المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر أخبار أبى المهنأ مخارق - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ٤

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]

- ‌[تتمة القسم الثالث في المدح والهجو و

- ‌الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الثانى (فى المجون والنوادر والفكاهات والملح)

- ‌ذكر مزاحات رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر من اشتهر بالمزاح من الصحابة رضوان الله عليهم

- ‌ذكر شىء من مجون الأعراب

- ‌ذكر شىء من نوادر القضاة

- ‌ذكر شىء من نوادر النّحاة

- ‌ذكر شىء من نوادر المتنبئين

- ‌ذكر شىء من نوادر المغفّلين والحمقى

- ‌ذكر شىء من نوادر النبيذيّين

- ‌ذكر شىء من نوادر النساء والجوارى

- ‌ذكر شىء من نوادر العميان

- ‌ذكر شىء من نوادر السؤّال

- ‌ذكر شىء من نوادر من اشتهر بالمجون

- ‌ذكر شىء من نوادر أشعب وأخباره

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى دلامة

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى صدقة

- ‌ذكر شىء من نوادر الأقيشر

- ‌ذكر شىء من نوادر ابن سيّابة

- ‌ذكر شىء من نوادر مطيع بن إياس الكنانىّ وأخباره

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى الشّبل

- ‌ذكر شىء من نوادر حمزة بن بيض الحنفى

- ‌ذكر شىء من نوادر أبى العيناء عفا الله عنه

- ‌ذكر ما ورد في كراهة المزح

- ‌ذكر شىء من الشعر المناسب لهذا الباب والداخل فيه

- ‌الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الخمر

- ‌ذكر ما قيل في الخمر وتحريمها

- ‌وأما ما ورد في تحريمها في كتاب الله وبيّنته السّنّة، فالأحاديث متضافرة

- ‌ذكر ما قيل في إباحة المطبوخ

- ‌ذكر آفات الخمر وجناياتها

- ‌ذكر أسماء الخمر من حين تعصر الى أن تشرب

- ‌ذكر أخبار من تنزّه عنها في الجاهليّة وتركها ترفّعا عنها

- ‌ذكر من حدّ فيها من الأشراف ومن شربها منهم ومن اشتهر بها ولبس فيها ثوب الخلاعة ومن افتخر بشربها

- ‌فأما من حدّ فيها من الأشراف

- ‌وأما من شربها منهم واشتهر بها، جماعة من الأكابر والأعيان والخلفاء

- ‌منهم: يزيد بن معاوية

- ‌ومنهم: عبد الملك بن مروان

- ‌ومنهم: يزيد بن عبد الملك بن مروان

- ‌ومنهم: ابنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك

- ‌ومنهم: المأمون بن الرشيد

- ‌ومنهم: العباس بن علىّ بن عبد الله بن العباس

- ‌ومنهم: بلال بن أبى بردة

- ‌ومنهم: عبد الرحمن بن عبد الله الثقفىّ

- ‌ومنهم: آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز

- ‌ومنهم: حارثة بن زيد العدوانىّ

- ‌ومنهم: والبة بن الحباب الأسدىّ

- ‌ومنهم: أبو الهندىّ

- ‌ومنهم: سعيد بن وهب

- ‌ومنهم: الحسين بن الضحّاك النديم

- ‌ومنهم: يحيى بن زياد

- ‌ومنهم: أبو نواس الحسن بن هانىء

- ‌ومنهم: الثّروانىّ

- ‌ومنهم: مطيع بن إياس

- ‌ومنهم: أبو عبد الرحمن العطوىّ

- ‌ومنهم: أبو هفّان

- ‌ومنهم: الأقيشر

- ‌ومنهم: النعمان بن علىّ بن نضلة

- ‌ومنهم: عمارة بن الوليد بن المغيرة

- ‌وأما من افتخر بشربها وسبائها

- ‌ذكر شىء مما قيل فيها من جيّد الشعر

- ‌فأمّا ما قيل فيها على سبيل المدح لها، فمن ذلك قول ابن الرومى

- ‌ومما قيل في وصفها وتشبيهها

- ‌وأما ما قيل في أفعالها

- ‌وأما ما وصفت به غير ما قدّمناه

- ‌ومما قيل فيها اذا مزجت بالماء

- ‌ذكر ما قيل في مبادرة اللّذات ومجالس الشراب وطيّها

- ‌ومما وصفت به مجالس الشرب

- ‌ومما قيل في طىّ مجالس الشراب

- ‌ذكر ما قيل في وصف آلات الشراب وأوانيها

- ‌ومما قيل في الراووق

- ‌ومما وصفت به زقاق الخمر

- ‌ومما وصفت به الأباريق

- ‌ومما وصفت به الكاسات والأقداح

- ‌الباب الخامس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى النّدمان والسّقاة

- ‌[ومما قيل في الندمان]

- ‌ومما قيل في السّقاة

- ‌الباب السادس من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الغناء والسماع

- ‌ذكر ما ورد في الغناء من الحظر والإباحة

- ‌أما ما قيل في تحريم الغناء وما استدلّ به من رأى ذلك

- ‌أما دليلهم من الكتاب العزيز

- ‌وأمّا دليلهم من السنّة

- ‌وأمّا أقوال الصحابة والتابعين رضى الله عنهم

- ‌وأمّا أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى

- ‌ذكر ما ورد في إباحة الغناء والسماع والضرب بالآلة

- ‌ذكر ما استدلّوا به على إباحة الغناء من الأحاديث النبوية

- ‌وأمّا ما ورد في الضرب بالآلة، فمن ذلك ما ورد في الدّفّ

- ‌وأمّا ما ورد في اليراع

- ‌وأمّا ما ورد في القصب والأوتار

- ‌وأما ما ورد في المزامير والملاهى

- ‌ذكر ما ورد في توهين ما استدلّوا به على تحريم الغناء والسماع

- ‌ذكر أقسام السماع وبواعثه

- ‌ذكر العوارض التى يحرم معها السماع

- ‌العارض الأوّل: أن يكون المسمع امرأة لا يحلّ النظر إليها وتخشى الفتنة من سماعها

- ‌العارض الثانى في الآلة

- ‌العارض الثالث في نظم الصوت

- ‌العارض الرابع في المستمع

- ‌العارض الخامس- أن يكون الشخص من عوامّ الخلق ولم يغلب عليه حبّ الله

- ‌ذكر آثار السماع وآدابه

- ‌المقام الأوّل- فى الفهم

- ‌إحداها- أن يكون سماعه بمجرّد الطبع

- ‌الحالة الثانية- أن يسمع بفهم ولكن ينزّله على صورة إما معيّنة أو غير معيّنة

- ‌الحالة الثالثة- أن ينزّل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملة الله تعالى

- ‌الحالة الرابعة- سماع من جاوز الأحوال والمقامات

- ‌المقام الثانى- بعد الفهم والتنزيل الوجد

- ‌المقام الثالث- فى آداب السماع ظاهرا وباطنا، وما يحمد من آثار الوجد ويذمّ

- ‌قال الإمام أبو حامد رحمه الله تعالى: فأما الآداب فهى خمس جمل:

- ‌الأوّل- مراعاة الزمان والمكان والإخوان

- ‌الثانى- وهو نظر للحاضرين

- ‌الأدب الثالث- أن يكون مصغيا إلى ما يقوله القائل

- ‌الأدب الرابع- ألّا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه

- ‌الأدب الخامس- موافقة القوم في القيام

- ‌وأما أبو محمد علىّ بن أحمد بن سعيد بن حزم

- ‌ذكر من سمع الغناء من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم

- ‌ذكر من سمع الغناء من الأئمة والعبّاد والزّهاد

- ‌ذكر من غنّى من الخلفاء وأبنائهم ونسبت له أصوات من الغناء نقلت عنه

- ‌[أما من غنّى من الخلفاء]

- ‌منهم عمر بن عبد العزيز

- ‌وممّن غنّى من خلفاء الدولة العباسية، ممن دوّنت له صنعة، الواثق بالله

- ‌ومنهم المنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل على الله أبو الفضل جعفر

- ‌ومنهم المعتزّ بالله أبو عبد الله محمد بن جعفر المتوكل

- ‌ومنهم المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن المتوكل على الله

- ‌وأما أبناء الخلفاء الذين لهم صنعة بد في هذا الفنّ

- ‌فمنهم إبراهيم بن المهدىّ

- ‌وأمّا عليّة بنت المهدىّ

- ‌ومنهم أبو عيسى بن الرشيد

- ‌ومنهم عبد الله بن موسى الهادى

- ‌ومنهم عبد الله بن محمد الأمين

- ‌ومنهم أبو عيسى بن المتوكل

- ‌ومنهم عبد الله بن المعتز

- ‌ذكر من غنّى من الأشراف والعلماء رحمهم الله

- ‌عبد العزيز بن المطلب

- ‌ومنهم ابراهيم بن سعد

- ‌ومنهم محمد بن إسماعيل بن علىّ بن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما

- ‌ذكر من غنّى من الأعيان والأكابر والقوّاد ممن نسبت له صنعة في الغناء

- ‌منهم أبو دلف العجلىّ

- ‌ومنهم أخوه معقل بن عيسى

- ‌ومنهم عبد الله بن طاهر بن الحسين وابنه عبيد الله

- ‌فأمّا عبد الله

- ‌وأمّا عبيد الله

- ‌ذكر أخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسيّة إلى العربيّة ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء

- ‌ذكر أخبار سعيد بن مسجح

- ‌ذكر أخبار سائب خاثر

- ‌ذكر أخبار طويس

- ‌ذكر أخبار معبد

- ‌ذكر أخبار الغريض وما يتّصل بها من أخبار عائشة بنت طلحة

- ‌ذكر أخبار محمد بن عائشة

- ‌ذكر أخبار ابن محرز

- ‌ذكر أخبار مالك بن أبى السّمح

- ‌ذكر أخبار يونس الكاتب

- ‌ذكر أخبار حنين

- ‌ذكر أخبار سياط

- ‌ذكر أخبار الأبجر

- ‌ذكر أخبار أبى زيد الدّلال

- ‌ذكر أخبار عطرّد

- ‌ذكر أخبار عمر الوادىّ

- ‌ذكر أخبار حكم الوادىّ

- ‌ذكر أخبار ابن جامع

- ‌ذكر أخبار عمرو بن أبى الكنّات

- ‌ذكر أخبار أبى المهنّأ مخارق

- ‌ذكر أخبار يحيى بن مرزوق المكّىّ

- ‌ذكر أخبار أحمد بن يحيى المكىّ الملقّب بطنين

- ‌ذكر أخبار هاشم بن سليمان مولى بنى أميّة

- ‌ذكر أخبار يزيد حوراء

- ‌ذكر أخبار فليح بن أبى العوراء

- ‌ذكر أخبار إبراهيم الموصلىّ عفا الله عنه

- ‌ذكر نبذة من أخبار إبراهيم الموصلى مع البرامكة رحمهم الله تعالى

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في أحد الأصلين الفتوغرافيين:

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الرابع في الأصل الآخر الفتوغرافى:

الفصل: ‌ذكر أخبار أبى المهنأ مخارق

ولا تنقرينى نقرة الدّفّ مرّة

فإنّك لا تدرين كيف المغيّب

فإنى رأيت الحبّ في الصدر والأذى

إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب

‌ذكر أخبار أبى المهنّأ مخارق

هو أبو المهنّأ مخارق بن يحيى بن ناووس الجزّار مولى الرشيد. وقيل: بل ناووس لقب أبيه يحيى؛ وإنما لقّب بناووس لأنه بايع رجلا أنه يمضى إلى ناووس الكوفة فيطبخ فيه قدرا بالليل حتى تنضج، فطرح رهنه بذلك؛ فدسّ الرجل الذى راهنه رجلا فألقى نفسه في الناووس بين الموتى. فلما فرغ ناووس من الطبخ مدّ الرجل يده من بين الموتى وقال له: أطعمنى؛ فغرف بالمغرفة من المرق وصبّها في يد الرجل فأحرقها وضربها بالمغرفة وقال له: اصبر حتى نطعم الأحياء أوّلا ثم نتفرّغ للموتى؛ فلقّب ناووسا لذلك.

قال: وكان مخارق لعاتكة بنت شهدة، وهى من المغنّيات المحسنات المتقدّمات فى الضرب. نشأ مخارق بالمدينة؛ وقيل: كان منشؤه بالكوفة. وكان أبوه جزارا مملوكا، وكان مخارق وهو صبىّ ينادى على ما يبيعه أبوه من اللحم. فلما بان طيب صوته علّمته مولاته طرفا من الغناء، ثم أرادت بيعه، فاشتراه إبراهيم الموصلىّ منها وأهداه للفضل بن يحيى، فأخذه الرشيد منه ثم أعتقه. وقيل: اشتراه إبراهيم من مولاته بثلاثين ألف درهم وزادها ثلاثة آلاف درهم. قال: ولما اشتراه قال له الفضل بن يحيى: ما خبر غلام بلغنى أنك اشتريته؟ فقال: هو ما بلغك. قال:

فأرنيه، فأحضره، فغنّى بين يديه؛ فقال له: ما أرى فيه الذى رأيت. قال: تريد أن يكون في الغناء مثلى في ساعة واحدة! فقال: بكم تبيعه؟ قال: اشتريته بثلاثين ألف درهم، وهو حرّ لوجه الله تعالى إن بعته إلا بثلاثة وثلاثين ألف دينار. فغضب

ص: 312

الفضل وقال: إنما أردت ألّا تبيعه أو تجعله سببا لأن تأخذ منّى ثلاثة وثلاثين ألف دينار. فقال إبراهيم: أنا أصنع بك خصلة واحدة، أبيعك نصفه بنصف هذا المال وأكون شريكك في نصفه [وأعلّمه «1» ] ، فإن أعجبك إذا علمته أتممت لى باقى المال وإلا بعته بعد، وكان الرّبح بينى وبينك. فقال الفضل: إنما أردت أن تأخذ منّى المال الذى قدّمت ذكره، فلما لم تقدر على ذلك أردت أن تأخذ نصفه، وغضب. فقال إبراهيم له: فأنا أهبه لك على أنه يساوى ثلاثة وثلاثين ألف دينار؛ قال: قد قبلته؛ قال: وقد وهبته لك. وغدا إبراهيم على الرشيد؛ فقال له:

يا إبراهيم، ما غلام بلغنى أنك وهبته للفضل؟ قال: غلام يا أمير المؤمنين لم تملك العرب ولا العجم مثله، ولا يكون مثله أبدا. قال: فوجّه إلى الفضل يأمره بإحضاره. فوجّه به إليه، فغنّى بين يديه؛ فقال له: كم يساوى؟ قال إبراهيم: يساوى خراج مصر وضياعها. قال: ويحك! أتدرى ما تقول! مبلغ هذا المال كذا وكذا! قال: وما مقدار هذا المال في غلام لم يملك أحد مثله قطّ! قال: فالتفت الرشيد إلى مسرور الكبير وقال: قد عرفت يمينى أنى لا أسأل أحدا من البرامكة شيئا.

فقال مسرور: فأنا أمضى إلى الفضل فأستوهبه منه، فإذا كان عندى فهو عندك.

فقال له: شأنك. فمضى مسرور إلى الفضل واستوهبه منه، فوهبه له. وقيل:

بل إبراهيم هو الذى أهداه للرشيد؛ فأمره الرشيد بتعليمه فعلّمه حتى بلغ ما بلغه.

قال: وكان مخارق يقف بين يدى الرشيد مع الغلمان لا يجلس ويغنّى وهو واقف.

فغنّى ابن جامع ذات يوم بين يدى الرشيد:

كأنّ نيراننا «2» فى جنب قلعتهم

مصبّغات على أرسان قصّار «3»

ص: 313

هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا

جواثما «1» ترتمى بالنّفط والنّار

فطرب الرشيد واستعاده مرارا؛ وهو شعر مدح به الرشيد في فتح هرقلة. فأقبل الرشيد على ابن جامع دون غيره. فغمز مخارق إبراهيم بعينه وتقدّمه إلى الخلاء، فلما جاء قال له: مالى أراك منكسرا؟ فقال له: أما ترى إقبال أمير المؤمنين على ابن جامع بسبب هذا الصوت! فقال مخارق: قد والله أخذته. فقال: ويحك! إنه الرشيد، وابن جامع من تعلم، ولا يمكن معارضته إلا بما يزيد على غنائه وإلا فهو الموت! فقال: دعنى وخلاك ذمّ، وعرّفه أنّى أغنّى به، فإن أحسنت فإليك ينسب، وإن أسأت فإلىّ يعود. فقال إبراهيم للرشيد: يا أمير المؤمنين، أراك متعجّبا من هذا الصوت بغير ما يستحقّه وأكثر مما يستوجبه! فقال: لقد أحسن فيه ابن جامع ما شاء. قال: أو لابن جامع هو؟ قال: نعم، كذا ذكر. وقال: فإنّ عبدك مخارقا يغنيه. فنظر إلى مخارق؛ فقال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: هاته؛ فغنّاه وتحفّظ فيه فأتى بالعجائب، وطرب الرشيد حتى كاد يطير؛ ثم أقبل على ابن جامع فقال:

ويلك! ما هذا؟ فابتدأ يحلف بالطلاق وكلّ محرجة أنه لم يسمع ذلك الصوت قطّ من غيره وأنه صنعه وأنها حيلة جرت عليه. فأقبل على إبراهيم وقال: اصدقنى بحياتى؛ فصدقه عن قصّة مخارق. فقال لمخارق: اجلس إذا مع أصحابك، فقد تجاوزت مرتبة من يقوم. وأعتقه ووصله بثلاثة آلاف دينار وأقطعه ضيعة ومنزلا.

وقد روى أبو الفرج الأصفهانىّ عن هارون بن مخارق، قال: كان أبى إذا غنّى هذا الصوت:

يا ربع سلمى لقد هيّجت لى طربا

زدت الفؤاد على علّاته وصبا

ربع تبدّل ممن كان يسكنه

عفر الظباء وظلمانا به عصبا

ص: 314

يبكى ويقول: أنا مولى هذا الصوت. فقلت له: كيف يا أبت؟ فقال: غنّيته مولاى الرشيد، فبكى وشرب عليه رطلا ثم قال: أحسنت يا مخارق! فسلنى حاجتك؛ فقلت: تعتقنى يا أمير المؤمنين أعتقك الله من النار؛ فقال: أنت حرّ لوجه الله تعالى، فأعد الصوت فأعدته؛ فبكى وشرب رطلا، ثم قال: أحسنت يا مخارق! فسلنى حاجتك؛ فقلت: ضيعة تقيمنى غلّتها «1» ؛ فقال: قد أمرت لك بها، أعد الصوت فأعدته؛ فبكى وقال: سل حاجتك؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، تأمر لى بمنزل وفرس وخادم؛ فقال: ذلك لك، أعد الصوت فأعدته؛ فبكى وقال:

سل حاجتك؛ فقبّلت الأرض بين يديه وقلت: حاجتى أن يطيل الله بقاءك ويديم عزّك ويجعلنى من كل سوء فداءك؛ فأنا مولى هذا الصوت بعد مولاى.

ويروى أيضا عن الحسين بن الضحّاك عن مخارق أنّ الرشيد قال يوما للمغنّين وهو مصطبح: من منكم يغنّى:

يا ربع سلمى لقد هيّجت لى طربا

فقمت وقلت: أنا يا أمير المؤمنين. فقال: هاته؛ فغنّيته فطرب وشرب ثم قال:

علىّ بهرثمة؛ فقلت في نفسى: ماذا يريد منه! فجاء هرثمة فقال له: مخارق الشّارىّ الذى قتلناه بنواحى الموصل ما كانت كنيته؟ فقال: أبو المهنّأ؛ فقال: انصرف فانصرف؛ ثم أقبل الرشيد علىّ فقال: قد كنّيتك أبا المهنّأ لإحسانك؛ وأمر لى بمائة ألف درهم؛ فانصرفت بها وبالكنية.

قال أبو عبد الله بن حمدون: كنّا عند الواثق وأمّه عليلة. فلما صلّى المغرب دخل إليها وأمر ألا نبرح، فجلسنا في صحن الدار، وكانت ليلة مقمرة وأبطأ الواثق علينا؛ فاندفع مخارق يغنّى، فاجتمع علينا الغلمان، وخرج الواثق فصاح: يا غلام، فلم يجبه

ص: 315

أحد، ومشى في المجلس الى أن توسّط الدار؛ فلما رأيته بادرت إليه؛ فقال لى:

ويلك! هل حدث في دارى شىء؟ فقلت: لا يا سيّدى. قال: فما بالى أصيح فلا أجاب؟ فقلت: مخارق يغنّى والغلمان قد اجتمعوا اليه فليس فيهم فضل لسماع غير ما يسمعونه. فقال: عذر والله لهم يابن حمدون وأىّ عذر! ثم جلس وجلسنا بين يديه الى السّحر. وقد روى نحو هذه الحكاية في أمر الغلمان مع مخارق عند المعتصم. وقال محمد بن عبد الملك الزيّات: قال لى الواثق: ما غنّانى مخارق قط إلا قدّرت أنه من قلبى خلق. وكان يقول: أتريدون أن تنظروا فضل مخارق على جميع أصحابه؟ انظروا الى هؤلاء الغلمان الذين يقفون في السّماط، فكانوا يتفقّدونهم وهم وقوف فكلّهم يسمع الغناء من المغنّين جميعا وهو واقف مكانه ضابط لنفسه، فاذا تغنّى مخارق خرجوا عن صورهم فتحرّكت أرجلهم ومناكبهم وبانت أسباب الطرب فيهم، وازدحموا على الحبل الذى يقفون من ورائه.

وحكى أنّه خرج مرّة الى باب الكناسة بمدينة السلام والناس يرحلون الى مكة؛ فنظر إلى كثرتهم وازدحامهم، فقال لأصحابه الذين معه: قد جاء في الخبر أنّ ابن سريج كان يغنّى في أيام الحجّ والناس يمشون فيستوقفهم بغنائه، وسأستوقف لكم هؤلاء الناس وأستلهيهم جميعا لتعلموا أنّه لم يكن ليفضلنى إلّا بصنعته دون صوته؛ ثم اندفع يؤذّن، فاستوقف أولئك الخلق واستلهاهم، حتى جعلت المحامل يغشى بعضها بعضا.

قالوا: وجاء أبو العتاهية الى باب مخارق وطرقه فخرج اليه؛ فقال له: يا حسّان هذا الإقليم، يا حكيم أرض بابل، أصبب في أذنى شيئا يفرح به قلبى وتتنّعم به نفسى- وكان في جماعة منهم محمد بن سعيد اليزيدىّ- فقال: انزلوا، فنزلوا، فغنّاهم.

فقال محمد بن سعيد: فكدت أسعى على وجهى طربا. قال: وجعل أبو العتاهية

ص: 316

يبكى، ثم قال: يا دواء المجانين، لقد رققت حتى كدت أن أحسوك، فلو كان الغناء طعاما لكان غناؤك أدما، ولو كان شرابا لكان ماء الحياة.

وقال أبو الفرج عن عمر بن شبّة قال: حدّثنى بعض آل نوبخت قال: كان أبى وعبد الله بن أبى سهل وجماعة من آل نوبخت وغيرهم وقوفا بكناسة الدّوابّ فى الجانب الغربىّ ببغداد يتحدّثون، وإنهم لكذلك إذ أقبل مخارق على حمار أسود وعليه قميص رقيق ورداء مسهّم؛ فقال: فيم كنتم؟ فأخبروه. فقال: دعونا من وسواسكم هذا، أىّ شىء لى عليكم إن رميت بنفسى بين قبرين من هذه القبور وغطّيت وجهى وغنّيت صوتا فلم يبق أحد بهذه الكناسة ولا في الطريق من مشتر ولا بائع ولا صادر ولا وارد إلا ترك عمله وقرب منّى واتّبع صوتى؟ فقال عبد الله: إنى لأحبّ أن أرى هذا، فقل ما شئت. فقال مخارق: فرسك الأشقر الذى طلبته منك فمنعتنيه. قال:

هو لك إن فعلت ما قلت. قال: فرمى بنفسه بين قبرين وتغطّى بردائه، ثم اندفع يغنّى بشعر أبى العتاهية:

نادت بوشك رحيلك الأيّام

أفلست تسمع أم بك استصمام

ومضى أمامك من رأيت وأنت لل

باقين حتى يلحقوك أمام

مالى أراك كأنّ عينك لا ترى

عبرا تمرّ كأنهنّ سهام

تمضى الخطوب وأنت منتبه لها

فإذا مضت فكأنها أحلام

قال: فرأيت الناس يأتون إلى المقبرة أرسالا بين راكب وراجل وصاحب شغل ومار في الطريق حتى لم يبق أحد. ثم قال لنا من تحت ردائه: هل بقى أحد؟

قلنا: لا، وقد وجب الرّهن. فقام فركب حماره، وعاد الناس إلى صنائعهم؛ وقال لعبد الله: أحضر الفرس؛ قال: على أن تقيم عندى؛ قال نعم! فسلّم الفرس إليه وبرّه وأحسن رفده.

ص: 317

وروى عن يحيى المكىّ قال: خرج مخارق مع بعض إخوانه إلى بعض المتنزّهات، فنظر إلى قوس مذهبة مع بعض من خرج معه، فسأله إيّاها، وكان المسئول ضنّ بها، وسنحت ظباء بالقرب منه؛ فقال لصاحب القوس: أرأيت إن تغنّيت صوتا فعطفت علىّ به خدود هذه الظباء أتدفع إلىّ القوس؟ قال نعم! فاندفع يغنّى:

ماذا تقول الظباء

أفرقة أم لقاء

أم عهدها بسليمى

وفي البيان شفاء

مرّت بنا سانحات

وقد دنا الإمساء

فما أحارت جوابا

وطال فيها العناء

قال: فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه تنظر إليه مصغية إلى صوته. فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها؛ وناوله الرجل القوس، فأخذها وقطع الغناء [فعاودت الظباء نفارها ومضت راجعة على سننها «1» ] .

وروى عن إسحاق بن إبراهيم قال: دخلت على أبى وهو جالس بين بابين له ومخارق بين يديه وهو يغنّيه:

يا ربع بشرة إن أضرّبك البلى

فلقد رأيتك آهلا معمورا

قال: فرأيت أبى ودموعه تجرى على خدّيه من أربعة أماكن وهو ينشج أحرّ نشيج. فلما رآنى قال: يا إسحاق، هذا والله صاحب اللّواء غدا إن مات أبوك.

وروى عن مخارق قال: رأيت وأنا حدث كأنّ شيخا جالسا على سرير في روضة حسنة، فدعانى فقال لى: غنّنى يا مخارق؛ فقلت: أصوتا تقترحه أو ما حضر؟ فقال:

ما حضر. فغنّيته:

ص: 318

دعى القلب لا يزدد خبالا مع الذى

به منك أو داوى جواه المكتّما

وليس بتزويق اللسان وصوغه

ولكنّه قد خالط اللّحم والدّما

فقال لى: أحسنت يا مخارق! ثم أخذ وترا من أوتار العود فلفّه على المضراب ودفعه الىّ، فجعل المضراب يطول ويغلظ والوتر ينتشر ويعرض حتى صار المضراب كالرمح والوتر كالعذبة [عليه «1» ] وصار في يدى علما، ثم انتبهت فحدّثت برؤياى إبراهيم الموصلىّ؛ فقال لى: الشيخ بلا شك إبليس، وقد عقد لواء صنعتك فانت ما حييت رئيس أهلها.

وقال أحمد بن حمدون: غضب المعتصم على مخارق فأمر أن يجعل في المؤذّنين ويلزمهم ففعل ذلك؛ وأمهل حتى علم أن المعتصم يشرب، فأذّنت العصر، فدخل الى السّتر حيث يقف المؤذّن للسلام، ثم رفع صوته جهده وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله. فبكى حتى جرت دموعه وبكى كلّ من حضر، ثم قال: أدخلوه علىّ وأقبل علينا؛ ثم قال: سمعتم هكذا قط! هذا الشيطان لا يترك أحدا يغضب عليه!. فدخل اليه فقبّل الأرض بين يديه؛ فدعاه المعتصم اليه فأعطاه يده فقبّلها وأمره بإحضار عوده فأحضره، وأعاده الى مرتبته.

وأخباره كثيرة، وفيما أوردناه منها كفاية. وكانت وفاته في أوّل خلافة المتوكّل؛ وقيل: بل في آخر خلافة الواثق. وغنّى خمسة من الخلفاء: الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق. رحمهم الله تعالى.

ص: 319