الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أبو حامد: وهذه درجة الصدّيقين في الفهم والوجد وهى أعلى الدرجات، لأن السماع على الأحوال وهى ممتزجة بصفات البشرية نوع قصور، وإنما الكمال أن يفنى بالكلية عن نفسه وأحواله. أعنى أنه ينساها فلا يبقى له التفات إليها كما لم يكن للنّسوة التفات الى اليد والسّكّين. فيسمع بالله، ولله، وفي الله، ومن الله؛ وهذه رتبة من خاض لجّة الحقائق وعبر ساحل الأحوال والأعمال واتّحد بصفاء التوحيد وتحقّق بمحض الإخلاص فلم يبق فيه منه شىء أصلا، بل خمدت بالكليّة بشريّته وفنى التفاته إلى صفات البشرية رأسا. قال: ولست أعنى بفنائه فناء جسده بل فناء قلبه، ولست أعنى بالقلب اللحم والدم بل سرّ لطيف له إلى القلب الظاهر نسبة خفيّة وراءها سرّ الرّوح الذى هو من أمر الله عرفها من عرفها وجهلها من جهلها ولذلك السرّ وجود. وصورة ذلك الوجود ما يحضر فيه فإذا حضر فيه غيره فكأنه لا وجود إلا للحاضر. ومثاله المرآة المجلوّة، إذ ليس لها لون في نفسها بل لونها لون الحاضر فيها. وكذلك الزجاجة فإنها تحكى لون قرارها ولونها لون الحاضر فيها وليس لها في نفسها صورة بل صورتها قبول الصّور ولونها هو هيئة الاستعداد لقبول الألوان. قال: وهذه مغاصة من مغاصات علوم المكاشفة منها نشأ خيال من ادّعى الحلول والاتحاد. هذا ملخّص ما أورده في مقام الفهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
المقام الثانى- بعد الفهم والتنزيل الوجد
.
قال الإمام الغزالىّ رحمه الله تعالى:
قال الإمام الغزالىّ رحمه الله تعالى:
وللناس كلام طويل في حقيقة الوجد أعنى الصوفيّة والحكماء الناظرين في وجه مناسبة السّماع للأرواح فلنتقل من أقوالهم ألفاظا ثم لنكشف عن الحقيقة فيه.
أما الصوفيّة، فقد قال ذو النون المصرىّ رحمه الله في السماع: إنه وارد حقّ جاء يزعج القلوب إلى الحقّ، فمن أصغى إليه بحقّ تحقّق، ومن أصغى إليه بنفس تزندق. فكأنه عبّر عن الوجد بانزعاج القلوب إلى الحق وهو الذى يجده عند ورود وارد السماع، إذ سمّى السماع وارد حقّ. وقال أبو الحسين الدرّاج مخبرا عمّا وجده فى السماع:
والوجد عبارة عما يوجد عند السماع، وقال: جال بى السماع في ميادين البهاء، فأوجدنى وجود الحقّ عند العطاء، فسقانى بكأس الصفاء، فأدركت به منازل الرضاء، وأخرجنى إلى رياض النزهة والفضاء.
وقال الشّبلىّ: السماع ظاهره فتنة وباطنه عبرة، فمن عرف الإشارة حلّ له استماع العبرة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرّض للبليّة. وأقوال الصوفيّة في هذا النوع كثيرة.
وأما الحكماء، فقال بعضهم:
فى القلب فضيلة شريفة لم تقدر قوّة النطق على إخراجها باللفظ فأخرجتها النفس بالألحان، فلما ظهرت سرّت وطربت إليها، فاستمعوا من النفس وناجوها ودعوا مناجاة الظواهر. وقال بعضهم:
نتائج السماع استنهاض العاجز من الرأى واستجلاب العازب من الفكر وحدّة الكالّ من الأفهام والآراء حتى يثوب ما عزب وينهض ما عجز ويصفو ما كدر ويمرح في كل «1» رأى ونيّة فيصيب ولا يخطىء ويأتى ولا يبطىء. ثم ذكر المعنى الذى الوجد عبارة عنه فقال: هو عبارة عن حالة يثمرها السماع وهو وارد [حقّ «2» ] جديد عقيب السماع
يجده المستمع من نفسه. وتلك الحالة لا تخلو من قسمين: فإنها إما أن ترجع إلى مكاشفات ومشاهدات هى من قبيل العلوم والتنبيهات؛ وإما أن ترجع إلى تغيرات وأحوال ليست من العلوم والتنبيهات بل هى كالشوق والخوف والحزن والقلق والسرور والأسف والندم والبسط والقبض. وهذه الأحوال يهيّجها السماع ويقوّيها فإن ضعفت بحيث لم تؤثّر في تحريك الظاهر أو تسكينه أو تغيير حاله حتى يتحرّك على خلاف عادته أو يطرق أو يسكن عن النظر والنطق والحركة على خلاف عادته لم يسمّ وجدا. وإن ظهر على الظاهر سمّى وجدا إما ضعيفا وإما قويّا بحسب ظهوره وتغييره الظاهر وتحريكه بحسب قوّة وروده وحفظ الظاهر عن التغيير بحسب قوّة الواجد وقدرته على حفظ جوارحه، فقد يقوى الوجد في الباطن ولا يتغيّر الظاهر لقوّة صاحبه وقد لا يظهر لضعف الوارد وقصوره عن التحريك وحلّ عقد التماسك.
وإلى المعنى الأوّل أشار أبو سعيد بن الأعرابىّ حيث قال في الوجد: إنه مشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ولا يبعد أن يكون السماع منشأ لكشف ما لم يكن مكشوفا قبله؛ فإنّ الكشف يحصل بأسباب: منها التنبيه، والسماع منبّه.
ومنها تغيّر الأحوال ومشاهدتها وإدراكها، فإنّ إدراكها نوع علم يفيد إيضاح أمور لم تكن معلومة قبل الورود.
ومنها صفاء القلب، والسماع مؤثّر في تصفية القلوب، والصفاء سبب المكاشفة.
ومنها انبعاث نشاط القلب بقوّة السماع فيقوى على مشاهدة ما كان تقصر عنه [قبل ذلك «1» ] قوّته كما يقوى البعير على حمل ما كان لا يقوى عليه قبله، وهذا الاستكشاف من ملاحظة أسرار الملكوت. وكما أنّ حمل الجمل يكون بواسطة، فبواسطة هذه الأسباب يكون سبب الكشف؛ بل القلب إذا صفا تمثّل له الحقّ
فى صورة مشاهدة أو في لفظ منظوم يقرع سمعه يعبّر عنه بصوت الهاتف إذا كان فى اليقظة وبالرؤيا إذا كان في المنام وذلك جزء من النبوّة؛ وعلم تحقيق ذلك خارج عن علم المعاملة. وذلك كما روى عن محمد بن «1» مسروق البغدادىّ أنه قال: خرجت يوما في أيام جهلى وأنا نشوان وكنت أغنّى هذا البيت:
بطيزنا «2» باذكرم ما مررت به
…
إلا تعجّبت ممن يشرب الماء
فسمعت قائلا يقول:
وفي جهنّم ماء ما تجرّعه
…
خلق فأبقى له في الجوف أمعاء
فقال: وكان ذلك سبب توبتى واشتغالى بالعلم.
قال أبو حامد: فانظر كيف أثّر الغناء في تصفية قلبه حتى تمثّل له حقيقة الحقّ فى صفة جهنم وفي لفظ منظوم موزون وقرع ذلك سمعه الظاهر. وكما يسمع صوت الهاتف عند صفاء القلب. ويشاهد أيضا بالبصر صورة الخضر عليه السلام فإنه يخيّل لأرباب القلوب بصور مختلفة، وفي مثل هذه الأحوال من الصفاء يقع الاطلاع على ضمائر القلوب؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» . قال: فحاصل الوجد يرجع إلى مكاشفات وإلى حالات ينقسم كل واحد منهما إلى ما لا يمكن التعبير عنه عند الإفاقة منه وإلى ما لا تمكن العبارة عنه أصلا. وضرب لذلك أمثلة، منها أن الفقيه قد تعرض عليه مسألتان متشابهتان في الصورة ويدرك بذوقه أن بينهما فرقا في الحكم، فإذا كلّف ذكر وجه الفرق لم يساعده اللسان على التعبير عنه وإن كان من أفصح الناس، فيدرك بذوقه
الفرق ولا يمكنه التعبير عنه. وإدراكه الفرق علم يصادفه في قلبه بالذوق. ولا شك أنّ لوقوعه في قلبه سببا، وله عند الله تعالى حقيقة، ولا يمكنه الإخبار عنه لقصور فى لسانه بل لدقة المعنى أن تناله العبارة.
وأمّا الحال فكم من إنسان يدرك في قلبه في الوقت [الذى يصبح فيه «1» ] قبضا أو بسطا ولا يعلم سببه، وقد يتفكر في شىء فيؤثّر في نفسه أثرا فينسى ذلك السبب ويبقى الأثر في نفسه وهو يحسّ به. وقد تكون الحالة التى يحسّها سرورا يثبت فى نفسه بتفكره في سبب موجب للسرور؛ أو حزنا فينسى المتفكر فيه ويحس بالأثر عقيبه. وقد تكون تلك الحال حالة غريبة لا يعرب عنها لفظ السرور والحزن ولا يصادف لها عبارة مطابقة مفصحة عن المقصود؛ بل ذوق الشعر الموزون والفرق بينه وبين غير الموزون يختصّ به بعض الناس دون بعض، وهى حالة يدركها صاحب الذوق بحيث لا يشك فيها (أعنى التفرقة بين الموزون والمنزحف) ولا يمكنه التعبير عنها بما يتّضح به مقصوده لمن لا ذوق له. وفي النفس أحوال غريبة هذا وصفها بل المعانى المشهورة من الخوف والحزن والسرور إنما تحصل في السماع عن غناء مفهوم. فأمّا الأوتار وسائر النغمات التى ليست مفهومة فإنها تؤثّر في النفس تأثيرا عجيبا، ولا يمكن التعبير عن عجائب تلك الأوتار، وقد يعبّر عنها بالشوق، ولكن شوق لا يعرف صاحبه المشتاق إليه، فهذا عجيب. والذى اضطربت نفسه بسماع الأوتار والشاهين وما أشبهه ليس يدرى إلى ماذا يشتاق، ويجد في نفسه حالة كأنها تتقاضى أمرا ليس يدرى ما هو، حتى يقع ذلك للعوامّ ومن لا يغلب على قلبه لا حبّ آدمىّ ولا حبّ الله تعالى. وهذا له سرّ، وهو أنّ كل شوق فله ركنان: أحدهما صفة المشتاق وهو نوع مناسبة مع المشتاق إليه. والثانى معرفة المشتاق إليه ومعرفة صورة
الوصول إليه. فإن وجدت الصفة التى بها الشوق ووجد العلم بالمشتاق ووجدت الصفة المشوّقة وحركت قلبك الصفة واشتعلت نارها، أورث ذلك دهشة وحيرة لا محالة. ولو نشأ آدمىّ وحده حيث لم ير صورة النساء ولا عرف صورة الوقاع ثم راهق الحلم وغلبت عليه الشهوة لكان يحسّ من نفسه بنار الشهوة ولا يدرى أنه يشتاق إلى الوقاع لأنه ليس يدرى صورة الوقاع ولا يعرف صورة النساء؛ فكذلك في نفس الآدمىّ مناسبة مع العالم الأعلى واللذّات التى وعد بها في سدرة المنتهى والفراديس العلا، إلا أنه لم يتخيّل من هذه الأمور إلا الصفات والأسماء كالذي يسمع [لفظ «1» ] الوقاع و [اسم «2» ] النساء ولم يشاهد صورة امرأة قط ولا صورة رجل ولا صورة نفسه في المرآة ليعرف بالمقايسة. فالسماع يحرّك منه الشوق؛ والجهل المفرط والاشتغال بالدنيا قد أنساه نفسه وأنساه ربه وأنساه مستقرّه الذى إليه حنينه واشتياقه بالطبع، فيتقاضاه قلبه أمرا ليس يدرى ما هو فيدهش ويضطرب ويتحيّر ويكون كالمختنق «3» الذى لا يعرف طريق الخلاص. فهذا وأمثاله من الأحوال التى لا يدرك تمام حقائقها، ولا يمكن المتّصف بها أن يعبّر عنها. فقد ظهر انقسام الوجد إلى ما يمكن إظهاره وإلى ما لا يمكن إظهاره. قال:
واعلم أيضا أنّ الوجد ينقسم إلى هاجم وإلى متكلّف يسمى التواجد. وهذا التواجد المتكلف، فمنه مذموم وهو الذى يقصد به الرياء وإظهار الأحوال الشريفة مع الإفلاس منها؛ ومنه ما هو محمود وهو التوصّل الى الاستدعاء للاحوال الشريفة واكتسابها واجتلابها بالحيلة؛ فإن للكسب مدخلا في جلب الأحوال الشريفة؛ ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يحضره البكاء في قراءة القرآن أن يتباكى ويتحازن،
فإن هذه الأحوال قد تتكلّف مباديها ثم تتحقّق أواخرها. وكيف لا يكون التكلّف سببا في أن يصير المتكلّف بالآخرة طبعا، وكل من يتعلّم القرآن أوّلا يحفظه تكلّفا ويقرؤه تكلّفا مع تمام التأمّل وإحضار الذهن ثم يصير ذلك ديدنا للسان مطّردا حتى يجرى به لسانه في الصلاة وغيرها وهو غافل فيقرأ تمام السورة وتثوب نفسه إليه بعد انتهائه الى آخرها ويعلم أنه قرأها في حال غفلته. وذكر أبو حامد أمثلة نحو ذلك ثم قال: وكذلك الأحوال الشريفة لا ينبغى أن يقع اليأس منها عند فقدها، بل ينبغى أن يتكلّف اجتلابها بالسماع وغيره؛ فلقد شوهد في العادات من اشتهى أن يعشق شخصا ولم يكن يعشقه فلم يزل يردّد ذكره على نفسه ويديم النظر إليه ويقرّر على نفسه الأوصاف المحبوبة إليه والأخلاق المحمودة فيه حتى عشقه ورسخ ذلك في قلبه رسوخا خرج عن حدّ اختياره، واشتهى بعد ذلك الخلاص منه فلم يتخلّص، فكذلك حبّ الله تعالى والشوق إلى لقائه والخوف من سخطه وغير ذلك من الأحوال الشريفة إذا فقدها الإنسان فينبغى أن يتكلّف اجتلابها بمجالسة الموصوفين بها، ومشاهدة أحوالهم، وتحسين صفاتهم في النفس، وبالجلوس معهم في السماع، وبالدعاء والتضرّع إلى الله تعالى في أن يرزقه تلك الحالة بأن يسّر له أسبابها؛ ومن أسبابها السماع ومجالسة الصالحين والخائفين والمحبّين والمشتاقين والخاشعين؛ فمن جالس شخصا سرت إليه صفاته من حيث لا يدرى. ويدلّ على إمكان تحصيل الحبّ وغيره من الأحوال بالأسباب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه:«اللهمّ ارزقنى حبّك وحبّ من أحبّك وحبّ من يقرّبنى إلى حبّك» . فقد فزع «1» إلى الدعاء في طلب الحبّ.
قال: فهذا بيان انقسام الوجد إلى مكاشفات وإلى أحوال، وانقسامه الى ما يمكن الإيضاح عنه وإلى ما لا يمكن، وانقسامه إلى المتكلّف وإلى المطبوع.