الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر شىء من نوادر أبى صدقة
هو أبو صدقة مسكين بن صدقة من أهل المدينة مولى لقريش، قال أبو الفرج:
وكان مليح الغناء طيب الصوت كثير الرواية صالح الصنعة، من أكثر الناس نادرة وأخفّهم روحا وأشدّهم طمعا وألحّهم مسألة، وهو من المغنّين الذين أقدمهم الرشيد من الحجاز في أيامه. قيل: إنه عوتب على كثرة إلحاحه في المسألة، فقال: وما يمنعنى من ذلك، واسمى مسكين وكنيتى أبو صدقة وابنتى فاقة وابنى صدقة، فمن أحقّ بهذا منى؟ وكان الرشيد يعبث به كثيرا؛ فقال ذات يوم لمسرور: قل لابن جامع وإبراهيم الموصلىّ وزبير بن دحمان وزلزل وبرصوما وابن أبى مريم المدينىّ: إذا رأيتمونى قد طابت نفسى، فليسأل كل واحد منكم حاجة، مقدارها مقدار صلته، وذكر لكل واحد منهم مبلغ ذلك، وأمرهم أن يكتبوا أمرهم عن أبى صدقة؛ فقال لهم مسرور ما أمر به الرشيد. ثم أذن الرشيد لأبى صدقة قبل إذنه لهم. فلما جلس قال له:
يا أبا صدقة، لقد أضجرتنى بكثرة مسألتك وأنا في هذا اليوم ضجر وأحببت أن أتفرّج وأفرح، ولست آمن أن تنغص علىّ مجلسى بمسألتك، فإما أن تعفينى أن تسألنى اليوم حاجة وإلّا فانصرف. فقال له: لست من يومى هذا الى شهر أسألك حاجة. فقال له الرشيد: أمّا إذ شرطت لى هذا على نفسك فقد اشتريت منك حوائجك بخمسمائة دينار وها هى ذه فخذها طيبة معجلة، فإن سألتنى شيئا بعدها من هذا اليوم فلا لوم علىّ إن لم أصلك سنة بشىء. فقال: نعم وسنتين. فقال له الرشيد: زدنى في الوثيقة.
فقال: قد جعلت أمر أمّ صدقة في يدك فطلّقها متى شئت، إن شئت واحدة وإن شئت ألفا إن سألتك في يومى هذا حاجة، وأشهدت الله ومن حضر على ذلك. فدفع اليه المال، ثم أذن للجلساء والمغنّين فدخلوا وشرب القوم. فلما طابت نفس الرشيد، قال له ابن جامع: يا أمير المؤمنين، قد نلت منك ما لم تبلغه أمنيّتى،
وكثر إحسانك إلىّ حتى كبتّ أعدائى وقتلتهم، وليس لى بمكة دار تشبه حالى، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لى بمال أبنى به دارا وأفرشها بباقيه لأفقأ عيون أعدائى وأزهق نفوسهم فعل. فقال له: وكم قدّرت لذلك؟ قال: أربعة آلاف دينار، فأمر له بها. وقام إبراهيم الموصلىّ فقال: يا أمير المؤمنين، قد ظهرت نعمتك علىّ وعلى الكبار من ولدى؛ وفي أصاغرهم من أحتاج [إلى «1» ] ختانه، وفيهم صغار أحتاج أن أتخذ لهم خدما؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتى على ذلك فعل. فأمر له بمثل ما أمر به لابن جامع. وجعل كل واحد منهم يقول في الثناء ما يحضره ويسأل حاجته على قدر جائزته، وأبو صدقة ينظر إلى الأموال تفرّق يمينا وشمالا، فوثب قائما ورمى بالدنانير من كمّه وقال للرشيد: أقلنى أقال الله عثرتك. فقال الرشيد: لا أفعل.
فجعل يستحلفه ويضطرب ويلّح والرشيد يضحك ويقول: مالى إلى ذلك سبيل، الشرط أملك. فلمّا عيل صبره أخذ الدنانير ورمى بها بين يدى الرشيد وقال:
هاكها قد رددتها عليك وزدتك أمّ صدقة فطلّقها واحدة إن شئت وإن شئت ألفا.
وإن لم تلحقنى بجوائز القوم فألحقنى بجائزة هذا البارد عمرو الغزّال- وكانت جائزته ثلاثة آلاف دينار- فضحك حتى استلقى ثم رد عليه الخمسمائة الدينار وأمر له بألف أخرى معها، وكان ذلك أكثر ما أخذه منذ خدمه إلى أن مات، رحمة الله عليهم.
وروى أبو الفرج عن أبى إسحاق قال: مطرنا ونحن مع الرشيد بالرّقّة مع الفجر فاتّصل إلى غد ذلك اليوم، وعرفنا خبر الرشيد أنه مقيم عند أمّ ولده المسماة سحر، فتشاغلنا عنه في منازلنا. فلما كان من غد جاءنا رسول الرشيد فحضرنا جميعا، وأقبل يسأل كلّ واحد منا عن يومه الماضى وما صنع فيه؛ فيخبره إلى أن انتهى
إلى جعفر بن يحيى، فسأله عن خبره فقال له: كان عندى أبو زكّار الأعمى وأبو صدقة، وكان أبو زكّار كلّما غنّى صوتا، لم يفرغ منه حتى يأخذه أبو صدقة؛ فإذا انتهى الدور اليه أعاده وحكى أبا زكّار فيه وحركاته وشمائله، ويفطن أبو زكّار لذلك فيجنّ ويموت غيظا ويشتم أبا صدقة كلّ الشتم حتى يضجر، وهو لا يجيبه ولا يدع العبث به وأنا أضحك من ذلك، إلى أن توسّطنا الشرب وسمئنا من عبثه به؛ فقلت له: دع هذا عنك وغنّ غناءك. فغنّى رملا ذكر أنه من صنعته، فطربت له والله يا أمير المؤمنين طريا ما أذكر أنى طربت مثله منذ حين «1» وهو:
فتنتنى بفاحم اللون جعد
…
وبثغر كأنه نظم درّ
وبوجه كأنه طلعة البد
…
روعين في طرفها نفث سحر
فقلت له: أحسنت والله يا أبا صدقة! فلم أسكت من هذه الكلمة حتى قال:
يا سيدى إنى قد بنيت دارا أنفقت عليها جميع مالى وما أعددت لها فرشا فآفرشها لى.
فتغافلت عنه. وعاود الغناء فتعمّدت أن «2» قلت: أحسنت، فسألنى فتغافلت؛ فقال:
يا سيدى، هذا التغافل متى حدث لك؟ سألتك بالله وبحقّ أبيك عليك إلا أجبتنى عن كلامى ولو بشتم. فأقبلت عليه وقلت له: أنت والله بغيض، اسكت يا بغيض، واكفف عن هذه المسألة الملحّة. فوثب من بين يدىّ، فقلت: إنه قد خرج لحاجة، فإذا هو قد نزع ثيابه وتجرّد منها خوفا من أن تبتلّ ووقف تحت السماء لا يواريه شىء والمطر يأخذه ورفع رأسه وقال: يا ربّ أنت تعلم أنى مله ولست نائحا، وعبدك الذى قد رفعته وأحوجتنى الى خدمته يقول لى: أحسنت لا يقول لى: أسأت، وأنا مذ جلست أقول له: بنيت ولا أقول له: هدمت، فيحلف
بك جرأة عليك أنى بغيض، فاحكم بينى وبينه فأنت خير الحاكمين. فغلبنى الضحك وأمرت به فتنحّى، وجهدت به أن يغنّى فامتنع، حتى حلفت له بحياتك أنى أفرش له داره يا أمير المؤمنين، وخدعته فلم أسمّ له بما أفرشها. فقال له الرشيد: طيّب والله! الآن تمّ لنا به اللهو، أدعه فإنه اذا رآك سوف يتنجّزك الفرش لأنك حلفت له بحياتى فهو يقتضيك ذاك بحضرتى ليكون أوفق له؛ فقل له: أنا أفرشها لك بالبوارىّ «1» وحاكمه الىّ. ثم دعا به فحضر؛ فلما استقرّ في المجلس قال لجعفر: الفرش الذى حلفت بحياة أمير المؤمنين أنك تفرش به دارى، تقدّم به. فقال له جعفر: اختر، إن شئت فرشتها لك بالبوارىّ وإن شئت فبالبردىّ من الحصر؛ فصاح واضطرب.
فقال له الرشيد: وكيف كانت القصة؟ فأخبره، فقال له: أخطأت يا أبا صدقة إذ لم تسمّ النوع ولا حدّدت «2» القيمة؛ فاذا فرشها لك بالبردىّ أو بما دون ذلك فقد برّ فى يمينه، وإنما خدعك ولم تفطن أنت ولا توثّقت وضيّعت حقّك. فسكت ثم قال:
نوفّر أيضا البردىّ والبوارىّ عليه أعزّه الله. وغنّى المغنّون حتى انتهى الدور اليه، فأخذ يغنّى غناء الملّاحين والبنّائين والسقّائين وما يجرى مجراه من الغناء. فقال له الرشيد: أى شىء هذا الغناء؟ قال: من فرش داره بالبوارىّ والبردىّ فهذا الغناء كثير منه، [وكثير «3» ] أيضا لمن هذه صلته. فضحك الرشيد وطرب وصفّق وأمر له بألف دينار من ماله، وقال له: افرش دارك بهذه. فقال: وحياتك يا أمير المؤمنين لا آخذها أو تحكم لى على جعفر بما وعدنى وإلا متّ والله أسفا لفوات ما حصل في طمعى ووعدت به؛ فحكم له على جعفر بخمسمائة دينار أخرى، فأمر له جعفر بها.