الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعارضهم بصنعته فأحسن وشاكل وضاهى فلم يعجز ولا قصّر، ولا أتى بشىء يعتذر منه. قال: فمن ذلك أنه صنع في قول الشاعر:
أما القطاة فإنى سوف أنعتها
…
نعتا يوافق نعتى بعض ما فيها
فجاء في نهاية الجودة وهو أحسن ما صنع في هذا الشعر على كثرة الصنعة فيه واشتراك القدماء والمحدثين في صنعته مثل معبد ونشيط ومالك وابن محرز وسنان وعمر الوادى وابن جامع وإبراهيم وابنه إسحاق وعلّويه.
قال: وصنع في:
تشكّى الكميت الجرى لمّا جهدته
…
وبيّن لو يسطيع أن يتكلّما
فما قصّر في صنعته ولا عجز عن بلوغ الغاية فيها مع أصوات له صنعها تناهز مائة صوت ما فيها ساقط ولا مرذول. فهؤلاء الذين لهم صنعة في الغناء من الخلفاء.
وأما أبناء الخلفاء الذين لهم صنعة بد في هذا الفنّ
.
فمنهم إبراهيم بن المهدىّ
وأخته عليّة بنت المهدىّ رحمهما الله تعالى، وإبراهيم يكنى أبا إسحاق أمّه شكلة أمة مولّدة كان أبوها من أصحاب المازيار يقال له: شاه أفرند «1» قتل مع المازيار وسبيت شكلة فحملت إلى المنصور فوهبها لمحيّاة أمّ ولده فربتها وبعثت بها إلى الطائف فنشأت هناك، فلما كبرت ردّت إليها.
فرآها المهدىّ فأعجبته فطلبها من محيّاة فأعطته إياها فولدت له إبراهيم.
قال أبو الفرج الأصفهانىّ بسند رفعه إلى إسحاق بن إبراهيم قال:
كان إبراهيم بن المهدىّ أشدّ خلق الله إعظاما للغناء وأحرصهم عليه وأشدّهم منافسة فيه. قال: وكانت صنعته ليّنة فكان إذا صنع شيئا نسبه إلى غيره لئلا يقع عليه طعن أو تقريع فقلّت صنعته في أيدى الناس مع كثرتها. وكان إذا قيل له فيها شىء يقول: إنما أصنع تطرّبا لا تكسّبا وأغنّى لنفسى لا للناس فأعمل ما أشتهى.
قال: وكان حسن صوته يستر عوار ذلك. وكان الناس يقولون: لم ير في جاهليّة ولا إسلام أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدىّ وأخته عليّة. وكان إبراهيم يجادل إسحاق ويأخذ عليه في مواطن كثيرة إلّا أنه كان لا يقوم له «1» ويظهر إسحاق خطأه. ووقع بينهما في ذلك بين يدى الرشيد وفي مجلسه كلام كثير أفضى إلى أمور نذكرها إن شاء الله تعالى في أخبار إسحاق بن إبراهيم.
وكان إبراهيم بن المهدىّ في أوّل أمره يتستّر في الغناء بعض التستّر إلا أنه يذكره فى مجلس الرشيد أخيه. فلما كان من أمره في الوثوب على الخلافة ما نذكره إن شاء الله تعالى في أخبار الدولة العباسيّة عند ذكرنا لخلافة المأمون بن الرشيد، ثم [لما «2» ] أمّته المأمون بعد هربه منه تهتّك بالغناء ومشى مع المغنّين ليلا إذا خرجوا من عند المأمون، وإنما أراد المأمون بذلك ليظهر للناس أنه قد خلع ربقة الخلافة من عنقه وأنه تهتّك فلا يصلح للخلافة. وكان من أعلم الناس بالنغم والوتر والإيقاعات وأطبعهم فى الغناء وأحسنهم صوتا. وكان مع علمه وطبعه ومعرفته يقصّر عن الغناء القديم وعن أن ينحوه في صنعته. فكان يحذف نغم الأغانى الكثيرة العمل حذفا شديدا
ويحقّقها على قدر ما يصلح له ويفى بأدائه فاذا عيب ذلك عليه قال: أنا ملك وابن ملك وإنما أغنّى على ما أشتهى وكما ألتذّ. فهو أوّل من أفسد الغناء القديم.
وروى عن حمدون بن إسماعيل قال: قال إبراهيم بن المهدىّ: لولا أنّى أرفع نفسى عن هذه الصناعة لأظهرت منها ما يعلم الناس معه أنهم لم يروا قبلى مثلى.
وروى أبو الفرج الأصفهانىّ عن جعفر بن سليمان الهاشمىّ قال: حدّثنا إبراهيم ابن المهدىّ قال:
دخلت يوما على الرشيد وبى فضلة خمار «1» وبين يديه ابن جامع وإبراهيم الموصلىّ فقال: بحياتى يا إبراهيم غنّ، فأخذت العود ولم ألتفت إليهما لما في رأسى من الفضلة فغنّيت:
أسرى بخالدة «2» الخيال ولا أرى
…
شيئا ألذّ من الخيال الطارق
إن البليّة من تملّ حديثه
…
فانقع فؤادك من حديث الوامق
أهواك فوق هوى النفوس ولم يزل
…
مذ بنت قلبى كالجناح الخافق
شوقا إليك ولم تجاز مودّتى
…
ليس المكذّب كالحبيب الصادق
فسمعت إبراهيم يقول لابن جامع: لو طلب هذا بهذا الغناء ما نطلب لما أكلنا خبزا أبدا فقال ابن جامع: صدقت، فلما فرغت من غنائى وضعت العود ثم قلت: خذا في حقّكما ودعا باطلنا.
وروى عن إبراهيم قال:
كان الرشيد يحبّ أن يسمعنى فخلا بى مرّات إلى أن سمعنى، ثم حضرته مرّة
وعنده سليمان بن أبى جعفر فقال لى: عمّك وسيّد ولد المنصور بعد أبيك وقد أحبّ أن يسمعك، فلم يتركنى حتى غنّيت بين يديه:
سقيا لربعك من ربع بذى سلم
…
وللزمان به إذ ذاك من زمن
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصية
…
وإذ أجرّ إليكم سادرا رسنى «1»
فأمر لى بألف ألف درهم، ثم قال لى ليلة ولم يبق في المجلس عنده إلا جعفر ابن يحيى: أنا أحبّ أن تشرّف جعفرا بأن تغنّيه صوتا فغنّيته لحنا صنعته في شعر الدّارمىّ:
كأنّ صورتها في الوصف إذ وصفت
…
دينار عين من المضروبة العتق
فأمر لى الرشيد بألف ألف درهم.
وحكى عن إسحاق بن إبراهيم قال: لما صنعت صوتى الذى هو:
قل لمن صدّ عاتبا
…
ونأى عنك جانبا
قد بلغت الذى أرد
…
ت وإن كنت لاعبا
واعترفنا بما ادّعي
…
ت وإن كنت كاذبا
فافعل الآن ما أرد
…
ت فقد جئت تائبا
اتصل خبره بإبراهيم بن المهدىّ فكتب إلىّ يسألنى عنه، فكتبت إليه الشعر وإيقاعه وبسيطه «2» ومجراه وإصبعه وتجزئته وأقسامه ومخارج نغمه ومواضع مقاطعه ومقادير أدواره وأوزانه فغنّاه ثم لقينى فغنّانيه، ففضلنى فيه بحسن صوته.
وقال ابن أبى طيبة: كنت أسمع إبراهيم بن المهدىّ يتنحنح فأطرب.
وعن محمد بن خير عن عبد الله بن العباس الرّبيعىّ قال:
كنّا عند إبراهيم بن المهدىّ ذات يوم وقد دعا كلّ محسن من المغنّين يومئذ وهو جالس يلاعب أحدهم بالشّطرنج فترنّم إبراهيم بصوت فريدة في شعر أبي العتاهية:
قال لى أحمد ولم يدر ما بى
…
أتحبّ الغداة عتبة حقّا
فتنفّست ثم قلت نعم حبّا
…
جرى في العروق عرقا فعرقا
وهو متكىء «1» ، فلما فرغ ترنّم به مخارق فأحسن فيه وأطربنا «2» وزاد على إبراهيم، فغنّاه إبراهيم وزاد في صوته على غناء مخارق. فلما فرغ ردّه مخارق وغنّاه بصوته كلّه وتحفّظ فيه وكدنا نطير سرورا. فاستوى إبراهيم جالسا وكان متّكئا وغنّاه بصوته كلّه ووفّاه نغمه وشذوره ونظرت إلى كتفيه تهتزّان وبدنه أجمع يتحرّك إلى أن فرغ منه ومخارق شاخص نحوه يرعد وقد انتقع لونه وأصابعه تختلج فخيّل إلىّ أن الإيوان يسير بنا، فلما فرغ منه تقدّم إليه مخارق فقبّل يده وقال: جعلنى الله فداك أين أنا منك! ثم لم ينتفع مخارق بنفسه بقيّة يومه في شىء من غنائه، والله لكأنما كان يتحدّث.
وروى عن منصور بن المهدىّ قال:
كنت عند أخى إبراهيم في يوم كانت عليه فيه نوبة لمحمد الأمين، فتشاغل بالشرب فى بيته ولم يمض، وأرسل إليه الأمين عدّة رسل فتأخّر. قال منصور: فلمّا كان من غد قال لى: ينبغى أن نعمل على الرواح إلى أمير المؤمنين فنترضّاه، فما أشكّ فى غضبه علينا. فمضينا فسألنا عن خبره فأعلمنا أنه مشرف على خير «3» الوحش وهو مخمور، وكان من عادته ألّا يشرب إذا لحقه الخمار. فدخلنا، وكان طريقنا على
حجرة تصنع فيها الملاهى، فقال لى: اذهب فاختر منها عودا ترضاه وأصلحه غاية الإصلاح حتى لا يحتاج إلى إصلاحه وتغييره عند الضرب به؛ ففعلت وجعلته فى كمّى. ودخلنا على الأمين وظهره إلينا. فلما بصرنا به من بعد قال: أخرج عودك فأخرجته، فاندفع يغنّى:
وكأس شربت على لذّة
…
وأخرى تداويت منها بها
لكى يعلم الناس أنى امرؤ
…
أتيت الفتوّة من بابها
وشاهدنا «1» الورد والياسمي
…
ن والمسمعات بقصّابها «2»
وبربطنا «3» دائم معمل
…
فأىّ الثلاثة أزرى بها
فاستوى الأمين جالسا وطرب طربا شديدا وقال: أحسنت والله يا عمّ وأحييت لى طربا. ودعا برطل فشربه على الرّيق وابتدأ «4» شربه. قال منصور:
وغنّى إبراهيم يومئذ على أشدّ طبقة يتناهى إليها في العود، وما سمعت مثل غنائه يومئذ قط. ولقد رأبت منه شيئا عجيبا لو حدّثت به ما صدّقت:
كان إذا ابتدأ يغنّى صغت الوحوش إليه ومدّت أعناقها، ولم تزل تدنو حتى تكاد تضع رءوسها على الدّكّان الذى كنّا عليه، فإذا سكت نفرت وبعدت عنّا حتى تنتهى إلى أبعد غاية يمكنها التباعد عنّا فيها، وجعل الأمين يعجب من ذلك. وانصرفنا من الجوائز بما لم ينصرف بمثله قطّ.
وعن الحسن بن إبراهيم بن رباح قال:
كنت أسأل مخارقا: أىّ الناس أحسن غناء؟ فكان يجيبنى جوابا مجملا، حتى
حقّقت عليه يوما فقال: كان إبراهيم المو صلّى أحسن غناء من ابن جامع بعشر طبقات، وإبراهيم بن المهدىّ أحسن غناء منى بعشر طبقات. ثم قال لى: أحسن الناس غناء أحسنهم صوتا. وإبراهيم بن المهدىّ أحسن الإنس والجنّ والوحش والطير صوتا، وحسبك هذا!.
وعن إسحاق بن إبراهيم قال:
غنّى إبراهيم بن المهدىّ ليلة محمدا الأمين صوتا لم أرضه في شعر لأبى نواس، وهو:
يا كثير النوح في الدّمن
…
لا عليها بل على السّكن
سنّة العشّاق واحدة
…
فإذا أحببت فاستنن «1»
ظنّ بى من قد كلفت به
…
فهو يجفونى على الظّنن
رشأ لولا ملاحته
…
خلت الدّنيا من الفتن
فأمر له بثلاثمائة ألف دينار. فقال له إبراهيم: يا أمير المؤمنين. أجزتنى إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم! فقال: وهل هى إلا خراج بعض الكور «2» . هكذا رواه إسحاق، وقد حكيت هذه الحكاية عن محمد بن الحارث، وفيها أن إبراهيم لما أراد الانصراف قال: أو قروا زورق عمّى دنانير فأوقروه، فانصرف بمال جليل.
قال: وكان محمد بن موسى المنجّم يقول: حكمت أنّ إبراهيم بن المهدىّ أحسن الناس كلهم غناء ببرهان، وذلك أنّى كنت أراه في مجالس الخلفاء مثل المأمون والمعتصم يغنّى المغنّون ويغنّى، فإذا ابتدأ بالصوت لم يبق من الغلمان أحد إلا ترك ما في يديه وقرب من أقرب موضع يمكنه أن يسمعه فلا يزال مصغيا إليه لاهيا عما