المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر شىء من نوادر أشعب وأخباره - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ٤

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]

- ‌[تتمة القسم الثالث في المدح والهجو و

- ‌الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثانى (فى المجون والنوادر والفكاهات والملح)

- ‌ذكر مزاحات رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر من اشتهر بالمزاح من الصحابة رضوان الله عليهم

- ‌ذكر شىء من مجون الأعراب

- ‌ذكر شىء من نوادر القضاة

- ‌ذكر شىء من نوادر النّحاة

- ‌ذكر شىء من نوادر المتنبئين

- ‌ذكر شىء من نوادر المغفّلين والحمقى

- ‌ذكر شىء من نوادر النبيذيّين

- ‌ذكر شىء من نوادر النساء والجوارى

- ‌ذكر شىء من نوادر العميان

- ‌ذكر شىء من نوادر السؤّال

- ‌ذكر شىء من نوادر من اشتهر بالمجون

- ‌ذكر شىء من نوادر أشعب وأخباره

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى دلامة

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى صدقة

- ‌ذكر شىء من نوادر الأقيشر

- ‌ذكر شىء من نوادر ابن سيّابة

- ‌ذكر شىء من نوادر مطيع بن إياس الكنانىّ وأخباره

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى الشّبل

- ‌ذكر شىء من نوادر حمزة بن بيض الحنفى

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى العيناء عفا الله عنه

- ‌ذكر ما ورد في كراهة المزح

- ‌ذكر شىء من الشعر المناسب لهذا الباب والداخل فيه

- ‌الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الخمر

- ‌ذكر ما قيل في الخمر وتحريمها

- ‌وأما ما ورد في تحريمها في كتاب الله وبيّنته السّنّة، فالأحاديث متضافرة

- ‌ذكر ما قيل في إباحة المطبوخ

- ‌ذكر آفات الخمر وجناياتها

- ‌ذكر أسماء الخمر من حين تعصر الى أن تشرب

- ‌ذكر أخبار من تنزّه عنها في الجاهليّة وتركها ترفّعا عنها

- ‌ذكر من حدّ فيها من الأشراف ومن شربها منهم ومن اشتهر بها ولبس فيها ثوب الخلاعة ومن افتخر بشربها

- ‌فأما من حدّ فيها من الأشراف

- ‌وأما من شربها منهم واشتهر بها، جماعة من الأكابر والأعيان والخلفاء

- ‌منهم: يزيد بن معاوية

- ‌ومنهم: عبد الملك بن مروان

- ‌ومنهم: يزيد بن عبد الملك بن مروان

- ‌ومنهم: ابنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك

- ‌ومنهم: المأمون بن الرشيد

- ‌ومنهم: العباس بن علىّ بن عبد الله بن العباس

- ‌ومنهم: بلال بن أبى بردة

- ‌ومنهم: عبد الرحمن بن عبد الله الثقفىّ

- ‌ومنهم: آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز

- ‌ومنهم: حارثة بن زيد العدوانىّ

- ‌ومنهم: والبة بن الحباب الأسدىّ

- ‌ومنهم: أبو الهندىّ

- ‌ومنهم: سعيد بن وهب

- ‌ومنهم: الحسين بن الضحّاك النديم

- ‌ومنهم: يحيى بن زياد

- ‌ومنهم: أبو نواس الحسن بن هانىء

- ‌ومنهم: الثّروانىّ

- ‌ومنهم: مطيع بن إياس

- ‌ومنهم: أبو عبد الرحمن العطوىّ

- ‌ومنهم: أبو هفّان

- ‌ومنهم: الأقيشر

- ‌ومنهم: النعمان بن علىّ بن نضلة

- ‌ومنهم: عمارة بن الوليد بن المغيرة

- ‌وأما من افتخر بشربها وسبائها

- ‌ذكر شىء مما قيل فيها من جيّد الشعر

- ‌فأمّا ما قيل فيها على سبيل المدح لها، فمن ذلك قول ابن الرومى

- ‌ومما قيل في وصفها وتشبيهها

- ‌وأما ما قيل في أفعالها

- ‌وأما ما وصفت به غير ما قدّمناه

- ‌ومما قيل فيها اذا مزجت بالماء

- ‌ذكر ما قيل في مبادرة اللّذات ومجالس الشراب وطيّها

- ‌ومما وصفت به مجالس الشرب

- ‌ومما قيل في طىّ مجالس الشراب

- ‌ذكر ما قيل في وصف آلات الشراب وأوانيها

- ‌ومما قيل في الراووق

- ‌ومما وصفت به زقاق الخمر

- ‌ومما وصفت به الأباريق

- ‌ومما وصفت به الكاسات والأقداح

- ‌الباب الخامس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى النّدمان والسّقاة

- ‌[ومما قيل في الندمان]

- ‌ومما قيل في السّقاة

- ‌الباب السادس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الغناء والسماع

- ‌ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والإباحة

- ‌أما ما قيل في تحريم الغناء وما استدلّ به من رأى ذلك

- ‌أما دليلهم من الكتاب العزيز

- ‌وأمّا دليلهم من السنّة

- ‌وأمّا أقوال الصحابة والتابعين رضى الله عنهم

- ‌وأمّا أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى

- ‌ذكر ما ورد في إباحة الغناء والسماع والضرب بالآلة

- ‌ذكر ما استدلّوا به على إباحة الغناء من الأحاديث النبوية

- ‌وأمّا ما ورد في الضرب بالآلة، فمن ذلك ما ورد في الدّفّ

- ‌وأمّا ما ورد في اليراع

- ‌وأمّا ما ورد في القصب والأوتار

- ‌وأما ما ورد في المزامير والملاهى

- ‌ذكر ما ورد في توهين ما استدلّوا به على تحريم الغناء والسماع

- ‌ذكر أقسام السماع وبواعثه

- ‌ذكر العوارض التى يحرم معها السماع

- ‌العارض الأوّل: أن يكون المسمع امرأة لا يحلّ النظر إليها وتخشى الفتنة من سماعها

- ‌العارض الثانى في الآلة

- ‌العارض الثالث في نظم الصوت

- ‌العارض الرابع في المستمع

- ‌العارض الخامس- أن يكون الشخص من عوامّ الخلق ولم يغلب عليه حبّ الله

- ‌ذكر آثار السماع وآدابه

- ‌المقام الأوّل- فى الفهم

- ‌إحداها- أن يكون سماعه بمجرّد الطبع

- ‌الحالة الثانية- أن يسمع بفهم ولكن ينزّله على صورة إما معيّنة أو غير معيّنة

- ‌الحالة الثالثة- أن ينزّل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملة الله تعالى

- ‌الحالة الرابعة- سماع من جاوز الأحوال والمقامات

- ‌المقام الثانى- بعد الفهم والتنزيل الوجد

- ‌المقام الثالث- فى آداب السماع ظاهرا وباطنا، وما يحمد من آثار الوجد ويذمّ

- ‌قال الإمام أبو حامد رحمه الله تعالى: فأما الآداب فهى خمس جمل:

- ‌الأوّل- مراعاة الزمان والمكان والإخوان

- ‌الثانى- وهو نظر للحاضرين

- ‌الأدب الثالث- أن يكون مصغيا إلى ما يقوله القائل

- ‌الأدب الرابع- ألّا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه

- ‌الأدب الخامس- موافقة القوم في القيام

- ‌وأما أبو محمد علىّ بن أحمد بن سعيد بن حزم

- ‌ذكر من سمع الغناء من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم

- ‌ذكر من سمع الغناء من الأئمة والعبّاد والزّهاد

- ‌ذكر من غنّى من الخلفاء وأبنائهم ونسبت له أصوات من الغناء نقلت عنه

- ‌[أما من غنّى من الخلفاء]

- ‌منهم عمر بن عبد العزيز

- ‌وممّن غنّى من خلفاء الدولة العباسية، ممن دوّنت له صنعة، الواثق بالله

- ‌ومنهم المنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل على الله أبو الفضل جعفر

- ‌ومنهم المعتزّ بالله أبو عبد الله محمد بن جعفر المتوكل

- ‌ومنهم المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن المتوكل على الله

- ‌وأما أبناء الخلفاء الذين لهم صنعة بد في هذا الفنّ

- ‌فمنهم إبراهيم بن المهدىّ

- ‌وأمّا عليّة بنت المهدىّ

- ‌ومنهم أبو عيسى بن الرشيد

- ‌ومنهم عبد الله بن موسى الهادى

- ‌ومنهم عبد الله بن محمد الأمين

- ‌ومنهم أبو عيسى بن المتوكل

- ‌ومنهم عبد الله بن المعتز

- ‌ذكر من غنّى من الأشراف والعلماء رحمهم الله

- ‌عبد العزيز بن المطلب

- ‌ومنهم ابراهيم بن سعد

- ‌ومنهم محمد بن إسماعيل بن علىّ بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما

- ‌ذكر من غنّى من الأعيان والأكابر والقوّاد ممن نسبت له صنعة في الغناء

- ‌منهم أبو دلف العجلىّ

- ‌ومنهم أخوه معقل بن عيسى

- ‌ومنهم عبد الله بن طاهر بن الحسين وابنه عبيد الله

- ‌فأمّا عبد الله

- ‌وأمّا عبيد الله

- ‌ذكر أخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسيّة إلى العربيّة ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء

- ‌ذكر أخبار سعيد بن مسجح

- ‌ذكر أخبار سائب خاثر

- ‌ذكر أخبار طويس

- ‌ذكر أخبار معبد

- ‌ذكر أخبار الغريض وما يتّصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة

- ‌ذكر أخبار محمد بن عائشة

- ‌ذكر أخبار ابن محرز

- ‌ذكر أخبار مالك بن أبى السّمح

- ‌ذكر أخبار يونس الكاتب

- ‌ذكر أخبار حنين

- ‌ذكر أخبار سياط

- ‌ذكر أخبار الأبجر

- ‌ذكر أخبار أبى زيد الدّلال

- ‌ذكر أخبار عطرّد

- ‌ذكر أخبار عمر الوادىّ

- ‌ذكر أخبار حكم الوادىّ

- ‌ذكر أخبار ابن جامع

- ‌ذكر أخبار عمرو بن أبى الكنّات

- ‌ذكر أخبار أبى المهنّأ مخارق

- ‌ذكر أخبار يحيى بن مرزوق المكّىّ

- ‌ذكر أخبار أحمد بن يحيى المكىّ الملقّب بطنين

- ‌ذكر أخبار هاشم بن سليمان مولى بنى أميّة

- ‌ذكر أخبار يزيد حوراء

- ‌ذكر أخبار فليح بن أبى العوراء

- ‌ذكر أخبار إبراهيم الموصلىّ عفا الله عنه

- ‌ذكر نبذة من أخبار إبراهيم الموصلى مع البرامكة رحمهم الله تعالى

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في أحد الأصلين الفتوغرافيين:

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في الأصل الآخر الفتوغرافى:

الفصل: ‌ذكر شىء من نوادر أشعب وأخباره

لم لا تكون كفلان؟ (يعنون رجلا موسرا) فقال: بأبى أنتم! كيف أشبّه بمن يضرط فيشمّت «1» وأعطس فألطم!. وقيل له: ما بال حمارك يتبلّد إذا توجّه نحو المنزل وحمير الناس إلى منازلها أسرع؟ قال: لأنه يعرف سوء المنقلب. ونظرت امرأته وهى حبلى الى قبح وجهه، فقالت: الويل لى إن كان الذى في بطنى يشبهك.

فقال لها: الويل لك إن لم يكن يشبهنى. وسمع رجلا يقول عن ابن عباس:

من نوى حجّة وعاقه عائق، كتبت له. فقال مزبّد: ما خرج العام كراء أرخص من هذا.

وممن اشتهر بالمجون أشعب.

‌ذكر شىء من نوادر أشعب وأخباره

هو أشعب بن جبير. واسمه شعيب، وكنيته أبو العلاء. وأمه أمّ الجلندح، وقيل:

أمّ حميد حميدة «2» . وهى مولاة أسماء بنت أبى بكر الصدّيق رضى الله عنها. وكان أبوه قد خرج مع المختار بن أبى عبيد؛ فأسره مصعب بن الزبير؛ فقال له: ويلك! تخرج علىّ وأنت مولاى! وقتله صبرا. وقد قيل في ولائه: إن أباه مولى عثمان ابن عفّان رضى الله عنه، وإن أمه كانت مولاة أبى سفيان بن حرب، وإن ميمونة أمّ المؤمنين أخذتها لمّا تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت تدخل على أزواج النبىّ صلى الله عليه وسلم، فيستظر فنها؛ ثم صارت تنقل أحاديث بعضهنّ الى بعض، وتغرى بينهن. فدعا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فماتت. وقد حكى

ص: 24

عن أشعب: أنه جلس يوما في مجلس فيه جماعة، فتفاخروا وذكر كل واحد منهم مناقبه وشرفه أو شجاعته أو شعره وغير ذلك مما يتمدّح به الناس ويتفاخرون؛ فوثب أشعب وقال: أنا ابن أمّ الجلندح، أنا ابن المحرّشة بين أزواج النبىّ صلى الله عليه وسلم. فقيل له: ويلك! أو بهذا يفتخر الناس! قال: وأىّ افتخار أعظم من هذا! لو لم تكن أمّى عندهن ثقة لما قبلن روايتها في بعضهنّ بعضا. وقد حكى:

أنها زنت، فحلقت، وطيف بها على جمل، فكانت تنادى على نفسها: من رآنى فلا يزنين. فقالت لها امرأة: نهانا الله عزوجل عنه فعصيناه، ونطيعك وأنت مجلودة محلوقة، راكبة على جمل!. ونشأ أشعب بالمدينة في دور آل أبى طالب، وكفلته وتولّت تربيته عائشة بنت عثمان. وعمّر أشعب عمرا طويلا. وحكى عنه أنه قال: كنت مع عثمان رضى الله عنه يوم الدار لمّا حصر؛ فلما جرّد مماليكه السيوف ليقاتلوا كنت فيهم؛ فقال عثمان: من أغمد سيفه فهو حرّ. فلما وقعت في أذنى كنت والله أوّل من أغمد سيفه فعتقت. وكانت وفاته بعد سنة أربع وخمسين ومائة. وهذا القول يدل على أنه كان مولى عثمان بن عفّان رضى الله عنه.

وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ بإسناد رفعه الى إبراهيم بن المهدىّ عن عبيد ابن أشعب عن أبيه: أنه كان مولده في سنة تسع من الهجرة، وأن أباه كان من مماليك عثمان بن عفان. وعمّر أشعب حتى هلك في أيام المهدىّ. قال: وكانت فى أشعب خلال، منها: أنه كان أطيب أهل زمانه عشرة، وأكثرهم نادرة، وكان أقوم أهل دهره لحجج المعتزلة، وكان امرأ منهم. وقال مصعب بن عبد الله:

كان أشعب من القرّاء حسن الصوت بالقراءة، وكان قد نسك وغزا؛ وقد روى الحديث عن عبد الله بن جعفر. وقال الأصمعىّ: قال أشعب: نشأت أنا وأبى الزّناد

ص: 25

فى حجر عائشة بنت عثمان؛ فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغنا هذه المنزلة. وقال إسحاق ابن إبراهيم: كان أشعب مع ملاحته ونوادره يغنّى أصواتا فيجيدها. وفيه يقول عبد الله ابن مصعب الزبيرى عفا الله عنه:

اذا تمززت صراحيّة «1»

كمثل ريح المسك أو أطيب

ثم تغنّى لى بأهزاجه

زيد أخو الأنصار أو أشعب

حسبت أنى ملك جالس

حفّت به الأملاك والموكب

وما أبالى وإله العلا «2»

أشرّق العالم أم غرّبوا

ولأشعب نوادر مستظرفة وحكايات مستحسنة، وقد آن أن نذكرها. فمنها ما حكى أنه كان يقول: كلبى كلب سوء، يبصبص للأضياف، وينبح على أصحاب الهدايا. وقيل له: قد لقيت رجالا من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم فلو حفظت أحاديث تتحدّث بها! فقال: أنا أعلم الناس بالحديث. قيل: فحدّثنا. قال: حدّثنى عكرمة عن ابن عبّاس رضى الله عنهم قال: خلّتان لا تجتمعان في مؤمن إلا دخل الجنة، ثم سكت، فقيل له: هات، ما الخلتان؟ قال: نسى عكرمة إحداهما ونسيت أنا الأخرى. وكان أشعب يحدّث عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما فيقول:

حدّثنى عبد الله، وكان يبغضنى في الله. وكان أشعب يلازم طعام سالم بن عبد الله ابن عمر رضى الله عنهم. فآشتهى سالم أن يأكل مع بناته فخرج الى البستان؛ فجاء أشعب الى منزل سالم على عادته؛ فأخبر بالقصة؛ فاكترى جملا بدرهم وجاء الى البستان. فلما حاذى الحائط وثب فصار عليه؛ فغطّى سالم بناته بثوبه وقال:

بناتى بناتى! فقال أشعب: (لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) .

ص: 26

قال أشعب: جاءتنى جارية بدينار وقالت: هذا وديعة عندك؛ فجعلته بين ثنى الفراش. فجاءت بعد أيام وقالت: بأبى أنت! الدينار؛ فقلت ارفعى فراشى وخذى ولده فإنه قد ولد، وكنت قد تركت الى جنبه درهما، فأخذت الدرهم وتركت الدينار. وعادت بعد أيام فوجدت معه درهما آخر فأخذته، وفي الثالثة كذلك.

وجاءت في الرابعة، فلما رأيتها بكيت؛ فقالت: ما يبكيك؟ قلت: مات دينارك فى النفاس. فقالت: وكيف يكون للدينار نفاس؟ قلت: يا فاسقة! تصدّقين بالولادة ولا تصدّقين بالنفاس!.

ومن أخباره المستظرفة ما حكاه المدائنىّ، قال: قال أشعب: تعلّقت بأستار الكعبة فقلت: اللهم أذهب عنّى الحرص والطلب إلى الناس؛ فمررت بالقرشيين وغيرهم فلم يعطنى أحد شيئا. فجئت الى أمى، فقالت: مالك قد جئت خائبا؟

فأخبرتها بذلك؛ فقالت: والله لا تدخل حتى ترجع فتستقيل ربك. فرجعت فجعلت أقول: يا ربّ أقلنى، ثم رجعت، فما مررت بمجلس لقريش ولا غيرهم إلا أعطونى، ووهب لى غلام؛ فجئت الى أمى بجمال موقرة من كل شىء. فقالت:

ما هذا الغلام؟ فخفت أن أخبرها فتموت فرحا إن قلت: وهبوه لى. فقالت:

أىّ شىء هذا؟ فقلت: غين. قالت: أىّ شىء [غين]«1» ؟ قلت: لام. قالت:

أىّ شىء [لام]«2» ؟ [قلت: ألف. قالت: وأى شىء ألف «3» ] ؟ قلت: ميم.

قالت: وأىّ ميم؟ قلت: غلام؛ فغشى عليها. ولو لم أقطّع الحروف لماتت الفاسقة فرحا. قال: وجلس أشعب يوما الى جانب مروان بن أبان بن عثمان؛ فانفلتت من مروان ريح لها صوت؛ فانصرف أشعب يوهم الناس أنه هو الذى خرجت منه الريح. فلما انصرف مروان الى منزله جاءه أشعب فقال له: الدية،

ص: 27

قال: دية ماذا؟ قال: دية الضرطة التى تحملتها عنك، وإلا شهرتك؛ فلم يدعه حتى أخذ منه شيئا صالحه عليه.

وقال محمد بن أبى قبيلة: غذّى أشعب جديا بلبن أمّه وغيرها حتى بلغ غاية، ثم قال لزوجته أمّ ابنه وردان: إنى أحبّ أن ترضعيه بلبنك ففعلت. ثم جاء به الى إسماعيل بن جعفر بن محمد، فقال: تالله إنه لابنى، رضع بلبن زوجتى، قد حبوتك به، ولم أر أحدا يستأهله سواك. فنظر إسماعيل إليه وأمر به فذبح وسمط. فأقبل عليه أشعب وقال: المكافأة؛ فقال: ما عندى والله اليوم شىء، ونحن من تعرف، وذلك غير فائت لك. فلما يئس أشعب منه قام من عنده فدخل على أبيه جعفر، ثم اندفع فشهق حتى التقت أضلاعه، ثم قال: أخلنى.

قال: ما معنا أحد يسمع، ولا عليك عين. قال: وثب ابنك إسماعيل على ابنى فذبحه وأنا أنظر اليه. فارتاع جعفر وصاح: ويلك! وفيم؟ وتريد ماذا؟ قال:

أمّا ما أريد فو الله مالى في إسماعيل حيلة ولا يسمع هذا سامع أبدا بعدك. فجزاه خيرا وأدخله منزله وأخرج اليه مائتى دينار فقال: خذ هذه، ولك عندنا ما تحبّ.

قال: وخرج الى إسماعيل وهو لا يبصر ما يطأ عليه، فإذا به مسترسل في مجلسه.

فلما رأى وجه أبيه أنكره وقام إليه؛ فقال: يا إسماعيل، فعلتها بأشعب! قتلت ولده؟ قال: فاستضحك وقال: جاءنى، وأخبره الخبر. فأخبره أبوه بما كان منه وما صار إليه. قال: فكان جعفر يقول لأشعب: رعتنى راعك الله! فيقول:

روعة ابنك بنا في الجدى أكثر من روعتك بالمائتى الدينار.

قال المدائنىّ: دخل أشعب على الحسين بن علىّ رضى الله عنهما، وعنده أعرابىّ قبيح المنظر، مختلف الخلقة؛ فسبّح أشعب حين رآه وقال للحسين: بأبى أنت وأمى، أتأذن لى أن أسلح عليه؟ فقال: إن شئت. ومع الأعرابىّ قوس وكنانة، ففوّق

ص: 28

نحوه سهما، وقال: والله لئن فعلت لتكونن آخر سلحة سلحتها. فقال أشعب للحسين: جعلت فداك، أخذنى القولنج «1» . وعنه قال: توضأ أشعب فغسل رجله اليسرى وترك اليمنى. فقيل له: لم تركت غسل اليمنى؟ فقال: لأن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: «أمتى غرّ محجّلون من آثار الوضوء «2» » وأنا أحب أن أكون أغرّ محجّلا مطلق اليمين. وقال: سمع أشعب حبّى المدنيّة تقول: اللهم لا تمتنى حتى تغفر لى ذنوبى؛ فقال لها: يا فاسقة! أنت لم تسألى الله تعالى المغفرة، وإنما سألته عمر الأبد! (يريد: أن الله لا يغفر لها أبدا) .

وقال الزبير بن بكّار: كان أشعب يوما في المسجد يدعو، وقد قبّض وجهه فصيّره كالصّبرة «3» المجموعة. فرآه عامر بن عبد الله بن الزبير فحصبه وناداه:

يا أشعب، إنما أنت تناجى ربك فناجه بوجه طليق. قال: فأرخى لحييه حتى وقعا على زوره «4» . قال: فأعرض عنه، وقال: ولا كلّ ذا.

وقال مصعب: بلغ أشعب أنّ الغاضرىّ قد أخذ في مثل مذهبه ونوادره، وأن جماعة استطابوه؛ فرقبهم حتى علم أنه في مجلس من مجالس قريش يحادثهم ويضحكهم، فصار اليهم، ثم قال: قد بلغنى انك قد نحوت نحوى، وشغلت عنى من كان يألفنى؛ فإن كنت مثلى فافعل كما أفعل. ثم غضّن وجهه وعرّضه وشنّجه، حتى صار عرضه أكثر من طوله، وصار في هيئة لم يعرفه أحد بها، ثم أرسل

ص: 29

وجهه حتى كاد ذقنه يجوز صدره، وصار كأنه وجه الناظر في سيف؛ ثم نزع ثيابه وتحادب، فصار في ظهره حدبة كسنام للبعير، وصار طوله مقدار شبر، ثم نزع سراويله، وجعل يمد جلد خصييه حتى حك بهما الأرض، ثم خلّاهما من يده، وجعل يميس، وهما يخطان الأرض، ثم قام فتطاول وتمدّد وتمطّى، حتى صار كأطول ما يكون من الرجال. فضحك القوم حتى أغمى عليهم، وقطع بالغاضرىّ فما تكلم بنادرة ولا زاد على أن يقول: يا أبا العلاء، لا أعاود ما تكره أبدا، إنما أنا عبدك وتخريجك؛ ثم انصرف أشعب وتركه.

وقال الزبير بن بكّار: حدثنى عمّى، قال: لقى أشعب صديق لأبيه، فقال له:

ويلك يا أشعب! كان أبوك الحى وأنت أقطّ «1» ، فإلى من خرجت تشبه؟ قال:

إلى أمّى.

وقال الهيثم بن عدىّ: لقيت أشعب فقلت له: كيف ترى أهل زمانك هذا؟ قال: يسألوننى عن أحاديث الملوك؛ ويعطوننى عطاء العبيد.

وقال مصعب بن عثمان: لقى أشعب سالم بن عبد الله بن عمر، فقال له:

يا أشعب، هل لك في هريس أعدّ لنا؟ قال: نعم، بأبى أنت وأمى. فمضى أشعب إلى منزله؛ فقالت له امرأته: قد وجّه عبد الله بن عمرو بن عثمان يدعوك، قال: ويحك! إن لسالم بن عبد الله هريسة قد دعانى اليها، وعبد الله بن عمرو فى يدى متى شئت، وسالم إنما دعوته للناس فلتة، وليس لى بدّ من المضىّ اليه.

قالت: إذا يغضب عبد الله. قال: آكل عنده ثم أصير إلى عبد الله. فجاء إلى منزل سالم فجعل يأكل أكل متعالل. فقال له: كل يا أشعب، وابعث ما فضل

ص: 30

عنك إلى منزلك. قال: ذلك أردت، بأبى أنت وأمّى. قال: فقال: يا غلام، احمل هذا إلى منزله، فحمله ومشى أشعب معه. فقالت امرأته: ثكلتك أمّك، قد حلف عبد الله لا يكلّمك شهرا؛ قال: دعينى وإياه، هاتى شيئا من زعفران؛ فأعطته، فأخذه ودخل الحمّام، فمسحه على وجهه وبدنه، وجلس في الحمام حتى صفّره، وخرج متوكأ على عصا يرعد حتى أتى دار عبد الله بن عمرو بن عثمان. فلما رآه حاجبه قال: ويحك! بلغت بك العلّة ما أرى. ودخل فأعلم صاحبه، فأذن له.

فلما دخل عليه، إذا سالم بن عبد الله عنده، فجعل يزيد في الرعدة، ويقارب الخطو، وجلس وما كاد أن يستقلّ. فقال عبد الله: ظلمناك يا أشعب في غضبنا عليك.

فقال له سالم: ويلك! مالك؟ ألم تكن عندى آنفا وأكلت هريسة! قال: لقد شبّه لك، لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: لعل الشيطان يتشبّه بك. قال أشعب:

علىّ وعلىّ إن كنت رأيتك منذ شهر. فقال له عبد الله: اعزب ويلك عن خالى! أتبهته لا أمّ لك! قال: ما قلت إلا حقّا. قال: بحياتى اصدقنى وأنت آمن من غضبى. قال: وحياتك لقد صدق؛ وحدّثه بالقصة؛ فضحك حتى استلقى على قفاه.

وقال المدائنىّ والهيثم بن عدىّ: بعث الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان إلى أشعب بعد ما طلق امرأته سعدة، فقال له: يا أشعب، لك عندى عشرة آلاف درهم على أن تبلّغ رسالتى سعدة. فقال له: أحضر المال حتى أنظر اليه، فأحضر الوليد بدرة، فوضعها أشعب على عنقه، وقال: هات رسالتك. قال:

قل لها يقول لك:

أسعدة هل اليك لنا سبيل

وهل حتى القيامة من تلاق

بلى! ولعلّ دهرا أن يؤاتى

بموت من حليلك أو طلاق

ص: 31

فأصبح شامتا وتقرّ عينى

ويجمع شملنا بعد افتراق

قال: فأتى أشعب الباب فأخبرت بمكانه، فأمرت ففرش لها فرش وجلست وأذنت له؛ فدخل فأنشدها. فلما أنشد البيت الأوّل:

أسعدة هل اليك لنا سبيل

وهل حتى القيامة من تلاق

قالت: لا والله، لا يكون ذلك أبدا. فلما أنشد البيت الثانى:

بلى! ولعلّ دهرا أن يؤاتى

بموت من حليلك أو طلاق

قالت: كلّا إن شاء الله، بل يفعل الله ذلك به. فلما أنشد البيت الثالث:

فأصبح شامتا وتقرّ عينى

ويجمع شملنا بعد افتراق

قالت: بل تكون الشماتة به. ثم قالت لخدمها: خذوا الفاسق. فقال:

يا سيّدتى، إنها عشرة آلاف درهم. قالت: والله لأقتلنّك أو تبلّغه كما بلّغتنى. قال:

وما تهبين لى؟ قالت: بساطى الذى تحتى. قال: قومى عنه؛ فقامت، فطواه، ثم قال: هاتى رسالتك، جعلت فداك! قالت: قل له:

أتبكى على لبنى وأنت تركتها

فقد ذهبت لبنى فما أنت صانع؟

فأقبل أشعب، حتى دخل على الوليد، فأنشده البيت. فقال: أوّه قتلتنى والله! فما ترانى صانعا بك يا ابن الزانية! اختر إمّا أنّ أدليك منكّسا في بئر، أو أرميك من فوق القصر منكّسا، أو أضرب رأسك بعمودى هذا ضربة. قال له: ما كنت فاعلا بى شيئا من ذلك. قال: ولم؟ قال: لأنك لم تكن لتعذّب عينين قد نظرتا إلى سعدة! قال: صدقت يا ابن الزانية! وروى أبو الفرج الأصفهانىّ بإسناده إلى إبراهيم بن المهدىّ عن ابن أشعب عن أبيه، قال: دعى ذات يوم بالمغنّيين إلى الوليد بن يزيد، وكنت نازلا معهم،

ص: 32

فقلت للرسول: خذنى فيهم؛ قال: لم أؤمر بك، إنما أمرت بإحضار المغنيين، وأنت بطّال لا تدخل في جملتهم. فقلت له: أنا والله أحسن غناء منهم؛ ثم اندفعت فغنّيت. فقال: لقد سمعت حسنا، ولكن أخاف. قلت: لا خوف عليك؛ ولك مع ذلك شرط. قال: وما هو؟ قلت: كل ما أصبت فلك شطره؛ فأشهد علىّ الجماعة، ومضينا حتى دخلنا على الوليد، وهو لقس النفس؛ فغنّاه المغنّون في كل فنّ فلم يتحرّك ولم ينشط. فقام الأبجر إلى الخلاء، وكان خبيثا داهيا، فسأل الخادم عن خبره؛ فقال: بينه وبين امرأته شرّ، لأنه عشق أختها فغضبت عليه، وهو إلى أختها أميل، وقد عزم على طلاقها، وحلف ألّا يذكرها أبدا بمراسلة أو مخاطبة، فخرج على هذه الحال من عندها. فعاد الأبجر الينا، وجلس ثم اندفع يغنّى:

فبينى فإنى لا أبالى وأيقنى

أصعّد باقى حبّكم أم تصوّبا

ألم تعلمى أنى عزوف عن الهوى

إذا صاحبى من غير شىء تغضّبا

فطرب الوليد وارتاح، وقال للأبجر: أصبت والله يا عبيد ما في نفسى، وأمر له بعشرة آلاف درهم وشرب حتى سكر، ولم يحظ أحد بشىء سوى الأبجر. فلما أيقنت بانقضاء المجلس وثبت فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمر من يضر بنى مائة سوط الساعة بحضرتك! فضحك، ثم قال: قبّحك الله! وما السبب في ذلك؟ فأخبرته بقصّتى مع الرسول، وقلت له: إنه بدأنى بالمكروه في أوّل يومه فاتصل «1» علىّ إلى آخره، فأريد أن أضرب مائة سوط ويضرب بعدى مثلها. فقال: لقد لطّفت، بل أعطوه مائة دينار، وأعطوا الرسول خمسين دينارا من مالنا عوض الخمسين التى أراد أخذها من أشعب، فقبضتها وانصرفت.

ص: 33

قال ابن زبنّج «1» : كان أبان بن عثمان من أهزل الناس وأعبثهم «2» ، فبينا نحن ذات يوم عنده وعنده أشعب، إذ أقبل أعرابىّ معه جمل، والأعرابىّ أشقر أزرق أزعر يتلظّى كأنه أفعى، والشرّبيّن في وجهه، ما يدنو منه أحد إلا شتمه ونهره؛ فقال أبان: هذا والله من البادية «3» ، ادعوه لى، فدعوه له وقيل: إن الأمير أبان بن عثمان يدعوك؛ فأتاه فسلّم عليه، فسأله أبان بن عثمان عن نسبه، فانتسب له. فقال له أبان:

حيّاك الله يا خال، اجلس، فجلس. فقال له: إنى أطلب جملا مثل جملك هذا منذ زمان فلم أجده كما أشتهى بهذه الصفة وهذه الهامة والصورة والورك والأخفاف، والحمد لله الذى جعل ظفرى به عند من أحبّه، أتبيعنيه؟ فقال: نعم أيها الأمير.

قال: فإنى قد بذلت لك به مائة دينار؛ فطمع الأعرابىّ وسرّ بذلك وانتفخ، وبان الطمع في وجهه. فأقبل أبان على أشعب ثم قال له: ويلك يا أشعب! إن خالى هذا من أهلك وأقاربك (يعنى: فى الطمع) فأوسع له مما عندك؛ قال: نعم، بأبى أنت وزيادة. فقال له أبان: يا خال، إنما زدتك في الثمن على بصيرة أنّ الجمل يساوى ستين دينارا، ولكنى بذلت لك مائة دينار لقلة النقد عندنا، وإنى أعطيك عروضا تساوى مائة دينار؛ فزاد طمع الأعرابىّ وقال: قد قبلت ذلك أيها الأمير.

وأسرّ أبان الى أشعب، فأخرج شيئا مغطّى، فقال له: أخرج ما جئت به؛ فأخرج جرد عمامة تساوى أربعة دراهم. فقال له: قوّمها يا أشعب. فقال: عمامة الأمير يشهد فيها الأعياد والجمع ويلقى فيها الخلفاء! خمسون دينارا. قال: ضعها بين يديه،

ص: 34

وقال لابن زبنّج: أثبت قيمتها، فكتب ذلك، ووضعت العمامة بين يدى الأعرابىّ؛ فكاد يدخل بعضه في بعض غيظا، ولم يقدر على الكلام. قال: هات قلنسوتى، فأخرج قلنسوة طويلة خلقا «1» قد علاها الوسخ والدّهن وتخرّقت تساوى نصف درهم.

قال: قوّم؛ فقال: قلنسوة الأمير تعلو هامته، ويصلّى فيها الصلوات الخمس، ويجلس فيها للحكم! ثلاثون دينارا. قال: أثبت، فأثبت ذلك، ووضعت القلنسوة بين يدى الأعرابىّ فاربدّ وجهه وحجظت عيناه وهمّ بالوثوب، ثم تماسك وهو مقلقل. ثم قال لأشعب: هات ما عندك؛ فأخرج خفّين خلقين قد نقبا وتقشّرا وتفتّتا، فقال: قوّم؛ فقال: خفّا الأمير يطأ بهما الروضة، ويعلو بهما منبر النبىّ صلى الله عليه وسلم! أربعون دينارا، فقال: ضعهما بين يديه. ثم قال للأعرابى:

أضمم اليك متاعك، وقال لبعض الأعوان: امض مع الأعرابىّ واقبض ما بقى لنا عليه من ثمن المتاع، وهو عشرون دينارا. فوثب الأعرابىّ فأخذ القماش فضرب به وجوه القوم لا يألو في شدّة الرمى، ثم قال له: أتدرى في أى شىء أموت؟ قال لا؛ قال: لم أدرك «2» أباك عثمان فأشترك والله في دمه إذ ولد مثلك! ثم نهض كالمجنون حتى أخذ برأس بعيره؛ وضحك أبان حتى سقط، وضحك من كان معه. فكان الأعرابىّ بعد ذلك إذا لقى أشعب يقول له: هلمّ إلىّ يابن الخبيثة، حتى أكافئك على تقويمك «3» المتاع يوم قوّمت؛ فيهرب منه أشعب.

وقال المدائنىّ: حدّثنى شيخ من أهل المدينة قال: كانت امرأة شديدة العين، لا تنظر الى شىء فتستحسنه إلا عانته؛ فدخلت على أشعب وهو في الموت، وهو

ص: 35