الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع من القسم الثالث من الفنّ الثانى فى الخمر
وتحريمها وآفاتها وجناياتها وأسمائها، وأخبار من تنزّه عنها في الجاهليّة، ومن حدّ فيها من الأشراف، ومن اشتهر بها، ولبس ثوب الخلاعة بسببها، وما قيل فيها من جيّد الشعر، وما قيل في وصف آلاتها وآنيتها، وما قيل فى مبادرة اللذّات، وما وصفت به المجالس وما يجرى هذا المجرى
ذكر ما قيل في الخمر وتحريمها
أجمع الناس على أنّ الخمر المحرّمة في كتاب الله عزّوجلّ هى المتّخذة من عصير العنب بعد أن يغلى ويقذف بالزّبد من غير أن يمسّها نار. واذا انقلبت بنفسها وتخلّلت طهرت من غير أن يتسبّب في ذلك بشىء يلقى فيها. وطهارتها إذا غلبت عليها الحموضة وفارقتها النشوة. والخمر المتّخذة أيضا من التمر، لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه:«الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة» . وفي حديث آخر: «من هاتين الشجرتين الكرمة والنخلة» . وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال: سمعت عمر رضى الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أمّا بعد، أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهى من خمسة، من التمر والعنب والعسل والحنطة والشعير» . والخمر ما خامر العقل.
ولا خلاف بين أحد من الأئمة في أن الخمر حرام، لما ورد في ذلك من الكتاب والسنة. أما ما ورد في كتاب الله عزّوجلّ فأربع آيات، منها ما يقتضى الإباحة، ومنها ما يقتضى الكراهة والتحريم. فأوّل ما نزل فيها بمكة قوله عزّوجلّ: (وَمِنْ
ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً)
. فكان المسلمون يشربونها يومئذ وهى حلال لهم. ثم أنزل الله عزّوجلّ بالمدينة: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)
نزلت هذه الآية فى عمر بن الخطّاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن ربكم تقدّم فى تحريم الخمر» . فتركها قوم للإثم الكبير وقالوا: لا حاجة لنا في شربها ولا في شىء فيه إثم كبير، وشربها قوم لقوله تعالى:(وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) *
. وكانوا يستمتعون بمنافعها ويتجنّبون مآثمها؛ الى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب، فقدّموا بعضهم ليصلّى بهم؛ فقرأ قل يأيها الكافرون أعبد ما تعبدون الى آخر السورة بحذف «لا» فأنزل الله عزّوجلّ:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ)
فحرّم السكر في أوقات الصلاة. فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إن الله عزّوجلّ تقارب في النهى عن شرب الخمر وما أراه إلا سيحرّمها. فلما نزلت هذه الآية تركها قوم، وقالوا: لا خير فى شىء يحول بيننا وبين الصلاة. وقال قوم: نشربها ونجلس في بيوتنا؛ فكانوا يتركونها وقت الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة؛ الى أن شربها رجل من المسلمين، فجعل ينوح على قتلى بدر ويقول:
تحيّا بالسلامة أمّ بكر
…
وهل لى بعد رهطك من سلام
ذرينى أصطبح بكرا فإنى
…
رأيت الموت كفّت عن هشام
وودّ بنو المغيرة لو فدوه
…
بألف من رجال أو سوام
فى أبيات أخر. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فزعا يجرّ رداءه، حتى انتهى اليه، ورفع شنّا كان في يده ليضربه؛ فلما عاينه الرجل قال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، والله لا أطعمها أبدا؛ ثم نزلت آية التحريم وهى قوله عزّوجلّ:(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)
. وروى أن هذه الآية نزلت فى شأن حمزة بن عبد المطّلب، وكان نزولها وتحريم الخمر في شهر ربيع الأوّل سنة أربع من الهجرة.
وكان من خبر حمزة بن عبد المطّلب ما رواه مسلم بن الحجاج بن مسلم في صحيحه عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه قال: أصبت شارفا «1» مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغنم يوم بدر، وأعطانى رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفا أخرى من الخمس. قال علىّ: فلما أردت أن أبتنى بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم واعدت رجلا صوّاغا من بنى قينقاع «2» يرتحل معى فنأتى بإذخر «3» أردت أن أبيعه من الصوّاغين فأستعين به على وليمة عرسى. فبينا أنا أجمع لشارفىّ متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاى مناختان الى جنب حجرة رجل من الأنصار ورجعت حين جمعت ما جمعت، فاذا شارفاى قد اجتبّت أسنمتهما وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما، فلم أملك نفسى حين رأيت ذلك المنظر منهما [أن «4» ] قلت: من فعل هذا؟
قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، غنّته قينة وأصحابه، فقالت في غنائها:
ألا يا حمز للشّرف النّواء
- لم يذكر مسلم في صحيحه من الشعر غير ما ذكرناه. والأبيات التى غنت بها:
ألا يا حمز للشّرف «1» النّواء
…
وهنّ معقّلات بالفناء
ضع السكّين في اللّبّات منها
…
فضرّجهنّ حمزة بالدماء
وعجّل من شرائحها كبابا
…
ملهوجة «2» على وهج الصّلاء
وأصلح من أطايبها طبيخا
…
لشربك من قديد أو شواء
فأنت أبا عمارة المرجّى
…
لكشف الضرّ عنها والبلاء
- فقام حمزة بالسيف فاجتبّ أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما.
فقال علىّ: فانطلقت حتى أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة. قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهى الذى لقيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مالك» ؟ قلت: يا رسول الله، ما رأيت كاليوم قط، عدا حمزة على ناقتىّ فاجتبّ اسنمتها وبقر خواصرهما وها هو ذا في بيت معه شرب. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه فارتداه ثم انطلق يمشى واتّبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء الباب الذى فيه حمزة؛ فاستأذن فأذنوا له، فإذا هم شرب؛ فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل وإذا حمزة محمّرة عيناه؛ فنظر حمزة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعّد النظر الى ركبتيه ثم صعّد النظر الى سرّته ثم صعّد النظر فنظر الى وجهه، فقال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبى! فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل، فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه القهقرى وخرج وخرجنا معه. وفي حديث آخر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلىّ: «إنّ عمّك قد ثمل وهما لك علىّ» فغرمهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
لعلىّ. فلما أصبح حمزة غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر. فقال: «مه يا عمّ فقد سألت الله فعفا عنك» . قالوا: واتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالا من المسلمين، منهم «1» سعد بن أبى وقّاص، وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، ثم إنهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار، وأنشد سعد قصيدة فيها هجاء الأنصار وفخر لقومه؛ فقام رجل من الأنصار فأخذ لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجّه شجّة موضحة. فانطلق سعد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا اليه الأنصار. فقال عمر رضى الله عنه: اللهم بيّن لنا رأيك في الخمر بيانا شافيا؛ فأنزل الله عزّوجلّ تحريم الخمر في سورة المائدة (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ)
الآية الى (مُنْتَهُونَ)
. فقال عمر: انتهينا يا ربّ. وقيل: إنها حرّمت بعد غزوة الأحزاب بأيام في ذى القعدة سنة خمس من الهجرة. والله أعلم.
قال أنس رضى الله عنه: حرّمت ولم يكن للعرب يومئذ عيش أعجب منها، وما حرّم عليهم شيء أشدّ من الخمر. قال: فأخرجنا الحباب الى الطريق فصببنا ما فيها، فمنّا من كسر حبّه، ومنّا من غسله بالماء والطين، ولقد غودرت أزقّة المدينة بعد ذلك حينا، كلّما مطرت استبان فيها لون الخمر وفاحت ريحها.
وقال أنس بن مالك رضى الله عنه: كنت ساقى القوم يوم حرّمت الخمر فى بيت أبى طلحة، وما شرابهم إلا فضيخ «2» البسر والتمر، فاذا مناد ينادى، فقال القوم:
اخرج فانظر، فاذا مناد ينادى: ألا إنّ الخمر قد حرّمت، قال: فجرت في سكك المدينة.
فقال لى أبو طلحة: اخرج فاهرقها فهرقتها. فقالوا: أو قال بعضهم: قتل فلان! قتل فلان! وهى في بطونهم، فأنزل الله عزّوجلّ:(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) .