الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى عاشر شهر رمضان أمر نائب السلطنة بدمشق بهدم العمائر التى على جسر باب الحديد إلى باب الفراديس [1] فهدم منها إلى حد باب الفرج، ثم أقر ما بقى على حاله.
وفى التاسع والعشرين من شهر رمضان جمع القضاة والفقهاء بدار السعادة [2] فى مجلس نائب السلطنة، وقرئ عليهم مثال سلطانى يتضمن الإنكار على الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية بمسألة الطلاق [3] وكان أيضا قد تقدم المرسوم قيل ذلك بمنعه من الفتيا بها، فامتنع ثم أفتى بها فحصل الإنكار عليه الآن وتأكد المنع وصنف فى هذه المسألة كلاما كثيرا ليس هذا موضع إيراده.
ذكر توجه السلطان إلى الحجاز الشريف وهى الحجة الثانية
وفى هذه السنة أمر السلطان بتجهيز ما يحتاج إليه إلى الحجاز الشريف وأظهر لذلك احتفالا عظيما قبل الخروج إلى الحجاز بستة أشهر وحمل من الإقامات والحوائج خاناه والشعير بالمنازل شيئا كثيرا، وتوجّه فى صحبته جماعة من الأعيان الأمراء والملك عماد الدين صاحب حماه وعدة من أصحاب الوظائف ورسم بجميع من توجه فى خدمته أن تكون كلفهم [4] وما يحتاجون إليه من المآكل والعليق على البيوت السلطانية والإسطبلات فكان يحتاج فى كل ليلة من العليق خاصة ألف إردب شعير وقيل ألف إردب ومائة إردب. وجهز معه
[1] باب الفراديس: هو أحد أبواب جامع دمشق، وينسب إلى محلة كانت تسمى الفراديس، وهى الآن خراب، والفراديس بلغة الروم تعنى البساتين، وهذا الباب هو الرابع من أبواب جامع دمشق (المقدسى: أحسن التقاسيم، ص 158- 159. والنجوم الزاهرة هامش 4: 157، و 6: 148) .
[2]
دار السعادة: اسم يطلق على دار الحكم، ودار الإمارة، أو مركز الحاكم الذى يباشر منه شئون الولاية (النجوم الزاهرة 9: 28 هامش) .
[3]
مسألة الطلاق: هذه المسألة التى تفرد بها الإمام ابن تيمية فى عصره بالقول بها، ورأيه ألا يقع الطلاق بالحلف به بدل الحلف بالله، ولكن الحالف إذ أحنث فى يمينه فعليه كفارة اليمين المعروفة فى القرآن الكريم.
كما كان رأيه أن طلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع به إلا طلقة واحدة رجعية. وأنظر الكتاب ابن تيمية للدكتور محمد يوسف موسى أعلام العرب 106 ومجموع الفتاوى ج 35: 241- باب الإيمان والنذور.
[4]
أى نفقاتهم وكافة حوائجهم فى رحلة الحج سفرا وإقامة وعودة.
فى هذه السفرة ما لم يسافر به ملك قبله- فيما بلغنا- فكان مما حمل معه على الظهر ثلاثة عشر حملا من المحاير [1] المحكمة المقيّرة، وجعل فيها الطين الإبليز وزرع فيه الرياحين والخضراوات وهو بنفسج حملان هندبا ثلاثة أحمال، فجل حمل واحد أسفا ناخ، حمل واحد كسفرة خضراء حمل واحد طرخون: حمل- نعناع: حمل- سلق: حمل- حوائج بقل: حمل- شمار: حمل- وعمل له مطبخ يطبخ عليه وهو محمول على الظهر، وكان يطبخ فيه والجمل سائر فلا يصل إلى المنزلة إلّا وقد تهيأ الطعام، وحمل له من ماء النيل ماء، شربه مدة سفره ومقامه وعوده هو وجماعة ممن معه، وحملت الخراف المسمنة المعلوفة فى المحاير على الجمال وهى تعلف وتسقى فى طول الطريق فى ذهابه ومقامه وعوده، وضحى منها بمنى، ولما عزم على الرحيل أمر نائبه الأمير سيف الدين أرغون بالمقام بقلعة الجبل ورسم لمن تأخر من الأمراء أن يتوجهوا إلى نواحى أقطاعهم فيكون كل منهم ببلاد أقطاعه إلى حين عوده، ولا يجتمع أمير بأمير فى غيبته، وكتب إلى النواب بالشام [128] أن يستقر كل نائب بمقر مملكته ولا يتوجه إلى صيد إلى حين عوده، فامتثلت أوامره.
وكان ركوبه من قلعة الجبل فى يوم السبت مستهل ذى القعدة، وأقام بظاهر القاهرة ما بين قلعة [2] الجب ومنزلة العش [3] إلى يوم الخميس السادس من الشهر، واستقل ركابه فى هذا النهار إلى الحجاز الشريف فى أمن الله ورعايته ثم توجه بعد ركاب السلطان الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير سيف الدين أرغون نائب السلطنة فكان توجهه من القاهرة فى يوم الإثنين سابع عشر ذي القعدة وأدرك الحج ووصل والسلطان بمكة شرفها الله تعالى، وتصدق السلطان بمكة- شرفها الله تعالى- بصدقات مبرورة وصلات موفورة وإنعام دان فأغنى بذلك الفقير وسد حاجة ذوى الحاجات وأحسن إلى أهل مكة إحسانا عاما شمل غنيهم وفقيرهم وكبيرهم وصغيرهم.
[1] المحاير: جاء فى القاموس المحيط إن المحاير جمع محارة وهى شبه الهودج أى أشبه بصندوقين يشدان على جانبى الرحل. انظر: (القاموس المحيط، المقريزى، المواعظ، ج 2 ص 101، كتاب السلوك، الجزء الثانى ص 233 حاشيه 2 للمرحوم الدكتور زيادة) .
[2]
قلعة الجب: المراد جب عميرة نسبة إلى عميرة بن جزء التجيبى، وهى المنزلة الأولى فى طريق الحج.
وتشتهر بمزلة الحاج، وكانت من متنزهات القاهرة، وينزل عندها الحجاج، وينطلقون منها فى طريق الحاج، كما ينزلون عندها عند عودتهم، وتقع فى الشمال الشرقى من القاهرة. شرقى محطة المرج وبالقرب منها. (وانظر الخطط للمقريزى 2: 163) .
[3]
منزلة العش: تقع غربى البركة المعروفة بالعكرشة. وحوض العكرشة لا يزال موجودا ومعروفا تحت رقم 47 بأراضى ناحية أبى زعبل وشرقى سكنها، وتسمى حاليا بكفر الشيخ سعيد بجوار مساكن أبى زعبل بمركز شبين القناطر، والنجوم الزاهرة 10: 341 هامش) .
واتفق فى هذه السنة وصول ركب من العراق وفيه جماعة من التتار صحبه ثلاثة من أكابر مقدميهم فلما علموا بوصول ركاب السلطان أخفوا أنفسهم خشيه أن يقبض عليهم فاطلع السلطان على ذلك فأمر بإحضارهم فحضروا بين يديه فأحسن إليهم وأنعم عليهم، وشملهم بالخلع السنية بالكلاوت الزركش ومكنهم من العود إلى بلادهم.
ولما قضى السلطان مناسك حجه ولم يبق إلا عوده تسحب ثلاثة من مماليك الأمراء الخاصكية مملو كان من مماليك الأمير سيف الدين طقز دمر [1] مملوكا من مماليك الأمير سيف الدين بكتمر الساقى [2] ، والتحقوا بالأمير عز [3] الدين حميضة فظن السلطان أنهم انضموا إلى التتار فسار إلى مقدميهم وأمرهم بالكشف عنهم فقام المشار إليه من مقدميهم الثلاثة وأحضر من معه، فلم يجدهم معهم، وأقسموا على ذلك، ثم تحقق السلطان وهو بالمدينة النبوية أنهم التحقوا بحميضة وكان من خبرهم ما نذكره.
ولما عاد السلطان من الحجاز الشريف تبعه جماعة من المشاة، فكان السلطان يسوق فى آخر الناس فإذا مر فى طريقه بمن انقطع منهم وعجز عن المشى يقف عنده ويحدثه ولا يفارق مكانه إلى أن يستصحبه معه، فإذا علم ذلك الرجل أنه السلطان انبعثت نفسه ونهض ومن عجز منهم عن المشى أمر بحمله ففعل ذلك حتى حمل على جميع ما معه من الظهر الذى يمكن الحمل عليه ثم مر بعد ذلك بمن عجز عن المشى فتحدث معه على عادته وأمره بالقيام فقال لا أقدر على ذلك فقيل له إن السلطان يحدثك، فقال قد علمت أنه السلطان ولكن على والله لا أستطيع المشى فأمر بحمله، فقيل له إن الظهر قد حمل عليه، فأمر بطرح ما فى المحاير من الطين والخضراوات والبقولات
[1] هو الأمير سيف الدين طقز دمر (طقز تمر) بن عبد الله الحموى الناصرى الساقى، وأصله من مماليك الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل الأيوبى صاحب حماة، ثم انتقل إلى ملك الناصر محمد بن قلاوون وحظى عنده ورقاه حتى صار أمير مائة ومقدم ألف وزوجه ابنته وصار من عظماء الدولة وتوفى سنة 746 هـ (أنظر ابن حجر الدرر الكامنة ج 2 ص 225، وكذلك) (النجوم الزاهرة 9: 142 هامش.
[2]
هو بكتمر بن عبد الله الركنى الساقى الناصرى، توفى سنة 733 هـ فى عوده من الحجاز صحبة أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون (ابن حجر: الدرر الكامنة 2: 19 ابن تغرى بردى النجوم الزاهرة 9: 300، ابن العماد الحنبلى: شذرات الذهب 6: 104) .
[3]
فى ك «علاء الدين» وما أثبته من ص، وف.
وغيرها، وأن يحمل على جمالها من عجز عن المشى، فامتثل أمره ورفق بالناس غاية الرفق واتصل به أن كريم الدين وكيله قد ضيق على بعض من معه فى العطاء والرواتب، فنقم عليه وضربه وهمّ بقتله مع تمكنه من دولته ثم استعطف عليه فسكن غضبه ووصل إلى السلطان هدايا النواب وتقادمهم والإقامات الوافرة والفواكه من حين خرج من مكة شرفها الله تعالى.
ولما وصل السلطان إلى وادى بنى سالم فى عوده وهو من المدينة على ثلاث مراحل جهز الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير سيف الدين أرغون، والأمير سيف الدين قطلوبغا المعزّى بالبشارة بمقدمه، فوصلا إلى القاهرة فى يوم الثلاثاء مستهل المحرم، وعلى أيديهما كتب البشائر فضربت البشائر [1] وزينت المدينتان أحسن زينة وبات الناس فى حوانيتهم ليالى واستبشروا بسلامته [2] .
وكانت غيبة السلطان الملك ناصر الدين محمد عن القاهرة فى ذهابه وحجه وعوده ثلاثة وأربعين يوما.
ثم وصل السلطان إلى قلعة الجبل فى بكرة نهار السبت الثانى عشر من المحرم ستة عشرين وسبعمائة، ولما مر بعقبة أيلة وشاهد ضيقها وصعوبة مسلكها أمر بترتيب جماعة من الحجارين لإصلاح طريقها، وقطع ما بها من الصخور المانعة من السلوك المضيقة على الناس فسطرت هذه المثوبة العظمى فى صحائف حسناته.
وفى سنة تسع عشرة وسبعمائة توفى الأمير سيف الدين كراى المنصورى [3] بمعتقله بالبرج بقلعة الجبل فى يوم السبت سادس عشر المحرم رحمه الله تعالى [129] .
وتوفى الأمير سيف الدين أغزلوا [4] العادلى أحد الأمراء الأكابر مقدمى الألوف بدمشق، فى يوم الخميس سلخ جمادى الأولى بداره بظاهر دمشق ودفن
[1] ما بين القوسين من ص، وف.
[2]
مكان هذه الكلمة بياض فى ك، والمثبت من ص، وف.
[3]
أنظر الدرر الكامنة لابن حجر: 3: 351، وذيول العبر 107، والنجوم الزاهرة لابن تغرى بردى 9:245.
[4]
كذا فى الأصول. وفى السلوك 2/1: 199 «أغرلوا» وأنظر الوافى بالوفيات 9: 294، والدرر الكامنة 1: 417، والدليل الشافى 1: 135، والبداية والنهاية 14: 94، وشذرات الذهب 6:52.