الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: فندمت على قولى له، فقلت: أصلحك الله، أتحدّثنى في هذا بشىء! فقال:
نعم، حدّثنى أبى قال: دخلت على سالم بن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهم- وأشعب يغنّيه:
معقربة كالبدر سنّة «1» وجهها
…
مطهّرة الأثواب والعرض وافر
لها نسب زاك وعرض مهذّب
…
وعن كل مكروه من الأمر زاجر
من الخفرات البيض لم تلق ريبة
…
ولم يستملها عن تقى الله شاعر
فقال له سالم رضى الله عنه: زدنى. فقال:
ألّمت بنا والليل داج كأنه
…
جناح غراب عنه قد نفض القطرا
فقلت أعطّار ثوى في رحالنا
…
وما احتملت ليلى سوى ريحها عطرا
فقال سالم: أما والله لولا أن تداوله الرّواة لأجزلت جائزتك، فلك من هذا الأمر مكان.
ومنهم ابراهيم بن سعد
«2» . هو أبو إسحاق إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزّهرىّ. كان من العلماء الثّقات المحدّثين. سمع أباه وابن شهاب الزهرىّ وهشام بن عروة وصالح بن كيسان ومحمد بن إسحاق بن يسار. روى عنه يزيد بن عبد الله بن الهاد وشعبة بن الحجاج والليث بن سعد، وابناه يعقوب وسعد «3» ابنا إبراهيم وعبد الرحمن بن مهدىّ ويزيد بن هارون ويونس المؤدّب وأبو داود الطيالسىّ وسليمان بن داود الهاشمى وعبد العزيز الآدمىّ وعلىّ بن الجعد ومحمد بن جعفر الور كانىّ وأحمد بن حنبل وغيرهم. كان يبيح السماع
ويضرب بالعود ويغنّى عليه. وله في ذلك قصّة رواها أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسىّ بسند رفعه إلى سعيد بن كثير بن عفير قال:
قدم إبراهيم بن سعد الزهرىّ العراق سنة أربع وثمانين ومائة، فأكرمه الرشيد وأظهر برّه. وسئل عن الغناء فأفتى بتحليله؛ فأتاه بعض أهل الحديث ليسمع منه أحاديث الزهرىّ، فسمعه يتغنّى، فقال: لقد كنت حريصا على أن أسمع منك، فأمّا الآن فلا سمعت منك حديثا أبدا. قال: إذا لا أفقد إلّا شخصك. علىّ وعلىّ ألّا أحدّث ببغداد ما أقمت حديثا واحدا حتى أغنّى قبله. وشاعت هذه الحكاية ببغداد، فبلغت الرشيد، فدعا به فسأله عن حديث المخزوميّة التى قطعها النبىّ صلى الله عليه وسلم في سرقة الحلىّ؛ فدعا بعود. فقال الرشيد: أعود المجمر؟ قال: لا ولكن عود الطّرب، فتبسّم. ففهمها إبراهيم بن سعد فقال: لعلك بلغك يا أمير المؤمنين حديث السّفيه الذى آذانى بالأمس وألجأنى إلى أن حلفت. قال نعم. فدعا له الرشيد بعود فأخذه وغنّى:
يا أمّ طلحة إنّ البين قد أفدا
…
ملّ الثّواء لأن كان الرحيل غدا
فقال له الرشيد: من كان من فقهائكم ينكر السماع؟ قال: من ربط الله على قلبه.
قال: فهل بلغك عن مالك في هذا شىء؟ فقال: لا والله، إلا أن أبى أخبرنى أنهم اجتمعوا في مدعاة كانت في بنى يربوع وهم يومئذ جلّة «1» ، ومالك أقلّهم في فقه وقدر، ومعهم دفوف ومعازف وعيدان يغنّون ويلعبون. ومع مالك دفّ مربّع وهو يغنيهم:
سليمى أزمعت بينا
…
وأين لقاؤها أينا
وقد قالت لأتراب
…
لها زهر تلاقينا
تعالين فقد طاب
…
لنا العيش تعالينا
فضحك الرشيد ووصله بمال عظيم، ومات إبراهيم في هذه السنة وهو ابن خمس وسبعين سنة. قال: وكان ابراهيم بن سعد يبالغ فيه إلى هذا الحدّ. وقد أجمعت الأئمة على ثقته وعدالته والرواية عنه. واتّفق البخارىّ ومسلم على إخراج حديثه فى الصحيح. ولم تسقط عدالته بفعله عند أهل العلم، بل قلّد قضاء بغداد على جلالتها، وقلّد أبوه القضاء بالمدينة على شرفها.
وروى أبو الفرج الأصفهانى بسند رفعه إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلى قال:
شهدت إبراهيم بن سعد يحلف للرشيد وقد سأله عمن بالمدينة ينكر الغناء، فقال:
من قنّعه الله خزيه: مالك بن أنس؛ ثم حلف أنه سمع مالكا يغنّى:
سليمى أزمعت بينا
…
فأين لقاؤها أينا
فى عرس لرجل من أهل المدينة يكنى أبا حنظلة.
وروى أيضا بسنده إلى الحسين بن دحمان الأشقر قال:
كنت بالمدينة، فخلا لى الطريق في نصف النهار، فجعلت أتغنّى:
ما بال أهلك يا رباب
…
خزرا كأنهم غضاب
قال: فإذا خوخة قد فتحت وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء، فقال:
يا فاسق! أسأت التأدية، ومنعت القائلة، وأذعت الفاحشة؛ ثم اندفع يغنّيه؛ فظننت أنّ طويسا قد نشر يغنّيه، فقلت: أصلحك الله! من أين لك هذا الغناء؟
قال: نشأت وأنا غلام أتبع المغنّين وآخذ عنهم؛ فقالت لى أمّى: يا بنىّ، إن المغنّى إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه فإنه لا يضرّ معه قبح الوجه. فتركت المغنّين واتبعت الفقهاء، فبلغ الله بى ما ترى.
فقلت: فأعد جعلت فداءك. فقال: لا ولا كرامة! أتريد أن تقول أخذته عن مالك بن أنس! وإذا هو مالك ولم أعلم.