الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر أخبار المغنّين الذين نقلوا الغناء من الفارسيّة إلى العربيّة ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء
والغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن للعرب قبل ذلك إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمّونه «الركبانية» . وأوّل من نقل الغناء العجمىّ إلى العربىّ من أهل مكة «سعيد بن مسجح» ومن أهل المدينة «سائب خاثر» . وأوّل من صنع الهزج «طويس» . ولنبدأ بذكر أخبار هؤلاء ثم نذكر من أخذ عنهم إن شاء الله تعالى.
ذكر أخبار سعيد بن مسجح
هو أبو عثمان سعيد بن مسجح، مولى بنى جمح، وقيل: مولى بنى مخزوم، وقيل: مولى بنى نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب. مكّى أسود- وقيل:
أصفر- حسن اللّون. وقيل: كان مولّدا، يكنى أبا عيسى. وقيل: كان هو وابن سريح لرجل واحد. مغنّ متقدّم من فحول المغنّين وأكابرهم. وهو أوّل من وضع الغناء منهم، وأوّل من غنّى الغناء العربىّ بمكة؛ وذلك أنه مرّ بالفرس وهم يبنون المسجد الحرام في أيام عبد الله بن الزّبير، فسمع غناءهم بالفارسيّة فقلبه في شعر عربىّ، ثم رحل إلى الشأم فأخذ ألحان الرّوم والبربطية والأسطو خوسيّة «1» ، وانقلب
إلى فارس فأخذ غناء كثيرا وتعلّم الضرب، ثم قدم إلى الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النّغم وألقى منها ما استقبحه من النّبرات والنّغم؛ وكان أوّل من فعل ذلك، وتبعه الناس بعد؛ وعلّم ابن سريج، وعلّم ابن سريح الغريض. قالوا: وكان في صباه فطنا ذكيّا، وكان مولاه معجبا به، فكان يقول: ليكونن لهذا الغلام شأن، وما يمنعنى من عتقه إلّا حسن فراستى فيه، ولئن عشت لأتعرّفنّ ذلك، وإن متّ قبله فهو حرّ. فسمعه مولاه يوما يتغنّى بشعر ابن الرّقاع يقول:
ألمم على طلل عفا متقادم
…
بين الذّؤيب «1» وبين غيب النّاعم
لولا الحياء وأنّ رأسى قد عسا
…
فيه المشيب لزرت أمّ القاسم
فدعاه مولاه فقال: أعد يا بنىّ؛ فأعاده فإذا هو أحسن مما ابتدأ به، وقال:
إنّ هذا لبعض ما كنت أقول. ثم قال له: أنّى لك هذا؟ قال: سمعت هذه الأعاجم تتغنّى بالفارسيّة فقلبتها في هذا الشعر. قال: فأنت حرّ لوجه الله. فلزم مولاه وكثر أدبه واتّسع في غنائه وشهر بمكة وأعجبوا به. فدفع إليه مولاه عبيد بن سريج وقال: يا بنىّ علّمه واجتهد فيه. وكان ابن سريج أحسن الناس صوتا، فتعلّم منه ثم برّز عليه. وقد قيل: إنه إنما سمع الغناء من الفرس لمّا أمر معاوية ببناء دوره بمكة التى يقال لها «الرّقط» ، وكان قد حمل إليها بنّائين من الفرس الذين كانوا بالعراق فكانوا يبنونها، وكان سعيد بن مسجح يأتيهم فيسمع غناءهم على بنائهم؛ فما استحسن من ألحانهم أخذه ونقله إلى الشعر العربىّ، ثم صاغ على نحو ذلك. وكان من قديم غنائه الذى صنعه على تلك الألحان شعر الأحوص، وهو:
أسلام إنك قد ملكت فأسجحى
…
قد يملك الحرّ الكريم فيسجح
منّى على عان أطلت عناءه
…
فى الغلّ عندك والعناة تسرّح
إنى لأنصحكم وأعلم أنّه
…
سيّان عندك من يغشّ وينصح
وإذا شكوت إلى سلامة حبّها
…
قالت أجدّ منك ذا أم تمزح
وهذا من أقدم الغناء العربىّ المنقول عن الفارسىّ. قال: وعاش سعيد بن مسجح حتى لقيه معبد وأخذ عنه في أيام الوليد بن عبد الملك.
ومن أخبار سعيد مارواه أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه قال: كتب عامل لعبد الملك بن مروان بمكة إليه أنّ رجلا أسود يقال له سعيد بن مسجح قد أفسد فتيان قريش وأنفقوا عليه أموالهم. فكتب إليه: أن اقبض ماله وسيّره إلىّ. فتوجّه ابن مسجح الى الشأم؛ فصحبه رجل له جوار مغنّيات في الطريق. فقال له: أين تريد؟ فأخبره الخبر وقال: أريد الشأم؛ فصحبه حتى بلغا دمشق، فدخلا مسجدها فسألا: من أخصّ الناس بأمير المؤمنين؟ فقالوا: هؤلاء النفر من قريش وبنو عمّه.
فوقف ابن مسجح عليهم فسلّم، ثم قال: يا فتيان، هل فيكم من يضيف رجلا غريبا من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض وكان عليهم موعد أن يذهبوا إلى قينة يقال لها «برق الأفق» ، فتثاقلوا به إلّا فتى منهم تذمّم»
فقال له: أنا أضيفك، وقال لأصحابه: انطلقوا أنتم وأنا أذهب مع ضيفى. فقالوا: لا، بل تجىء معنا أنت وضيفك. فذهبوا جميعا الى بيت القينة. فلما أتوا بالغداء قال لهم سعيد:
إنى رجل أسود، ولعل فيكم من يقذرنى، فأنا أجلس وآكل ناحية وقام؛ فاستحيوا منه وبعثوا له بما أكل. فلما صاروا إلى الشّراب قال لهم مثل ذلك ففعلوا.
ثم أخرجوا جاريتين، فجلستا على سرير قد وضع لهما فغنّتا إلى العشاء ثم دخلتا؛ وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة وهما معها فجلستا أسفل السرير عن يمينه وشماله وجلست هى على السرير. قال ابن مسجح: فتمثلت هذا البيت:
فقلت أشمس أم مصابيح بيعة
…
بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم
فغضبت الجارية وقالت: أيضرب مثل هذا الأسود بى الأمثال! فنظروا إلىّ نظرا منكرا، ولم يزالوا يسكّنونها. ثم غنّت صوتا. قال ابن مسجح: فقلت:
أحسنت والله! فغضب مولاها وقال: أمثل هذا الأسود يقدم على جاريتى! فقال لى الرجل الذى أنزلنى عنده: قم فانصرف إلى منزلى، فقد ثقلت على القوم.
فذهبت أقوم. فتذمّم القوم وقالوا: بل أقم وأحسن أدبك: فأقمت. فغنّت، فقلت:
أخطأت والله وأسأت! ثم اندفعت فغنّيت الصوت؛ فوثبت الجارية فقالت لمولاها: هذا أبو عثمان سعيد بن مسجح. فقلت: إى والله، أنا هو، والله لا أقيم عندكم ووثبت؛ فوثب القرشيون: فقال هذا: تكون عندى، وقال هذا: تكون عندى، [وقال هذا: بل عندى «1» ] . فقلت: والله لا أقيم إلا عند سيّدكم! (يعنى الرجل الذى أنزله منهم) وسألوه عما أقدمه. فأخبرهم. فقال له صاحبه: إنى أسمر الليلة عند أمير المؤمنين، فهل تحسن أن تحدو؟ فقال: لا والله، ولكنى أنا حداء.
فقال له: إنّ منزلى بحذاء منزل أمير المؤمنين، فإذا وافقت منه طيب نفس أرسلت إليك. ومضى إلى عبد الملك. فلما رآه طيّب النفس أرسل إلى ابن مسجح؛ فأخرج رأسه من وراء شرف القصر ثم حدا:
إنك يا معاذ يابن الفضّل «2»
…
إن زلزل الأقدام لم تزلزل
عن دين موسى والكتاب المنزل
…
تقيم أصداغ «3» القرون الميّل
للحق حتى ينتحوا للأعدل