكن، وامتازت به من حصانتها الذى ما امتطى سواه ذروتها، ولا علا غيره- خلّد الله ملكه- صهوتها، فأراد أن يعظم لقلعته الشأن- فحلّ بها مرة ثم بتلك أخرى، وطاب بحلوله الواديان.
ثم أذهب عن أوليائه وجيوشه مشقة التعب، ببذل الذهب، وأنسى بمكارمه حاتم طيئ، فلو عاش لا ستجدى ممّا وهب، وأمر بعود نوّاب ممالكه إلى أماكنهم المحروسة، وقال: قد خلت ربوعكم هذه المدّة.
وحيث حللنا بالبلاد نبتغى أن تكون مأنوسة، فتضاعف الشكر على إتمام هذه النعمة، وابتهلت الألسن بالمحامد، وكيف لا وقد طلع صبح النصر فجلّى ليل تلك الغمة، وشكر الناس منّة الله التى أعادت إليهم بالأمن الوسن [3] ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [4]
وأقام بدمشق [44] المحروسة يتبوّأ منها أحسن الغرفات، واستقر من بقاعها [5] فى جنّات، فحييت به بعد الممات، وعادت بمقدمه إلى جسدها الروح بعد المفارقة، وتمتعت مقلتها من محاسنه بأبهى من رياضها الرائقة، وهو يحمى حماها، ويحلى مواطن ملكها الزواهر رباها، ويزيّنها بمواكبه التى ماثلت الكواكب فى سنائها وسناها، وتطأ سنابك جياده أرضها فيدانى الثريا فى الافتخار ثراها، إلى أن قضى شهر صيامه
[1] كذا فى ص، وف. وفى السلوك 1: 1035 «وسألت» .
[2]
فى ص وف «محصورة» ونقل الصواب ما أثبته.
[3]
الوسن: الحاجة والوطر، النوم والنعاس (لسان العرب) .
[4]
سورة فاطر آية 34.
[5]
كذا فى ص، وف. فى السلوك 1: 1035 «ويستقر من بقعتها» .
المقبول. وأتاه عيد الفطر مبشرا بإدراك آماله فى عز مستمر ونصر موصول، وأسبغ من عطاياه ما أربى على عدد أمواج البحر، وتعدّدت لدولته المسرّات فى هذا الشهر الميمون، فآخره عيد فطر، وأوّله عيد نحر.
ثم رحل عن دمشق فى يوم الثلاثاء ثالث شوال، ويعزّ عليها أن تفارقه. أو تبعد عن محيّاه الذى أنار مغارب الملك ومشارقه، أو يسيّر عنها عزمه الذى إن غاب أغنت مهابته، أو حضر أرهف على العدو بوارقه، وأغصان رياضها تحسد بنود سناجقه، وأوراق روحها تودّ لو كانت مكان أعلامه وخوافقه، وزهرها يتمنى لو كان وشيا [45] لحلل [1] جياده، وأرضها النضرة تكاد تنطوى بين يديه لتكون مراكز السعادة [2] ، وقصرها الأبلق يتوسّل إليه فى أن يتخذه بدل خيامه، وستائره ليسر مسكنه [3] فيه ومقامه، ومصر تبعث إليه مع النسيم رسائل، وتبذل له فى تعجيل عوده وسائل [4] ، وكرسىّ سلطنتها يودّ لو سعى من شوق إليه، أو شافهه بالهناء وبالنعمة التى أتمّها الله عليه، فلبّى دعوتها ولم يطل جفوتها، وسار إليها سير الأقمار إلى منازل الضّياء والنور، ووطئ بمواكبه الأرض فظهرت بها من مواطئ جياده أهلّة، ومن آثار أخفاف مطيّه بدور، ووصل ديار مصر المحروسة وقد زفّت عروسا تجلى فى أبهى الحلل، وجمعت أنواع المحاسن، فلا يقال لشىء منها كمل لو أنّ ذا كمل، وفضح الدجى إشراقها، وبهر العيون جمالها، فإلى أقصى حدائق حسنها. رنت أحداقها، وسبت النفوس منازلها، وكيف لا، وهى المنازل التى لم نزل نشتاقها، وشغلت القلوب أبياتها، وكيف لا وقد زانها ترصيعها وطباقها، وحوت من البهاء ما لو حوته البدور لما شانها بعد التمام محاقها، وأمست روضة أثمرت اللآلى والدرر، وفلكا زها بالمشرقات فيه، [46] وكيف لا وفى كل ناحية من وجهها قمر.
وحلّ- خلّد الله ملكه- بظاهر القاهرة فكادت تسير لخدمته بأهلها وجدرانها، غير أنّه أثقلها الحلى فأخّرها لتبدو إليه فى أوانها المراد، وما أحسن الأشياء فى أوانها، وهمّ نيلها أن يجرى فى طريقه لكنه أخّره النقص
[1] فى ص، وف «لحلك» ولعل الصواب ما أثبته.
[2]
كذا فى ص، وف. ولعلها «الصعاده» .
[3]
فى ص، وف «ممكنه» ولعل الصواب ما أثبته.
[4]
فى ص، وف «رتائل» والمثبت من السلوك 1:1035.
والتقصير، واستحيا أن يقابله وهو دون غاية التمام، أو يسير من مواكب أمواجه فى عدد يسير، وخشى أن يتخلّل السبل بين يديه فيحصل فى ريها الخلل، أو تظهر عليه- كونه فى زمن توحمه- حمرة الخجل، وكأنّ عمود مقياسه قد آلى أن لا يضع أصابعه فى اليّمّ إلا بإذن سلطانه، ولا يلبس ثوب خلوق إلّا ما يزره عليه ببنانه، ولا يأتى بزيادة إلا بعد مقدمه، وكيف لا ومدده من إحسانه؟! وركب سحر الإثنين الثالث والعشرين من شوال سنة اثنتين وسبعمائة من ظاهر القاهرة فى موكب حفّ به الظّفر، وأضحى حديثا للأنام وذكرى للبشر، وسيفه المنصور قد أذهب عن الملّة الإسلامية ليل الخطب ومحا، والأمة يترقبون طلوع فجر بدره، ولسان المسرّة يتلو عليهم مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [1]
ودخل البلد وقد تزايدت بمقدمه سرورا [47] وبشرا، وأنشدته:-
أنت غيث إذا وردت إلى الش
…
ام ونيل إذا تيمّمت [2] مصرا
أطلع الشرق من جبينك شمسا
…
ليس تخفى ومن محياك بدرا
كان أمر التتار مستصعب الح
…
ال فصيّرت عسر ذلك يسرا
وفتحت له أبواب نصرها التى يفضى منها إلى نعمة ونعيم، وشاهدته [3] عيون أهلها. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [4]
والرعايا قد أصبحوا كما أمسوا بالدعاء له مبتهلين، والألسنة تتلو عليه وعلى أمرائه ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [5]
وقد
[1] سورة طه آية 59.
[2]
فى ص، وف، والسلوك 1: 1036 «يممت» والوزن يقتضى ما أثبته.
[3]
فى ص، وف والسلوك 1: 1036 «وشاهدت» .
[4]
سورة يوسف آية 31.
[5]
سورة يوسف آية 99.
أظلتّه سماء أديمها الحرير، ونجومها الذهب، وسحبها تنثر اللؤلؤ المكنون، وحيل بين سنابك خيله وبين الأرض بأثواب من استبرق تستوقف العيون، وكوفئت عن وطء الأحجار بالأمس فى سبيل الله بوطء الديباج فى هذا اليوم، وكادت الأيدى تلمس معارفها تبركا بترب الجهاد الذى حملت إليه أكرم قوم، فرأى فيها جنّة أوردت من مناهلها كوثرا، وكان قد أنهى بين يديه حديث زينتها [1] فوجد خبرها يجاوز خبرا، ولم يجد بها عيبا غير أن صباحها حمدت به الأجفان عاقبة السّرى، وتبرّجت عقائلها نزها للنواظر [48] ، وتظهر كلّ واحدة منهن فى وشى أبهى من الزواهر، ولبست جدرانها حلل السرور النّضرة، وأبرزت بعولتهن ما فى ذخائرهم ولم يسألوا نظرة إلى ميسرة- وما ثنت [2] أعطافها- كما أمست وجوه التهانى بها ضاحكة مستبشرة، ولمّا مر بسبلها حلا له ذلك النّور، ولمّا سلك بين قصريها تحقق الناس أن أيامه زادت على أيام الخلفاء؛ فإنها أنشأت قصرين وهذا أنشأ لها قصورا ما بها من قصور، فمن بروج تمنّت البدور لو كانت لها منازل، ومن قلاع لو تحصّن بها جان لما دارت عليه دوائر الدهر الغوائل، ومن قباب علت وليس لها غير الهمم من عمد، وضربت على السماحة والنّدى فما عدم مشيّدها حسن البناء ولا فقد، ومن عقود عقد لها على عرائس السعود، وتمكّنت فى الصّعود، ومن حلى لو ظفر بها الحسن بن سهل لاتخذ منها لجهاز ابنته على المأمون ما لا ألف مثله فى زمنه ولا عهد، ولو [3] رآه ابن طولون لاعتضد به فى إهداء عقيلته للمعتضد، ومن أواوين تزرى بإيوان كسرى الذى [4] تعظّم بناؤه وتحمّد، ويستصغر فى عين من رأى إيوانا واحدا من هذه، وكيف لا وذاك هدم فى زمن [49] محمد- صلى الله عليه وسلم وهذا عمّر لنصرة محمد، وذاك أهلك بانيه وزجر، وهذا أيّد بانيه ونصر، ومن سواق
[1] فى ص، السلوك 1: 1037 «رتبتها» والمثبت من ف.
[2]
كذا فى ص، وفى السلوك 1037 «وماست» .
[3]
فى ص، وف «ولا رآه» والمثبت يقتضيه السياق.
[4]
فى ص، ف «التى» .
جوار وجوار سواق، وآلات تبهر عند رؤية حدائقها الأحداق، ومن عروش وأشجار، ورياض نضرة تبهت الأبصار، قد أخذت من كل المحاسن بشطر، وحلت مذاقا. وكيف لا وقد سقيت بالقطر؟! ومن سفائن قد ترفعت حتى مرت فى الجوّ من بحر النسيم فى لجج، ومن عجائب إذا حدّث المرء عنها قيل له:
حدّث عن البحر ولا حرج، ومن شخوص بالألحاظ تغازل، ودمى تسحر العقول بسحر بابل، وصور يخيّل للرائى أنها تنطق، وأشكال وضعت صفة للحرب التى أضحت رايتها فى الآفاق تخفق، ومن هيبة للعدى التى أبادتها الأبطال، وأعدمت حقيقتها فلم يبق منها إلا مثال يبزر فى خيال، ومن جتور [1] ظهرت بها آية ملكه لمّا مرّت بنفسها على رأسه الكريم مر السحاب، وسارت بين السماء والأرض فلم تحتج مع سعادته إلى عمد ولا إلى أطناب، ومن فوسان جمّلّت [2] الجيوش المنصورة حيث لبست لأمة حربها، وأعتقلت رماحها وبارزت الأقران [50] فكان النصر من حزبها.
ومن أنواع احتفال يعجز عن وصفها البديع الفطن ولولا خوف الإطالة [3] لقلت ومن ومن إلى أن تنفد كلمة ومن.
والأمة يبذلون فى خدمته الجمل والتفاصيل، ويصنعون له ما يريد من النّزه، ويعملون ما شاءوا من تماثيل، والأسارى قد جعلوا بين يديه مقرنين فى الأصفاد، يشاهدون مدينة ماثلت إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ
[4]
وهو- خلدّ الله سلطانه- يسير الهوينا، وينظر بعين حبره هذا المحفل، ويقبل، وأسراؤه بين يديه كالليث أقبل للفريسة ينقل [5] ، وهم
[1] جتور- جمع جتر وهو مظلة أو قبة من حرير تحمل على رأس السلطان فى موكب الصيد (القلقشندى:
صبح الأعشى، ج 4، ص 7- 8) .
[2]
فى ص، وف «خلت» ولعل الصواب ما أثبته.
[3]
سقط فى ص، وف. والإضافة عن السلوك 1: 1038) .
[4]
سورة الفجر الآيتان 7، 8.
[5]
كذا فى ص، وف. والمعنى غير مفهوم.
يشكرون حلمه [1] على السلامة من ريب المنون والأفواه تنطق بشكر الله إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [2]
وقد بهتوا لما رأوه من نعم الله التى تنوّعت له- خلد الله ملكه- حتى أتت كلّ نعمة فى وقتها، وعظمت فى عيونهم آيات الله سبحانه، ولسان الأقدار يتلو وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها [3]
فلما نظروا بالأمس فى إنجاد الملائكة للعساكر المنصورة آية كبرى، شاهدوا اليوم من سعادة هذا الملك الذى بنت له الأقدار بين السماء والأرض [51] مدينة فقالوا: هذه آية أخرى، واستقلّوا ما مرّوا به من المدائن والأمصار، وغدوا وعيونهم فى جنة وقلوبهم فى نار، واستصغروا ملكهم المخذول وملكه، وقالوا: غير عجيب لمن أقدم على هذا الملك أن يبدد جمعه، ويفرط سلكه، وتحققوا أنه من أوتى هذا السعد لا يؤخّر- إن شاء الله- إمساك كبيرهم وهلكه، ونودوا أن شاطروه فى السلاسل والقيود، والسيف يقول: ليس الأمر لمن يسمى- خديعة- محمودا، محمود ووصل مولانا السلطان تربة والده السلطان الشهيد- قدس الله روحه- وأمراؤه قد بذلوا فى محبته نفائس النفوس، وجزيل الأموال، وأخاير الذخائر، وركبوا بالأمس للمناضلة عن دولته فى سبيل الله، وقد بلغت القلوب الحناجر، وترجّلوا اليوم فى خدمته تعظيما لشعائر سلطنته، وطلعوا فى سماء المعالى كالنجوم الزواهر، وصعد- خلد الله ملكه- تربة والده- رضى الله عنه- وأنوار النصر على أعطاف مجده لائحة، ودخلها فلولا خرق العوائد لنهض من ضريحه وصافحه، وشكر مساعيه التى اتصّلت بها أعماله، وكيف لا وهى أعمال صالحة [52] ، وقصّ مولانا السلطان- خلد الله ملكه- عند قبره المبارك من غزوته أحسن القصص، وأسهم من بركة جهاده أوفر الحصص، فلو استطاع- رحمه الله أن ينطق لقال:
هذا الولد البار، والملك الذى خلفنى وزاد فى نصرة الإسلام وكسر التّتار،
[1] كذا فى ص، ف.
[2]
سورة غافر آية 71.
[3]
سورة الزخرف آية 48.
ولو تمكّن- رضى الله عنه- لأخبره بما وجده من ثواب الجهاد فى جنات وعيون، وبشره بما أعدّه الله لمن فقد من المجاهدين فى هذه الغزاة المبرورة بين يديه، وتلا عليه وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
[1]
ولأثنى على امرائه الذين فعلوا من المصابرة والمحافظة ما أوجبه حسن التهذيب منه- رحمه الله وجميل التربية، وشكر عزائمهم التى ما ناداها أهل مملكة لكشف خطب إلا أجابوهم بمواقع التّلبية، واعتدّ بطاعتهم للميّت والحىّ، وموالاتهم التى ذاعت فى كل ناد وحىّ، والقرّاء حول ضريحه يتلون آيات الله التى كان- رضى الله عنه- بها عاملا، ولم يزل ربع تقواه بها آهلا، فشمل مولانا السلطان- خلد الله ملكه- الأنام بالصدقات المتوفرة، [53] وسمح من الذهب والفضة بالقناطير المقنطرة، وازدحمت الأمانى على سيبه كما ازدحمت الأعادى على سيفه، فكان كما قيل:
(قدّاح زند المجد لا تنفكّ من
…
نار الوغى إلّا إلى نار [2] القرى)
وركب من التّربة الشريفة والرعايا يدعون بدوام دولته التى أضحت قواعد الأمن بها متينة، ويرتعون بالمدينة فى لهو ولعب وزينة.
وسار جواده بين حلىّ وحلل، فاستوقف الأبصار، فى مسلك حفّت به غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الأنهار.
وعاد إلى قلعته ظافرا عود الحلى إلى العاطل، وغدت ربوعه الموحشة لبعده بقربه أواهل، وطلعها فى أيمن طالع لا يحتاج معه إلى اختبار ولا رصد، وحلّت شمس ملكه فى برجها وكيف لا وهو فى برج الأسد، فالله تعالى يمتع الدنيا بملك حمى شاما ومصرا، وأذاق التتار بعزائمه مصائب تترى.
[1] سورة آل عمران آية 169.
[2]
البيت من مقصورة ابن دريد.