الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يزنى أو يشرب خمرا؛ فحلف لها وتزوّجها. ومكث حينا لا يشرب، الى أن مرّ بخمّار وعنده قوم يشربون وقينة تغنّيهم وهو على ناقة؛ فطرب اليهم وارتاح ورمى بثيابه الى الخمّار، وقال: أسقهم بها؛ ونحر لهم ناقته، ومكث أياما يطعمهم ويسقيهم حتى أنفد ما معه. ثم رجع الى امرأته، فلامته، فأنشأ يقول:
أقلّى علىّ اللوم يا أمّ سالم
…
وكفّى فإن العيش ليس بدائم
أسرّك لما صرّع القوم نشوة
…
خروجى منهم سالما غير غارم
سليما كأنى لم أكن كنت منهم
…
وليس الخداع من تصافى التنادم
ثم قال لها: الحقى بأهلك، وعاد الى ما كان عليه.
وأما من افتخر بشربها وسبائها
«1» ،
فقد كانت العرب تفتخر بسبائها، وتضيفه إلى عظيم غنائها، وتقرنه بمذكور بلائها. وشاهد ذلك قول امرىء القيس:
كأنّى لم أركب جوادا للذّة
…
ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزّقّ الروىّ ولم أقل
…
لخيلى كرّى كرّة بعد إجفال
فقرن جوده في سباء الزقّ ببسالته في كرّ الخيل. ولمّا أنشد أبو الطيب المتنبى سيف الدولة بن حمدان قصيدته التى يقول فيها:
وقفت وما في الموت شكّ لواقف
…
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة
…
ووجهك وضّاح وثغرك باسم
فقال له سيف الدولة: انتقدنا عليك يا أبا الطيّب هذين البيتين كما انتقد على امرىء القيس بيتاه، وذكرهما، قال: وبيتاك لا يلتئم شطراهما كما لا يلتئم شطرا هذين البيتين: كان ينبغى لامرىء القيس أن يقول:
كأنى لم أركب جوادا ولم أقل
…
لخيلى كرّى كرّة بعد إجفال
ولم أسبأ الزقّ الروىّ للذّة
…
ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
وأن تقول أنت:
وقفت وما في الموت شكّ لواقف
…
ووجهك وضّاح وثغرك باسم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة
…
كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال: أيّد الله مولانا! إن كان صحّ أنّ الذى استدرك على امرىء القيس أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، والثوب لا يعرفه البزّاز معرفة الحائك لأن البزّاز يعرف جملته والحائك يعرف جملته وتفاريقه، لأنه هو الذى أخرجه من الغزليّة الى الثوبيّة. وإنما قرن امرؤ القيس لذّة النساء بلذّة الركوب للصيد، وقرن السماحة في سباء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء؛ وأنا لما ذكرت الموت في أوّل البيت أتبعته بذكر الردى وهو الموت ليجانسه. ولما كان الجريح المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا وعينه باكية قلت:
ووجهك وضّاح وثغرك باسم
لأجمع بين الأضداد في المعنى وإن لم يتسع اللفظ لجميعها. فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله.
وقال لقيط بن زرارة:
شربت الخمر حتى خلت أنى
…
أبو قابوس أو عبد المدان
وقال حسّان بن ثابت الأنصارىّ عفا الله عنه ورحمه:
إذا ما الأشربات ذكرن يوما
…
فهنّ لطيّب الراح الفداء
ونشربها فتتركنا ملوكا
…
وأسدا ما ينهنهها اللّقاء
حكى أنّ حسّان بن ثابت عنّف جماعة من الفتيان على شرب الخمر وسوء تنادمهم عليها وأنهم يضربون عليها ضرب الإبل ولا يرجعون عنها؛ فقالوا: إنا اذا هممنا بالإقلاع عنها ذكرنا قولك:
ونشربها فتتركنا ملوكا
…
وأسدا ما ينهنهها اللقاء
فعاودناها.
وقال الأخطل يخاطب عبد الملك بن مروان:
اذا ما نديمى علّنى ثم علّنى
…
ثلاث زجاجات لهنّ هدير
خرجت أجرّ الذيل حتى كأننى
…
عليك أمير المؤمنين أمير
وقال آخر:
إذا صدمتنى الكأس أبدت محاسنى
…
ولم يخش ندمانى أذاى ولا بخلى
ولست بفحّاش عليه وإن أسا
…
وما شكل من آذى نداماه من شكلى
وقال آخر:
شربنا من الدّاذىّ «1» حتى كأننا
…
ملوك لهم برّ العراقين والبحر
فلما انجلت شمس النهار رأيتنا
…
تولّى الغنى عنّا وعاودنا الفقر
ومثله للمنخّل اليشكرىّ:
فإذا سكرت فإننى
…
ربّ الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإننى
…
ربّ الشّويهة والبعير
وقال عنترة:
وإذا سكرت فإننى مستهلك
…
مالى، وعرضى وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصّر عن ندى
…
وكما علمت شمائلى وتكرّمى
أخذه البحترىّ وزاد عليه في قوله:
وما زلت خلّا للندامى إذا انتشوا
…
وراحوا بدورا يستحثّون أنجما
تكرّمت من قبل الكؤس عليهم
…
فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرّما
والزيادة أن عنترة ذكر أنه يستهلك ماله اذا سكر، والبحترى ذكر أن ممدوحه يتكرم قبل الكؤس فيبالغ حتى لا تستطيع الكؤس أن تزيده تكرّما.
وكان الأعشى ميمون بن قيس مشهورا بتعاطى الخمر مشغوفا بها كثير الذكر لها فى شعره. ومن اشتهاره بها قال المفضّل بين قدماء الشعراء: أشعرهم امرؤ القيس اذا ركب، والنابغة اذا رهب، وزهير اذا رغب، والأعشى اذا طرب. وقصد الأعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم وامتدحه بقصيدته التى أوّلها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا
…
وبتّ كما بات السليم مسهّدا
فاعترضه في طريقه من أراد منعه، فقالوا له: إنه يحرّم عليك الزنا والخمر.
فقال: أمّا الزنا فقد كبرت فلا حاجة لى فيه، وأمّا الخمر فلا أستطيع تركها. وعاد لينظر في أمره، وقيل: إنه قال: أعود فأشربها سنة وأرجع، فمات قبل الحول.
قالوا: ونظر الحسن بن وهب الى رجل يعبس في كأسه، فقال: ما أنصفتها، تضحك في وجهك وتعبس في وجهها. ومن ذلك قول الشريف الرضىّ:
كالخمر يعبس حاسيها على مقة
…
والكأس تجلو عليه ثغر مبتسم
وهو مأخوذ من قول عبد الله بن المعتزّ حيث يقول:
ما أنصف النّدمان كأس مدامة
…
ضحكت اليه فشمّها بتعبّس