الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جلس الأبجر في ليلة اليوم السابع من أيام الحجّ على قريب من التّنعيم فإذا عسكر جرّار [قد أقبل «1» ] فى آخر الليل وفيه دوابّ تجنب ومنها فرس أدهم عليه سرج حليته ذهب، فاندفع يغنّى:
عرفت ديار الحىّ خالية قفرا
…
كأن بها لمّا توهّمتها سطرا
فلما سمعه من في القباب والمحامل أمسكوا وصاح صائح: ويحك أعد الصوت! فقال: لا والله إلا بالفرس الأدهم بسرجه ولجامه وأربعمائة دينار؛ وإذا الوليد بن يزيد صاحب العسكر. فنودى: أين منزلك؟ ومن أنت؟ فقال: أنا لأبجر، ومنزلى على زقاق باب الخرّازين «2» . فغدا عليه رسول الوليد بذلك الفرس وأربعمائة دينار وتخت ثياب وشى وغير ذلك، ثم أتى به الوليد، فأقام وراح مع أصحابه عشيّة التّروية وهو أحسنهم هيئة، وخرج معه أو بعده إلى الشأم.
وحكى عن عمرو بن حفص بن أمّ كلاب «3» ، قال:
كان الأبجر مولانا وكان مكيّا، وكان إذا قدم من مكة نزل علينا. فقال لنا يوما:
أسمعونا غناء ابن عائشتكم هذا؛ فأرسلنا إليه فجمعنا بينهما في بيت ابن هبّار. فغنّى ابن عائشة؛ فقال الأبجر: كلّ مملوك له حرّ إن غنّيت معك إلّا بنصف صوتى، ثم أدخل إصبعه في شدقه وغنّى فسمع صوته من في السوق، فحشر الناس علينا، فلم يفترقا حتى تشاتما.
ذكر أخبار أبى زيد الدّلال
هو أبو زيد ناقد مدنىّ، مولى عائشة بنت سعيد بن العاص، وكان مخنّثا.
قال إسحاق:
لم يكن في المخنّثين أحسن وجها ولا أنظف ثوبا ولا أظرف من الدّلال. قالوا:
ولم يكن بعد طويس أظرف منه ولا أكثر ملحا. وكان كثير النوادر نزر الحديث، فإذا تكلم أضحك الثّكالى، وكان ضاحك السنّ، ولم يكن يغنّى إلّا غناء مضعّفا (يعنى كثير العمل) .
وقال أيّوب بن عباية:
شهدت أهل المدينة إذا ذكروا الدّلال وأحاديثه طوّلوا رقابهم وفخروا به، فعلمت أن ذلك لفضيلة كانت عنده. قالوا: وكان مبتلى بالنّساء والكون معهنّ، فكان يطلب فلا يقدر عليه. وكان صحيح الغناء حسن الجرم. قالوا: وإنما لقّب بالدلال لشكله وحسن ظرفه ودلّه وحلاوة منطقه وحسن وجهه. وكان مشغوفا بمخالطة النساء يكثر وصفهنّ للرجال. وكان يشاغل كلّ من يجالسه عن الغناء بأحاديث النساء كراهة منه للغناء. وكان إذا غنّى أجاد، كما حكاه ابن الماجشون عن أبيه قال: غنّانى الدّلال يوما بشعر مجنون بنى عامر، فلقد خفت الفتنة على نفسى. واستحضره سليمان بن عبد الملك من المدينة سرّا وغنّاه وأقام عنده شهرا ثم صرفه إلى الحجاز مكرما.
قال الأصمعىّ:
حجّ هشام بن عبد الملك؛ فلما قدم المدينة نزل رجل من أشرف أهل الشأم وقوّادهم بجنب دار الدّلال، فكان الشامىّ يسمع غناء الدلال ويصغى إليه ويصعد فوق السطح ليقرب من الصوت، ثم بعث إلى الدّلال: إمّا أن تزورنا وإمّا أن نزورك.
فبعث إليه الدّلال بل تزورنا. فبعث الشامىّ ما يصلح ومضى إليه بغلامين من غلمانه كأنهما درّتان مكنونتان. فغنّاه الدّلال، فاستحسن الشامىّ غناءه فقال: زدنى؛ قال: أو ما يكفيك ما سمعت! قال: لا والله ما يكفينى. قال: فإنّ لى حاجة.
قال: وما هى؟ قال: تبيعنى أحد هذين الغلامين أو كليهما، فقال: اختر أيّهما شئت، فاختار أحدهما، فقال له الشامىّ: هو لك؛ فقبله منه الدلال، ثم غنّاه وغنّى:
دعتنى دواع من أريّا فهيّجت
…
هوى كان قدما من فؤاد طروب
لعل زمانا قد «1» مضى أن يعود لى
…
فتغفر أروى عند ذاك ذنوبى
سبتنى أريّا يوم نعف محسّر
…
بوجه جميل للقلوب سلوب
فقال له الشامىّ: أحسنت. ثم قال له: أيّها الرجل الجميل، إن لى [إليك «2» ] حاجة، قال الدّلال: وما هى؟ قال: أريد وصيفة ولدت في حجر صالح ونشأت في خير، جميلة الوجه مجدولة وضيئة جعدة في بياض مشربة حمرة حسنة الهامة سبطة أسيلة الخدّ عذبة اللّسان لها شكل [ودلّ «3» ] تملأ العين والنفس. فقال له الدّلال: قد أصبتها لك، فما لى عندك إن دللتك عليها؟ قال: غلامى هذا. قال: إذا رأيتها وقبلتها فالغلام لى؟ قال نعم. قال: فأتى امرأة كنّى عن اسمها، فقال لها: جعلت فداءك! نزل بقربى رجل من قوّاد هشام، له ظرف وسخاء، وجاءنى زائرا فأكرمته، ورأيت معه غلامين كأنهما الشمس الطالعة المنيرة والكواكب الزاهرة ما وقعت عينى على مثلهما ولا يطول لسانى بوصفهما، فوهب لى أحدهما والآخر عنده، وإن لم يصر إلىّ فنفسى ذاهبة. قالت: وتريد ماذا؟ قال: طلب منى وصيفة على صفة لا أعلمها إلا في ابنتك، فهل لك أن تريه إيّاها؟ قالت: وكيف لك بأن يدفع الغلام إليك إذا رآها؟ قال: إنى قد شرطت عليه ذلك عند النظر لا عند البيع.
قالت: شأنك، لا يعلم هذا أحد. فمضى الدّلال وأتى بالشامىّ. فلما صار إلى المرأة وضع له كرسىّ وجلس. فقالت له المرأة: أمن العرب أنت؟ قال نعم. قالت:
من أيّهم؟ قال: من خزاعة. قالت: مرحبا بك وأهلا! أىّ شىء طلبت؟
فوصف لها الصّفة. قالت: قد أصبتها؛ وأسرّت إلى جارية لها فدخلت فمكثت هنيهة ثم خرجت فنظرت فقالت: اخرجى، فخرجت وصيفة ما رأى [الراءون «1» ] مثلها. فقالت لها: أقبلى فأقبلت، ثم قالت: أدبرى فأدبرت تملأ العين والنفس، فما بقى منها شىء إلا وضع يده عليه. فقالت له: أتحبّ أن نؤزّرها لك؟ قال نعم.
قالت: ائتزرى؛ فضمّها الإزار وظهرت محاسنها الخفيّة؛ فضرب بيده إلى عجيزتها وصدرها. ثم قالت: أتحب أن نجرّدها لك؟ قال نعم. قالت: [أى حبيبتى «2» ] وضحّى؛ فألقت الإزار فإذا أحسن خلق الله كأنها سبيكة. فقالت: يا أخا العرب، كيف رأيت؟ قال: منية المتمنّى. قال: بكم تقولين؟ قالت: ليس يوم النظر يوم البيع، ولكن تعود غدا حتى نبايعك فلا تنصرف إلا عن رضا، فانصرف من عندها. فقال له الدّلال: أرضيت؟ قال: نعم، ما كنت أحسب أن مثل هذه فى الدنيا، وإن الصفة لتقصر دونها، ثم دفع إليه الغلام الثانى. فلما كان من الغد قال له الشامىّ: امض بنا. فمضيا حتى قرعا الباب، فأذن لهما فدخلا فسلّما، فرحّبت المرأة بهما ثم قالت للشامىّ: أعطنا ما تبذل؛ فقال: ما لها عندى ثمن إلا وهى أكثر منه، فقولى أنت يا أمة الله. قالت: بل قل أنت، فإنا لم نوطئك أعقابنا ونحن نريد خلافك وأنت لها رضا. قال: ثلاثة آلاف [دينار «3» ] . قالت: والله لقبلة منها خير من ثلاثة آلاف [دينار «4» ] . قال: أربعة آلاف [دينار «5» ] . قالت: غفر الّه لك أعطنا أيّها الرجل. قال: والله ما معى غيرها- ولو كان لزدتك- إلا رقيق ودوابّ.
قالت: ما أراك إلا صادقا، أتدرى من هذه؟ قال: تخبرينى. قالت: هذه