المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر أخبار محمد بن عائشة - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ٤

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]

- ‌[تتمة القسم الثالث في المدح والهجو و

- ‌الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثانى (فى المجون والنوادر والفكاهات والملح)

- ‌ذكر مزاحات رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر من اشتهر بالمزاح من الصحابة رضوان الله عليهم

- ‌ذكر شىء من مجون الأعراب

- ‌ذكر شىء من نوادر القضاة

- ‌ذكر شىء من نوادر النّحاة

- ‌ذكر شىء من نوادر المتنبئين

- ‌ذكر شىء من نوادر المغفّلين والحمقى

- ‌ذكر شىء من نوادر النبيذيّين

- ‌ذكر شىء من نوادر النساء والجوارى

- ‌ذكر شىء من نوادر العميان

- ‌ذكر شىء من نوادر السؤّال

- ‌ذكر شىء من نوادر من اشتهر بالمجون

- ‌ذكر شىء من نوادر أشعب وأخباره

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى دلامة

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى صدقة

- ‌ذكر شىء من نوادر الأقيشر

- ‌ذكر شىء من نوادر ابن سيّابة

- ‌ذكر شىء من نوادر مطيع بن إياس الكنانىّ وأخباره

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى الشّبل

- ‌ذكر شىء من نوادر حمزة بن بيض الحنفى

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى العيناء عفا الله عنه

- ‌ذكر ما ورد في كراهة المزح

- ‌ذكر شىء من الشعر المناسب لهذا الباب والداخل فيه

- ‌الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الخمر

- ‌ذكر ما قيل في الخمر وتحريمها

- ‌وأما ما ورد في تحريمها في كتاب الله وبيّنته السّنّة، فالأحاديث متضافرة

- ‌ذكر ما قيل في إباحة المطبوخ

- ‌ذكر آفات الخمر وجناياتها

- ‌ذكر أسماء الخمر من حين تعصر الى أن تشرب

- ‌ذكر أخبار من تنزّه عنها في الجاهليّة وتركها ترفّعا عنها

- ‌ذكر من حدّ فيها من الأشراف ومن شربها منهم ومن اشتهر بها ولبس فيها ثوب الخلاعة ومن افتخر بشربها

- ‌فأما من حدّ فيها من الأشراف

- ‌وأما من شربها منهم واشتهر بها، جماعة من الأكابر والأعيان والخلفاء

- ‌منهم: يزيد بن معاوية

- ‌ومنهم: عبد الملك بن مروان

- ‌ومنهم: يزيد بن عبد الملك بن مروان

- ‌ومنهم: ابنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك

- ‌ومنهم: المأمون بن الرشيد

- ‌ومنهم: العباس بن علىّ بن عبد الله بن العباس

- ‌ومنهم: بلال بن أبى بردة

- ‌ومنهم: عبد الرحمن بن عبد الله الثقفىّ

- ‌ومنهم: آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز

- ‌ومنهم: حارثة بن زيد العدوانىّ

- ‌ومنهم: والبة بن الحباب الأسدىّ

- ‌ومنهم: أبو الهندىّ

- ‌ومنهم: سعيد بن وهب

- ‌ومنهم: الحسين بن الضحّاك النديم

- ‌ومنهم: يحيى بن زياد

- ‌ومنهم: أبو نواس الحسن بن هانىء

- ‌ومنهم: الثّروانىّ

- ‌ومنهم: مطيع بن إياس

- ‌ومنهم: أبو عبد الرحمن العطوىّ

- ‌ومنهم: أبو هفّان

- ‌ومنهم: الأقيشر

- ‌ومنهم: النعمان بن علىّ بن نضلة

- ‌ومنهم: عمارة بن الوليد بن المغيرة

- ‌وأما من افتخر بشربها وسبائها

- ‌ذكر شىء مما قيل فيها من جيّد الشعر

- ‌فأمّا ما قيل فيها على سبيل المدح لها، فمن ذلك قول ابن الرومى

- ‌ومما قيل في وصفها وتشبيهها

- ‌وأما ما قيل في أفعالها

- ‌وأما ما وصفت به غير ما قدّمناه

- ‌ومما قيل فيها اذا مزجت بالماء

- ‌ذكر ما قيل في مبادرة اللّذات ومجالس الشراب وطيّها

- ‌ومما وصفت به مجالس الشرب

- ‌ومما قيل في طىّ مجالس الشراب

- ‌ذكر ما قيل في وصف آلات الشراب وأوانيها

- ‌ومما قيل في الراووق

- ‌ومما وصفت به زقاق الخمر

- ‌ومما وصفت به الأباريق

- ‌ومما وصفت به الكاسات والأقداح

- ‌الباب الخامس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى النّدمان والسّقاة

- ‌[ومما قيل في الندمان]

- ‌ومما قيل في السّقاة

- ‌الباب السادس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الغناء والسماع

- ‌ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والإباحة

- ‌أما ما قيل في تحريم الغناء وما استدلّ به من رأى ذلك

- ‌أما دليلهم من الكتاب العزيز

- ‌وأمّا دليلهم من السنّة

- ‌وأمّا أقوال الصحابة والتابعين رضى الله عنهم

- ‌وأمّا أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى

- ‌ذكر ما ورد في إباحة الغناء والسماع والضرب بالآلة

- ‌ذكر ما استدلّوا به على إباحة الغناء من الأحاديث النبوية

- ‌وأمّا ما ورد في الضرب بالآلة، فمن ذلك ما ورد في الدّفّ

- ‌وأمّا ما ورد في اليراع

- ‌وأمّا ما ورد في القصب والأوتار

- ‌وأما ما ورد في المزامير والملاهى

- ‌ذكر ما ورد في توهين ما استدلّوا به على تحريم الغناء والسماع

- ‌ذكر أقسام السماع وبواعثه

- ‌ذكر العوارض التى يحرم معها السماع

- ‌العارض الأوّل: أن يكون المسمع امرأة لا يحلّ النظر إليها وتخشى الفتنة من سماعها

- ‌العارض الثانى في الآلة

- ‌العارض الثالث في نظم الصوت

- ‌العارض الرابع في المستمع

- ‌العارض الخامس- أن يكون الشخص من عوامّ الخلق ولم يغلب عليه حبّ الله

- ‌ذكر آثار السماع وآدابه

- ‌المقام الأوّل- فى الفهم

- ‌إحداها- أن يكون سماعه بمجرّد الطبع

- ‌الحالة الثانية- أن يسمع بفهم ولكن ينزّله على صورة إما معيّنة أو غير معيّنة

- ‌الحالة الثالثة- أن ينزّل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملة الله تعالى

- ‌الحالة الرابعة- سماع من جاوز الأحوال والمقامات

- ‌المقام الثانى- بعد الفهم والتنزيل الوجد

- ‌المقام الثالث- فى آداب السماع ظاهرا وباطنا، وما يحمد من آثار الوجد ويذمّ

- ‌قال الإمام أبو حامد رحمه الله تعالى: فأما الآداب فهى خمس جمل:

- ‌الأوّل- مراعاة الزمان والمكان والإخوان

- ‌الثانى- وهو نظر للحاضرين

- ‌الأدب الثالث- أن يكون مصغيا إلى ما يقوله القائل

- ‌الأدب الرابع- ألّا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه

- ‌الأدب الخامس- موافقة القوم في القيام

- ‌وأما أبو محمد علىّ بن أحمد بن سعيد بن حزم

- ‌ذكر من سمع الغناء من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم

- ‌ذكر من سمع الغناء من الأئمة والعبّاد والزّهاد

- ‌ذكر من غنّى من الخلفاء وأبنائهم ونسبت له أصوات من الغناء نقلت عنه

- ‌[أما من غنّى من الخلفاء]

- ‌منهم عمر بن عبد العزيز

- ‌وممّن غنّى من خلفاء الدولة العباسية، ممن دوّنت له صنعة، الواثق بالله

- ‌ومنهم المنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل على الله أبو الفضل جعفر

- ‌ومنهم المعتزّ بالله أبو عبد الله محمد بن جعفر المتوكل

- ‌ومنهم المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن المتوكل على الله

- ‌وأما أبناء الخلفاء الذين لهم صنعة بد في هذا الفنّ

- ‌فمنهم إبراهيم بن المهدىّ

- ‌وأمّا عليّة بنت المهدىّ

- ‌ومنهم أبو عيسى بن الرشيد

- ‌ومنهم عبد الله بن موسى الهادى

- ‌ومنهم عبد الله بن محمد الأمين

- ‌ومنهم أبو عيسى بن المتوكل

- ‌ومنهم عبد الله بن المعتز

- ‌ذكر من غنّى من الأشراف والعلماء رحمهم الله

- ‌عبد العزيز بن المطلب

- ‌ومنهم ابراهيم بن سعد

- ‌ومنهم محمد بن إسماعيل بن علىّ بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما

- ‌ذكر من غنّى من الأعيان والأكابر والقوّاد ممن نسبت له صنعة في الغناء

- ‌منهم أبو دلف العجلىّ

- ‌ومنهم أخوه معقل بن عيسى

- ‌ومنهم عبد الله بن طاهر بن الحسين وابنه عبيد الله

- ‌فأمّا عبد الله

- ‌وأمّا عبيد الله

- ‌ذكر أخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسيّة إلى العربيّة ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء

- ‌ذكر أخبار سعيد بن مسجح

- ‌ذكر أخبار سائب خاثر

- ‌ذكر أخبار طويس

- ‌ذكر أخبار معبد

- ‌ذكر أخبار الغريض وما يتّصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة

- ‌ذكر أخبار محمد بن عائشة

- ‌ذكر أخبار ابن محرز

- ‌ذكر أخبار مالك بن أبى السّمح

- ‌ذكر أخبار يونس الكاتب

- ‌ذكر أخبار حنين

- ‌ذكر أخبار سياط

- ‌ذكر أخبار الأبجر

- ‌ذكر أخبار أبى زيد الدّلال

- ‌ذكر أخبار عطرّد

- ‌ذكر أخبار عمر الوادىّ

- ‌ذكر أخبار حكم الوادىّ

- ‌ذكر أخبار ابن جامع

- ‌ذكر أخبار عمرو بن أبى الكنّات

- ‌ذكر أخبار أبى المهنّأ مخارق

- ‌ذكر أخبار يحيى بن مرزوق المكّىّ

- ‌ذكر أخبار أحمد بن يحيى المكىّ الملقّب بطنين

- ‌ذكر أخبار هاشم بن سليمان مولى بنى أميّة

- ‌ذكر أخبار يزيد حوراء

- ‌ذكر أخبار فليح بن أبى العوراء

- ‌ذكر أخبار إبراهيم الموصلىّ عفا الله عنه

- ‌ذكر نبذة من أخبار إبراهيم الموصلى مع البرامكة رحمهم الله تعالى

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في أحد الأصلين الفتوغرافيين:

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في الأصل الآخر الفتوغرافى:

الفصل: ‌ذكر أخبار محمد بن عائشة

- وزينب هذه هى زينب بنت يوسف الثّقفىّ أخت الحجّاج، وكان النميرىّ يهواها ويشبّب بها، وله معها أخبار يطول شرحها ليس هذا موضع إيرادها- قال: فقالت له عائشة لما أنشدها هذا الشعر: والله ما قلت إلا جميلا، ولا وصفت إلا كرما وطيّبا ودينا وتقى، أعطوه ألف درهم. فلما كانت الجمعة الأخرى تعرّض لها، فقالت: علىّ به؛ فجاء فقالت له: أنشدنى من شعرك في زينب؛ قال:

فأنشدك من قول الحارث فيك. فوثب مواليها إليه، فقالت: دعوه فإنه أراد أن يستقيد لابنة عمّه، هات؛ فأنشدها:

ظعن الأمير بأحسن الخلق

وغدا بلبّك مطلع الشرق

وتنوء تثقلها عجيزتها

نهض الضعيف ينوء بالوسق

ما صبّحت زوجا بطلعتها

إلا غدا بكواكب الطّلق

بيضاء من تيم كلفت بها

هذا الجنون وليس بالعشق

فقالت: والله ما ذكر إلا جميلا، ذكر أنى إذا صبّحت زوجا بوجهى غدا بكواكب الطّلق، وأنى غدوت مع أمير تزوّجنى الى الشرق، أعطوه ألف درهم واكسوه حلّتين ولا تعد لإنياننا يا نميرىّ؛ والله أعلم [ولنرجع إلى أخبار المغنّين «1» ] .

‌ذكر أخبار محمد بن عائشة

يكنى أبا جعفر ولم يكن له أب يعرف فنسب الى أمه؛ وكان يزعم أن اسم أبيه جعفر. وعائشة أمه مولاة لكثير بن الصّلت الكندىّ حليف قريش، وقيل:

هى مولاة لآل المطلب بن [أبى «2» ] وداعة السّهمى. وقال ابن عائشة- وقد سأله

ص: 280

الوليد بن يزيد فقال: يا محمد ألبغية أنت «1» ؟ -: كانت أمى يا أمير المؤمنين ماشطة وكنت غلاما، وكانت إذا دخلت إلى موضع قالت «2» : ارفعوا هذا لابن عائشة، فغلبت على نسبى. قالوا: وكان ابن عائشة يفتن كلّ من سمعه، وكان فتيان [من «3» ] المدينة قد فسدوا في زمانه بمحادثته ومجالسته. وأخذ عن معبد ومالك بن أبى السّمح، ولم يموتا حتى ساواهما على تقديمه لهما واعترافه بفضلهما. وكان تيّاها سيىء الخلق، إن قال له إنسان: تغنّ قال: ألمثلى يقال هذا! فإن غنّى وقال له إنسان:

أحسنت، سكت؛ فكان قليلا ما ينتفع به.

وكان ابن عائشة منقطعا إلى الحسن بن الحسن، وكان الحسن مكرما له. فسأله الحسن أن يخرج معه إلى البغيبغة «4» ، فامتنع ابن عائشة؛ فأقسم عليه وأظهر الجدّ.

فلما عاين ما ظهر عليه قال: أخرج طائعا لا كارها؛ فأمر له ببغلة فركبها ومضيا الى البغيبغة، فنزلا الشّعب ثم أكلوا. وقال له: غنّنى، فاندفع فغنّاه صوتا فاستحسنه.

فقال ابن عائشة: والله لا غنّيتك في يومى هذا شيئا. فأقسم الحسن ألّا يفارق البغيبغة ثلاثة أيام. فاغتمّ ابن عائشة ليمينه وندم. فلما كان في اليوم الثانى قال له:

غنّ فقد برّت يمينك؛ فنظر إلى ناقة تقدم جماعة إبل فاندفع يغنّى:

تمرّ كجندلة المنجنيق

يرمى بها السّور يوم القتال

وهى أبيات لأميّة بن أبى عائذ الهذلىّ يصف حمارا وحشيّا؛ والبيت «يمر» بالياء.

وقيل: سال العقيق مرّة فدخل عرصة سعيد بن العاص [الماء «5» ] حتى ملأها،

ص: 281

فخرج الناس إليها، وخرج ابن عائشة فجلس على قرن البئر. فبينا هم كذلك إذ طلع الحسن على بغلة ومعه غلامان أسودان، فقال لهما: امضيا رويدا حتى تقفا بأصل القرن الذى عليه ابن عائشة، ففعلا ذلك. ثم ناداه الحسن: كيف أصبحت يابن عائشة قال: بخير. قال: انظر من تحتك، فنظر فإذا العبدان. قال: أتعرفهما؟ قال نعم. قال: فهما حرّان لئن لم تغنّنى مائة صوت لآمرنّهما بطرحك في البئر، وهما حرّان لئن لم يفعلا لأقطعنّ أيديهما «1» . فاندفع ابن عائشة وغنّى بشعر الهذلىّ:

ألا لله درّك من

فتى قوم إذا رهبوا

وقالوا من فتى للحر

ب يرقبنا ويرتقب «2»

فكنت فتاهم فيها

إذا تدعى لها تثب

ذكرت أخى فعاودنى

صداع الرأس والوصب

كما يعتاد ذات البوّ

بعد سلوّها الطّرب

على عبد بن زهرة بتّ

طول الليل أنتحب

وروى أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفيه إلى حمّاد الراوية:

أن الوليد بن يزيد استقدمه من العراق إلى الشأم على دوابّ البريد. وكان ممّا حكاه عنه قال: قدمت عليه فأذن لى، فدخلت فإذا هو على سرير ممهّد وعليه ثوبان أصفران وعنده معبد ومالك بن أبى السّمح وأبو كامل مولاه، فاستنشدنى:

أمن المنون وريبها «3» تتوجّع

ص: 282

فأنشدته حتى أتيت على آخرها. ثم قال: يا مالك، غنّنى:

ألا هل هاجك الأظعا

ن إذ جاوزن مطّلحا

فغنّاه. ثم قال: غنّنى:

جلا أميّة عنّى كلّ مظلمة

سهل الحجاب وأوفى بالذى وعدا

فغنّاه. ثم قال: غنّنى:

أتنسى «1» إذ تودّعنا سليمى

بفرع بشامة، سقى البشام!

فغنّاه؛ ثم أتاه الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين، الرجل الذى طلبت بالباب، فأذن له فدخل شابّ لم أر أحسن وجها منه. فقال له: غنّنى:

وهى إذ ذاك عليها مئرر

ولها بيت جوار من لعب

فغنّاه، فنبذ إليه الثوبين، ثم قال: غنّنى:

طاف الخيال فمرحبا

ألفا برؤية زينبا

فغضب معبد وقال: يا أمير المؤمنين، إنّا مقبلون عليك بأقدارنا وأسناننا وإنك تركتنا بمزجر الكلب وأقبلت على هذا الصبىّ. فقال: يا أبا عبّاد، ما جهلت قدرك ولا سنّك، ولكن هذا الغلام طرحنى في مثل الطّناجير من حرارة غنائه. قال حماد:

فسألت عن الغلام فقيل لى: هو ابن عائشة.

وحكى عن شيخ من تنوخ قال: كنت صاحب ستر الوليد بن يزيد، فرأيت ابن عائشة عنده وقد غنّاه:

إنى رأيت صبيحة النّفر

حورا نفين عزيمة الصبر

مثل الكواكب في مطالعها

بعد العشاء أطفن بالبدر

ص: 283

وخرجت أبغى الأجر محتسبا

فرجعت موفورا من الوزر

فطرب الوليد حتى كفر وألحد، وقال: يا غلام، اسقنا بالسماء السابعة «1» ، ثم قال:

أحسنت والله يا أميرى، أعد بحقّ عبد الشمس فأعاد، ثم قال: أحسنت يا أميرى والله، أعد بحق أميّة فأعاد، ثم قال: أعد بحق فلان حتى بلغ من الملوك نفسه، فقال: أعد بحياتى فأعاده؛ فقام فأكبّ عليه، فلم يبق عضو من أعضائه إلّا قبّله؛ ثم نزع ثيابه فألقاها عليه وبقى مجرّدا إلى أن أتوه بمثلها، ووهب له ألف دينار وحمله على بغلة وقال: اركبها بأبى أنت وانصرف، فقد تركتنى على مثل المقلى من حرارة غنائك. فركبها على بساطه وانصرف.

وحكى أيضا أن ابن عائشة انصرف من عند الوليد وقد غنّاه:

أبعدك معقلا أرجو وحصنا

قد اعيتنى «2» المعاقل والحصون

فأمر له بثلاثين ألف درهم وبمثل كارة القصّار «3» كسوة. فبينا ابن عائشة يسير إذ نظر إليه رجل من أهل وادى القرى، وكان يشتهى الغناء ويشرب النبيذ، فقال لغلامه: من هذا الراكب؟ قال: ابن عائشة المغنّى، فدنا منه فقال: جعلت فداءك! أنت ابن عائشة أمّ المؤمنين؟ قال: لا أنا مولى لقريش وعائشة أمى، وحسبك هذا. قال: وما هذا الذى أراه بين يديك من المال والكسوة؟ قال: غنّيت أمير المؤمنين صوتا فأطربه فكفر وترك الصلاة وأمر لى بهذا المال وهذه الكسوة.

قال: جعلت فداءك! فهل تمنّ علىّ أن تسمعنى ما أسمعته إيّاه؟ فقال: ويلك!

ص: 284

أمثلى يكلّم بهذا في الطريق! قال: فما أصنع؟ قال: الحقنى بالباب. وحرّك ابن عائشة بغلته لينقطع عنه، فعدا معه حتى وافيا الباب كفرسى رهان. ودخل ابن عائشة فمكث طويلا طمعا ان يضجر فينصرف، فلم يفعل حتى أعياه. فقال لغلامه:

أدخله، فلما دخل، قال له: ويلك! من أين صبّك الله علىّ! قال: أنا رجل من أهل وادى القرى أشتهى هذا الغناء. فقال له: هل لك فيما هو أنفع لك منه؟ قال:

وما ذاك؟ قال: مائتا دينار وعشرة أثواب تنصرف بها الى أهلك. فقال له: جعلت فداءك! والله إن لى بنيّة ما في أذنها- علم الله- حلقة من الورق فضلا عن الذهب، وإن لى زوجة ما عليها- شهد الله- قميص، ولو أعطيتنى جميع ما أمر لك به أمير المؤمنين على هذه الحالة والفقر اللّذين عرّفتكهما وأضعفت لى هذا لكان الصوت أعجب إلىّ. فتعجّب ابن عائشة وغنّاه الصوت، فجعل يحرّك رأسه ويطرب له طربا شديدا حتى ظنّ أن عنقه ستنقصف؛ ثم خرج من عنده ولم يرزأه شيئا. وبلغ الخبر الوليد بن يزيد، فسأل ابن عائشة عنه، فجعل يغيب عن الحديث؛ فلم يزل به حتى صدقه الحديث، فطلب الرجل، فطلب حتى أحضر إليه ووصله صلة سنيّة وجعله من ندمائه ووكلّه بالسّقى؛ فلم يزل معه حتى قتل رحمه الله.

وعن علىّ بن الجهم الشاعر قال: حدّثنى رجل أن ابن عائشة كان واقفا بالموسم مهجّرا «1» فمرّ به بعض أصحابه فقال: ما يقيمك هاهنا؟ قال: إنى أعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس هاهنا فلم يذهب أحد ولم يجئ. فقال له الرجل: ومن ذاك؟ قال: أنا؛ ثم اندفع يغنّى:

جرت سنحا فقلت لها أجيزى

نوى مشمولة فمتى اللّقاء

بنفسى من تذكّره سقام

أعانيه ومطلبه عناء

ص: 285

قال: فحبس الناس واضطربت المحامل ومدّت الإبل أعناقها، فكادت الفتنة أن تقع. فأتى به هشام بن عبد الملك، فقال له: يا عدوّ الله! أردت أن تفتن الناس! قال: فأمسك عنه وكان تيّاها؛ فقال له هشام: ارفق بتيهك. فقال: يحقّ لمن كانت هذه مقدرته على القلوب أن يكون تيّاها! فضحك هشام وخلّى سبيله.

واختلف في وفاة ابن عائشة وسببها. فقيل: كانت وفاته في أيام هشام بن عبد الملك، وقيل: فى أيام الوليد بن يزيد وهو أشبه، لأنه قد تقدّم أنه نادم الوليد وغنّاه. والذى يقول: إنه توفّى في أيام هشام يزعم أنه نادم الوليد في أيام ولايته العهد. وكانت وفاته بذى خشب، وهو على أميال من المدينة. قيل: كان سبب وفاته أن الغمر بن يزيد خرج إلى الشأم؛ فلما نزل قصر ذى خشب جلس على سطحه، فغنى ابن عائشة صوتا طرب له الغمر، فقال: أعده فأبى، وكان لا يردّد صوتا لسوء خلقه. فأمر به فطرح من أعلى السطح فمات. وقيل: بل قام من الليل يبول وهو سكران فسقط من السطح فمات. وقيل: بل كان قد رجع من عند الوليد بن يزيد، فلما قرب من المدينة نزل بذى خشب، وكان والى المدينة إبراهيم بن هشام المخزومىّ وكان في قصره هناك، فدعاه فأقام عنده ذلك اليوم. فلما أخذوا في الشّرب أخرج المخزومىّ جواريه، فنظر إلى ابن عائشة وهو يغمز جارية منهنّ؛ فقال لخادمه:

إذا خرج ابن عائشة يريد حاجته فارم به من القصر، وكانوا يشربون في سطح القصر، فلما قام رماه الخادم فمات. وقيل: بل أقبل من الشأم فنزل بقصر ذى خشب فشرب فيه ثم صعد إلى أعلى القصر فنظر إلى نسوة يمشين في ناحية الوادى، فقال لأصحابه:

هل لكم فيهنّ؟ فقالوا: وكيف لنا بهنّ! فلبس ملاءة مدلوكة ثم قام على شرفة من شرفات القصر وتغنّى بشعر ابن أذينة:

وقد قالت لأتراب

لها زهر تلاقينا

ص: 286